الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

بوجوب العمل على طبق مؤدى الحجة أو جوازه.

خلافا لما صرح به سيدنا الأعظم قدس‌سره وغيره من أن المجعول للشارع هو الحكم الطريقي بوجوب العمل بالطريق أو جوازه مع كون الحجية منتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة بنفسها.

كيف؟! ولازم ذلك كون الحجية في الأحكام الإلزامية مباينة للحجية في الأحكام الترخيصية ، لاختلاف منشأ انتزاعهما ، فالأولى منتزعة من وجوب العمل بالحجة والثانية منتزعة من جواز العمل بها. مع أن مجرد الأمر بالعمل على طبق الطريق أو جوازه لا يستلزم حجيته ، بل إن كان تعبديا لمحض احتمال إصابته للواقع ـ نظير الأمر بالاحتياط والترخيص في مورد البراءة ـ لم يكن الطريق حجة ، وإن كان متفرعا على صلوح الطريق لإثبات مؤداه ، بحيث يعتمد عليه في البناء عليه ، ويكون العمل على المؤدى ، كما يعمل عليه مع انكشافه بالقطع ، كان حجة. وذلك راجع إلى كون الحجية أمرا اعتباريا يترتب عليه العمل عقلا.

ويشهد لما ذكرنا التأمل في المرتكزات العقلائية ، فإن اعتماد العقلاء على الحجج التي عندهم في أعمالهم التابعة لأغراضهم الشخصية بعين ملاك اعتمادهم عليها في خروجهم عن التكاليف المولوية الشرعية أو العرفية ، مع وضوح عدم التكليف الطريقي في مورد الأغراض الشخصية ، بل ولا في مورد التكاليف العرفية لو فرض غفلة المولى العرفي عن حجية الحجة أو عن قيامها على التكليف أو على موضوعه ليلزم بمتابعتها. وظاهر حال الشارع الجري على ما عند العقلاء في الحجج العرفية التي يجاريهم فيها ، وكذا في الحجج التعبدية التي يختص بها.

ويناسب ذلك التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى

٤١

رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (١) ، لظهوره في جعل الحجية بنفسها بما لها من مفهوم عرفي ، كما هو الحال في سائر ما تضمن عنوان الحجية مما ورد في كلام المعصومين عليهم‌السلام وعبر عنها في الكتاب المجيد بالسلطان. بل حيث كان المراد من الرجوع لرواة الحديث في التوقيع تطبيق العمل على أقوالهم أو سؤالهم لأجل ذلك كان كالصريح في ترتب العمل على الحجية ، لا أنها منتزعة منه.

هذا ، ويأتي الكلام في حقيقة الحجية التخيرية عند الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين من مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة : وقع الكلام بينهم في حقيقة السببية والشرطية والمانعية والرافعية ونحوها مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في وجود الشيء أو عدمه ، وهل أنها من الأحكام المجعولة بالأصل أو بالتبع ، أو منتزعة من خصوصية جعلية أو تكوينية ، ولا كلام فيما لا تعلق له منها بالحكم الشرعي ، ولا بمتعلقه ، بل بالأمور التكوينية ، كسببية النار للإحراق ، حيث لا إشكال في عدم تبعيتها للجعل والتشريع ، بل هي منتزعة من خصوصيات تكوينية ، على ما يتضح بملاحظة ما تقدم في حقيقة الأمر الانتزاعي.

وإنما الكلام فيما له نحو تعلق بالحكم ، حيث يكون تابعا للجعل في الجملة ، وهو يلحظ :

تارة : بالإضافة إلى نفس الحكم التكليفي أو الوضعي ، كسببية الاستطاعة لوجوب الحج والغسل للطهارة والعقد لمضمونه وشرطية البلوغ للتكليف ونفوذ العقد ، ومانعية الحيض من وجوب الصلاة والإكراه من نفوذ العقد ، ورافعية الضرر للتكليف والطلاق للزوجية.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩.

٤٢

وأخرى : بالإضافة إلى المكلف به كشرطية الستر للصلاة ، ومانعية النجاسة منها ، وقاطعية الكلام لها. وأما السببية والرافعية للمكلف به فهي تختلف باختلافه ، فإن كان المكلّف به أمرا تكوينيا كان سببه تكوينيا أيضا وكانت مسببيته منتزعة من خصوصيتهما التكوينية ، وإن كان أمرا جعليا ، كالطهارة المسببة عن الغسل والمرتفعة بالحدث ، فسببية سببه ورافعية رافعه من صغريات السببية للحكم الشرعي والرافعية له.

ومن هنا يكون الكلام في مقامين :

المقام الأول : فيما يكون بالإضافة إلى نفس الحكم.

وقد أصر شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب ـ على كونه منتزعا من جعل الحكم على النحو الخاص من دون أن يكون مجعولا مستقلا في قباله ، ولا تابعا في الجعل له ـ نظير ما قيل من تبعية التكليف الغيري للتكليف النفسي ـ فضلا عن أن يكون مجعولا بالأصل ويكون الحكم مجعولا بتبعه أو منتزعا منه ، وحكي عن شرح الزبدة نسبته للمشهور ، وعن شرح الوافية أنه الذي استقر عليه رأي المحققين.

وقد استدل عليه بالوجدان ، لأن الحاكم لا يجد من نفسه جعل أمر غير الحكم ، ولا يراد من بيان هذه الأمور لو وقعت في لسان الحاكم أو من ينقل عنه إلا بيان نحو جعل الحكم من دون أن تكون مجعولة بنفسها.

ومع ذلك فقد حكي عن غير واحد البناء على كون السببية مجعولة ، منهم المحقق الأعرجي في شرح الوافية ، مدعيا بداهة اختلاف التكليف عن الوضع وعدم رجوع أحدهما للآخر ، وإن كانا متلازمين في مقام الجعل ، فيكون جعل أحدهما مستلزما لجعل الآخر بتبعه. قال ـ بعد بيان ذلك ـ : «فقول الشارع دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها ، خطاب وضعي وإن

٤٣

استتبع تكليفا ، وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض ، كما أن قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) و «دعي الصلاة أيام أقرائك» خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك سببا والأقراء مانعا ، والحاصل : أن هناك أمرين متباينين كل منهما فرد للحكم ، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عدد الأحكام».

وقد جرى على ذلك في الجملة بعض الأعيان المحققين قدس‌سره فذكر أنه بعد انتزاع كل من السببية والحكم من الجعل المتضمن لإناطة الحكم بموضوعه لا بد من البناء على كونهما معا مجعولين بجعل واحد من دون وجه لدعوى كون أحدهما منتزعا من الآخر.

أقول : جعل الأحكام التكليفية والوضعية إنما يصح بلحاظ الأثر المترتب عليها ـ ولو في الجملة ـ لأنه هو المصحح لاعتبارها عند العقلاء والرافع للغوية جعلها بنظرهم. ومن هنا لا مجال لدعوى اعتبار كل من الحكم والسببية وجعلهما في عرض واحد ، لكفاية أحدهما في ترتب الآثار العملية المهمة ، بلا حاجة إلى انضمام الآخر إليه. بل لا بد من أحد أمور :

الأول : جعل الحكم في طول السببية ، نظير ترتب حرمة الاستعمال على النجاسة ، حيث يكون كل من الجعلين موردا للأثر. الثاني : اختصاص السببية بالجعل ، مع كون الحكم منتزعا منها من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها مستقل عنها أو تابع لها. الثالث : العكس.

ولا مجال للأول لعدم ترتب الحكم على السببية الجعلية لا تكوينا ولا تشريعا ، أما الترتب التكويني فلامتناعه بين الاعتباريات ، بل هي تابعة لاعتبار من بيده الاعتبار ، وأما الترتب التشريعي فلأنه فرع إمكان التفكيك بينهما ، وهو

__________________

(١) سورة الإسراء الآية : ٧٨.

٤٤

متعذر في المقام بالضرورة.

كما لا مجال للثاني ، لظهور الأدلة ـ طبقا للمرتكزات ـ في جعل الحكم على النحو الخاص بنفسه. كما أن التكليفي منه هو الموضوع للإطاعة والمعصية بمقتضى المرتكزات العقلائية ، والوضعي منه هو الموضوع للأحكام الشرعية في ظاهر الأدلة. بل لا معنى لجعل السببية دون الحكم بعد كونها نحو نسبة قائمة به وبالسبب.

ومن ثم يتعين الثالث ، وهو اختصاص الحكم بالجعل الاعتباري ، وكون السببية منتزعة منه. لكن لا بمعنى كونها منتزعة من الحكم بنفسه ، بل من الخصوصية القائمة به وبالسبب المستفادة من الكبرى الشرعية المتضمنة لجعله الراجعة لموضوعية السبب له. ومن ثم كانت السببية من سنخ الإضافة القائمة بالحكم والسبب معا ، نظير العلية في التكوينيات.

ومجرد انتزاعها هي والحكم من الكبرى الشرعية ـ كما تقدم من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره ـ لا يقتضي جعلها اعتبارا مثله ، لما تقدم في الأمر الرابع من أن الإضافات القائمة بالأمور التكوينية أو الاعتبارية ليس لها وجود خارجي أو اعتباري في قبال منشأ انتزاعها ، نعم ، يصح نسبتها للجاعل بلحاظ جعله تشريعا لمنشا انتزاعها. كما أنها لا تستفاد من دليل الجعل إلا بلحاظ ذلك.

هذا ، وقد ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره أنه لا مجال لانتزاع السببية ونحوها من الحكم ، لتأخر الحكم عن السبب فكيف يكون منشأ لانتزاع السببية له؟! بل هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات السبب ونحوه اقتضت دخله في التكليف بالنحو الخاص من دون أن تكون تابعة للجعل.

ويندفع بأن المدعى ليس هو انتزاع السببية للسبب من الحكم بما له من الوجود الخارجي الخاص المتأخر رتبة عن ذات السبب والمتفرع على سببيته

٤٥

له ، بل من نحو الترتب بينه وبين السبب التابع لأخذه في موضوعه في الكبرى الشرعية المتضمنة لجعله ، ومنه ينتزع أيضا المسببية للتكليف ، نظير انتزاع التقدم والتأخر والعلية والمعلولية للمتقدم والمتأخر والعلة والمعلول من نحو الترتب بينها من دون أن ينافي ذلك ترتبها.

وأما الخصوصية التكوينية التي أشار إليها فهي عبارة عن دخل السبب في ملاك الحكم الداعي لجعله ، وتبعية السببية للخصوصية المذكورة كتبعية الحكم للملاك مما لا إشكال فيه ، إلا أنها ليست محلا للكلام ، لأنها من سنخ تبعية الشيء لعلته الإعدادية ، ومحل الكلام التبعية التي هي من سنخ تبعية الشيء للمقتضي المؤثر فيه ، ومن الظاهر تبعية السببية بالنحو المذكور للجعل ، كما هو الحال في الحكم أيضا ، ولا يكفي فيها الملاك ، ولا خصوصية السبب التكوينية ، وقد عرفت أن الجعل منشأ لوجود الحكم اعتبارا ، ولانتزاع السببية من دون أن تكون مجعولة.

وبما ذكرنا يظهر الحال في غير السببية ، كالرافعية والشرطية والمانعية ونحوها مما تقدم ، مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في الشيء ، فإنها في الجعليات تنتزع من خصوصية الحكم المجعول القائمة به وبأطرافه والمستفادة من دليل جعله ، حيث يجري فيها ما تقدم في السببية على نحو واحد.

المقام الثاني : فيما يكون بالإضافة إلى المكلف به.

والكلام المتقدم في المقام الأول جار هنا ، فليس المجعول إلا التكليف بالفعل الخاص وهو المقيد بالشرط أو بعدم المانع أو نحوهما ، لأنه مورد الملاك وموضوع الغرض ، وليست شرطية الشرط للمكلف به ومانعية المانع منه إلا من الإضافات المنتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة في قباله أو بتبعه ، لعدم كونها موردا للغرض ، ولا موضوعا لما هو المهم من الأثر ، على ما

٤٦

يتضح بملاحظة ما سبق.

وقد جرى على ذلك المحقق الخراساني قدس‌سره من دون أن يشير إلى وجه الفرق بين المقامين ، مع وضوح أن الشرطية في المقام أيضا تابعة لخصوصية تكوينية في ذات الشرط والمانع اقتضت دخلها في ترتب الملاك على المكلف به ، نظير ما تقدم قريبا في المقام الأول.

المسألة الرابعة : الظاهر ـ كما صرح به جماعة من مشايخنا ـ أن الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب ، من دون أن تكون مجعولة معه لا استقلالا ولا تبعا.

وتوضيح ذلك : أن الجزئية والكلية عنوانان إضافيان متقابلان ينتزعان من لحاظ الوحدة بين الأمور المتكاثرة فلا يصدقان مع عدم الكثرة ، ولا مع عدم لحاظ الوحدة بين المتكاثرة.

وتلك الوحدة .. تارة : تكون مقوّمة لمفهوم واحد ذي عنوان واحد ، كما في الماهيات المخترعة للعرف العام كالدار والمدينة ، أو الخاص الشرعي كالصلاة والحج ، أو غيره كالكلام باصطلاح النحويين.

وأخرى : تكون مسببة عن اشتراك الأمور المتكاثرة في جهة تجمعها من دون أن يكون لها عنوان خاص بها إلا العنوان المنتزع من تلك الجهة ، كعنوان النافع وما في الصندوق ومملوك زيد.

وحينئذ فجزئية الشيء للمأمور به موقوفة .. أولا : على دخل ذلك الشيء في الغرض الداعي للأمر به.

وثانيا : على أخذه في متعلق الأمر في مرتبة سابقة على الأمر ، لما هو المعلوم من سبق متعلق الأمر على الأمر.

وثالثا : على ورود الحكم بالنحو الخاص المناسب لذلك.

٤٧

ولا يخفى أن الأمر الأول منشأ لانتزاع جزئية الشيء من موضوع الغرض ، والثاني منشأ لانتزاع جزئيته من متعلق الأمر بذاته ، والثالث منشأ لانتزاع جزئيته من متعلق الأمر بما هو مأمور به.

وحيث كان محل الكلام في المقام هو الثالث ـ لأنه القابل لاحتمال الجعل استقلالا أو تبعا لجعل الحكم ، ولأنه مورد الأثر والعمل ـ تعين البناء على انتزاع الجزئية من الحكم على نحو ما تقدم في السببية وأخواتها ، لأنها مثلها من الإضافات التابعة لخصوصية الحكم المجعول.

ولا وجه مع ذلك لما ذكره بعض مشايخنا من جعلها تبعا لجعل الحكم ، فضلا عن جعلها استقلالا.

كما لا وجه لما احتمله شيخنا الأستاذ قدس‌سره من جعلها أو انتزاعها في رتبة سابقة على الحكم ، ومع قطع النظر عنه. إلا أن يريد منها الجزئية لمتعلق الغرض أو لمتعلق الأمر بذاته ـ لا بما هو مأمور به ـ اللذين عرفت خروجهما عن محل الكلام.

المسألة الخامسة : وقع الكلام في حقيقة الصحة والفساد ، وأنهما من الأمور الواقعية ، أو المتأصلة بالجعل ، أو المنتزعة. ومن الظاهر أن الصحة لغة وعرفا تقابل السقم والمرض ولا تقابل الفساد ، والذي يقابل الفساد هو الصلاح ، فالتقابل بين الصحة والفساد مختص بعرف المتشرعة ـ تبعا لأهل العلم والاستدلال من الفقهاء والأصوليين ـ ومبني على ملاحظة المناسبة لمعناهما اللغوي والعرفي ، لا جريا عليه. ومنه يظهر ضعف ما يظهر من جماعة من تطابق معناهما المتشرعي مع المعنى اللغوي والعرفي ، وأنهما بمعنى التمامية وعدمها. بل صرح بعض مشايخنا بأن معنى الصحة لغة تمامية الأجزاء والشرائط ومعنى الفساد عدمها. كيف؟! والمقابل للتمامية لغة وعرفا النقص لا

٤٨

الفساد.

وكيف كان فالصحة والفساد إنما ينتزعان بلحاظ ترتب الغرض المهم من العمل الداعي له وعدمه ، لا بمعنى مطابقتهما لهما مفهوما ، بل بمعنى كون الغرض المذكور معيارا في صدقهما ومصححا لانتزاعهما ، فالصحة تصدق مع تمامية الأجزاء والشرائط الدخيلة في الغرض المذكور ، والفساد يصدق مع عدم تماميتها ، فلو لم يكن هناك غرض مهم من العمل لم يصدق عليه الصحة والفساد. ومن هنا لا يتصف الإتلاف مثلا بالصحة بلحاظ ترتب الضمان عليه ، كما لا يتصف الأكل نسيانا من الصائم بالفساد بلحاظ عدم ترتب الإفطار عليه.

ومنه يظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلف صدقهما باختلاف الأعراف تبعا للاختلاف في الغرض المهم من العمل ، كما نبه له غير واحد.

ولعله لذا حكي عن بعض المتكلمين تعريفهما بموافقة الأمر في الشريعة وعدمها ، وعن بعض الفقهاء تعريفهما بإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه ، والخلاف بين التعريفين راجع للاختلاف في معيار الصدق ، لا للاختلاف في المفهوم. وإن كان الظاهر عدم اختصاص الغرض المهم للفقيه بإسقاط الإعادة والقضاء ، بل يعم غيره من الآثار الوضعية ، كالطهارة في الغسل ، والتذكية في الذبح ، والزوجية في العقد ، والبينونة في الطلاق ، وغيرها.

هذا ، وحيث عرفت أن الصحة والفساد وصفان للعمل منتزعان بلحاظ تماميته ومطابقته لموضوع الغرض المهم وواجديته لجميع ما يعتبر فيه وعدمها ، فمن الظاهر أن المطابقة وعدمها من الأمور الواقعية التي لا دخل للشارع فيها.

نعم ، ترتب الغرض المهم ـ كسقوط الإعادة والقضاء ـ على موضوعه تارة : لا يستند للشارع الأقدس ، بل يكون عقليا ، كسقوط الإعادة والقضاء في

٤٩

مورد مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي ، حيث تقرر في محله أن إجزاءه عقلي لا دخل للشارع به ، وليس المجعول للشارع إلا الأمر بموضوع الغرض المذكور.

وأخرى : يستند إليه ، كسقوط الإعادة والقضاء في مورد عدم مطابقة المأتي للمأمور به ، كما في موارد حديث : «لا تعاد الصلاة» (١) ونحوها ، وكترتب مضامين العقود والإيقاعات عليها ، لأن المضامين المذكورة أحكام شرعية لا تترتب إلا بجعل الشارع لها تبعا لموضوعاتها.

لكن هذا لا يستلزم كون صحة العمل الخارجي في الموارد المذكورة بحكم الشارع بعد ما سبق من ملازمة الصحة لترتب الأثر المذكور وعدم مطابقتها له مفهوما. نعم ، لو كانت الصحة نفس ترتب الأثر دون التمامية الملازمة له اتجه استنادها للشارع في الثاني. لكنه خلاف ظاهرهم.

خاتمة :

صرح المحقق الخراساني قدس‌سره ـ في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية من حاشيته على الرسائل ـ بأن للحكم مراتب أربع :

الأولى : مرتبة شأنية الوجود ، من دون أن يكون موجودا أصلا.

الثانية : مرتبة الوجود الإنشائي من دون أن يبلغ مرتبة البعث والزجر والترخيص فعلا.

الثالثة : مرتبة فعلية البعث والزجر والترخيص من دون أن يبلغ مرتبة التنجيز.

الرابعة : مرتبة التنجيز المستتبع للعقاب والثواب.

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٠ من أبواب الركوع حديث : ٥. ١

٥٠

ويظهر من بقية كلامه أن المراد من المرتبة الأولى ما إذا تم المقتضي لإنشاء الحكم مع وجود المانع منه أو فقد شرطه قال : «كما لا يبعد أن يكون كذلك قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله». ولعله لذا نسب له قدس‌سره جعل المرتبة الأولى مرتبة الاقتضاء.

كما يظهر منها ومن بعض كلماته الأخر ـ ومنها ما في مبحث الواجب المشروط من الكفاية ـ أن المراد من المرتبة الثانية ما إذا حصلت العلة التامة للإنشاء ـ لتمامية الملاك في المتعلق ـ فحصل الإنشاء ، إلا أن الحكم لا يكون فعليا لوجود المانع من فعلية البعث والزجر والترخيص ، لعدم استعداد الناس له ، حيث يلزم معه تشريع حكم آخر تابع لمصلحة فيه لا في المتعلق ، وأن منه الواجب المشروط قبل تحقق شرطه ، والأحكام في أول البعثة قبل ظهورها تدريجا ، والأحكام المودعة عند الحجة (عجل الله فرجه) التي يكون هو المظهر لها.

لكن فرض عدم وجود الحكم أصلا في المرتبة الأولى لا يناسب عدها من مراتبه ، بل غاية ما ينبغي عدها من مراتب ملاكه. كما أن التنجز ـ الذي ذكره في المرتبة الرابعة ـ وإن كان من شئون الحكم الفعلي ، إلا أنه من لواحقه الخارجة عنه ، التي لا دخل لجعل الحكم فيها ، بل هو تابع لسبب التنجيز الذي هو عبارة عن وصول الحكم ، أو كون الجهل به غير معذر عنه ، وهو متأخر رتبة عن الحكم تأخر مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، فلا وجه لعدّه من مراتبه أيضا.

وأما ما ذكره في المرتبة الثانية من فرض إنشاء الحكم من دون بعث وزجر وترخيص فعلي ، فهو ـ مع اختصاصه بالأحكام التكليفية ـ غير متعقل ، لأن منشأ انتزاع الأحكام التكليفية ليس إلا البعث والزجر والترخيص على النحو المتقدم ، وبدونها لا وجود له. مع أن الملاك ما لم يبلغ مرتبة الفعلية بحيث ينبغي للمكلف استيفاؤه لا يصلح لتشريع الحكم على طبقه ، بأي مرتبة

٥١

فرضت ، لعدم الأثر للحكم المذكور بعد عدم ترتب العمل عليه ، وعدم كونه موضوعا للتنجيز ولا للطاعة والمعصية ، لاختصاصها بالحكم الفعلي ، كما اعترف به في مبحث القطع من الكفاية.

وأما ما قد يتردد في كلمات أهل الاستدلال في مقام الجمع بين الأدلة من حمل الدليل في بعض موارد إحراز الملاك مع وجود المزاحم أو المانع من فعلية الحكم على الحكم الاقتضائي. فلا مجال لحمله على جعل حكم اقتضائي يعم ثبوتا حال وجود المزاحم للملاك أو المانع من تشريع الحكم ، بل لا بد من رجوعه إلى حمل الدليل ـ إثباتا ـ على أن العنوان الذي تضمنه يقتضي تشريع الحكم الفعلي في مورده مطلقا ـ تبعا لعموم الملاك ـ لو لا الابتلاء بالمزاحم أو المانع ، في مقابل ما إذا كان قاصرا عن ذلك في بعض موارده تخصيصا لعدم إحراز الملاك رأسا. وهو في الحقيقة اقتضاء الحكم لا حكم اقتضائي.

وأما الواجب المشروط قبل تحقق شرطه فظاهر أدلته أنه غير تام الملاك ولا الموضوع ، بل لا يتم الملاك والموضوع إلا بتحقق الشرط. ويأتي بعض الكلام فيه. وأما الأحكام قبل البعثة أو في أول أزمنتها فهي ليست أحكاما حقيقية ولا مجعولة ، غاية الأمر أنها أحكام اقتضائية بالمعنى المتقدم.

كما أن ما تضمنته بعض النصوص من اختصاص الحجة (عجل الله فرجه) ببعض الأحكام ، وأنه هو المظهر لها ، محمول إما على تشريع الأحكام المذكورة قبل ذلك معلقة على موضوعات لا تتحقق إلا بظهوره عليه‌السلام ، أو على تشريعها بعد ظهوره مأخوذة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من العلم الذي أودعه عند أهل البيت عليهم‌السلام أو من العلم الحادث الخارج عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته للأئمة عليهم‌السلام حتى

٥٢

ينتهي إلى إمام العصر على ما تضمنته بعض النصوص (١) ، لتكون من جملة شريعته المقدسة ، كي لا ينافي ما تضمن بقاء شريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وبالجملة : لا وجود للحكم إلا في مرتبته الفعلية التي بها يكون الحكم التكليفي موضوعا للطاعة والمعصية والعقاب والثواب ، ويكون الحكم الوضعي موضوعا للآثار الشرعية.

وأشكل من ذلك ما ذكره ـ في ذيل ما تقدم من حاشيته على الرسائل ـ من أن الحكم المشترك بين الكل والذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم بالمرتبتين الأوليتين ، وأما بالمرتبتين الأخيرتين فهو يختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص ، مدعيا إمكان دعوى الإجماع والضرورة على ذلك. إذ فيه : أن حقيقة الحكم هو الحكم الفعلي الذي ذكره في المرتبة الثالثة ، فعدم اشتراكه بين العالم والجاهل عين التصويب الباطل بالنصوص والإجماع ، بل الضرورة من المذهب.

نعم ، موضوع الحكم الفعلي تارة : يكون فعليا ، فيشرّع الحكم بلسان القضية المنجزة الخارجية. وأخرى : لا يكون فعليا ولو في حق بعض المكلفين ، فيشرّع الحكم بلسان القضية التعليقية أو الحقيقية ، كما هو حال أحكام التشريعات العامة ، وقد يعبر عن الحكم حينئذ بالحكم الإنشائي.

ولا إشكال في كفاية الإنشاء بالنحو الثاني في صدق تشريع الحكم. ومن ثم أمكن ورود النسخ عليه.

وإنما وقع الكلام بينهم في أن التشريع بالنحو المذكور هل يكفي في

__________________

(١) راجع الكافي ج : ١ ص : ٢٥٣ ـ ٢٥٥. وبحار الأنوار ج : ٢٦ ص : ١٨ باب : ٣ من أبواب علومهم عليهم‌السلام من كتاب الإمامة. ١

٥٣

جعل الحكم ووجوده وفعليته وإن لم يتحقق موضوعه في الخارج ، ولا يترتب على تحقق الموضوع إلا داعوية الحكم عقلا وترتب العمل عليه ، أو لا بل يتوقف جعل الحكم ووجوده وفعليته على تحقق موضوعه في الخارج ، ولا فائدة لإنشاء الحكم وتشريعه بالنحو المذكور إلا ضبط موارد الحكم الفعلي وبيان أن المدار فيها على تحقق موضوعه. والظاهر الثاني على ما يأتي عند الكلام في استصحاب الحكم عند الشك في نسخه إن شاء الله تعالى. وعلى كل حال ليس للحكم إلا وجود حقيقي واحد تابع إما للإنشاء أو لتحقق الموضوع ، وهو الحكم الفعلي لا غير.

هذا ما تيسر لنا ذكره في حقيقة الحكم الشرعي. ويأتي بيان حقيقة الحكم الظاهري والطريقي عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم في أوائل مباحث الحجج إن شاء الله تعالى.

ويقع بعد ذلك الكلام في المباحث الأصولية بقسميها. ونستمد من الله عزوجل العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٥٤

القسم الأول

في الأصول النظرية

وهي تنحصر ـ كما سبق ـ بمباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقلية ، وحيث كان البحث في كل منهما يختلف عن البحث في الآخر سنخا كان المناسب بحث كل منهما في باب يخصه ، فيقع الكلام هنا في بابين :

الباب الأول

في مباحث الألفاظ

وهي التي يبحث فيها عن ضوابط تشخيص الظهورات الكلامية ، لتنقيح صغريات كبرى حجية الظهور ، التي يأتي الكلام فيها في القسم الثاني من علم الأصول إن شاء الله تعالى ، ولا يترتب عليها العمل إلا بضميمة الكبرى المذكورة.

تمهيد

حيث كان تشخيص الظهورات متفرعا على دلالة اللفظ على المعنى ، كان المناسب التعرض لبعض المباحث اللغوية الدخيلة في دلالة اللفظ على المعنى أو المناسبة لها مقدمة للكلام في هذا المقام ، ولا سيما مع عدم استيفاء البحث عنها في علوم اللغة ليستغني به الباحث في علم الأصول عن ذكرها هنا. وذلك بذكر أمور.

٥٥

الأمر الأول : حقيقة الوضع

من الظاهر أن دلالة اللفظ على المعنى تبتني .. تارة : على أداء اللفظ للمعنى بنفسه بلا توسط عناية في البين.

وأخرى : على عناية وتوسع خارجين عن حقيقة المعنى. والاستعمال في الثاني مجازي أو نحوه مما يجري عليه أهل الاستعمال ، وليس هو فعلا موردا للكلام. وأما في الأول فهو حقيقي ، وهو متفرع على علاقة خاصة بين اللفظ والمعنى تصحح نسبة أحدهما للآخر ، فيقال : هذا معنى اللفظ ، وهذا المعنى لفظه كذا.

ولا إشكال في عدم تبعية هذه العلاقة لذات اللفظ والمعنى ، وإن كان قد يوهمه ما قيل من أن دلالة اللفظ على المعنى طبعية ، إذ لا يظن بأحد الالتزام بظاهر ذلك مع ظهور وهنه باختلاف اللغات ، وتوقف فعلية الدلالة على العلم بمعنى اللفظ لغة ، وتبدل معنى اللفظ في اللغة الواحدة باختلاف الأزمنة. بل العلاقة المذكورة تابعة لأمرين :

الأول : كثرة الاستعمال في المعنى ولو بقرينة وعناية حتى يبلغ مرتبة تستغني إرادته منه عن العناية والقرينة ، ويصلح اللفظ لأداء المعنى بنفسه.

الثاني : تعيين اللفظ للمعنى ممن يتعارف قيامه به ومتابعته فيه ، كوليّ الطفل ، ومخترعي المفاهيم كأصحاب الفنون في مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم ونحوهم. وهو المسمى بالوضع التعييني ، في قبال الأول الذي يطلق عليه الوضع التعيني ، لاشتراكهما في الفائدة ، وهي العلاقة المصححة للاستعمال. وإلا فالوضع الذي هو من مقولة الفعل مختص بالتعييني ، وعمومه للتعيني يحتاج إلى عناية.

ثم إن الظاهر أن الوضع التعييني يتضمن جعل نسبة الاختصاص بين

٥٦

اللفظ والمعنى اعتبارا نظير ما يحصل عرفا بسبب كثرة الاستعمال. وأما البناء على إطلاق اللفظ وإرادة المعنى من دون عناية وقرينة ، فهو متفرع على الوضع لا مقوم له. وكذا الاستعمال بالنحو المذكور. فهما كالتصرف المتفرع على الملكية والمترتب عليها من دون أن يكون مقوما لها.

وقد أطال مشايخنا في المقام بما يضيق المجال عن استقصائه ولا سيما مع عدم وضوح الفائدة في ذلك.

هذا ، والظاهر أن الوضع التعييني يختص بمثل الأعلام الشخصية والمفاهيم المخترعة مما كان أمر وضع اللفظ له بيد شخص أو أشخاص قليلين ، حيث يدرك من بيده أمرها الحاجة لتعيين لفظ يخصها ، فيختار اللفظ المناسب بنظره.

وأما المفاهيم العامة التي يتساوى فيها الناس والتي عليها مدار اللغات فمن البعيد جدا أن يكون وضع الألفاظ لها تعيينيا ـ وإن كان قد يوهمه شيوع التعبير بالواضع عند التعرض لشرح حقيقة الوضع أو تحديد المفاهيم ـ لتعذره عادة في حق شخص واحد أو مجموعة قليلة من الناس بعد كثرة المعاني الأفرادية والتركيبية وتشعبها ، ولعدم معروفية من له الأهلية لأن يقوم بذلك ويتابعه فيه الكل ، ولذا لم ينقل ذلك في التواريخ مع أهميته جدا.

ومثله تصدي كل من يبتلى بمعنى لوضع لفظ يخصه فيتابع فيه حتى تكاملت اللغة تدريجا ، لوضوح غفلة الإنسان في عصوره الأولى عن فائدة الوضع ، ولا همّ لمن يبتلى بالمعنى حينئذ إلا بيانه وتفهيمه ولو بمعونة القرائن. على أنه لا منشأ لإلزام الآخرين بمتابعته ، بل لا يتيسر تبليغهم به حين وقوعه ليتابعوه بعده فيه.

وأما تعدد الواضع للمعنى الواحد بسبب تعدد المبتلين بالمعنى قبل

٥٧

ظهور اختصاص لفظ به ، فهو يستلزم كثرة الاشتراك ، واختلاف الذين يبتلون بالمعنى عادة في الحدود المأخوذة في المفهوم ، ونحو ذلك مما يوجب ارتباك اللغة كثيرا.

ومن هنا قرب شيخنا الأستاذ قدس‌سره كون تلك الأوضاع تعينية وأن مبدأها الاستعمال بصورة بدائية ـ ولو بمعونة القرينة ـ من دون تحديد دقيق للفظ ولا للمعنى ، تبعا للحاجة ، وإعمالا لملكة البيان التي فطر الله تعالى الإنسان عليها ، نظير تعابير الطفل في أول نطقه حيث يتكامل بتكامل الإنسان ويدخله التحسين والتطوير حتى تستقر اللغة وتشيع بين مجموعة من الناس.

لكن الإنصاف أن ذلك وإن كان مناسبا لطبيعة الإنسان في التدرج والتكامل ، إلا أنه يحتاج لزمان طويل ، وهو لا يناسب الآيات والنصوص الكثيرة المتضمنة لكلام الله سبحانه وتعالى مع آدم وحواء ، وكلامهما معه في مبدأ الخلقة ، والمحاورة بينهما وبين الملائكة والشيطان ، والمحاورة فيما بينهما ، وبينهما وبين ذريتهما ، وبين ذريتهما أنفسهم ، حيث يظهر منه تكامل البيان من أول الأمر ووجود لغة كافية في أداء المقاصد.

ومن هنا كان الظاهر أن الله ـ جلت قدرته وعظمت نعمته ـ قد ساعد الإنسان في مبدأ الخلقة ، فألهمه وهداه إلى النطق بمجموعة من الألفاظ وبتراكيب وهيئات مختلفة بحيث يسد حاجته ويستوفي أغراضه ، فتكلم بها بطبعه من دون أن يلتفت لعدم مسبوقيتها بالوضع ، وجرى عليها حين أدرك قضاء مآربه بها. وبذلك تكونت اللغة الأولى ، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التغيير والتبديل والتحسين والتطوير والتكامل فتوسعت تبعا لتجدد الحاجة ، وربما تشعبت اللغات منها ، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى دفعي إعجازي ، كما قد يظهر من بعض النصوص. وإلى هذا قد يرجع القول بأن الواضع هو الله تعالى ، وإلا كان مردودا على قائله.

٥٨

والظاهر أن سنته تعالى مع الإنسان على نحو ذلك في جميع أموره وضروراته في معاشه ومعاده ، ولم يكله إلى نفسه ليكون بدائيا في كل شيء.

ومن هذا يتضح بأن ما قد يقع منا من التعبير بالوضع أو بالواضع ليس إلا لمجاراتهم أو لضيق التعبير ، مع أن المقصود نتيجة الوضع ـ وهي العلاقة الخاصة بين اللفظ والمعنى ـ وإن لم تستند لكثرة الاستعمال ، فضلا عن أن تستند لوضع تعييني من واضع خاص.

الأمر الثاني : في أقسام الوضع

ما سبق من تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني إنما هو بلحاظ اختلاف خصوصيته في نفسه واختلاف منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى.

وقد قسموه تقسيمين آخرين بلحاظ متعلقيه وهما الموضوع ـ من لفظ ونحوه ـ والمعنى الموضوع له ، اللذين بهما تقوم إضافة الوضع.

الأول : تقسيمه بلحاظ الموضوع ـ من لفظ ونحوه ـ إلى الوضع الشخصي والنوعي.

وتوضيحه : أن من الظاهر أن الموضوع دائما ليس هو اللفظ الشخصي الملفوظ للواضع في التعييني وللمستعمل في التعيني ، لتصرمه ، بل هو الكلي المنطبق على ما لا نهاية له من الأفراد المتماثلة. وإرادته حين الوضع التعييني تبتني على إطلاق اللفظ وإرادة نوعه. ومن هنا كان التقسيم المذكور محض اصطلاح.

ولعل المعروف بينهم في تحديد الاصطلاح المذكور أن وضع الهيئات الأفرادية ـ كهيئات الجمع والمشتقات ـ والهيئات التركيبية ـ كهيئات الجمل والإعراب والإضافة ـ نوعي بلحاظ عدم أخذ خصوص مادة فيها ، وصلوحها للمواد والمفردات المختلفة. كما أن وضع الجوامد والحروف ومواد

٥٩

المشتقات شخصي.

ولعل الوجه في ذلك أن نسبة الهيئة للمادة لما كانت نسبة العرض للموضوع ـ كما هو الحال في نسبة معنى الهيئة لمعنى المادة أيضا ـ كان المنظور الأصلي هو المادة ، وكان المعيار في الوحدة والتعدد عليها ، وكان تعددها في الهيئة الواحدة موجبا لكون وضع الهيئة نوعيا ، بخلاف تعدد الهيئات في المادة الواحدة ، فلا يلتفت إليه ليكون وضع المادة نوعيا ، بل هو كتوارد الهيئات التركيبية على المفردات حيث لا يوجب كون وضع المفردات نوعيا.

وهذا كاف في صحة التقسيم المذكور بعد أن لم يكن حقيقيا ، بل محض اصطلاح ، كما سبق.

الثاني : تقسيمه بلحاظ المعنى الموضوع له. وذلك أنه لا بد للواضع من تصور المعنى الموضوع له عند إرادة وضع اللفظ. وحينئذ إن تصور معنى عاما صالحا للانطباق على أفراد كثيرة.

فتارة : يضع اللفظ له على عمومه ، بحيث يحكي اللفظ عن القدر المشترك بين الأفراد ، دون الخصوصيات الفردية لكل منها.

وأخرى : يضع اللفظ لأفراد ذلك المعنى بخصوصياتها الفردية المتباينة ، بحيث يحكي اللفظ عن كل من تلك الخصوصيات المتباينة الداخلة تحت ذلك المعنى العام على نحو البدل. ويكون فائدة تصور المعنى العام حين الوضع جعله معيارا لأفراده بخصوصياتها وطريقا لضبطها.

وبلحاظ عموم المعنى المتصور في القسمين معا يسمى الوضع عاما ، إلا أنه في القسم الأول يكون المعنى الموضوع له عاما أيضا ، وفي الثاني يكون الموضوع له خاصا.

وإن تصوّر الواضع حين الوضع معنى خاصا لا تكثر فيه ، فلا ريب في أن

٦٠