الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

ومن ثم يكون الأمر الغيري خاليا عن الأثر العملي بالإضافة إلى متعلقه. فلا ينبغي الاهتمام بإثباته ، لتنفع مسألة الملازمة في الاستنباط ، ويتحقق بها الغرض من المسألة الأصولية.

لكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدس‌سره أن الأثر العملي للأمر الغيري هو إمكان التقرب بقصده ، لأن حقيقة الامتثال هو الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر المولوي المتوجه للمكلف ، من دون نظر لخصوصيات الإرادة.

وفيه : أن التقرب بالأمر إنما هو بقصد متابعته على نحو داعويته ، وحيث كانت داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي فلا بد في التقرب به من قصد الأمر النفسي في طول قصده ، ومع قصد الأمر النفسي يتحقق التقرب بالمقدمة ولو مع عدم قصد الأمر الغيري بها ، بل ولو مع عدم ثبوته ، كما سبق.

بل سبق منا في مبحث التعبدي والتوصلي أن التقرب إنما هو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف بالأمر ، ومن الظاهر أن الغرض الأصلي من المقدمة الداعي للأمر بها هو الغرض من الأمر النفسي ، فلا بد في مقربية المقدمة من قصده ، سواء كانت مأمورا بها غيريا أم لا. فلا مخرج عما ذكرنا من عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه.

المبحث الثاني

في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية

حيث سبق في أول الفصل أن فعلية الداعي نحو الشيء تستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته يقع الكلام هنا في تحديد موضوع الداعوية التبعية المذكورة ، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها.

ومحل كلامهم وإن كان هو تحديد موضوع الوجوب بناء على الملازمة ،

٤٢١

إلا أن الظاهر عدم اختصاص ملاك الكلام وثمرته بذلك ، بل يجري بلحاظ الداعوية المذكورة حتى بناء على عدم الملازمة. نعم حيث كان موضوع كلامهم الوجوب ، فالمناسب منا متابعتهم في ذلك محافظة على نسق الكلام في عرض الحجج والأقوال. ومنه يستفاد تحديد موضوع الداعوية ، لأن الظاهر تبعية الوجوب ـ بناء على الملازمة ـ للداعوية المذكورة سعة وضيقا ، كما يظهر مما سبق في تقريب الاستدلال على الملازمة بالوجدان.

إذا عرفت هذا فقد أطلق القدماء وجماعة من المتأخرين وجوب المقدمة ، بل صرح بعموم الوجوب لمطلق المقدمة المحقق الخراساني قدس‌سره ، بدعوى : أنه ليس الغرض منها إلا سدّ عدم ذي المقدمة من جهتها بحصول ما لولاه لما أمكن حصوله ، ولا يفرق في ذلك بين أفرادها. وقد ظهر في العصور القريبة تفصيلان.

التفصيل الأول : ما يظهر من التقريرات ـ على اضطراب في كلامه ـ من أن الواجب منها خصوص ما يؤتى به بقصد التوصل لذي المقدمة ، وإن كان الغرض منها ـ وهو التوصل لذي المقدمة ـ يحصل بغيره أيضا. ومن ثم صرح بعدم ظهور أثر النزاع في المقدمات غير العبادية بسبب إجزاء الفعل المأتي به لا بقصد التوصل ، وتحقق الغرض به ، وهو التوصل لذي المقدمة.

ثم قال : «نعم يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق ، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت [كان. ظ] مقدمة لإنقاذ غريق ، بل يقع واجبا ، سواء ترتب عليه الغير أو لا ، وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب ، فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق».

وقد استدل على ما ذكره بالوجدان على عدم تحقق امتثال الأمر الغيري إلا مع قصد التوصل بالمقدمة لذيها.

٤٢٢

ويشكل : بأنه إن أراد بالامتثال موافقة الأمر ـ التابعة لسعة المأمور به لما أتي به ـ فالظاهر تحققه بما لم يقصد به التوصل لذي المقدمة ، لأن منشأ تبعية المقدمة لذيها في الداعوية هو دخلها في حصوله ، والغرض من وجوبها غيريا ـ بناء على الملازمة ـ هو التوصل بها إليه ، ومعه لا وجه لاختصاصها بما يقصد به التوصل بعد عدم دخل القصد المذكور في ترتب ذي المقدمة عليها.

وإن أراد به ما يساوق العبادية فهو ـ كما ذكره ـ غير متحقق في المقام ، لما تقدم من أن التقرب بالأمر الغيري في طول التقرب بالأمر النفسي. إلا أنه لا يستلزم انحصار الوجوب بما يقصد به التوصل ، نظير توقف عبادية الواجب التوصلي على قصد أمره ، مع عموم الواجب نفسه لما لم يقصد به الأمر ، تبعا لعموم ملاكه والغرض منه.

هذا وتظهر الثمرة لذلك فيما تقدم منه التعرض له ، وهو فرض مزاحمة حكم المقدمة في نفسها بحكم ذيها ، لأن ارتفاع حكمها إنما هو لمنافاته للوجوب والداعوية الغيريين ، فلا يرتفع إلا في مورد ثبوتهما. وحيث عرفت عدم اختصاص المقدمة الواجبة بما يقصد به التوصل تعين البناء على ارتفاع حكمها عما لم يقصد به التوصل. نعم بناء على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ـ كما يأتي ـ فلا بد من إناطة ارتفاع الحرمة بالإيصال واقعا. فلو لم يقصد التوصل بالمقدمة وكانت موصلة واقعا كان متجريا لا غير ، وإن قصد التوصل بها ولم تكن موصلة واقعا كانت محرمة واقعا وإن كان المكلف معذورا.

التفصيل الثاني : ما ذكره في الفصول ووافقه عليه جملة من الأكابر من أن الواجب خصوص المقدمة الموصلة ، وهي التي يترتب عليها الواجب ، فإذا حصلت كانت مراعاة بترتب ذيها عليها ، فإن ترتب كشف عن وقوعها على صفة الوجوب ، وإلا انكشف عدم وقوعها كذلك. وقد أنكر ذلك عليه أشد

٤٢٣

الإنكار شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني وبعض الأعاظم قدس‌سرهم.

وقد احتج في الفصول على التفصيل المذكور بقصور موضوع الملازمة عقلا عن غير الموصلة. وبأن العقل لا يأبى أن يصرح الآمر الحكيم بعدم إرادة غير الموصلة. وبأنه لما كان الغرض من المقدمة مجرد التوصل للواجب وحصوله فلا بد من أخذ التوصل شرطا فيما هو المطلوب منها.

ولا يخفى أن مرجع الوجهين الأولين إلى دعوى الوجدان التي يسهل على الخصم إنكارها ، كما أنكرها في المقام ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيهما. وإن كان الحق مع الفصول.

فالعمدة الوجه الأخير المبني على ما هو المعلوم من تبعية الواجب للغرض سعة وضيقا.

وقد أجاب عنه المحقق الخراساني قدس‌سره بأن الغرض من وجوب المقدمة ليس هو التوصل لذي المقدمة ، لأن الغرض من الشيء هو الذي يترتب عليه ويكون معلولا له بوجوده الخارجي. ولا يترتب ذو المقدمة على المقدمة بنفسها ، بل يتوقف معها على مقدماته الأخرى ، ومنها اختيار المكلف له. إلا أن تكون المقدمة سببا توليديا ، ومن المعلوم عدم اختصاص الوجوب الغيري ـ وكذا الداعوية التبعية ـ بذلك. فلا بد من كون الغرض من وجوب المقدمة أمرا آخر تشترك فيه جميع المقدمات الواجبة ، وهو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، فلا يختص بالموصلة.

لكن من الظاهر أن مراد صاحب الفصول وغيره من كون الغرض من المقدمة هو ترتب ذي المقدمة عليها ليس هو ترتبه مباشرة بحيث لا يتأخر آناً ما ، ليختص بالأسباب التوليدية ، بل وجوده فعلا ولو متأخرا عنها ، وترتبه عليها ولو ضمنا وبتوسط بقية المقدمات. وذلك يعم كل مقدمة ، ولا يختص

٤٢٤

بالأسباب التوليدية.

كما أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من أن الغرض من وجوب المقدمة حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، بحيث يمتنع وجود ذي المقدمة بدونه ، مما لا يمكن البناء عليه ، لأن امتناع وجود الواجب بدون حصول شيء لا يقتضي وجوب ذلك الشيء ـ ولا الداعوية إليه ـ على إطلاقه بنحو يسري لجميع أفراده ، كي يتعين عموم المقدمة الواجبة لغير الموصلة ، بل يقتضي وجوبه ـ وكذا الداعوية إليه ـ في الجملة ، في مقابل السلب الكلي الذي لا يمكن وجود الواجب معه ، ولذا يصدق ذلك بالإضافة إلى الجامع بين المقدمة وغيرها ، فكما يصح أن يقال : لو لا الغسل لم تمكن الصلاة ، ومع عدمه يتعين عدمها ، كذلك يصح أن يقال : لو لا غسل البدن لم تمكن الصلاة ومع عدمه يتعين عدمها ، وكما أن الثاني لا يصحح وجوب مطلق غسل البدن مقدمة للصلاة ولو لم يتحقق به الغسل ، كذلك الأول لا يصحح وجوب مطلق الغسل ولو لم يكن موصلا للصلاة ، كما هو المدعى لهم.

وأشكل من ذلك ما يظهر منه ومن التقريرات من أنه لو سلم كون الغرض من وجوب المقدمة هو حصول ذيها إلا أنه لا يقتضي قصور المقدمة المطلوبة عن صورة عدم حصوله ، بل تقع على ما هي عليه من المطلوبية وإن لم يحصل ، لأن حصول ذي المقدمة جهة تعليلية ، وهي لا تقتضي تبعية المطلوب لها وقصوره عما لا يترتب عليه الغرض ، وإنما يختص ذلك بالجهة التقييدية لا غير.

إذ فيه : أن الجهة التعليلية لما كانت هي الغرض الداعي للطلب فعدم تبعية المطلوب لها سعة وضيقا خلف. غاية الأمر أن تبعية الطلب للغرض ـ الذي هو الجهة التعليلية ـ ليس بوجوده الواقعي ، بل العلمي ، فإذا اعتقد صاحب الغرض وفاء شيء به طلبه وإن لم يكن ذلك الشيء وافيا به واقعا. وبهذا تفترق الجهة التعليلية عن الجهة التقييدية التي يتبعها المطلوب بوجودها الواقعي.

٤٢٥

لكن تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي أن المعيار في الداعوية العقلية ولزوم الإطاعة هو الغرض ، ولا يكفي متابعة الأمر إذا لم يطابقه. مع أن الاختلاف بين وجود الغرض الواقعي ووجوده العلمي إنما يكون مع غفلة المولى وجهله ، ولا يعقل في حق العالم الملتفت ، كالشارع الأقدس ، بل اللازم التطابق بينهما في حقه المستلزم لمطابقة طلبه لبا لموضوع غرضه بما له من وجود واقعي ، وإن لم يطابقه لفظا. فلا يظهر الفرق في أوامره من هذه الجهة بين الجهة التقييدية والتعليلية.

هذا كله في الطلب الفعلي التفصيلي الأصلي. وأما الطلب الارتكازي ـ ومنه الطلب الارتكازي المدعى للمقدمة ـ فهو تابع للغرض واقعا سعة وضيقا حتى في حق من يمكن في حقه الغفلة والجهل ، لعدم توجه الطالب للمطلوب تفصيلا ، كي يمكن خطؤه في تشخيص موضوع الغرض ، بل هو كامن في مرتكزاته التابعة لارتكازية الغرض ، فلا يعقل انفكاكه عن الغرض وعدم مطابقته له. بل وضوح ارتكازية الغرض في المقام ووضوح اختصاصه ببعض أفراد المقدمة صالحان عرفا للقرينية على تقييد المقدمة المطلوبة غيريا بالموصلة لو فرض وقوعها موردا للطلب في دليل له إطلاق لفظي صادر ممن يمكن في حقه الغفلة.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في اختصاص الغرض الذي هو المنشأ للداعوية التبعية والطلب الغيري ـ لو قيل به ـ بالمقدمة الموصلة ، وفي لزوم اختصاص الداعوية والوجوب بها تبعا لذلك.

بل التأمل في المرتكزات يقضي بأن موضوع الداعوية الغيرية هو العلة التامة للمطلوب النفسي ، لأنه هو الذي يترتب عليه ذو المقدمة ، دون كل جزء بحياله واستقلاله ، فليس في المقام إلا داعوية غيرية استقلالية واحدة متعلقة بالعلة التامة ، وهي تنحلّ إلى داعويات ضمنية ارتباطية بعدد أجزائها ، بحيث

٤٢٦

يكون كل منها قيدا للآخر. وكذا الحال في الطلب الغيري لو قيل به ، وغايته أنه إذا كان بعضها غير قابل للتكليف ـ كما قد يدعى في مثل الاختيار ـ لا يكون بنفسه موضوعا للطلب الغيري ، بل قيدا للمطلوب منه لا غير.

وعلى ما ذكرنا ـ من اختصاص الداعوية بالمقدمة الموصلة ـ يبتني ما تقدم منا من أن الداعوية الغيرية في طول الداعوية النفسية ومرتبطة بها ، وأنها لا تصلح للمحركية ما لم تصلح الداعوية النفسية لها ، وأن محركيتها ومقربيتها بلحاظ كون الجري عليها شروعا في الجري على طبق الداعوية النفسية. فإن ذلك لا يتم مع فرض عموم موضوع الداعوية الغيرية للمقدمة غير الموصلة ، إذ مع ذلك يمكن الجري على طبق الداعوية الغيرية مستقلا عن الجري على طبق الداعوية النفسية باختيار المقدمة غير الموصلة.

ويزيد الأمر وضوحا أن الأمر الغيري ـ مع التفات المكلف لاختلاف أفراد المقدمة من حيثية الإيصال وعدمه ـ إن كان يدعو لصرف الوجود الصادق على غير الموصل ، لزم جواز ترك الموصل بعد تعذر ترتب الواجب النفسي على الفرد الأول ، ولو بسبب اختيار المكلف ، كما لو أحدث بين الوضوء والصلاة ، وهو باطل ضرورة. وإن كان يدعو للفرد الأول وما بعده حتى يترتب الواجب ، فهو خلاف المعهود من تعلق الأمر بالطبيعة بنحو البدلية المستلزم للاجتزاء في امتثاله بصرف الوجود ، فيتعين اختصاص داعويته ابتداء بالموصل ، كما هو المدعى. ويكفي ما ذكرنا في إثبات اختصاص الوجوب بالموصلة ، فلا حاجة إلى الاستزادة من وجوه الاستدلال.

نعم لما كان الإيصال منتزعا من ترتب ذي المقدمة الذي هو المطلوب النفسي فالظاهر عدم أخذه بعنوانه قيدا في المقدمة التي هي موضوع الداعوية الغيرية ، لعدم دخله في الغرض ، وهو ترتب ذي المقدمة على المقدمة ، بل هو عين ترتبه. ومن ثم يتعين البناء على أن المطلوب الغيري هو خصوص المقدمة

٤٢٧

الموصلة بذاتها. وإليه يرجع ما سبق من كون الإيصال جهة تعليلية لا تقييدية. وكلام صاحب الفصول لا يأبى الحمل على ذلك ، لعدم ظهور كلامه في النظر لهذه الجهة ، بل لمجرد منع عموم الواجب الغيري لغير الموصل. والأمر سهل.

هذا وقد أطال غير واحد ممن تأخر عن صاحب الفصول في بيان عموم المقدمة الواجبة ، ومحاذير القول بوجوب خصوص الموصلة منها. ولا يسع المقام التعرض لها بعد تعقّد بعضها ، وظهور اندفاعها بالتأمل ، وبعد ابتناء جملة منها على رجوع القول المذكور إلى أخذ التوصل بعنوانه قيدا في المقدمة الواجبة ، مع أنه لا ملزم بذلك ، بل سبق أنه لا مجال للبناء عليه.

ولنقتصر على وجه واحد مذكور في التقريرات والكفاية ، وهو قضاء صريح الوجدان بسقوط التكليف الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار ترتب الواجب عليها ، وذلك آية عدم اعتبار ترتب الواجب في وقوعها على صفة المطلوبية.

ويظهر اندفاعه مما سبق ، حيث لا بد من البناء على أن تحقق الامتثال به وسقوط التكليف الغيري مراعى بتحقق بقية المقدمات وترتب ذي المقدمة ، كما هو الحال في سائر الواجبات الارتباطية المنوطة بغرض واحد. ولذا لا إشكال في جواز التبديل بفرد آخر ، بل لزومه لو تعذر ترتب ذي المقدمة على الفرد الأول بعد إمكانه ، ويكون الامتثال بالثاني لا غير. غايته أن الأمر في المقام لا يدعو إلى الإتيان بفرد آخر مع عدم تعذر ترتب ذي المقدمة على الفرد الأول ، للاشتراك بين الفردين في الصلوح لأن يكون امتثالا بترتب ذي المقدمة عليه ، وإن كانت فعلية الامتثال بكل فرد منوطة بذلك. نظير الإتيان بجزء الواجب الارتباطي ، حيث يكون الامتثال به مراعى بإكمال الواجب ، من دون أن يدعو التكليف إلى فرد آخر إلا بعد تعذر الامتثال به بطروء المبطل.

٤٢٨

بقي شيء

وهو أن ثمرة النزاع تظهر فيما لو كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وزوحمت حرمتها بوجوب ذيها ، وكان وجوبه أهم ، نظير ما ذكرناه في ثمرة التفصيل الأول. والظاهر أن الالتفات للثمرة المذكورة يزيد في وضوح اختصاص المقدمة الواجبة بالموصلة.

المبحث الثالث

في تحديد الداعوية للمقدمة

حيث ذكرنا في أول الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو غيره نحو الشيء تستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى ذلك تبعية الداعي التبعي نحو المقدمة للداعي الأصلي نحو ذيها سعة وضيقا ، لأنه مقتضى تبعيته له في أصل وجوده. وإليه يرجع ما ذكروه من تبعية الوجوب الغيري ـ على القول به ـ للوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط ، لما أشرنا إليه من أن موضوع الوجوب الغيري هو موضوع الداعوية الغيرية.

لكن يظهر من صاحب المعالم ما ينافي التبعية المذكورة ، حيث ذكر أنه يمكن تصحيح العبادة إذا كانت ضدا لواجب ، حتى بناء على وجوب مقدمة الواجب ، وعلى أن من مقدمات الواجب ترك ضده الخاص ، وأنه لا مجال لتوهم حرمة العبادة حينئذ ـ لوجوب تركها ـ المستلزمة لبطلانها. قال في تقريب ذلك : «وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وحينئذ فاللازم عدم وجوب ترك الضد الخاص في حال عدم إرادة الفعل المتوقف عليه من حيث كونه

٤٢٩

مقدمة له ...». وظاهره اختصاص وجوب المقدمة بما إذا أريد فعل ذيها ، مع وضوح عدم اختصاص وجوب ذيها بالحال المذكور ، فينافي ما سبق من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

إلا أنه لا مجال لما ذكره بعد ما سبق ، بل لا بد من البناء على فعلية الداعوية نحو المقدمة وفعلية وجوبها الغيري ـ لو قيل به ـ حتى في حال عدم إرادة ذيها ، لفعلية وجوب ذيها حينئذ.

نعم بناء على ما تقدم في المبحث السابق من اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة فلو أتى المكلف بالمقدمة حال عدم إرادة ذيها لم تقع موردا للداعوية وعلى صفة الوجوب إلا أن يترتب ذوها عليها ، فينكشف وقوعها موردا للداعوية وعلى صفة الوجوب على خلاف ما قصد منها.

وكأن هذا منه وما تقدم من شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ من اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ـ مبنيان على اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة ، واختلافهما مع صاحب الفصول ناشئ عن الاشتباه في تحديد مورد الارتكاز ، واختلاط مؤداه.

بقي شيء

وهو أنه يتفرع على ما سبق ـ من تبعية الداعوية للمقدمة ووجوبها ، لو قيل به ، لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ـ الكلام المشهور في المقدمات المفوتة ، وهي التي لو لم يؤت بها قبل الوقت لا يمكن تداركها فيه ، فيتعذر الواجب في وقته ، كقطع المسافة للحج ، وغسل الجنب ليلا من أجل الصوم ونحوهما. حيث قد يشكل البناء على وجوبها ولزوم تهيئتها قبل الوقت بعدم فعلية وجوب ذيها حينئذ ، فلا تجب مقدمته عقلا أو شرعا ، لمنافاة وجوبها للتبعية المذكورة.

٤٣٠

ومن ثم التزم صاحب الفصول قدس‌سره بالواجب المعلق ورجوع قيد الوقت للمكلف به ، مع إطلاق التكليف وفعليته قبل الوقت ، فيتبعه وجوب المقدمة موسعا مع إمكان تداركها في الوقت ومضيقا مع تعذره. كما التزم شيخنا الأعظم قدس‌سره برجوع جميع القيود للمكلف به ، دون التكليف.

وقد سبق منا أن الواجب المعلق وإن أمكن ثبوتا ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات ، وما ذكره في الفصول من ظهور دليل التوقيت فيه غير تام. وكذا ما ذكره شيخنا الأعظم من لزوم رجوع جميع القيود للمكلف به دون التكليف. فراجع.

ولعله لذا حكي عن المحقق التقي في حاشيته على المعالم أن المقدمات المفوتة واجبة بوجوب أصلي ، لا غيري تبعي. ومن ثم فالعقاب مع تركها إنما يستحق على تركها ، لا على فوت الواجب المتعذر بسببه. غاية الأمر أن الحكمة الباعثة على إيجابها هي حصول الواجب في وقته وحفظ ملاكه.

لكنه يشكل .. أولا : بمخالفته للمرتكزات العقلائية التي هي المرجع في العقاب والثواب ، لقضائها بأن العقاب مع ترك المقدمات المفوتة ليس عليها ، بل على فوت الواجب ، كما هو الحال في ترك سائر المقدمات. بل الظاهر أنه كذلك شرعا ، فيجب بتركها الكفارة فيما لو كانت تجب بترك ذي المقدمة ، كالصوم.

وثانيا : بأنه إن أراد بما ذكره مجرد توجيه لزوم الإتيان بالمقدمة المفوتة في مورد ثبوت ذلك لم ينفع في إثبات وجوب الإتيان بالمقدمة المفوتة ، واحتاج إثباته في كل مورد مورد للدليل. وإن أراد به إثبات وجوب الإتيان بها في جميع مواردها فالوجه المذكور لا ينهض به ، لأن التكليف الأصلي بها مخالف للأصل ، فيحتاج إلى إثبات.

وهناك بعض الوجوه الأخر مذكورة في كلماتهم غير تامة لا مجال لإطالة

٤٣١

الكلام فيها.

والعمدة في توجيه لزوم المقدمات المفوتة : هو حكم العقل فإنه كما يحكم بوجوب امتثال التكليف في وقته يحكم بكونه منشأ للمسئولية قبل وقته بنحو يقبح من المكلف تعجيز نفسه عن امتثاله ، لقبح تفويت غرض المولى الفعلي في وقته. والعجز إنما يكون عذرا عقلا إذا لم يستند للمكلف. فللتكليف والغرض قبل الوقت نحو من الداعوية العقلية يقتضي حفظ القدرة عليه ، كما يكونان في الوقت موضوعين للداعوية العقلية للامتثال. ويكفي في استيضاح ما ذكرنا الرجوع للمرتكزات العقلية والعقلائية في التكاليف الشرعية والعرفية. وعليه تبتني منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات ، فإن طرف العلم الإجمالي المتأخر لو لم يكن مستتبعا لنحو من الداعوية تقتضي حفظه في وقته لم يصلح العلم الإجمالي للتنجيز ، بل يكون كما لو خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن الابتلاء ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا مجال للاستشهاد بذلك على فعلية التكليف قبل الوقت على مسلك صاحب الفصول قدس‌سره في الواجب المعلق ومسلك وشيخنا الأعظم قدس‌سره في الواجب المشروط. لعدم الملزم بانحصار الداعوية العقلية لحفظ المكلف به وموضوع الغرض بحال فعلية التكليف. كيف؟! والجهة المذكورة تعم صورة العلم بعدم توجه صاحب التكليف والغرض لحدوثهما في الوقت اللاحق ، فلو علم الشخص من حال صديقه مثلا أنه سوف يتعلق غرضه أو طلبه بفعل شىء ما لم يحسن منه بمقتضى حق الصداقة بينهما تعجيز نفسه عن ذلك الشيء ، وإن كان الصديق حال التعجيز غافلا عن تعلق غرضه أو طلبه في المستقبل بذلك الشيء ، بل معتقدا عدمهما ، جهلا بحدوث الحاجة له أو بتبدل نظره ، حيث لا مجال مع ذلك لتوهم سبق وجود تكليف معلق أو مشروط منه ، كي يتوهم أن له نحوا من الفعلية وأن حكم العقل بعدم جواز التعجيز مبتن عليها.

٤٣٢

فليس العتاب والعقاب في مثل ذلك وفي المقام على مخالفة التكليف والغرض بعد فعليتهما ، بل على التفريط في الغرض الفعلي وتفويت مقتضاه ، وإن لم يحصل التكليف على طبق مقتضاه.

تنبيه

ما ذكرناه من وجوب المقدمات المفوتة وعدم جواز التعجيز عن امتثال التكليف في وقته موقوف على تمامية ملاكه وفعلية غرضه على تقدير العجز ، لعدم أخذ القدرة عليه جزءا من الموضوع ـ وإن توقف عليها فعلية التكليف ، لامتناع تكليف العاجز ـ كما هو مقتضى إطلاق الخطاب بالتكليف معلقا على الشرط أو الوقت ، على ما يأتي في خاتمة مبحث التعارض عند الكلام في الفرق بينه وبين التزاحم.

أما إذا كانت فعلية القدرة دخيلة في ملاكه ومأخوذة في موضوعه فلا محذور في التعجيز قبل الوقت ، لعدم استلزامه فوت الملاك والغرض الفعلي ، لمانعية العجز حينئذ من فعليته. ومن هنا يجوز تعجيز المكلف نفسه عن الحج قبل ملك الزاد والراحلة وعن التصرف بالمال الزكوي قبل حلول الحول. فلا مجال لتوهم منافاة ذلك لما ذكرنا هنا. بل قد يجوز التعجيز في الوقت ، كما لو كان العجز فيه رافعا للموضوع والملاك بعد ثبوتهما ـ من دون أن يلزم فوت الملاك الفعلي ـ حيث لا يقبح عقلا رفع موضوع التكليف وملاكه في الوقت ، نظير ما لو سافر الصائم فساغ له الإفطار ، وليس القبيح إلا تفويت الغرض الفعلي والامتثال مع فعلية التكليف ، لا غير.

٤٣٣

خاتمة

ذكرنا في أول الفصل أن موضوع المسألة في تحرير الأصوليين لها هو مقدمة الواجب ، وأنه يظهر من مطاوي كلماتهم وكلمات الفقهاء المفروغية عن عموم جهات الكلام فيها لمقدمة المستحب.

وأما مقدمة الحرام والمكروه فالظاهر عموم ملاك النزاع لهما. فكما كان حدوث الداعي لفعل الشيء مستتبعا لحدوث الداعي لمقدمته ، كذلك يكون حدوث الداعي لتركه مستتبعا لحدوث الداعي لترك مقدمته. ويتفرع على ذلك الكلام في جهات ثلاث تقدم الكلام في نظيرها في مقدمة الواجب.

الأولى : الملازمة بين النهي عن الشيء شرعا والنهي عن مقدمته.

والظاهر ابتناؤها على ما تقدم في مقدمة الواجب ومشاركتها لها مختارا ودليلا ، كما يظهر بالتأمل في المرتكزات.

الثانية : تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية المذكورة. وقد تقدم في مقدمة الواجب أنها خصوص العلة التامة ، وأن مقتضى ذلك وجوب كل جزء من أجزائها بوجوب ضمني ارتباطي ، ومرجعه إلى وجوب المقدمة الموصلة.

وأما هنا فحيث فرض أن الداعي الأصلي يقتضي ترك الشيء ، وكان وجوده مستندا للعلة التامة كان الداعي المذكور مستتبعا لحدوث الداعي لعدم تمامية العلة ، ومرجعه إلى اقتضاء الداعي ترك كل جزء من أجزاء العلة على البدل ، كما نبه له في الجملة سيدنا الأعظم قدس‌سره.

ومقتضى البدلية عدم مخالفة الداعي التبعي المذكور إلا بفعل ما ينحصر بتركه عدم تمامية العلة ، وهو آخر أجزائها لو كانت تدريجية أو ما قبل الآخر إن

٤٣٤

خرج المبغوض الأصلي بعده عن الاختيار ، نظير مخالفة الأمر الموسع التي لا تتحقق إلا بترك آخر الأفراد الطولية الممكنة ، دون الأفراد السابقة عليها ، وإن كان ناويا للترك من أول الأمر. غاية الأمر أن القصد المذكور موجب للقبح الفاعلي في حقه ، وهو أمر آخر لا يرجع إلى المخالفة بفعل الأجزاء الأولى لعلة الحرام في المقام وبترك الأفراد الأولى في الواجب الموسع. وإلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من اختصاص الحرمة بالمقدمة التي يمتنع معها ترك الحرام.

نعم لو كان الإتيان بالجزء الأول لعلة الحرام بقصد التوصل للحرام فالظاهر تحقق التمرد به ، لا بملاك المخالفة ، بل بملاك آخر ، نظير فعل مقدمة الحرام برجاء ترتبه عليها مع عدم العلم بانضمام بقية أجزاء العلة إليها. وأما لو أتي به لا بقصد التوصل للحرام فلا مخالفة ولا تمرد أصلا ، ولو مع العلم بترتب الحرام عليه بالاختيار للعزم على فعل الحرام بعد تمامية مقدماته.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره في المقام من حرمة الموصلة ـ بذاتها لا بقيد الإيصال ـ مطلقا ولو عدم قصد التوصل للحرام ـ نظير ما هو المختار له ولنا في مقدمة الواجب ـ فإنه يبتني على حرمة تمام أجزاء العلة في ظرف تماميتها ولو تدريجا. وهو في غير محله ، لأنه حيث يكفي في عدم تحقق المبغوض عدم أي جزء من أجزاء علته ، فلا وجه لمبغوضية تمامها في ظرف اجتماعها.

نعم لو فرض وجودها دفعة تعين استناد المخالفة والعصيان للكل ، لا لمبغوضية الكل بنحو المجموع ، بل لعدم المرجح بعد صلوح كل منها لانطباق الوجود البدلي عليه ، نظير ترك تمام الأفراد العرضية للواجب البدلي ، فإنه إنما يقتضي المخالفة بترك الكل ، لعدم المرجح بينها في استناد الوجود البدلي المطلوب إليه ، لا لإرادة الكل بنحو المجموع.

٤٣٥

وتظهر الثمرة لذلك في مثل ما لو توضأ المكلف في حوض مباح عالما بفتح طريق جريان الماء منه بعد إكمال الوضوء للأرض المغصوبة ، فعلى القول بحرمة المقدمة الموصلة مطلقا يتعين بطلان الوضوء ، لكونه مقدمة إعدادية موصلة للحرام ، فيكون تمردا على المولى ومخالفة للحرمة ويمتنع التقرب به.

وعلى ما ذكرنا يصح الوضوء ، لعدم التمرد إلا بفتح طريق الحوض الذي هو آخر أجزاء علة الحرام ، ولا يبطل الوضوء إلا إذا كان هو آخر أجزاء العلة ، لانفتاح الطريق من أول الأمر.

الثالثة : تحديد الداعوية نحو المقدمة. والظاهر أنه يجري هنا ما تقدم في مقدمة الواجب من تبعية حكم المقدمة لحكم ذيها في الإطلاق والاشتراط ، كما أن المنع قبل وقت فعلية حرمة الحرام من مقدمته التي ينحصر تركه في وقته بتركها قبل وقته يبتني على ما تقدم في المقدمات المفوتة. من دون فرق بين المقامين ، كما يظهر بأدنى تأمل.

٤٣٦

الفصل الرابع

في مسألة الضد

وقع الكلام بينهم في أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟.

والمراد بضد الشيء كل ما لا يقارنه في الخارج ، سواء كان عدميا ـ وهو تركه ـ ويطلق عليه في كلماتهم الضد العام ، أم وجوديا ـ كالصلاة التي تتعذر مع تطهير المسجد ـ ويطلق عليه الضد الخاص ، سواء أريد به كل واحد من الأضداد الخاصة ، أم الجامع بينها ، وإن قيل أنه قد يطلق على الثاني الضد العام أيضا.

والمراد باقتضائه له ما يساوق عدم انفكاكه عنه ، سواء رجع إلى أن النهي عن الشيء عين الأمر بضده ، أم جزؤه ـ كما قد يدعى في الضد العام ـ أم ملازم له إما لكون ترك الضد مقدمة لفعل المأمور به ، أو لأمر آخر. وبلحاظ الأخير صح لنا تحرير المسألة في مباحث الملازمات العقلية ، لأنه المهم من جهات الكلام فيها.

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمر ، وهو أنه حيث كانت نتيجة المسألة متضمنة لحكم الضد شرعا صح منهم عدها مسألة أصولية ، بناء على المعيار المتقدم في المسألة الأصولية. لكن من الظاهر أن الحرمة المدعاة للضد ليست بنفسها موردا للأثر العقلي من العقاب بالمخالفة والثواب بالموافقة ، حيث لا إشكال ظاهرا في أنها في طول الأمر بالضد في الغرض والطاعة والمعصية.

ومن ثم لا يترتب على موافقتها الثواب ، ولا على مخالفتها العقاب ، زائدا على الثواب والعقاب بموافقة الأمر بالضد ومخالفته. وبذلك لا تكون النتيجة

٤٣٧

المذكورة مهمة في مقام العمل ، ليحسن كونها غرضا من تحرير المسألة ، نظير ما تقدم في مسألة مقدمة الواجب.

فالظاهر أن الثمرة العملية للمسألة ما صرح به بعضهم من أنه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده يمتنع التعبد بالضد والتقرب به ، فيبطل لو كان عبادة ، بناء على ما يأتي في الفصل السادس إن شاء الله تعالى من اقتضاء النهي عن العبادة فسادها. لكن هذه الثمرة لا تتوقف على حرمة الضد شرعا ، بل يكفي فيها كونه تمردا على المولى وإن لم يكن محرما شرعا. ومن هنا لا يكون بحثهم في المسألة عن حرمة الضد مناسبا للثمرة المهمة التي حررت من أجلها.

وربما أوجب ذلك اضطراب كلماتهم في المقام ، فنظر القدماء في إثبات اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده في بعض الموارد إلى كون فعل الضد تمردا على المولى ومخالفة لأمره ، واختلط ذلك بالنهي عن الضد ، ورتبوا الثمرة المذكورة ، ونظر المتأخرون في نفي الاقتضاء إلى التدقيق في حقيقة الأمر والنهي ، مع إغفال حال الثمرة التي ذكرناها ، وعدم التنبيه إلى أن نفي الاقتضاء لا ينافي ترتبها.

والمناسب لنا الجمع بين الأمرين بالبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وعدمه ، مجاراة لهم في تحرير محل النزاع ، ثم البحث عن ترتب الثمرة المذكورة ، لكونه الغرض المهم منه.

هذا ، ولا بد في ترتب الثمرة المذكورة من أمرين :

أحدهما : تمامية ملاك الأمر في العبادة ودخولها في موضوعه ذاتا في ظرف الأمر بالضد ، ليمكن صحتها في نفسها لو لا التمرد على المولى اللازم منها. أما لو كان الأمر بالضد مقارنا لفقدها للملاك وخروجها عن موضوع الأمر ذاتا فبطلانها لعدم المقتضي ، لا من جهة الأمر. ويأتي الكلام في ضابط ذلك

٤٣٨

في مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

ثانيهما : التفات المكلف للجهة الموجبة لكون الفعل تمردا على المولى ليكون متمردا بالفعل ويمتنع منه التقرب به. بل يكفي في ذلك اعتقاده بها خطأ كما هو ظاهر.

إذا عرفت هذا فالكلام في تحرير محل النزاع ومورد الثمرة المذكورة يكون في ضمن أمور ..

الأمر الأول : تقدم منا في أوائل مبحث الأوامر والنواهي أن الأمر والنهي متحدان متعلقا ـ وهو الماهية ـ ومتقابلان مفهوما واقتضاء ، فالأمر بالشيء نحو إضافة تقتضي فعله ، والنهي عنه نحو إضافة تقتضي تركه. كما أنه تقدم في مقدمة علم الأصول عند الكلام في الفرق بين الحكمين الاقتضائيين الإلزامي وغيره أن كلا منهما بسيط له منشأ انتزاع خاص به ، ولا تركيب فيهما.

وعليه لا مجال لدعوى : أن الأمر الإلزامي بالشيء مركب من طلبه مع النهي عن تركه ـ الذي هو الضد العام ـ بحيث يكون النهي المولوي عن ترك الشيء جزءا من الأمر الإلزامي به ، فضلا عن أن يكون عينه ، كما قد يدعى أيضا في المقام.

وكذا دعوى : أن الأمر الإلزامي بالشيء يستلزم النهي عن تركه. إذ فيها : أنه لا أثر للنهي المذكور بعد أن كان الأمر بالشيء ملزما بفعله ، ومع عدم الأثر له يكون لاغيا. إلا أن يساق مساق التأكيد للأمر من دون أن يرجع لجعل شيء زائد عليه. وكذا الحال في النهي الإلزامي عن الشيء مع الأمر بتركه.

نعم لما كان الأمر بالشيء يقتضي فعله فكما يكون الفعل طاعة للأمر يكون الترك مخالفة له ، فإذا كان الأمر إلزاميا يكون الترك معصية للآمر وتمردا عليه ، ويتعذر التقرب به ، ويبطل إذا كان عبادة ، وإن لم يكن منهيا عنه شرعا ،

٤٣٩

فإذا وجب الأكل في نهار شهر رمضان لخوف ظالم أو نحوه ، فعصى المكلف بتركه ، امتنع منه التقرب بالصوم الذي هو عبارة عن ترك المفطرات ، ومنه الترك المذكور.

ونظير ذلك ما إذا أمر بترك الشيء ، فإن فعله يكون تمردا ومعصية وإن لم يكن منهيا عنه ، لعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن نقيضه ، فإذا وجب ترك الارتماس لأنه من المفطرات امتنع التقرب بفعله ، ويبطل الغسل لو قصد به.

بل لا يبعد جريان ذلك في العدم والملكة ، وفي الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما في الموضوع الواحد ، كالحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ، فإن الأمر بأحدهما وإن لم يقتض النهي عن الآخر ، إلا أن فعل الآخر يكون عرفا مخالفة للأمر المذكور وتمردا على الآمر إذا كان الأمر الزاميا. وعلى ذلك تترتب في جميع ما ذكرنا الثمرة المتقدمة وإن لم يكن الاقتضاء تاما فيها.

الأمر الثاني : ربما يدعى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص ، بلحاظ توقف الشيء على عدم ضده ، ومقدمية عدم الضد له ، وإذا كان من مقدماته وجب غيريا تبعا لوجوبه ، وإذا وجب عدم الضد حرم فعله. ومرجع ذلك إلى مقدمات ثلاث :

الأولى : مقدمية ترك الضد لفعل ضده.

الثانية : ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها.

الثالثة : اقتضاء وجوب ترك الشيء لحرمة فعله. ويظهر بطلان المقدمة الثالثة مما تقدم في الأمر الأول ، وبطلان الثانية مما تقدم في الفصل السابق. ويأتي الكلام في الأولى.

لكن المقدمتين الأخيرتين إنما يحتاج إليهما لإثبات النهي الشرعي عن الضد. أما بلحاظ الثمرة المتقدمة ـ وهي امتناع التقرب بالضد ، وبطلانه لو كان

٤٤٠