الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

عبادة ـ فلا حاجة للمقدمة الثالثة ، لما سبق في الأمر الأول من أنه مع الأمر بالترك يكون الفعل تمردا على المولى فيمتنع التقرب به وإن لم يكن محرما شرعا. كما لا حاجة للمقدمة الثانية ، لأن مقدمة الواجب وإن لم تجب شرعا إلا أن وجوب ذيها نفسيا لما كان يدعو إليها في طول داعويته إليه كان تركها مخالفة لمقتضى وجوب ذيها وتمردا على المولى ، فيمتنع التقرب به مع ذلك ، كما يظهر بأدنى تأمل في المرتكزات العقلائية التي عليها المعول في أمثال المقام.

ومن هنا كانت المقدمة الأولى كافية في ترتب الثمرة المذكورة. ولذا اهتم جماعة بالكلام فيها حتى صار من أهم مباحث المسألة. فينبغي لنا متابعتهم في ذلك ، فنقول :

مجرد التضاد بين الشيئين بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود لا يقتضي توقف وجود أحدهما على عدم الآخر ، بحيث يكون عدم الآخر مقدمة له. خلافا لما يظهر من بعض المحققين قدس‌سره من كفاية ذلك في التوقف والمقدمية ، بدعوى : أن عدم الضد متمم لقابلية الموضوع للاتصاف بالضد الآخر ، وقابلية الموضوع من أجزاء العلة. إذ يدفعها : أن مجرد امتناع اجتماع الأمرين في الموضوع الواحد لا يستلزم توقف قابلية الموضوع لأحدهما على خلوه عن الآخر في رتبة سابقة عليه ، بحيث يكون عدم الآخر متمما لقابلية الموضوع له ومن أجزاء علته ، وإنما يتم ذلك في المانع.

ومحصل الفرق بين المانع والضد : أن المانع ما يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده في المعلول ، إما لخصوصيته التكوينية ، كالرطوبة المانعة من تأثير النار للإحراق ، أو لأخذ عدمه في الموضوع شرعا ، كزوجية البنت من شخص المانعة من زوجية أمها منه. من دون فرق بين ما إذا تعذر ارتفاع المانع ، إما لمانعيته مطلقا بحدوثه فقط ، كزوجية الأم المذكورة ، أو بحدوثه وبقائه مع تعذر ارتفاعه ، كالسور الحصين المانع من اقتحام العدو

٤٤١

للمدينة ، وما إذا أمكن ارتفاعه ، إما بتأثير المقتضي بأن يكون المقتضي رافعا له أولا وباستمراره يؤثر في المعلول ، كالرطوبة المانعة من إحراق النار للجسم إلا بعد تجفيفها له واستمرارها بعد التجفيف ، أو بتأثير غيره ، كغلق الباب المانع من دخول الحيوان له إلا بعد فتح الانسان له. وزوجية المرأة من شخص المانعة من زوجيتها من غيره ما لم ينفصل عنها الأول.

أما الضد فهو لا يصلح للمانعية من تأثير مقتضيه له ، لعدم واجديته للخصوصية المناسبة لذلك ، فلا يكون وجود أحد الضدين مفتقرا لعدم الآخر ، بحيث لا بد من عدم الضد في رتبة سابقة على وجود ضده. غاية الأمر أنه يمتنع اجتماعهما في الوجود ، إما للتنافر بين مقتضاهما بحيث يلزم من وجود المقتضي لكل منهما عدم المقتضي للآخر ، كالصلاة وإزالة النجاسة ، حيث يمتنع تعلق الإرادة ـ التي هي من سنخ المقتضي لهما ـ بهما معا في فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما ، فيستند عدم كل منهما في ظرف إرادة الآخر ووجوده لعدم المقتضي له ، لا لمانعية وجود الآخر من تأثير مقتضيه فيه. وإما لمانعية مقتضي أحدهما من تأثير مقتضي الآخر ، كحركة الثوب المستندة للهواء ، وسكونه المستند لجاذبية الأرض. فمع وجود الهواء المقتضي للحركة لا يستند عدم السكون لعدم المقتضي ـ لبقاء قوة الجاذبية معه ، وإن كانت مغلوبة له ـ ولا للحركة ، بل لوجود الهواء المقتضي لها ، حيث يكون هو المانع من تأثير الجاذبية في السكون. ومع عدم الهواء يستند السكون للجاذبية من دون دخل لعدم الحركة ، فليس كل من الحركة والسكون مانعا من الآخر.

ومما ذكرنا يظهر أن قابلية الموضوع للعارض التي هي من أجزاء علته إنما تكون بخلوه عن الموانع التي يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه ، لا بخلوه عن الأضداد ، وهي التي لا تجتمع معه من دون أن يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه.

٤٤٢

كما ظهر أن دعوى مانعية أحد الضدين من الآخر خلف ، لأن المراد بالضد ليس مطلق ما لا يجتمع مع الشيء في الوجود ، بل خصوص ما لا يمنع من تأثير المقتضي في الموضوع ، فإذا فرض مانعيته خرج عن كونه ضدا وصار مانعا ، وخرج عن محل الكلام. ومن هنا لا حاجة إلى تكلف الاستدلال على عدم مانعية أحد الضدين من الآخر ، كما وقع من جماعة من المتأخرين ، حيث قد يقرب الامتناع بدعوى استلزام المانعية للدور.

وذلك لأنه كما يستند وجود الشيء لعدم المانع ، بحيث يكون عدم المانع من مقدماته ، كذلك يستند عدم الشيء لوجود المانع ، بحيث يكون وجود المانع من مقدمات العدم المذكور ، فإذا كان كل من الضدين مانعا من الآخر فكما يلزم استناد وجود كل من الضدين لعدم الآخر ومقدميته له ، بملاك علية عدم المانع للمعلول ومقدميته له ، كذلك يلزم استناد عدم كل منهما لوجود الآخر ومقدميته له ، وهو دور واضح.

الأمر الثالث : أشرنا في تمهيد هذه المسألة إلى أن ثمرتها المهمة هي فساد الضد لو كان عبادة. وعن البهائي قدس‌سره إنكار الثمرة المذكورة ، بدعوى أن الأمر بالضد وإن لم يقتض النهي عن ضده إلا أنه يستلزم عدم الأمر بضده ، فيمتنع التقرب به ، لأنه فرع الأمر به ، فيبطل لو كان عبادة.

لكن ذلك إن ابتنى على أن الأمر بالضد يستلزم قصور الأمر بضده خطابا وملاكا ، نظير الصلاة الفاقدة للطهارة ، أشكل بأن قصور الأمر المذكور إنما هو من جهة التزاحم بين الأمرين ، وهو إنما يوجب فعلية الأهم وقصور المهم خطابا لا ملاكا ، على ما يأتي عند الكلام في معيار التزاحم من خاتمة مبحث التعارض.

وإن ابتنى على أن المعيار في العبادية على الأمر الفعلي ، وعدم كفاية

٤٤٣

قصد الملاك في التقرب ، فيظهر ضعفه مما تقدم منا في مبحث التعبدي والتوصلي من أن معيار العبادية التقرب بقصد ملاك المحبوبية ، فلا بد من البناء على كفايته في المقام في صحة العبادة ما لم يمنع منه وقوع الفعل على نحو التمرد على المولى ، لكونه منهيا عنه ، أو لكون تركه مقدمة للواجب النفسي ، وهو الذي يرجع إليه الكلام في هذه المسألة.

هذا وأما ما ذكره من استلزام الأمر بالضد عدم الأمر بضده الآخر ، فهو يتم في الجملة مع كون الأمر بالضد الآخر مزاحما له ، بحيث لا يمكن جمعهما في مقام الامتثال ، حيث يتعين مع فعلية أحدهما لأهميته سقوط الآخر عن الفعلية في عرضه ، لامتناع التكليف بغير المقدور. غاية الأمر أنه وقع الكلام في إمكان الأمر به في طول الأمر الفعلي المفروض بالأهم بنحو الترتب ، على ما يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

وإنما الإشكال فيما إذا لم يكن الأمر بالضد الآخر مزاحما للأمر الفعلي المفروض ، لإمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال بامتثال الأمر بالضد الآخر بفرد لا يزاحم الضد المأمور به فعلا ، إما لكونه موسعا ، كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد مع سعة وقت الصلاة فانشغل المكلف بالصلاة. أو لكونه مضيقا ذا فردين فرد مضاد للواجب الفعلي يتعذر جمعه معه ، وفرد غير مضاد له. كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد ، وضاق وقت الغسل الواجب وأمكن الغسل تارة بنحو يتحقق معه تطهير المسجد بتكثير ماء الغسل حتى يجري على الموضع النجس من المسجد فيطهره ، وأخرى بنحو لا يتحقق معه تطهيره فاغتسل بالنحو الثاني.

فقد وقع الكلام بينهم في مثل ذلك في أن الأمر بالضد الآخر هل يشمل الفرد المزاحم للمأمور به فعلا بحيث يمكن قصد امتثال الأمر به وإن لزم عصيان الأمر الفعلي بالضد ، أو يقصر عنه فلا يمكن قصد الامتثال به إلا بناء على ثبوت

٤٤٤

الأمر الترتبي الطولي المشار إليه آنفا.

والظاهر الأول ، لعدم الملزم بالتقييد بعد عدم مزاحمة التكليف بالمطلق على إطلاقه للتكليف الفعلي ، لعدم داعوية التكليف بالمطلق لصرف القدرة في خصوص الفرد المزاحم للضد لينافي التكليف الفعلي بالضد عملا ، ويتعين تقييد الإطلاق وقصوره عن الفرد المذكور ، بل يتعين البناء على سعته ، كما هو مقتضى إطلاق دليله ، فينطبق على الفرد المزاحم قهرا ، ويمكن الإتيان به بقصد امتثاله.

هذا كله بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، وأما بناء على اقتضائه له ففي منافاة النهي المذكور للأمر بالضد مطلقا أو في خصوص صورة المزاحمة لانحصار الضد المأمور به بالفرد المنهي عنه كلام يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

الأمر الرابع : حيث سبق سقوط الأمر بالضد مع فعلية الأمر بضده ـ مطلقا ، أو في خصوص صورة التزاحم وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال ـ فالمتيقن من ذلك سقوطه في الجملة بمعنى عدم مانعيته من امتثال الأمر الفعلي بالضد ، بل مانعية الأمر بالضد من امتثاله بحيث لو امتثل الأمر بالضد فلا خطاب به.

أما سقوطه مطلقا ولو مع عصيان الأمر المذكور فهو محل كلام بينهم ، حيث اشتهر في العصور المتأخرة الكلام في ثبوته بنحو لا يقتضي معصية الآخر ، بل في طولها ، وبنحو الترتب بينهما مع اجتماعهما في الفعلية ، فيصح قصد الامتثال بمتعلقه.

والكلام المذكور وإن حرر في مسألة الضد المفروض فيها التزاحم بين الوجوبين ، تبعا للتضاد بين متعلقيهما ، إلا أن ملاكه لا يختص بذلك ، بل يجري

٤٤٥

في سائر موارد التزاحم بين التكليفين تحريميين كانا أو وجوبيين أو مختلفين.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد تقرر في محله أنه مع تزاحم التكليفين في مقام الامتثال فمع عدم المرجح لأحدهما يتعين امتثال أحدهما تخييرا ، ومع وجوده يتعين امتثال الراجح. ومرجع ذلك إلى تصرف صاحب التكليف وجاعله ـ مع التفاته ـ في تكليفه بنحو يقتضي ذلك.

أما التخيير مع عدم المرجح فسوف يتضح الحال فيه مما يأتي في صورة الترجيح إن شاء الله تعالى. وأما تعين الراجح مع وجوده ، فهو يبتني على بقاء الراجح على إطلاقه وتقييد المرجوح بحيث لا يصلح لمزاحمته في مقام الامتثال.

وقد وقع الكلام في كيفية التقييد. ولعل المعروف سابقا كونه بنحو يقتضي قصور المرجوح عن صورة المزاحمة ، فما دام الراجح فعليا لا يكون المرجوح فعليا ، ولازم ذلك تعذر قصد الامتثال بموافقة المرجوح ، لسقوطه بسبب المزاحمة.

لكن ذكر جماعة أن التقييد ليس بالنحو المذكور ، بل بنحو يقتضي قصور المرجوح عن مزاحمة الراجح ، مع فعليته على تقدير عصيان الراجح ، بحيث لو عصي الراجح وجىء بالمرجوح كان أمره فعليا وأمكن قصد امتثاله به. وهو المعروف بالأمر به بنحو الترتب ، أو بالأمر الترتبي.

وقد يوجه بما ذكره المحقق التقي قدس‌سره في حاشيته على المعالم ، وهو أن يكون التكليف المرجوح مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر ، بحيث يكون عصيان الراجح في وقته مستلزما لفعلية المرجوح من أول الأمر ، فمع عصيان الراجح يجتمع التكليفان في مقام الفعلية من أول الأمر ، الراجح لإطلاقه ، والمرجوح لتحقق شرطه ـ وهو عصيان الراجح ـ في وقته. وحينئذ

٤٤٦

تكون موافقة المرجوح في الفرض المذكور امتثالا له. أما لو كان مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتقدم أو المقارن فلا يجتمع الأمران ، إذ لا يكون المرجوح فعليا إلا بعد سقوط الراجح عن الفعلية بالعصيان ، وذلك بترك العمل عليه في تمام وقته فيتوقف تقريب الأمر الترتبي على كون العصيان شرطا متأخرا.

هذا وقد يستشكل فيه بأن لازمه التكليف بالضدين المفروض تعذر الجمع بينهما ، ومن الظاهر امتناع التكليف بما لا يطاق.

ودعوى : أن ذلك حيث كان باختيار المكلف لعصيان الراجح لم يكن محذورا ، لقدرته على عدم عصيانه ، فلا يكون المرجوح فعليا ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

مدفوعة بما ذكره غير واحد من أن امتناع التكليف بالضدين وما لا يقدر عليه المكلف لا يختص بما إذا كان موضوع التكليف خارجا عن اختيار المكلف ، بل يجري حتى مع كونه باختياره ، لما تقدم من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي للمكلف نحو امتثاله ، فمع تعذر امتثاله يلغو التكليف. وقاعدة : أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إنما تنفع في استحقاق العقاب على ما يستند تعذره للاختيار ، لا في تصحيح التكليف بما يستند تعذره للاختيار ، فضلا عن تصحيح التكليف بما لا يطاق بمجرد استناد موضوعه للاختيار ، كما هو المدعى في هذا الوجه.

فالأولى في دفع المحذور المذكور ما يستفاد من غير واحد ، وحاصله : أن مجرد فعلية التكليفين مع تعذر امتثالهما لا يكفي في التزاحم بينهما ، بل لا بد فيه من تنافي مقتضاهما ، بنحو لا بد معه من مخالفة أحدهما ، وذلك بأن يقتضي كل منهما صرف القدرة لامتثاله وترك الآخر ، وهو غير حاصل في

٤٤٧

المقام ، لأن المرجوح بعد كونه مشروطا بعصيان الراجح لا يقتضي صرف القدرة لامتثاله بنحو يستلزم عصيان الراجح ، لأن التكليف لا يقتضي حفظ شرطه وموضوعه ، والراجح وإن اقتضى صرف القدرة لامتثاله وعدم موافقة المرجوح ، إلا أن ذلك لا يخالف مقتضى المرجوح ، لأن امتثال الراجح يرفع شرط المرجوح ويمنع من فعليته ، فكل من التكليفين لا ينافي مقتضى الآخر ، ولا يقتضي عصيانه. ولو فرض تحقق العصيان للراجح وحده أو مع المرجوح فهو مستند لسوء اختيار المكلف من دون أن يكون مقتضى أحد التكليفين ، ليلزم التزاحم بينهما المانع من فعليتهما معا.

وأما ما اشتهر من أن التكليف المشروط يصير مطلقا بتحقق شرطه ، فهو راجع إلى أنه يصير كالمطلق في فعلية داعويته تبعا لفعليته ، لا أنه كالمطلق في إطلاق داعويته بنحو يقتضي موافقته مطلقا ولو بحفظ شرطه.

وبذلك يتضح أن اجتماع التكليفين بالنحو المذكور لا يقتضي الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ليمتنع مع تعذر الجمع المذكور ، بل يقتضي امتثال الراجح مطلقا ، وامتثال المرجوح عند عصيان الراجح ، وكل منهما مقدور للمكلف ، فلا وجه لامتناع اجتماعهما.

بل يتعين جعلهما حينئذ بالنحو المذكور بعد فرض تمامية ملاك المرجوح ، المقتضي لوجوب حفظه على المولى بجعل التكليف مهما أمكن.

وتعذر حفظه مع تحصيل ملاك الراجح بالامتثال لا يصحح التفريط فيه مع فوت الملاك المذكور بالعصيان ، بل يلزم حفظه بجعل الحكم على طبقه ، كما يجب حفظه على الإطلاق بجعل الحكم كذلك مع عدم المزاحمة بالراجح. ولا سيما مع ما اعترف به المحقق الخراساني قدس‌سره من وقوع الترتب في العرفيات ، وإن حاول توجيهه بما يناسب امتناعه ، ويظهر ضعفه بالتأمل.

٤٤٨

ومما ذكرنا يتضح الحال فيما إذا كان التكليفان المتزاحمان متساويي الأهمية ، حيث يتعين البناء على تقييد إطلاق كل منهما بمخالفة الآخر ، لارتفاع التزاحم بينهما بذلك. لكن لا بمعنى تقييده بعصيان الآخر بعنوانه ، ليلزم أخذ كل منهما في موضوع الآخر ، وتقدمه عليه رتبة ـ كما أورد به بعض الأعيان المحققين قدس‌سره ـ بل يكفي تقييده بما يلازم ذلك ، أو قصوره عن صورة امتثال الراجح بنتيجة التقييد. كما يكفي ذلك في صورة أهمية أحد التكليفين أيضا.

أما من يقول بامتناع الترتب فلا يتضح مبناه في ذلك ، إذ لا يظن منهم البناء على سقوط الأمرين معا ، كما التزموا بسقوط المرجوح رأسا بسبب المزاحمة ، وإذا أمكن عندهم الترتب في صورة التساوي بالنحو الذي ذكرنا فلم لا يمكن في صورة رجحان أحدهما بعينه؟!

بقي في المقام شيء

وهو أنه قد استشكل المحقق الخراساني قدس‌سره في الترتب بأن لازمه استحقاق عقابين في صورة مخالفة كلا التكليفين ، لفعلية كل منهما حينئذ ، ولا يظن بهم الالتزام به ، لضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف. قال : «وكان سيدنا الأستاذ لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنا نورد به على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه».

لكن الالتزام بتعدد العقاب ليس بأصعب من الالتزام بأن عقاب تارك امتثال التكليفين المختلفي الأهمية كعقاب تارك امتثال الأهم فقط ، لأنه لا تكليف سواه ، بناء على عدم الترتب. على أنه قد أصر غير واحد ممن يلتزم بالترتب على تعدد العقاب في المقام تبعا لتعدد التكليف وتعدد العصيان.

هذا وبعد أن كان القائلون بالترتب مختلفين في وحدة العقاب ـ كما حكاه المحقق الخراساني عن السيد الشيرازي قدس‌سره ـ وتعدده ـ كما ذهب إليه بعض الأعاظم وسيدنا الأعظم قدس‌سرهما وغيرهما ـ يظهر أنه لا مجال للاستدلال على بطلان

٤٤٩

الترتب باستلزامه تعدد العقاب ، والكلام في ذلك لا يرجع لتتميم الاستدلال على الترتب.

نعم لا بأس بالتعرض له تتميما للفائدة ـ وإن كان هو بمباحث الكلام أنسب منه بمباحث الأصول ـ فنقول :

كبرى استلزام المعصية للعقاب تقضي بتعدده مع ثبوت الأمر الترتبي ، وحيث كان ثبوت الأمر الترتبي مقتضى كبرى لزوم حفظ الملاك والغرض تشريعا ـ كما تقدم ـ وكان تعدد العقاب منافيا لكبرى قبح العقاب على ما لا يطاق ، لزم التدافع بين الكبريات الثلاث المذكورة ، الكاشف عن قصور بعضها عن المقام. وحيث لم تكن هذه الكبريات مأخوذة من أدلة لفظية قابلة للتخصيص ، بل هي عقلية وجدانية رجع ذلك إلى قصور بعضها في نفسه ، وأن صوغها بنحو القضية الكلية الشاملة للمورد في غير محله ، وناشئ عن اختلاط الأمر على الوجدان. بل اللازم التحفظ في الجزم بعمومها ، والتأمل في الوجدان بالإضافة إلى خصوصيات الموارد والتمييز بينها ، ليتضح عموم هذه الكبريات لها أو قصورها عنها. ولا ينبغي سوقها على أنها مسلمة الثبوت على عمومها ، ثم الاحتجاج بها في المورد. ولا سيما مع ثبوت الخلاف في عموم كل منها له ، حيث أنكر جماعة الترتب على خلاف عموم الكبرى الثانية ، والتزم بعضهم به مع البناء على وحدة العقاب على خلاف عموم الأولى ، كما التزم آخرون به مع البناء على تعدد العقاب على خلاف عموم الثالثة.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في إمكان الترتب ولزومه بعد ملاحظة ما تقدم في تقريبه ودفع المحاذير عنه. كما لا ينبغي التأمل في عدم تعدد العقاب معه ، بحيث يكون عقاب عاصي التكليفين معا في المقام كعقاب عاصيهما مع عدم تزاحمهما وإمكان الجمع بينهما في الامتثال.

مثلا : لو تعرض للغرق مؤمن ومستضعف وأشرفا على الخطر ، وقد

٤٥٠

حضرهما شخصان يستطيع أحدهما إنقاذهما معا والآخر إنقاذ أحدهما فقط ، فتركاهما حتى غرقا ، فهل يمكن بعد التأمل في المرتكزات العقلائية البناء على أن عقابهما على نحو واحد ، لاشتراكهما في مخالفة التكليفين ، وإن كان التكليفان ثابتين في حق الأول في عرض واحد ، وفي حق الآخر بنحو الترتب.

وأيضا فالأمر الترتبي في المتزاحمين كما يجري في التكليفين المختلفي الأهمية ، يجري في التكليفين المتساويين ، كما سبق ، فهل يمكن الالتزام في صورة تعدد التكاليف ـ كتعرض سفينة فيها جماعة كبيرة للخطر ـ بأنه مع اختلاف قدرة المكلفين ـ من حيثية امتثال الكل ، أو البعض الكثير ، أو القليل ـ لو تهاونوا وعصوا في تمام التكاليف يتساوون في العقاب ، لأنهم عصوا كل تكليف مع فعليته في حقهم ، إما مطلقا ، أو مشروطا.

كما أنه هل يمكن الالتزام بأن المكلف إذا كان قادرا في الفرض على امتثال تكليف واحد لا غير ، فإن تميز أحد التكاليف بأهميته كان عقابه مع ترك الكل واحدا ، لوحدة التكليف ، وإن تساوت التكاليف كان عقابه بعدد الكل ، لفعلية كل منها في حقه وإن كان مشروطا بعصيان الباقي ... إلى غير ذلك من الفروض التي يزيد التأمل فيها استيضاح ما ذكرنا من عدم تعدد العقاب حتى بناء على ما هو الظاهر من ثبوت التكليف بنحو الترتب ، وأنه لا بد معه من البناء على وحدة العقاب ، وأنه لا يزيد على طاقة المكلف ، فيتداخل العقابان.

وعلى ذلك إن كان التزاحم بين تكاليف متساوية ولا طاقة إلا بامتثال واحد منها كان العقاب المستحق بقدر العقاب على واحد منها ، نظير الأمر التخييري الذي يستحق مع ترك امتثاله بترك تمام الأطراف عقاب واحد ، وإن اختلفا في أن وحدة العقاب في النظير لوحدة الغرض ، وفي المقام لعجز المكلف وقصوره عن استيفاء الغرضين معا.

وإن كان التزاحم بين تكاليف مختلفة الأهمية ، فحيث كان المرجوح

٤٥١

مشاركا للراجح في مرتبة من الأهمية ويمتاز الراجح بمرتبة أخرى ، فبلحاظ ما به الاشتراك يلحقهما حكم المتساويين ، وبلحاظ ما به الامتياز يكون الراجح كالواجب التعييني المستقل يستحق العقاب لأجله ، للقدرة على استيفائه بفعله. نظير العقاب الحاصل بترك امتثال التكليفين غير المتزاحمين إذا كان أحدهما وافيا ببعض ملاك الآخر ، كالأمر بتهيئة اللبن بملاك كونه شرابا وغذاء ، والأمر بتهيئة الماء بملاك كونه شرابا ، حيث لا إشكال في لزوم التكليف بهما بنحو التكليف الترتبي بالأهم والمهم من الضدين المتزاحمين ، فيكون التكليف باللبن مطلقا ، وبالماء مقيدا بعصيان اللبن ، مع خلوّهما عن شبهة التكليف بالضدين. وحينئذ لا ينبغي التأمل في تداخل العقابين بمخالفتهما على النحو الذي ذكرناه في الضدين المختلفي الأهمية ، وإن افترقا في أن التداخل في ذلك لخصوصية في الملاك ، وفي الضدين لقصور المكلف وعجزه عن امتثال التكليفين.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن الخطاب الترتبي بالمرجوح إرشادي ، بلحاظ عدم استتباع مخالفته العقاب زائدا على عقاب مخالفة الراجح. لاندفاعها بأنه يكفي في كونه مولويا استتباع موافقته تخفيف العقاب الواحد اللازم من عصيانهما. على أن المعيار في كون التكليف مولويا ليس هو استتباعه الثواب والعقاب ، بل صحة إضافة مقتضاه للمولى ، بحيث تكون موافقته لأجله ولحسابه ، ومخالفته خروجا عن مقتضى مولويته ، كما تقدم عند الكلام في حقيقة الأحكام الشرعية من المقدمة. وترتب العقاب والثواب من توابع ذلك ـ في الجملة ـ من دون أن يكون به قوام التكليف.

ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام في الترتب ، وإن كان هناك بعض التفاصيل التي تقل فائدتها ، ويضيق المقام عن الاستطراد فيها. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٥٢

الفصل الخامس

في اجتماع الأمر والنهي

وقع الكلام بينهم في إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعه. والظاهر أن محل الكلام اجتماعهما مع تعدد الجهة والعنوان فيما يكون مجمعا للجهتين والعنوانين ، مع المفروغية عن امتناع اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة وعنوان واحد.

ومن ثم يرجع النزاع إلى أن تعدد الجهة والعنوان لكل من الأمر والنهي هل يكفي في تعدد متعلقهما ولو مع اجتماع الجهتين والعنوانين في وجود خارجي واحد ، فيكون الوجود المذكور مجمعا لمتعلقي الأمر والنهي تبعا لتعدد عنوانه ، أو لا بد معه من تعدد الوجود الخارجي ، ولا يكفي مع وحدته تعدد الجهة والعنوان في إمكان اجتماع الأمر والنهي ، بل لا بد من قصور أحدهما أو كليهما عن المجمع؟. كل ذلك بعد الفراغ عن دخل العنوان في الحكم وعدم سوقه لمحض الحكاية عن الأفراد بذواتها.

ومن هنا كانت المسألة عقلية يبحث فيها عن كيفية ورود الحكم على العنوان ، وكيفية دخل العنوان فيه ، وذلك مما يستقل به العقل ، بعد استفادة أصل دخله من دليل الحكم اللفظي أو غيره. وربما يأتي لذلك مزيد توضيح.

كما لا ينبغي التأمل في كون المسألة أصولية ، بعد تحريرها لأجل استنباط الأحكام الفرعية ، ووقوع نتيجتها في طريق استنباط أحكام موارد الاجتماع ، وتعيين ما يترتب على ذلك من إمكان امتثال الأمر بها وعدمه ، على ما يتضح بعد ذلك إن شاء الله تعالى. ولا ينافي ذلك واجديتها لجهات أخر تقتضي عدّها

٤٥٣

من مسائل علوم أخر. لأنه لا يعتبر في المسألة الأصولية تمحضها في غرض الاستنباط وعدم ترتب غرض علم آخر عليها ، بل يكفي تحريرها لغرض الاستنباط ووقوعها في طريقه ، كما تقدم في تعريف علم الأصول.

هذا وكلامهم في المسألة في غاية الاضطراب ، لاختلافهم في تحديد موضوع النزاع والمعيار فيه ثبوتا ، وعدم إيضاح جملة منهم لكيفية تشخيصه إثباتا ، كما اختلفوا في مباني المسألة ومقدمات الاستدلال فيها. ولا مجال لاستيعاب كلماتهم والنظر فيها ، بل نقتصر على ما يخص الثمرة المهمة للمسألة ، وهي حكم مورد الاجتماع بلحاظ إمكان الامتثال به وصحته ـ مع الالتفات للحرمة ، أو الغفلة عنها ، أو الجهل بها ـ وعدمهما. وتحديد مباني الكلام في ترتبها يكون بذكر أمور مقدمة للمطلوب.

الأمر الأول : لا إشكال في تضاد الأحكام التكليفية الخمسة ، بمعنى : امتناع اجتماع أكثر من حكم واحد في موضوع واحد. إنما الكلام في وجه التضاد بعد الفراغ عن أن الأحكام المذكورة متقومة بالاعتبار الذي هو خفيف المئونة ، وليست أمورا حقيقية يكون تضادها تابعا لخصائصها التكوينية.

ويظهر من الفصول وغيره أن منشأ تضادها وتنافيها هو تضاد منشأ انتزاعها ، وهو المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة. ويظهر ضعفه مما سبق في مقدمة علم الأصول من عدم انتزاعها من ذلك ، بل من الإرادة والكراهة التشريعيتين المباينتين للإرادة والكراهة الحقيقيتين. وتضاد الإرادة والكراهة التشريعيتين يحتاج للدليل.

أما سيدنا الأعظم قدس‌سره فقد ذكر أن منشأ تضادها هو تضاد ملاكاتها ، فملاك وجوب الشيء كونه ذا مصلحة بلا مزاحم ، وملاك حرمته كونه ذا مفسدة كذلك ، ولو فرض محالا واجدية موضوع واحد لملاكي حكمين منها تعين

٤٥٤

اجتماعهما فيه.

وفيه ـ مضافا إلى ابتنائه على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، مع وضوح عدم ابتناء التضاد عندهم على ذلك ، بل عمومه حتى لما إذا لم يكن الحاكم حكيما مقيدا بالملاكات ـ أن مقتضاه ـ كما صرح قدس‌سره به ـ كون التضاد بين الأحكام بالعرض ، لا بالذات ، مع أن الظاهر ـ بعد التأمل في المرتكزات ـ أنها متضادة بالذات. بل بناء على ما ذهب قدس‌سره إليه من أن الإرادة والكراهة التشريعيتين من سنخ الإرادة والكراهة التكوينيتين ، فالتضاد بالذات بين الإرادة والكراهة التكوينيتين بحيث يمتنع اجتماعهما من شخص واحد بالإضافة إلى شيء واحد بديهي لا يحتاج إلى استدلال.

والتحقيق : أن الأحكام التكليفية وإن كانت من سنخ الأمور الاعتبارية ـ بناء على ما سبق منا في حقيقة الإرادة والكراهة التشريعيتين ، لأن جعل السبيل من سنخ الاعتبار ـ والاعتبار قائم بنفس المعتبر ، وتابع لجعله ، وهو خفيف المئونة ، إلا أن خفة مئونة جعل الأمر الاعتباري لا تستلزم إطلاق السلطنة على جعله ، بل المحكم في إمكان جعله هو العرف ، كما كان هو المحكم في أصل تقرر الأمر الاعتباري وعدم لغوية جعله بعد أن لم يكن له ما بإزاء في الخارج.

ولذا لا بد من قابلية الموضوع له بنظر العرف ، لكونه قابلا للآثار المناسبة للأمر المعتبر.

فموضوع الطهارة والنجاسة المعهودتين هو الجسم الموجود القابل للتقذر وللملاقاة ونحوهما ، دون مثل الأعراض ، كالبياض والنوم والكليات الذمية. بخلاف موضوع الملكية ، فإنه أعم من ذلك ، فهي كما تتعلق بالأجسام والأعيان الموجودة تتعلق بالكليات الذمية ، وبالأعمال التي هي من سنخ الأعراض. وموضوع الزوجية خصوص الموضوع القابل للاستمتاع

٤٥٥

والمؤانسة ، دون مثل الهواء والماء ، فضلا عن مثل الأعراض والأفعال. وهكذا جميع الأمور الاعتبارية لا مجال لاعتبارها إلا مع قابلية الموضوع لها عرفا.

أما تضاد الأمور الاعتبارية فهو يبتني على تنافرها عرفا ، كتنافر الأمور الحقيقية خارجا.

فإذا رأى العرف تنافر الأمرين الاعتباريين ، بحيث يقتضي كل منهما بطبعه نحوا من الأثر لا يناسب ما يقتضيه الآخر ، كانا متضادين ، كالطهارة والنجاسة ، والحرية والرقية ، والوقفية والملكية ، وملكية الشخص للمال استقلالا وملكية الآخر له كذلك .. إلى غير ذلك. فإن الطهارة بنظر العرف ـ ولو بسبب الاعتبار الشرعي ـ معنى في الشيء يناسب ملابسته ، والنجاسة معنى يناسب التنفر عنه. والحرية معنى في الشخص يناسب إطلاق الأمر له واستقلاله في التصرف ، والرقية معنى فيه يناسب التحجير عليه وتقييده. وملكية الشخص للشيء علاقة تقتضي استقلاله بالسيطرة عليه ، فلا يناسب ملكية غيره له. وهكذا سائر الأمور الاعتبارية المتضادة.

وليس المراد بذلك أن الأمور الاعتبارية متقومة ب آثار خاصة لا تنفك عنها ، بل المراد أنها أمور مناسبة لبعض الآثار طبعا ، فتضاد ما لا يناسبها بطبعه ، وإن أمكن انفكاكها عنها في بعض الحالات ، فيجوز شرب النجس للضرورة ، ويجب اجتناب الطاهر في بعض الحالات ، ويكون العبد مستقلا في بعض التصرفات ، كما يكون الحرّ محجرا عليه في بعض التصرفات أو الأوقات .. إلى غير ذلك.

أما الأحكام التكليفية فهي متقومة بنحو اقتضائها للعمل فعلا ، ولا مصحح لجعلها بدونه ، وحيث كانت متنافية بطبعها في نحو الاقتضاء للعمل تعين التضاد بينها بأجمعها ، بحيث لا يمكن اجتماع حكمين منها بتمام

٤٥٦

حدودهما في الموضوع الواحد ، فضلا عن أكثر من حكمين.

غايته أن التضاد بينها .. تارة : يكن تاما ، وبلحاظ جميع الحدود ، وأخرى : لا يكون تاما ، بل بلحاظ بعض الحدود لا غير. فتضاد الوجوب والتحريم تضاد تام بلحاظ تمام الحدود ، لعدم اشتراكهما في جهة من جهات الاقتضاء ، فلا يمكن موافقة أحدهما إلا بمخالفة الآخر ، بخلاف التضاد بين بقية الأحكام في أنفسها ، أو بينها وبين الوجوب والتحريم ، فإنه ليس تاما ، بل من جهة خصوص ما به امتياز أحد الحكمين عن الآخر من الحدود ، فالوجوب والاستحباب يشتركان في اقتضاء الفعل ، ويختلفان في الإلزام به وعدمه ، وكذا الحرمة والكراهة بالإضافة إلى الترك ، والاستحباب والكراهة يشتركان في عدم الإلزام بالفعل ولا الترك ويختلفان في اقتضاء أحدهما ... إلى غير ذلك.

ويظهر أثر ذلك في إمكان تأكد أحد الحكمين بالآخر بالإضافة إلى الحدّ المشترك إذا كان اقتضائيا ، كتأكد الوجوب بالاستحباب بالإضافة إلى اقتضاء الفعل.

كما يبتني على ذلك عدم التضاد التام بين التحريم والوجوب أو الاستحباب البدلي ـ إما للتخيير العقلي أو الشرعي ـ فيما إذا أمكن امتثال الثاني بغير مورد الأول ، لكون موضوعه أعم من موضوع الأول مطلقا أو من وجه ، كوجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الفاسق ، لأن الحكم البدلي يقتضي عملا السعة بالإضافة إلى مورد الاجتماع والاجتزاء به في مقام امتثاله ، ومقتضى التحريم بالإضافة إليه وإن كان عدم السعة ، فينافي حدّه الأول ، إلا أنه لا ينافي حده الثاني ، وهو الاجتزاء به في امتثاله ، لإمكان وفائه بغرضه وإن كان مستلزما لعصيان التحريم. ومن هنا لا ملزم بتقييد الحكم البدلي بنحو يقصر عن مورد التحريم ، بل يتعين عمومه له مع وفائه بغرضه وملاكه ، لعدم التضاد بينهما من هذه الجهة.

٤٥٧

كما لا تضاد أصلا بين الوجوب أو الاستحباب المذكور والكراهة في الفرض ، لأن الأمر بالماهية إنما يقتضي السعة في امتثاله بالإضافة إلى مورد الاجتماع من دون أن ينافي مرجوحيته بنحو ينبغي اختيار غيره من الأفراد ، كما نبه لذلك بعض الأعاظم قدس‌سره في مسألة اقتضاء النهي عن العبادة الفساد.

إن قلت : لازم هذا عدم تعارض الدليلين في مثل ذلك أصلا والبناء على حجية إطلاق كل منهما في عموم مفاده ، مع أن بناء العرف ظاهرا على التعارض بينهما بدوا ، ثم الجمع بالتخصيص والتقييد ، فإذا ورد : أكرم عالما ، ثم ورد : يحرم إكرام الفاسق ، فلا مجال للبناء على حجية إطلاق كل منهما ، بل يتعين الجمع بالتخصيص ، بحيث لو قدم الثاني تعين عدم إجزاء إكرام العالم الفاسق ، لا مجرد حرمته مع إجزائه.

قلت : لا إشكال في ذلك لو أريد بالنهي الإرشاد لعدم إجزاء مورده وخروجه عن الماهية المطلوبة ، كما هو الحال في جميع موارد النهي الوارد لشرح الماهيات المطلوبة ، كالنهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، وهو أجنبي عن المقام من فرض التنافي بين التحريم والوجوب أو الاستحباب البدلي.

أما لو أريد بالنهي التحريم المولوي ، لملاك أجنبي عن ملاك الأمر فاطراد التعارض والجمع بالنحو المذكور لا يخلو عن إشكال ، بل لا يبعد اختلافه باختلاف الموارد ، تبعا لخصوصيات المناسبات والقرائن المحيطة بالكلام ، على ما قد يظهر في الأمر الثاني.

ولو تمّ في مورد فلا يبعد كون منشئه أن إطلاق الأمر كما يقتضي إجزاء كل فرد يقتضي السعة وعدم الحرج بالإضافة إلى الأفراد ، وحيث كان النهي منافيا للثاني فرفع اليد عن الإطلاق في متعلق الأمر وحمله على غير مورد النهي

٤٥٨

أقرب عرفا من التفكيك بين الإجزاء والسعة في مورد النهي محافظة على الإطلاق فيه. وذلك راجع إلى مقام الإثبات التابع للظهور ، فلا ينافي ما ذكرنا من إمكان إجزاء مورد النهي ، لعدم التضاد بين الأمر المذكور والنهي من هذه الجهة ، الذي هو راجع لمقام الثبوت. فلا ينهض ذلك ـ لو تم ـ بالخروج عما تقدم.

الأمر الثاني : من الظاهر أنه لا تعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي في المسألة بناء على جواز الاجتماع ، لعدم التنافي بين الدليلين. أما بناء على الامتناع فالمشهور أنه مع تقديم جانب النهي لا يخرج مورد الاجتماع عن موضوع الأمر تخصيصا وملاكا ، بل للمانع ، مع دخوله فيه ذاتا وواجديته لملاكه بتمامه ، فإن كان الأمر توصليا أجزأ عنه مطلقا ، وإن كان تعبديا أجزأ مع عدم مبعدية النهي ـ للغفلة عنه أو الجهل به ـ فضلا عما لو لم يكن فعليا بسبب الاضطرار ونحوه.

هذا ولا إشكال عندهم أيضا في التعارض البدوي بين الدليلين المتضمنين لحكمين متضادين إذا كان بينهما عموم مطلق أو من وجه ، ولم يشر أحد منهم للتفصيل في ذلك بين القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وعدمه. كما لا إشكال عندهم ظاهرا في أنه مع عدم المرجح لأحد الدليلين يسقطان معا عن الحجية في مورد الاجتماع ، ومع المرجح لأحدهما يسقط الآخر عنه. وفي كلا الحالين لا طريق للبناء على ثبوت ملاك الحكم الذي يسقط دليله عن الحجية في مورد الاجتماع ، بل يتوقف في ذلك ، فلا يجتزأ به في امتثال الأمر ـ توصليا كان أو تعبديا ـ لو سقط دليله عن الحجية بسبب التعارض أو تقديم الدليل الآخر. وهذا كاشف عن أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي بنظرهم مباين لمورد التعارض ، وإن اشتركا في كون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، أو ما يعم العموم المطلق.

٤٥٩

وقد تعرض بعض المعاصرين رحمه‌الله في أصوله لضابط الفرق بينهما. وحاصل ما ذكره : أن العنوان الذي يؤخذ موضوعا للحكم في دليل كل من الحكمين ـ اللذين بينهما عموم مطلق أو من وجه ـ تارة : يلحظ فانيا في مصاديقه على نحو يسع جميع الأفراد بما لها من الميزات ، فيكون شاملا بسعته للمجمع بين العنوانين ، فيعد في حكم المتعرض له بالخصوص ، ولو من جهة كونه متوقع الحدوث ، على وجه يكون من شأنه أن ينبه عليه المتكلم. وحينئذ يكون دليل الحكم دالا التزاما على نفي الحكم الآخر المضاد له في المجمع. قال : «لا نضايقك في أن تسمي هذا العموم العموم الاستغراقي ، كما صنع بعضهم».

وأخرى : يلحظ فانيا في مطلق الوجود المضاف لطبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ، فلم تلحظ كثرتها ومميزات بعضها عن بعض في مقام جعل الحكم ، فيكون المأمور به والمنهي عنه صرف وجود الطبيعة. قال : «ولتسم مثل هذا العموم العموم البدلي ، كما صنع بعضهم».

ففي الصورة الأولى يلزم التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ، لتكاذبهما في مورد الاجتماع ، لاقتضاء كل منهما ثبوت حكمه فيه بالمطابقة ، ونفي حكم الآخر بالالتزام ، للتنافي بين الحكمين. ومقتضى القاعدة تساقطهما معا في المورد المذكور ، فلا يحرز فيه الوجوب ولا الحرمة. ولا مجال معه لدخوله في موضوع مسألة الاجتماع ، لاختصاصه بصورة شمول الدليلين لمورد الاجتماع وحجيتهما فيه ، وذلك إنما يكون مع عدم التعارض بينهما في مقام الجعل والتشريع.

أما في الصورة الثانية فيدخل المورد في موضوع مسألة الاجتماع ، ولا تعارض بين الدليلين ، لعدم لحاظ العنوان بنحو يسع الأفراد جميعها ، وإن كان العنوان في ذاته شاملا لها ، لأن الحكم يتعلق بصرف الطبيعة المأمور بها ـ

٤٦٠