الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

كالصلاة ـ والمنهي عنها ـ كالغصب ـ فلا يكون دليل الصلاة مثلا دالا على وجوبها حتى في مورد الغصب ، ليدل بالالتزام على عدم حرمته ، كما لا يكون دليل حرمة الغصب دالا على حرمته حتى في مورد الصلاة ليدل بالالتزام على انتفاء الوجوب فيه ، فلا يقع التعارض بين الدليلين. وحينئذ لو اختار المكلف الجمع بينهما في مقام الامتثال فعلى الجواز يكون مطيعا وعاصيا ، وعلى الامتناع يكون مطيعا لا غير إن ترجح الأمر ، وعاصيا لا غير إن ترجح النهي ، لوقوع التزاحم بين التكليفين الملزم بالترجيح بقوة الملاك.

وفيه : أن الفرق بين الصورتين لا يخلو عن غموض وإشكال ، إذ لو أريد بالأولى العموم الاستغراقي بالمعنى المعروف ـ الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو يقتضي الجمع بينها ـ وبالثانية العموم البدلي بالمعنى المعروف ـ الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو يقتضي التخيير بينها ـ فلا مجال لفرض الثانية في النهي ، لعدم الإشكال في كون عمومه استغراقيا بالمعنى المذكور.

ولو أريد بالأولى العموم الوضعي ، وبالثانية العموم الإطلاقي فالفرق بينهما بالإضافة إلى حكم الأفراد المبين فيهما ممنوع ، فإن منشأ الدلالة على حكمها وإن اختلف فيهما ، إلا أنهما يشتركان في أصل الدلالة عليه ، وفي كيفية تعلق الحكم ، ولذا لا إشكال في أن ما ذكروه من تحقق التعارض بين العامين من وجه يجري في المطلقين ، وفي أن المراد بالعام فيه وفي كثير من أحكام العام ما يعم المطلق ، كما أشرنا إليه في أوائل مبحث العموم والخصوص ، ويشهد به أدنى سبر لكلماتهم.

أما لو أريد بالأولى ثبوت الحكم للماهية السارية في تمام الأفراد ، وبالثانية ثبوته للماهية الخارجية في الجملة ، بنحو القضية المهملة من دون إحراز السريان فيها ، كان مرجع الثانية إلى عدم إطلاق دليل الحكم بنحو يشمل المجمع ويثبت فيه. وحينئذ فعدم التعارض بين الدليلين وإن كان متعينا ، إلا أنه

٤٦١

يتعين أيضا عدم كون المجمع بين العنوانين من صغريات مسألة الاجتماع ، لاختصاص موضوعها بما إذا ثبت في المجمع كلا الحكمين لو لا التضاد ، ليقع الكلام حينئذ في أن تعدد العنوان يجدي في عدم لزوم محذور اجتماع الضدين ، أو لا يجدي فيه.

وبالجملة : مع عموم دليلي الحكمين للمجمع بحيث يثبت كل منهما فيه لو لا التضاد لا أثر لاختلاف لسان الأدلة فيما هو المهم من تضاد الحكمين وامتناع اجتماعهما في الموضوع الواحد ، ومع عدم عمومهما له كذلك يخرج المجمع عن موضوع مسألة الاجتماع. فما ذكره رحمه‌الله لا يرجع إلى محصل ظاهر في تحديد موضوع المسألة ، ولا في الفرق بينه وبين مورد التعارض الذي ذكروه بين العامين من وجه. على أنه لا ينهض بتوجيه ما عليه المشهور من أنه بناء على الامتناع ، وتقديم النهي فالمجمع يجزي عن الأمر إذا كان توصليا مطلقا وإذا كان تعبديا في بعض الصور ، كما سبق.

هذا ولم أعثر في كلام غيره على ما يصلح لبيان الفرق بين الموردين وتوجيه مبنى المشهور في المسألة.

نعم ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره في ضابط موضوع مسألة الاجتماع أنه لا بد من اشتمال المجمع على ملاكي الحكمين معا ، كي يمكن جريان النزاع حينئذ في ثبوت كلا الحكمين تبعا لهما ، وعدمه لاستلزام اجتماع الضدين.

وتبعه في ذلك بعض الأكابر في درره ، وجعله ضابطا للفرق بينه وبين موارد التعارض ، وأنه لا بد في التعارض من وحدة الملاك في المجمع ، واختصاصه بأحد الحكمين. وهو مناسب لما سبق من المشهور من البناء على إجزاء المجمع عن الأمر في موضوع هذه المسألة مع بنائهم على الامتناع وتقديم جانب النهي ، وما سبق من عدم الإشكال في عدم الإجزاء في مورد

٤٦٢

التعارض وعدم تقديم الأمر.

لكنه ـ لو تم ـ ضابط ثبوتي ، لا إثباتي ، ليتجه الرجوع إليه في تمييز موضوع المسألة عن مورد التعارض ، لوضوح أن الأدلة لا تتعرض لثبوت الملاكات في الموارد ابتداء ، ليمكن دلالتها على ثبوت ملاكي الحكمين في مجمع العنوانين وإن امتنع اجتماع الحكمين فيه ، وإنما تتعرض لثبوت الأحكام واستفادة الملاكات منها بتبعها. فلا بد من التمييز بين الموارد التي يحكم فيها ابتداء بتعارض الدليلين في مجمع العنوانين ـ بنحو يستلزم سقوط أحدهما ، أو سقوطهما معا عن الحجية حتى بالإضافة إلى الملاك ـ وموضوع هذه المسألة الذي يحرز فيه من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، ويبتني إحراز كلا الحكمين أو أحدهما فقط فيه على النزاع في إمكان اجتماع الأمر والنهي وعدمه.

أما مع عدم التمييز المذكور وفرض الموارد بنحو واحد إثباتا فاللازم في الجميع ابتناء التعارض بين الدليلين وعدمه على الخلاف في إمكان الاجتماع وامتناعه ، فعلى الإمكان لا تعارض ، بل يبنى على ثبوت الحكمين والملاكين معا في مجمع العنوانين.

وعلى الامتناع يلزم التعارض بين الدليلين في مدلولهما المطابقي ، وهو ثبوت كلا الحكمين في المجمع. وحينئذ إن قيل بأن تعارض الدليلين في مدلولهما المطابقي كما يسقطهما عن الحجية فيه يسقطهما عن الحجية في مدلولهما الالتزامي ـ كما هو التحقيق ، على ما ذكرناه في مبحث التعارض ـ تعين عدم إحراز ملاك أحد الحكمين أو كليهما في المجمع من الإطلاقين ، فلا يجزي عن الأمر مع تقديم النهي. وإن قيل بأنه لا يسقطهما عن الحجية في المدلول الالتزامي ، تعين إحراز الملاكين في المجمع وإجزاؤه عن الأمر ولو مع تقديم النهي ، من دون فرق في ذلك كله بين الموارد.

٤٦٣

لكن عرفت أن بناء المشهور ليس على ذلك ، بل على التعارض في بعض الموارد مطلقا وإن قيل بجواز الاجتماع ، المستلزم لعدم إجزاء المجمع عن الأمر مع عدم تقديم دليله ، وعلى إجزاء المجمع في خصوص موضوع مسألة الاجتماع مع بنائهم على الامتناع وتقديم النهي فيه.

ومن ثم ذكر بعض مشايخنا أن ذلك من المشهور ناشئ من الغفلة عن مقتضى التعارض الذي يتعين الالتزام به بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، وأن اللازم بناء على ذلك عدم صلوح المجمع لامتثال الأمر مع العلم بالنهي ومع الجهل به ونحوه مما لا يرتفع به النهي واقعا ، لأن فعلية النهي في المجمع تستلزم قصور متعلق الأمر عنه ، فلا يحرز ملاكه فيه ، ليكون مجزيا عنه.

نعم لم يلتزم بذلك مع الاضطرار لمخالفة النهي ، كما يظهر من غيره أيضا. وقد يوجه بأنه حيث يقصر النهي عن مورد الاضطرار لا مانع من عموم إطلاق الأمر له ، ومع عمومه يحرز ثبوت الملاك فيه ، ويتعين إجزاؤه.

لكنه يشكل بأن المنشأ للتعارض في العامين من وجه وإن كان هو تنافي الحكمين بنحو يمتنع فعليتهما معا مع وحدة المتعلق ، فيقصر عن صورة الاضطرار لمخالفة الراجح ، حيث يلزم سقوطه ولا يمتنع مع فعلية الآخر. إلا أن بناء العرف فيه على كون مورد التعارض الموجب لقصور أحد الدليلين أو كليهما هو المجمع بذاته وبعنوانه الأولي ، لا بما هو محكوم فعلا بالحكم الذي تضمنه الدليل الراجح ، فيؤخذ بذاته قيدا في موضوع الدليل المرجوح ، ويستثنى منه ـ ملاكا وخطابا ـ مطلقا ، ولو مع سقوط حكم الدليل الراجح بمثل الاضطرار والحرج مما لا يرتفع معه الملاك ، كما يشهد بذلك ملاحظة الآثار والنظائر في سائر موارد العامين من وجه.

فإذا ورد مثلا : أكرم عالما أو العلماء ، وورد لا تكرم الفاسق ، فتقديم

٤٦٤

النهي في العالم الفاسق راجع إلى تقييد الأمر بغير الفساق من العلماء ، وقصوره عنهم ذاتا وإن ارتفعت حرمة إكرامهم بالاضطرار ، ولذا لا يظن بأحد البناء مع الاضطرار لإكرام فاسق من العلماء بإجزائه عن الأمر لو كان بدليا ، ومع الاضطرار لإكرام فاسق مخير بين العالم وغيره بلزوم إكرام العالم الفاسق تحكيما لعموم الأمر لو كان استغراقيا بعد قصور عموم الحرمة بالاضطرار.

بل لو تم ذلك جرى في العموم المطلق ، فيلتزم بأنه لو سقط الحكم الخاص للاضطرار يرجع في مورده لحكم العام ، فيجزي عنه لو كان بدليا. ولا يظن بأحد البناء على ذلك ، بل بناؤهم على خروجه رأسا عن حكم العام بعنوانه الأولى ، كما ذكرناه في العامين من وجه.

وأشكل من ذلك ما ذكره من استثناء صورة النسيان أيضا. فإنه مبتن ـ مع ما سبق ـ على ما ذكره من كون الرفع مع النسيان واقعي كالرفع مع الاضطرار.

وهو خلاف التحقيق ، بل هو ظاهري مع بقاء الحرمة واقعا ، كالرفع مع الجهل ، لأنهما من سنخ واحد.

على أن الظاهر جريان المشهور على مقتضى الارتكازيات في فهم الأدلة ، ولا مجال لتخطئتهم فيما ذكروه ، فإن التأمل قاض بالفرق الإثباتي بين موارد التعارض وموضوع مسألة الاجتماع ، وقد جرى عليه المشهور بمرتكزاتهم البيانية وإن لم يحدد تفصيلا.

وتوضيح ذلك : أن امتناع التمسك بالإطلاقين معا لإثبات فعلية الحكمين المتضمنين لهما كما يكون مع تضاد حكميهما ووحدة متعلقهما ، لاستحالة اجتماع الضدين ، كذلك يكون مع تعدد متعلق حكميهما وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال ، إما للغوية جعل التكليف حينئذ ، أو لقبح التكليف بما لا يطاق.

إلا أن بناء العرف في الأول على تكاذب الإطلاقين في مقام الإثبات ، وهو

٤٦٥

المراد بالتعارض الذي يكون معيار الترجيح فيه قوة الدليل ، ولا أثر فيه لقوة الملاك وأهمية التكليف ، ولا طريق معه لإحراز ملاك الحكم الذي يتضمنه الدليل الساقط عن الحجية.

وأما في الثاني فلا تكاذب بين الإطلاقين بنظرهم ، بل يحمل كل منهما على بيان ثبوت حكمه في نفسه لو لا العجز عن الامتثال الذي يسقط معه الحكم عن الفعلية مع بقاء ملاكه ، ويتعين فيه تزاحم الحكمين الذي يكون معيار الترجيح فيه أهمية الحكم تبعا لأهمية ملاكه ، ولا أثر فيه لقوة الدليل ، على ما يأتي في خاتمة مبحث التعارض. ولا إشكال في شيء من ذلك.

كما لا إشكال في أن أظهر مصاديق الأول ما إذا اتحد موضوع الحكمين بلحاظ العنوان والمعنون ، كما لو دل الدليل على وجوب إكرام العلماء والآخر على حرمة إكرامهم ، وأن أظهر مصاديق الثاني ما إذا تعدد موضوعهما بحسب العنوان والمعنون ، كما فيما دل على وجوب إنقاذ المؤمن وما دل على حرمة التصرف في المغصوب ، لو توقف الإنقاذ على التصرف فيه.

وإنما الإشكال فيما إذا تعدد موضوعهما بحسب العنوان واتحد بحسب المعنون ، لاجتماع العنوانين في بعض الأفراد ، حيث يلتبس الأمر في ذلك.

وعليه يبتني الكلام في تمييز موارد تعارض العامين من وجه من موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي. وإن كان الظاهر اتضاح الحال بملاحظة أقسام العناوين وكيفية انتزاعها من معنوناتها.

فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف الصالح لأن يكون موضوعا للأحكام التكليفية ومعروضا لها تارة : تكون أولية حاكية عنه بذاته من دون أمر خارج عنه ، كعنوان المشى والنوم والتكلم والأكل والشرب والسب والمدح والغيبة وغيرها.

٤٦٦

وأخرى : تكون ثانوية منتزعة للفعل بلحاظ أمر خارج عنه ، كالعناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب شيء عليه ، كعنوان الإحراق ، والإضرار والتكريم والتأديب ، والعناوين الإضافية المنتزعة من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره ، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة والمشابهة.

والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين بقسميها إلى التكليف بمنشإ انتزاعها ، لكونه موطن الغرض والملاك ، ففي القسم الأول يكون المكلف به هو الفعل بذاته ، وفي الثاني يكون المكلف به هو منشأ انتزاع العنوان الخارج عن الذات ، وهو موطن الغرض والملاك ، وليس التكليف بالفعل إلا للتوصل إليه ، لكونه مسببا عنه أو قائما به. ومن ثم يتعين إحرازه في مقام الامتثال ، ويجب الاحتياط لو تردد الفعل المحصل له بين الأقل والأكثر ، لأن الشك في الحقيقة ليس في المكلف به ، بل في محصله. بخلاف ما إذا تردد الفعل المحكي بالعنوان في القسم الأول بين الأقل والأكثر ، فإن المرجع فيه البراءة ، لرجوعه للشك في وجوب الزائد ، كما أشرنا إلى ذلك في الجملة في تقريب الجامع الصحيحي من طريق الأثر.

هذا ولا فرق في القسمين بين التكليف بالعنوان على إطلاقه والتكليف به مقيدا ببعض القيود الخارجة عنه ، كتقييد المشي بالسرعة ، أو بحال أو وقت خاص ، وتقييد الأكل بطعام خاص ، وتقييد الإضرار بالمال أو بشخص خاص ، وتقييد المشابهة بفعل خاص ، وهكذا ، إذ ليست فائدة التقييد به إلا تضييق مورد التكليف وقصره على ما يقارن القيد من دون أن يكون القيد بنفسه موردا للتكليف وجزءا من متعلقه ، على ما سبق التعرض له في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية.

إذا عرفت هذا فاختلاف العنوانين إن كان لاختلاف قيودهما التابعة للخصوصيات الخارجة عن منشأ الانتزاع ، كخصوصيات الزمان والمكان

٤٦٧

والمتعلق وغيرها ، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج ، كان راجعا لوحدة الموضوع الذي تقدم حصول التعارض معه ، سواء كان العنوانان أوليين ـ كالسفر في شهر رمضان والسفر إلى كربلاء ، أو على الدابة ـ أم ثانويين ـ كإيذاء المؤمن وإيذاء العاصي بالإضافة لشخص واحد متصف بالأمرين ـ فتجري فيه أحكام التعارض المتقدمة من ترجيح أقوى الدليلين ، وعدم إحراز ملاك الحكم الذي يسقط دليله عن الحجية.

وإن كان لاختلاف منشأ انتزاعهما ، كان راجعا لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم ، سواء كان أحدهما أوليا منتزعا من الذات والآخر ثانويا ـ كعنواني المشي والإيذاء أو المحاكاة ـ أم كانا معا ثانويين مع اختلاف منشأ انتزاعهما ـ كعنواني الإيذاء والإكرام ، أو إكرام زيد وإكرام عمرو ـ. وحينئذ تترتب آثار التزاحم ، من ترجيح أقوى الملاكين ، وبقاء الملاك الأضعف وإن سقط حكمه وغير ذلك.

ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن ، وقضاء حاجته ، ووجوب إنقاذه من الهلكة ، لا تعارض مثل عمومات حرمة الغناء والغيبة والكذب ، وإن كانت نسبة كل واحد من تلك العمومات مع كل واحد من هذه هي العموم من وجه ـ حيث قد يصدق العنوانان على فعل واحد ويوجدان في الخارج بوجوده ـ بل يكون مجمع العنوانين موردا للتزاحم بسبب تحقق الملاكين الفعليين معا ، كل في موضوعه ، فيرجع فيه لمرجحات التزاحم ، فيقدم الأهم على المهم ، والإلزامي على غيره ، والتعييني أو المضيق على التخييري أو الموسع ، إلى غير ذلك مما يذكر في محله.

هذا والظاهر أن موضوع مسألة الاجتماع عندهم هو الثاني دون الأول. وبذلك يجمع بين ما ذكروه من إطلاق التعارض بين العامين من وجه ، وما يظهر منهم في المقام من المفروغية عن إحراز ملاك الحكمين وعدم التعارض

٤٦٨

بين دليليهما. كما يناسبه مفروغيتهم في المقام عن تقديم النهي ، مع أنه لا يتجه في التعارض ، بل في التزاحم بلحاظ أن النهي لما كان شموليا يكون تعيينيا في المجمع ، بخلاف الأمر المفروض في أمثلتهم كونه بدليا تخييريا.

وكذا تمثيلهم لتعارض العامين من وجه بمثل : أكرم العلماء ، أو عالما ، و: لا تكرم الفساق ، الذي هو من القسم الأول ، ولمسألة الاجتماع بمثل حرمة الغصب ووجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة ، فإن متعلق الأمر في الوضوء والغسل هو الغسل ـ بذاته أو بعنوان كونه طهارة الذي هو من العناوين التسبيبية ـ وفي الصلاة هو الأفعال بعناوينها الأولية من القيام والجلوس والركوع والسجود ، أما متعلق النهي في الغصب فليس هو الفعل بأحد العناوين المذكورة ، بل بعنوان كونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه ، وهو من العناوين الإضافية المباينة في منشأ الانتزاع للعناوين المذكورة ، إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد التتبع لكلماتهم. وبذلك يتجه كلام المشهور ، ويتضح ضابط موارد التعارض من موارد موضوع مسألة الاجتماع.

الأمر الثالث : يظهر من كلام غير واحد ابتناء الكلام في المسألة على أن متعلق الأحكام هي العناوين أو المعنونات. وينبغي لأجل ذلك الكلام في المبنى المذكور ، وإيكال الكلام في ابتناء النزاع في هذه المسألة عليه إلى ما يأتي عند التعرض للمختار فيها. فنقول : الأحكام ـ ككثير من الأمور الاعتبارية والذهنية ـ تختلف في طبعها على أقسام ثلاثة.

أحدها : ما يتعلق بكل من العناوين الكلية والمعنونات الجزئية ، كالملكية المتعلقة ..

تارة : بالعناوين ، كالذميات ومنافع الأعيان في مثل الإجارة والشرط ، حيث تملك فعلا بمثل البيع والإجارة ويترتب الأثر على ملكيتها قبل وجودها

٤٦٩

وتعينها في الخارج ، فيحق لمالكها المطالبة بها.

وأخرى : بالمعنونات الجزئية ، كملكية الأعيان الموجودة.

ثانيها : ما يتعلق بالمعنونات الخارجية لا غير ، كالزوجية والرقية والطهارة والنجاسة ، وليس تعلقها في مقام الجعل أو الإخبار ـ في مثل قولنا :

الميتة نجسة ، و: ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر ـ إلا بنحو القضية التعليقية الراجعة لعدم فعلية الحكم إلا في الفرد تبعا لفعلية انطباق العنوان عليه ، وليس العنوان إلا جهة تعليلية من دون أن يكون بنفسه بما له من حدود مفهومية كلية موضوعا للحكم الفعلي.

ثالثها : ما يتعلق بالعناوين الكلية بما لها من حدود مفهومية ، دون معنوناتها ، وهو الأحكام التكليفية ، إذ لا مجال للبناء على تعلقها بالفرد الخارجي على نحو تعلق القسم الثاني به ، لأن ظرف وجود الفرد ظرف سقوط التكليف بالإطاعة والعصيان ، لا ظرف ثبوته وفعليته ، وإنما يثبت ويكون فعليا قبل وجوده ، ولا موضوع له حينئذ إلا العنوان الكلي ، نظير ملكية الأمور الكلية من الذميات وغيرها.

نعم تعلقها بالعنوان الكلي مبني على النظر لمقام العمل المتعلق بالفرد. الخارجي ، لأنه موطن الآثار والأغراض والملاكات ، ولكل منها نحو من الاقتضاء له ، فالوجوب والاستحباب يقتضيان إيجاد متعلقهما في الخارج بإيجاد فرد منه ، والحرمة والكراهة يقتضيان ترك متعلقهما بترك أفراده ، فوجود الفرد وعدمه يطابقان مقتضى الحكم أو يخالفانه ، وبهما يكون طاعته ومعصيته. نظير وفاء الكلي الذمي بفرد منه ، أما الإباحة فهي تقتضي التخيير بين الأمرين. وكأنه إلى هذا نظر من حكم بتعلق التكليف بالمعنون ، وإلى ما ذكرناه أولا نظر من حكم بتعلقه بالعنوان. وقد تقدم في مبحث تعلق الأوامر والنواهي

٤٧٠

بالطبائع أو بالأفراد ما يناسب المقام.

الأمر الرابع : وقع الكلام بينهم في أن تعدد العنوان هل يستلزم تعدد المعنون أو لا ، بل يمكن تعدد العنوان لمعنون واحد؟. ولا يخلو النزاع المذكور عن غموض ، لوضوح أن العنوان مهما كان ـ ذاتيا أو عرضيا ـ إنما يحكي عن الذات الواجدة لمنشا انتزاعه ، لا عن منشأ الانتزاع وحده ، وحيث أمكن واجدية الذات الواحدة لمنشا انتزاع عناوين متعددة تعين إمكان حكاية العناوين المتعددة عنها وإمكان وحدة المعنون مع تعدد العنوان ، بل هو المفروض في محل الكلام من تعلق الأمر والنهي بعنوانين متحدين في الخارج في بعض الأفراد ، ووضوح ذلك لا يناسب النزاع المذكور.

إلا أن يكون مرجع النزاع إلى النزاع في أن تعلق الأمر والنهي بالعنوانين المتحدين خارجا في فرد واحد هل يستلزم تعدد المأمور به والمنهي عنه تبعا لتعدد العنوانين ، أو وحدتهما تبعا لوحدة الفرد الذي هو مجمع لهما في الخارج؟.

وحينئذ يتعين الرجوع إلى ما تقدم في الأمر الثاني في تحديد موضوع المسألة ، والفرق بينه وبين مورد التعارض من العامين من وجه ، حيث يتضح به أن اختلاف العنوانين إن كان بسبب اختلاف منشأ انتزاعهما لزم تعدد متعلقي الأمر والنهي ، وإن كان بسبب اختلاف القيود مع وحدة منشأ الانتزاع لزم وحدة متعلقهما ، وأن موضوع المسألة هو الأول ، ومورد التعارض هو الثاني.

ولنقتصر في مقدمات الكلام في المسألة على هذه الأمور الأربعة المتقدمة ، لكفايتها في توضيح محل النزاع.

إذا عرفت هذا كله فاعلم أنه حيث تقدم في الأمر الثاني تحديد محل الكلام ، وأنه ملحق بالتزاحم بين الحكمين ، وأن إطلاق كلا الدليلين فيه ينهض

٤٧١

بإثبات ملاك كل من الحكمين في المجمع ، فلا إشكال في إجزاء المجمع في امتثال الأمر والفراغ عنه لو تمت فيه الشروط المعتبرة ، ومنها التقرب به لو كان عبادة ، لكفاية الملاك فيه ولو مع عدم فعلية التكليف فيه من جهة التزاحم.

وإنما الكلام والإشكال في أمرين :

الأول : في إمكان اجتماع الحكمين فيه وفعليتهما معا تبعا لملاكيهما ، الذي هو مورد الكلام في عنوان المسألة.

الثاني : في إمكان التقرب به مع فرض فعلية النهي ، إما لإمكان اجتماعه مع الأمر ، أو لتقديمه على الأمر مع امتناع الاجتماع ، الذي هو من أهم الآثار العملية.

فالكلام في مقامين :

المقام الأول

في إمكان الاجتماع وامتناعه

ويظهر من جملة من كلماتهم أنه بناء على تعلق الأحكام بالعناوين ـ كما تقدم منا ـ لا يلزم من عموم الحكمين معا للمجمع اجتماع الضدين. أما في مقام البعث والزجر فلتعدد المتعلق ، وهو العنوان. وأما في مقام الإطاعة والعصيان بالفرد فلسقوط أحدهما بالطاعة والآخر بالعصيان ، من دون أن يلزم اجتماعهما في واحد. ومن ثم ذهب إلى جواز الاجتماع بعض المحققين ، وتبعه بعض المعاصرين في أصوله ، قال : «وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد ... متعلقا للإيجاب والتحريم إلا بالعرض ، وليس ذلك بمحال ، فإن المحال إنما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلقا للإيجاب والتحريم ...».

٤٧٢

وفيه : أن منشأ تضاد الأحكام ـ كما سبق ـ ليس إلا اختلاف مقتضياتها في مقام العمل ، وحيث كان متعلق العمل هو الفرد لزم التضاد بينها بلحاظ اختلاف نحو العمل المتعلق به من حيثية كل منهما ، ولا أثر لتعدد العنوان في ذلك. ومن ثم لا إشكال ـ بعد ملاحظة المرتكزات العرفية ـ في أن امتناع اجتماع الحكمين مع التطابق بين العنوانين وكون النسبة بينهما التساوي ليس لخصوص محذور التكليف بما لا يطاق ، ولذا يمتنع اجتماعهما مع إمكان الجمع بينهما عملا ، كالكراهة أو الاستحباب مع الوجوب ، بل لمحذور اجتماع الضدين أيضا الراجع للتنافي ارتكازا بين الحكمين ، كما تقدم في الأمر الأول.

بل الوجه المختار ـ لنا ولهما ـ لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات جار في جميع العناوين من دون فرق بينها ، مع أن بعض المعاصرين اعترف فيما سبق بتنافي الإطلاقين في بعض موارد العموم من وجه ، والتزم لأجله بالتعارض بينهما وخروجهما عن موضوع مسألة الاجتماع واختصاص موضوعها بما إذا لحظ كل من العنوانين فانيا في مطلق الوجود المضاف للطبيعة من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ، ولو لا الاكتفاء بوحدة المعنون في التنافي بين الحكمين وامتناع اجتماعهما لم يكن وجه لذلك كله ، كما يظهر بأدنى تأمل.

فالعمدة في دفع محذور اجتماع الضدين أمران :

الأول : ما تقدم منا من أن التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم إذا كان موضوع الأول أعم مطلقا أو من وجه ليس تاما ، لأن الحكم البدلي كما يقتضي السعة بالإضافة إلى تمام أطرافه يقتضي الإجتزاء بها في مقام امتثاله ، والتحريم ينافي السعة لمورده ، ولا ينافي إجزاءه في مقام امتثاله. إذ يتعين حينئذ إمكان اجتماع الأمر مع النهي في الفرد من حيثية الإجزاء. غاية الأمر أنه تقدم في آخر الكلام في تضاد الأحكام دعوى قصور إطلاق دليل الأمر في مقام الإثبات عن

٤٧٣

شمول مورد النهي بنحو لا مجال معه لإحراز إجزائه عنه وإن أمكن إجزاؤه ثبوتا. وهي لو تمت تختص بموارد التعارض التي لا يحرز فيها من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، دون موضوع مسألة الاجتماع الذي سبق نهوض الإطلاقين فيه بإحراز كلا الملاكين فيه ، إذ مع إحراز كلا الملاكين وإمكان تأثيرهما معا فيه لا مجال لاحتمال قصور الأمر من حيثية الإجزاء ، كما لعله ظاهر.

الثاني : ما تقدم منا أيضا ـ في تحديد موضوع المسألة وبيان الفرق بينه وبين مورد التعارض في العامين من وجه ـ من أنه لا بد في المقام من اختلاف منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي ، وأن متعلق الأمر والنهي في الحقيقة هو منشأ انتزاع العنوان ، وليس التكليف بالفعل الواجد له إلا للتوصل إليه ، حيث يتعين حينئذ تعدد متعلق الأمر والنهي خارجا تبعا لتعدد منشأ انتزاع العنوانين في الفعل الواحد ، ولا يلزم اجتماع الضدين. ولا يكون اتحاد العنوانين فيه خارجا إلا كسائر موارد التقارن الاتفاقي بين متعلقي الأمر والنهي. وحينئذ يتعين البناء على فعلية كل من الأمر والنهي ، عملا بإطلاق دليليهما بعد عدم التزاحم بينهما ، لأن المفروض في محل الكلام كون الأمر بدليا مع وجود المندوحة وإمكان امتثاله بفرد آخر. هذا هو المهم من الكلام في المسألة.

وهناك بعض الوجوه الأخر استدل بها في كلماتهم لامتناع الاجتماع وجوازه لا مجال لإطالة الكلام فيها ، ولا سيما مع ظهور حال بعضها مما تقدم. كما أنه ربما احتج للجواز بالعبادات المكروهة. ويأتي الكلام فيها في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

٤٧٤

المقام الثاني

في إمكان قصد التقرب بالمجمع

في فرض النهي عنه

ولا ينبغي التأمل في إمكان قصد التقرب به مع الغفلة عن النهي أو الجهل به ، لعدم صلوحه للمبعدية حينئذ لينافي القصد المذكور ، وحينئذ يتعين الاجتزاء به لو كان عبادة. غايته أن الاجتزاء به مع البناء على إمكان الاجتماع لكونه من أفراد الطبيعة المأمور بها ، ومع البناء على امتناعه لمجرد واجديته للملاك المفروضة في المقام. كما أن الكلام في كفاية الجهل التقصيري في تحقق التقرب المعتبر في العبادة تابع لدليل اعتبار التقرب المعتبر فيها ، والنظر فيه موكول للفقه ، وليس الكلام هنا إلا في إمكان قصد التقرب الذي يكفي فيه الجهل بالنهي مطلقا ، كما ذكرنا.

وأما مع الالتفات للنهي ، فإن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بملاك اجتماع الضدين ، لوحدة متعلق الحكمين في المجمع للعنوانين المتعلقين لهما ، فلا إشكال في امتناع قصد التقرب في المقام ، لامتناع فعلية التقرب والانقياد بما هو مبعد وتمرد على المولى ، وإن كان واجدا لملاك المقربية. وكذا لو قيل بإمكان الاجتماع مع وحدة المتعلق ، لعدم التضاد التام بين الحكمين ـ كما تقدم منا ـ لعين الوجه المذكور.

أما لو قيل بإمكان الاجتماع لتعدد المتعلق ، إما لتعلق الحكم بالعنوان ـ المفروض تعدده ـ دون المعنون ـ كما تقدم من بعض المحققين والمعاصرين ـ وغض النظر عما تقدم ، أو لتعدد منشأ انتزاع العنوانين ـ كما تقدم منا ـ فقد ذكر بعض المحققين والمعاصرين أن اللازم البناء على إمكان التقرب بالمجمع ،

٤٧٥

لأنه يكون من ضم الطاعة للمعصية في مقام الامتثال ، لا من التقرب بما هو مبعد الممتنع.

لكنه يشكل بأنه لا أثر لذلك في إمكان التقرب ، لأن الانقياد والتقرب والبعد والتمرد لا تتبع مقام الجعل وثبوت التكليف ، بل مقام الامتثال والعصيان اللذين يكونان بالمعنون الذي هو فعل المكلف المفروض في المقام وحدته ولو مع تعدد العنوان ، فيلزم التقرب بما هو مبعد.

ولذا يتعين امتناع التقرب بالفعل الموصل للحرام ، بحيث لا يتخلل بينهما الاختيار ، كما لو كانت الصلاة على السطح موجبة لتخلخله بحيث ينفذ فيه المطر ويسقط على من تحته من المؤمنين ، أو كانت سببا لغضب الظالم وقتله مؤمنا تحت يده ونحو ذلك. بلحاظ أن موضوع الحرمة في ذلك وإن كان مباينا لموضوع الوجوب في مقام الجعل ، إلا أن استناد الحرام فيه لفعل المكلف بنحو لا يعذر فيه موجب لصدق المعصية عليه وكونه تمردا على المولى ومبعدا منه ، وهو لا يجتمع مع التقرب به منه ، ليمكن قصده.

وقد حاول بعض المحققين قدس‌سره دفع ذلك فقال : «وأما التقرب بالمبعد فإن أريد به ما هو نظير البعد والقرب المكانيين بحيث لا يعقل حصول القرب إلى مكان مع حصول البعد عنه. ففيه : أن لازمه بطلان العمل حتى في الاجتماع الموردي نظرا إلى حصول القرب والبعد معا في زمان واحد. وإن أريد به سقوط الأمر والنهي وترتب الغرض وعدمه فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطا للأمر حيث إنه مطابق ما تعلق به ، ومسقطا للنهي بالعصيان ، حيث إنه خلاف ما تعلق به ونقيضه. وكذا ترتب الثواب عليه من حيث إنه موجب لسقوط الأمر بإتيان ما يطابق متعلقه المحصل للغرض منه ، فإنه لا ينافي ترتب العقاب عليه من حيث إنه موجب لسقوط النهي بإتيان ما يناقض متعلقه المنافي لغرضه منه».

٤٧٦

ويشكل بأن التقرب المعتبر في العبادة ليس بمعنى القرب المكاني ، ليمتنع اجتماعه مع البعد في وقت واحد ولو مع تعدد الفعل. ولا بمعنى موافقة التكليف والغرض ، ليمكن اجتماعه مع البعد ولو مع وحدة الفعل. بل بمعنى وقوع الفعل في طريق المولى ولأجله وفي حسابه ، بحيث يكون مظهرا للخضوع له ولعبادته وللانقياد له والفناء فيه. وذلك لا يمكن مع وقوع الفعل نفسه على وجه العصيان للمولى والتمرد عليه والخروج عن مقتضى مولويته ، وإن أمكن ذلك بالإضافة إلى فعل آخر مباين له ولو مع وحدة الزمان. ومنه يظهر الحال في استحقاق الثواب والعقاب ، فإنهما تابعان للبعد والقرب بالمعنى المذكور ، لا لمجرد موافقة التكليف والغرض ومخالفتهما ، ليمكن اجتماعهما بالإضافة إلى الفعل الواحد.

ولو لا ما ذكرنا لأمكن التقرب بالمجمع حتى بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، لأنه وإن لم يكن مأمورا به حينئذ إلا أن المفروض واجديته لملاك الأمر ووفاؤه بغرضه ، وأن المورد من صغريات التزاحم ، ولذا كان المعروف صحة الامتثال به مع الغفلة عن النهي ، وحينئذ يتقرب به بلحاظ واجديته للملاك ، مع أن ظاهره ـ كصريح بعض المعاصرين وغيره ـ المفروغية عن عدم التقرب حينئذ ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.

وينبغي التنبيه على أمور ..

الأمر الأول : أشرنا فيما سبق إلى اختصاص مورد كلامهم بصورة وجود المندوحة وإمكان امتثال الأمر بغير المجمع ، وأنه لا تزاحم حينئذ بين الأمر والنهي ، بل يبقى كل منهما فعليا تبعا لفعلية ملاكهما وإطلاق دليلهما. وحينئذ يلزم تقديم جانب النهي عملا ، لأنه تعييني يمكن استيفاء غرضه مع استيفاء غرض الأمر التخييري بفرد آخر.

٤٧٧

ومعه لا حاجة في تقديم النهي إلى وجه آخر ثبوتي راجع لترجيح النهي بالأهمية أو نحوها ، أو إثباتي راجع لترجيح دليله ، وإن أطال في ذلك غير واحد.

أما في صورة عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بالمجمع فيلزم التزاحم بين الحكمين ، ويتعين تقديم الأهم منهما ، على ما هو المقرر في التزاحم. ولا مجال للترجيح بين الدليلين ، لأنه فرع التعارض ، وقد سبق خروج المورد عنه.

الأمر الثاني : أشرنا في آخر المقام الأول إلى استدلال بعضهم على جواز اجتماع الأمر والنهي بالعبادات المكروهة ، كالصلاة في الحمام ، وصوم يوم عاشوراء ، وغيرهما. وتقريبه : أن وجه تضاد الأحكام لا يختص بالوجوب أو الاستحباب مع الحرمة ، بل يجري في الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة أيضا ، فلو كان مانعا من اجتماع الحكمين في محل الكلام لامتنعت كراهة العبادة ، لتقوم العبادة بالأمر ، فيلزم اجتماع الكراهة مع الوجوب أو الاستحباب ، مع أنه لا إشكال في إمكانها ، بل ثبوتها في الجملة.

لكن لا مجال للاستدلال المذكور ، لأن من العبادات المكروهة عندهم ما ينحصر امتثال أمره بالفرد ، كصوم التطوع يوم عاشوراء ، مع وضوح امتناع اجتماع الأمر والنهي فيه لو كانا لزوميين. بل يتحد في كثير منها منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي وإن اختلفا بالإطلاق والتقييد ، ككراهة الصلاة في الحمام مع وجوب أو استحباب الصلاة مطلقا ، وقد سبق بناؤهم فيه على التنافي بين الحكمين والتعارض بين الدليلين مطلقا وخروجه عن مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومن هنا يلزم النظر في العبادات المكروهة ، وتوجيه الجمع فيها بين

٤٧٨

الأمر والنهي ، فنقول ـ ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد ـ : العبادات المكروهة على قسمين :

القسم الأول :ما يختلف فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي ، كالوضوء والغسل بالماء المشمس ، حيث يظهر من أدلة الكراهة أن موضوعها استعمال الماء المذكور في الغسل ونحوه بعنوانه الأولي ، مع أن موضوع الأمر بالوضوء والغسل هو الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه ، فهو عنوان ثانوي تسبيبي. والكلام في هذا القسم هو الكلام المتقدم في مسألة الاجتماع من كون المورد ملحقا بالتزاحم في واجديته لملاك كلا الحكمين.

فإن أمكن امتثال الأمر بفرد آخر غير المجمع أثر كل من الملاكين أثره ، لعدم التضاد بين الحكمين بعد عدم كون الأمر اقتضائيا في المجمع ، فيبقى الأمر على إطلاقه فيه ، مع فعلية الكراهة فيه. وإن انحصر امتثال الأمر بالمجمع لزم التزاحم بين الحكمين ، ويتعين تقديم الأمر إن كان إلزاميا ، وإلا فالترجيح بالأهمية ، ومع سقوط المرجوح بالمزاحمة يبقى ملاكه ، فيصح الامتثال بالمجمع لو كان المرجوح هو الأمر.

والظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم مانعية كراهته من التقرب به لو كان عبادة ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكلماتهم في الفقه ، حيث ذكروا في شروط العبادات ـ كالطهارات والصلاة والحج ـ إباحة متعلقاتها في الجملة ، كالماء والإناء والمصب والساتر وغيرها على تفصيل يرجع إلى اعتبار عدم اتحاد فعل العبادة مع الحرام أو إيصاله إليه ، ولم يشيروا لذلك في الكراهة ، وما ذلك إلا لمفروغيتهم عن عدم مانعيتها من التقرب.

وكأنه لأن المانع من التقرب أحد أمرين :

الأول : كون الفعل تمردا على المولى ومعصية له ، إما لكونه بنفسه

٤٧٩

محرما أو لكونه سببا توليديا لمحرم أو مقدمة قصد بها التوصل له أو مانعا من واجب أو نحو ذلك.

الثاني : كونه مبغوضا للمولى بحيث يكره إيقاعه ، ويتنفر منه ، وإن لم يكن معصية له.

ومن الظاهر أنه لا مجال للأول في المكروه بعد عدم كون النهي إلزاميا ، بل هو يختص بالمحرم. وأما الثاني فثبوته في الحكم بالكراهة يبتني على انتزاع الأحكام التكليفية من الإرادة والكراهة الحقيقيتين ، وقد سبق في بحث حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول المنع من ذلك ، وأن الإرادة والكراهة التشريعيتين اللتين بهما قوام الأحكام التكليفية مختلفتان مع الإرادة والكراهة الحقيقيتين سنخا ، ومتقومان بالخطاب بداعي التشريع وإضافة الفعل أو الترك لحكم المولى وجعله في حسابه ، بحيث يتابع لأجله ، مع المسئولية ـ المستلزمة للتمرد بالمخالفة ـ في الأحكام الإلزامية وبدونها في غيرها من الأحكام الاقتضائية ، من دون أن يستلزم حبا أو بغضا أو إرادة أو كراهة ، بل هي محال في حقه تعالى خاصة.

وبذلك لا حاجة إلى تنزيل الكراهة على الكراهة العرضية الراجعة لاستحباب الترك ومحبوبيته لترتب مصلحة عليه ، دون الحقيقية الراجعة لمبغوضية الفعل لترتب مفسدة عليه. على أنه تكلف قد تأباه الأدلة في بعض الموارد.

القسم الثاني : ما يتحد فيه منشأ انتزاع عنواني متعلقي الأمر والنهي مع الاختلاف بالإطلاق والتقييد ، كما في الصلاة في الحمام أو في السواد وصوم يوم عاشورا وغيرهما.

ولا يخفى أن اجتماع الملاكين في المجمع كما يمكن ثبوتا مع اختلاف

٤٨٠