الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

المقام الأول

في إجزاء الأمر الاضطراري

بمعنى أنه لا يجب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت ، أما إجزاؤه عن الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت فهو إنما يكون بعد الفراغ عن مشروعيته بمجرد طروء العذر في أثناء الوقت وإن لم يستوعبه ، إذ مع توقف مشروعيته على استيعاب العذر للوقت يكون ارتفاع العذر في الوقت كاشفا عن عدم مشروعيته من أول الأمر ، ويخرج عن محل الكلام من إجزاء الأمر الاضطراري. غاية الأمر أنه لو فرض القطع باستمرار العذر أو التعبد به ظاهرا فمع الإتيان بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفاع العذر في الوقت ينكشف خطأ القطع أو التعبد الظاهري ، فيبتني على الكلام في إجزاء الأمر الظاهري الذي يأتي الكلام فيه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن تشريع المأمور به الاضطراري في الوقت يستلزم إجزاءه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت ، لأن تعذر القيد في الوقت إن أوجب سقوط قيديته حال التعذر كان فاقد القيد وافيا بالملاك ، فلا يصدق مع الإتيان به الفوت الذي هو موضوع القضاء ، وإن لم يوجب سقوط قيديته ـ لعدم حصول ملاك الواجب بدونه ـ امتنع الأمر بفاقد القيد.

ولا مجال لوجوب القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وإن حصلت مصلحة أصل الواجب ، لأن مصلحة القيد إنما يمكن تحصيلها حال كونه مقارنا للمأمور به ، فمع فرض عدم قيديته فيه ، لحصول أصل المأمور به ،

٤٠١

وسقوط أمره بفعل الاضطراري في الوقت ، لا مجال لاستيفاء مصلحة القيد وإن كان ملاكها إلزاميا لو لا تعذر تحصيله.

وفيه : أولا : أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافيا بملاك أصل المطلوب الاختياري دون قيده ، بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب مفسدة تأخيره عن وقته ، من دون أن يؤدي شيئا من ملاكه ، كما لو وجب غسل المسجد يوم الجمعة ، فإن تعذر وجب فرشه ، وكان مصلحة الغسل التنظيف ومصلحة الفرش مع تعذره إخفاء الوسخ لئلا يهتك المسجد وتتسخ ثياب المصلين.

ودعوى : خروج ذلك عن المأمور به الاضطراري اصطلاحا ، كما قد يظهر منه قدس‌سره. ممنوعة ، إذ ليس المراد به إلا ما يجب بدلا عن المطلوب المتعذر ، ولا طريق لنا لتشخيصه إلا ذلك ، إذ لا يتيسر تشخيص حال الملاكات وكيفية ترتبها.

وثانيا : أنه لو سلم لزوم وفاء المطلوب الاضطراري بملاك المطلوب الاختياري بذاته دون ملاك قيده ـ كما فرضه قدس‌سره ـ فلا ملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء ، بل قد يمكن استيفاؤه به وإن استوفي ملاك أصل المطلوب بفعل المطلوب الاضطراري ، كما لو وجب الغسل بالماء الحار لأجل التطهير والتدفئة ، فإن تعذر وجب الغسل بالماء البارد لأجل التطهير ، حيث يمكن حينئذ مطلوبية الغسل بالماء الحار بعد تيسره لأجل التدفئة. وهو لا ينافي فرض الارتباطية بين القيد والمقيد ، لاختصاصه بحال القدرة على القيد دون غيره.

ثم إن ما ذكره كما يجري في القضاء يجري في الإعادة ـ في فرض ارتفاع العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع الأمر الاضطراري مطلق التعذر وإن لم

٤٠٢

يستوعبه ـ لتوقف تشريع الإعادة على عدم استيفاء الملاك بالبدل الاضطراري وإمكان استيفائه بها ، فيجري فيه ما سبق.

ومن هنا كان الظاهر إمكان تشريع القضاء والإعادة. بل في صحيح عبد الله ابن سنان : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ويخاف على نفسه التلف إن اغتسل. فقال : «يتيمم ويصلي ، فإذا أمن من البرد اغتسل وأعاد الصلاة» (١) ، وفي موثق عمار عنه عليه‌السلام : أنه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال : «يتيمم ويصلي ، فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة» (٢) ، ونحوهما غيرهما (٣). وهي وإن قيل بحملها على استحباب الإعادة بعد القدرة على الماء ، إلا أنه كما يمكن حملها على الاستحباب يمكن حملها على الوجوب. وعلى كل حال فهي منافية لما ذكره ، لأن مقتضاه عدم مشروعية الإعادة ولو استحبابا.

هذا كله في إمكان الإجزاء وعدمه ثبوتا ، وأما وقوعه وعدمه ، وما تقتضيه الأدلة إثباتا ، فالذي ينبغي أن يقال :

لما كان تشريع المطلوب الاضطراري معلقا على تعذر الاختياري فالمستفاد عرفا من دليله عدم وفائه بتمام الملاك ـ الذي هو مورد الغرض ـ حال التعذر ، وليس هو كالأبدال الاختيارية ، ولذا لا يجوز ارتكازا تعجيز النفس عن الواجب الاختياري لتحقيق موضوع الاضطراري. ولازم ذلك عرفا عدم الاكتفاء بالمأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب التعذر للوقت ، لمنافاته لتعلق الغرض بالملاك بتمامه.

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ١٤ من أبواب التيمم حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ٣٠ من أبواب التيمم حديث : ١.

(٣) راجع الوسائل ج : ٢ باب : ١٤ ، ١٥ ، ١٦ من أبواب التيمم.

٤٠٣

وحينئذ إن دل الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق التعذر وإن لم يستوعب الوقت ، فإن كان المراد به أو المتيقن منه مجرد المشروعية ـ في مقابل لغويته وعدم ترتب شيء من الملاك عليه ـ لم يناف ما ذكرنا ، ويتعين حينئذ عدم إجزائه عن الإعادة في الوقت بعد ارتفاع التعذر ، عملا بإطلاق دليل المطلوب الاختياري ، المقتضي لفعلية الأمر به بالقدرة عليه في بعض الوقت ، من دون أن ينافيه دليل الأمر الاضطراري بعد كون المراد به المشروعية بالمعنى المذكور.

وإن كان ظاهرا في الاجتزاء به في أداء التكليف المتوجه في الوقت كان مسوقا لبيان إجزائه عن الإعادة الذي هو محل الكلام في المقام ، وكشف عن وفائه في حال التعذر بتمام ما يجب تحصيله من الملاك الذي يفي به الاختياري في حال القدرة ، على خلاف ما سبق منا أنه المستفاد عرفا من إطلاق دليل تشريع البدل الاضطراري ، ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.

ثم إن المفهوم عرفا من تشريع البدل الاضطراري هو المعنى الثاني ، لأنه المهم لعامة المكلفين ، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة والبيانات الشرعية والمتشرعية ، وإرادة المعنى الأول تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام عليها إلا بقرينة.

هذا كله في الإعادة ، وأما القضاء فلا ينبغي التأمل في سقوطه لو استفيد من الأدلة سقوط الإعادة مع ارتفاع العذر في أثناء الوقت ، لأنه أولى منها بذلك وأما في غير ذلك ، فعدم إجزاء المطلوب الاضطراري عن القضاء وإن كان ممكنا ، بأن يكون المطلوب الاضطراري غير واف ببعض الملاك اللازم التحصيل مع إمكان تحصيله بالقضاء. إلا أنه لا يبعد ظهور أدلة تشريعه نوعا في إجزائه عن القضاء ، والخروج به عن الخطاب بالماهية من أصله ، لا عن خصوصية الوقت مع بقاء أصل المطلوب ، ليتجه لزوم الفراغ عنه بالقضاء.

٤٠٤

فإن المطلوب الاضطراري إن كان واجدا لعنوان الماهية المطلوبة بالأصل ـ كالصلاة من جلوس عند تعذر الصلاة من قيام ـ فدليل تشريعه لما كان منقحا لفرد الماهية كان ظاهره الفراغ به عن الأمر الوارد عليها ، وواردا على دليل القضاء الذي موضوعه عدم الإتيان بها. وإن لم يكن واجدا لعنوانها ـ كالاستغفار عند تعذر الكفارة ـ فدليل تشريعه ظاهر في بدليته عنها ، والمنصرف منه البدلية في الفراغ عن الأمر الوارد عليها ، فيكون حاكما على دليل القضاء ، لأن مقتضى البدلية قيام البدل مقام المبدل.

ولا ينافي ذلك ما سبق من عدم وفاء المطلوب الاضطراري بتمام ملاك الاختياري. لإمكان كون الإتيان بالمطلوب الاضطراري مانعا من فعلية تعلق الغرض بالباقي من الملاك ، إما لتعذر تحصيله بالقضاء ، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل أو نحوها رفع اليد عنه.

ولا أقل من كون ذلك هو مقتضى الإطلاق المقامي لأدلة تشريع المطلوب الاضطراري ، للغفلة معه عن وجوب القضاء جدا ، بسبب كون المهم للمكلف الخروج عن عهدة التكليف ، فينصرف تشريع المطلوب الاضطراري لذلك ، ويغفل معه عن وجوب القضاء ، فعدم التنبيه له عند تشريعه ظاهر بمقتضى الإطلاق المقامي عن سقوطه به.

على أنه لو فرض إجمال دليل التشريع الاضطراري من هذه الجهة فلا أقل من كون سقوطه مقتضى الأصل ، لأن المتيقن من أدلة القضاء وجوبه مع عدم الإتيان بالمطلوب رأسا ، ولا يشمل فرض الإتيان بالمطلوب الاضطراري الذي هو فرد منه أو بدل عنه ، والذي يحصل به بعض الملاك.

٤٠٥

المقام الثاني

في إجزاء الأمر الظاهري

ومحل الكلام في المقام هو مقتضى الحكم الظاهري ـ بمقتضى دليله أو دليل خارج ـ بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الأمر للواقع. أما لو فرض ظهوره في أن موضوعه الأعم من الواقع والظاهر أو خصوص الظاهر فلا إشكال في الإجزاء ، ويدخل في إجزاء موافقة الأمر الواقعي الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل. ومن هنا يكون مقتضى الأصل الأولي في محل الكلام عدم الإجزاء ، عملا بمقتضى دليل الحكم الواقعي ، ويحتاج الإجزاء إلى الدليل.

إذا عرفت هذا ، فقد ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره أن الحكم الظاهري إن ابتنى على تعبد الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله ظاهرا ـ كما هو مفاد قاعدتي الحل والطهارة ، بل الاستصحاب ، بناء على أنه يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، لا تنزيل اليقين منزلة الشك ـ اقتضى الإجزاء ، لحكومة دليله على دليل الأمر الواقعي ، حيث يكون موسعا للموضوع ، ومبينا أنه أعم من الظاهري والواقعي ، فيصح العمل ويجزئ ، لواجديته لجزئه أو شرطه ، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان العمل لجزئه أو شرطه ، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل ، بخلاف ما يبتني منه على التعبد بوجود الشرط واقعا ، كما في موارد الأمارات ، فإنه حيث لا يبتني على جعل الموضوع في قبال الواقع ، بل على إحراز ثبوت الموضوع في الواقع ـ كما هو مفاد أدلة التعبد بالأمارات ـ فبانكشاف الخطأ ينكشف عدم

٤٠٦

تحقق الموضوع واقعا ، وفقد العمل لجزئه أو شرطه ، فلا يجزئ.

وفيه : أنه لو كان مفاد أدلة الأصول المذكورة حاكما على أدلة الأحكام الواقعية وموسعا لدائرة الجزء والشرط ، بحيث يقتضي الإجزاء واقعا في المأمور به ، لجرى في شروط وأجزاء غير المأمور به مما يكون موردا للآثار ، كالعقود والإيقاعات ، وغيرها كالتذكية والتطهير ، لأن نسبة دليل التعبد للجميع على نحو واحد ، فإذا تم التعبد الظاهري بمقتضى الأصول المذكورة حين الإتيان بالأفعال ذات الآثار صحت واقعا وترتبت آثارها وإن انكشف عدم مطابقة التعبد المذكور للواقع ، فيصح واقعا بيع أو وقف مستصحب الملكية ، ويكون العقد على المرأة المستصحب كونها في العدة محرما لها على الزوج مؤبدا ، ويطهر المتنجس إذا غسل بماء محكوم بالطهارة بمقتضى أصالة الطهارة أو استصحابها ... إلى غير ذلك. ووهن اللازم المذكور غني عن البيان ، بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب ، لاختصاصه عندهم على الظاهر بالأحكام الكلية.

ومنه يظهر أنه لا مجال للبناء على أن موضوع الجزئية والشرطية ـ في المأمور به والعقود والإيقاعات وغيرها ـ وغيرهما من الأحكام الأعم من الواقع والظاهر ، ولا على كون موضوعها خصوص الواقع ، مع كون مفاد التعبد الظاهري جعل المؤدى بحيث يكون من أفراد الموضوع حقيقة ، لاستلزام المبنيين معا المحذور المذكور.

كما أن البناء على الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري مباينا له وليس من أفراده مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى ظاهرا حال الجهل ، لعدم كون مؤدى التعبد من أفراد موضوع الحكم الشرعي ، ليترتب عليه الحكم ، وهو أوهن مما سبق ، لاستلزام لغوية جعل الحكم الظاهري.

٤٠٧

ومن هنا كان التحقيق أن مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير الحكم الواقعي ، ليقع الكلام في أنه من سنخه ومن أفراده أو مباين له ، بل ليس في المقام إلا أمر واحد حقيقي ـ كالشهر والبنوة وبلوغ سن اليأس وغيرها من الموضوعات الخارجية ـ أو اعتباري جعلي ـ كالزوجية والملكية والطهارة وغيرها من الأحكام الشرعية ـ يكون بنفسه موضوعا للأثر العملي الشرعي أو العقلي. وتحققه في مقام الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجيا حقيقيا ، ولجعله من قبل من بيده الاعتبار إذا كان جعليا اعتباريا ، وهو الذي تتضمنه أدلة الأحكام الواقعية. كما أن البناء عليه في مقام الإثبات والعمل تابع للقطع به ، ومع عدمه فللتعبد الظاهري. فالتعبد الظاهري لا يتضمن جعل شيء في عرض الواقع ، بل لزوم البناء عليه في مقام العمل إثباتا وفي طول الواقع.

غايته أن البناء عليه في مقام العمل بمقتضى التعبد الشرعي ..

تارة : يتفرع على قيام الحجة عليه ، لصلوحها شرعا لإثباته ، كما هو مقتضى أدلة حجية الحجج.

وأخرى : لا يتفرع عليها ، بل يكون التعبد به ابتدائيا لمحض الجهل به أو مع سبق اليقين به أو لغير ذلك ، مما تتضمنه أدلة الأصول. على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مبحث إمكان التعبد بغير العلم من التمهيد لمباحث الحجج إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر أن ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد ، وإن كان موضوع الأثر ثبوتا هو الواقع بنفسه ، لا ما يعمه والظاهر ، لأن مقتضى دليل التعبد هو التعبد بالواقع ذي الأثر. وأن عدم الإجزاء بانكشاف الخلاف إنما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان العمل لما يعتبر فيه ، بعد ارتفاع موضوع التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل المفروض ارتفاعه ،

٤٠٨

كما هو الحال فيما لو قطع حين العمل بتحقق ما يعتبر فيه ثم انكشف خطأ القطع بعد الفراغ منه ، حيث لا إشكال ظاهرا في عدم الإجزاء حينئذ ، إلا بدليل مخرج عن مقتضى الأصل.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن مقتضى الأصل عدم إجزاء موافقة الحكم الظاهري مع انكشاف مخالفته للحكم الواقعي من دون فرق بين أقسامه.

نعم يمكن حكم الشارع بالإجزاء والاكتفاء بالعمل المذكور من باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره ، إما لوفائه بتمام الغرض في ظرف الإتيان به خطأ ، أو لمانع من التكليف باستيفاء الغرض ، أو لتعذر استيفائه حينئذ. ويأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الاجتهاد والتقليد الكلام في ثبوت ذلك من الشارع في الجملة أو مطلقا.

٤٠٩

الفصل الثالث

في مقدمة الواجب

قد حررت هذه المسألة في كلام قدماء الأصوليين ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب مقدمة الواجب شرعا تبعا لوجوب ذيها وعدمه ، ومرجعه لملازمة وجوبها لوجوبه وعدمها ، وبهذا تكون المسألة من قسم الملازمات العقلية ، لا من القواعد الفقهية ، كما قد يوهمه الجمود على تعبير بعضهم بوجوب مقدمة الواجب ، ولا من قسم الظهورات اللفظية ، كما قد يوهمه تعبير بعضهم بأن الأمر بشيء هل يدل على وجوب مقدمته.

ثم إنه يظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عدم خصوصية الواجب في موضوع الكلام ، بل يعم المستحب ، وأن مقدمته هل تكون مستحبة تبعا لاستحبابه أو لا؟. بل الظاهر عموم ملاك النزاع للحرام والمكروه ، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى. ومن هنا يكون موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم الاقتضائي للشيء وثبوت مثله لمقدمته. وإن كنا سنجري في عرض البحث على ما جروا عليه من جعل موضوع البحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، لئلا يضطرب نظم الكلام عند التعرض لكلماتهم.

كما أنه قد تعرض المتأخرون بتبع الكلام في الملازمة لبعض ما يتعلق بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في ضمن مباحث عقدت تمهيدا لمحل الكلام أو من لواحقه التابعة له.

هذا ، والظاهر أن موضوع كلامهم بالأصل ـ وهو الملازمة المذكورة ـ

٤١٠

ليس موردا للأثر العملي ، وأن جميع ما يترتب على تقدير الملازمة يترتب على تقدير عدمها ، وأن المهم في مقام العمل هي الأمور التي بحثت في كلامهم تبعا ، ولا يتفرع البحث فيها على ثبوت الملازمة ، على ما سيتضح إن شاء الله تعالى.

ومن هنا لا يحسن تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في الأمور المذكورة تابعا له ، كما جروا عليه ، بل ينبغي بحث كل من الأمور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل عن بحث الملازمة.

وإنما نبحث في الملازمة مع ما ذكرنا من عدم الأثر العملي لها ..

أولا : لمتابعتهم فيما جروا عليه من الاهتمام بها

وثانيا : ليظهر في مطاوي البحث فيها ما ذكرناه من عدم الأثر العملي لها.

وينبغي التنبيه لتلك المباحث بأمرين دخيلين في تنقيح محل الكلام وتحديد موضوع الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.

الأمر الأول : لا إشكال ظاهرا في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من الدواعي لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته ، على أن يكون الداعي الثاني في طول الداعي الأول تابعا له فانيا فيه مرتبطا به غير مستقل عنه ، لوحدة الغرض الموجب لهما ، فلا يكون الثاني صالحا للمحركية ما لم يصلح الأول لها ، بل محركية الأول إنما تكون بالجري على طبق الثاني.

كما أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول ، ولا يكون متعلقه موضوعا للداعوية إلا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من إنكاره ، ويغني عن إطالة الكلام فيه.

وإنما الكلام فيما يلحق ذلك .. تارة : في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية ، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها.

٤١١

وأخرى : في سعة الداعوية المذكورة وأنها مطلقة أو مقيدة.

وثالثة : في أن المقدمة التي هي موضوع الداعوية هل يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل أو لا؟. وإليه يرجع البحث في الملازمة التي هي مورد كلامهم بالأصل في هذا الفصل ، حتى جعلوا البحث في الأمرين الأولين من لواحقه.

ولا وجه له بعد عدم تفرع البحث فيهما عليه. نعم قد يحسن لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما ، لأنه أقرب لتناسق الكلام فيهما مع كلامهم.

الأمر الثاني : من الظاهر أن المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود الواجب ويكون له الدخل فيه. وقد قسمت في كلماتهم تقسيمات كثيرة ، بعض الأقسام فيها خال عن الأثر المصحح للتقسيم في المقام ، وبعضها خارج عن محل الكلام. ولعل الأولى الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في تحديد محل الكلام.

الأول : تقسيمها إلى داخلية وخارجية.

والداخلية عبارة عن الأجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها معه ، والخارجية هي ما يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه.

وقد وقع الكلام بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام ، فمنع بعضهم من دخولها ، لعدم المقدمية بينها وبين الواجب ، لفرض كونها عينه ومتحدة معه حقيقة ، ولا اثنينية بينهما ، فليس في المقام إلا الداعوية النفسية نحو المركب المنبثة على أجزائه بنحو ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمنا بنحو الارتباطية.

وقد حاول بعضهم دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار ، لأن ذا

٤١٢

المقدمة ـ وهو المركب ـ منتزع من مجموع الأجزاء الواجد لعنوان المركب الخاص ، أما المقدمة فهي كل جزء بنفسه. وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لاستقصائه.

والعمدة في الإشكال فيه : أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام ، لأن المقدمية إنما تكون بلحاظ توقف ذي المقدمة على المقدمة في الخارج ، وهو يتوقف على التباين الخارجي بينهما. هذا مع أن الداعوية للمقدمة لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة عنها ، بحيث يكون الجري على الداعوية للمقدمة شروعا في الجري على الداعوية لذيها ـ كما تقدم ـ فهي مختصة لبا بصورة تحقق تمام المقدمات ـ على ما يظهر مما يأتي في بحث المقدمة الموصلة ـ فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية للأجزاء لكانت مختصة بصورة تحقق تمامها ، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي هو موضوع الداعوية النفسية ، ولا فرق بينهما ليمكن أن تكون إحدى الداعويتين في طول الأخرى ، ويكون متعلق الغيرية مقدمة لمتعلق النفسية.

الثاني : تقسيمها إلى تكوينية وشرعية.

فإن توقف الواجب على شيء .. تارة : يبتني على علاقة تكوينية بينهما ، كتوقف الحج على قطع المسافة.

وأخرى : يبتني على تقييد الواجب بذلك الشيء شرعا ، كتوقف الصلاة على الستر أو الطهارة. ولا إشكال في دخول الأولى في محل النزاع.

أما الثانية فقد يتوهم خروجها عنه ، وأنها كالجزء لا تجب بالوجوب الغيري بل النفسي لا غير ، بلحاظ أن التقييد لما كان داخلا في المأمور به وجزءا منه فهو واجب بالوجوب النفسي ، ولما كان منشأ انتزاع التقييد هو القيد ، والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه ، إذ لا وجود له إلا بذلك ، فيكون الأمر

٤١٣

النفسي المتعلق بالتقييد أمرا بالقيد ، وإذا وجب القيد نفسيا كيف يجب مرة أخرى غيريا؟!

ويندفع : بأن المراد بالتقييد إن كان هو أخذ القيد في الواجب فهو ليس من أفعال المكلف ، ليدخل في المأمور به ويجب معه نفسيا ، بل هو من شئون جعل التكليف الذي هو فعل المولى.

وإن كان هو حفظ القيد في مقام الامتثال ـ الذي هو فعل المكلف ـ فلزومه ليس لوجوب القيد نفسيا ، ودخوله في الواجب ، بل لتوقف حصول الحصة المقارنة له من الماهية ـ التي هي الواجب المقيد ـ عليه ، فيكون وجوبه غيريا.

والفرق بينه وبين الجزء أن الجزء ما يكون مقوما للمأمور به ويستند الغرض إليه في ضمنه ، والقيد ما يخرج عن المأمور به ، وإن كان دخيلا في ترتب الغرض عليه ، بحيث لا يكون المأمور به وافيا بالغرض إلا في ظرف حصوله.

بقي شيء

وهو أن المقدمة التكوينية لا بد أن تكون متصلة بذيها ومقارنة له زمانا ، بحيث لا يكون بينهما إلا التقدم الرتبي ، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، لامتناع تأثير ما لا وجود له حين الأثر. وأما تقدم بعض أجزاء العلة في بعض الموارد ، وهو ما يسمى بالمعدّ ، فليس لكون المؤثر هو الوجود المتقدم ، بل إما لكون المؤثر حقيقة هو الوجود المذكور باستمراره إلى حين وجود الأثر ، أو لكون المؤثر هو أثره الباقي بعد انعدامه.

وأما المقدمة الشرعية فحيث سبق أن منشأ مقدميتها أخذها قيدا في المأمور به شرعا فمن الظاهر أن التقييد ـ كسائر الإضافات الاعتبارية ـ كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن يكون بالمتقدم وبالمتأخر.

نعم لما كان الأمر تابعا للغرض والملاك سعة وضيقا فتقييد المأمور به

٤١٤

لا بد أن يكون لاختصاص الغرض بالمقيد ، وحينئذ قد يشكل بأن المتأخر والمتقدم كيف يكونان دخيلين في فعلية ترتب الغرض على المأمور به مع عدم وجودهما حينه ، نظير ما تقدم في العلل التكوينية ، لأن ترتب الغرض على المأمور به تابع لخصوصيات تكوينية ، لا للجعل الشرعي.

ولا بد من توجيهه بأحد وجهين :

أولهما : أن يكون القيد ملازما للحصة المؤثرة للغرض من دون أن يكون دخيلا في ترتب الغرض عليها.

وثانيهما : أن يكون الغرض من سنخ الأمور الاعتبارية التي يمكن دخل غير المقارن فيها ، نظير حسن الضيافة المترتب على بذل الطعام القليل أو غير الجيد بشرط الاعتذار وإن كان متقدما عليه أو متأخرا عنه. ويزيد الشرط المتقدم بوجه ثالث ، وهو أن يكون من سنخ المعدّ الذي تقدم إمكانه في التكوينيات أيضا.

وبأحد هذه الوجوه يمكن توجيه الارتباطية بين أجزاء المركب الواحد مع تعاقبها في الخارج وعدم وجودها دفعة واحدة ، لأنها ترجع إلى اشتراط تأثير كل منها في الغرض بوجود الباقي في موقعه متقدما عليه أو متأخرا عنه ، فيلحقها ما يجري في الشرط المتأخر أو المتقدم.

وبما ذكرنا يظهر أنه كما يمكن تقييد المأمور به بشرط متقدم أو متأخر يمكن تقييد الحكم نفسه ـ تكليفيا كان أم وضعيا ـ بذلك ، لأنه أيضا منتزع من التقييد الذي يمكن بالأمرين معا ، كما يمكن بالمقارن. ولا محذور فيه إلا بلحاظ أن دخل الشرط في الحكم إنما هو لدخله في فعلية الغرض المقتضي لجعله ، ومع مقارنة فعلية الغرض للشرط يمتنع تقدم الحكم أو تأخره عنه ، ومع تأخر فعلية الغرض عن الشرط أو تقدمها عليه يمتنع تأثير الشرط فيها ـ ليكون شرطا للحكم ـ لاستحالة تأثير المعدوم. ولا بد من توجيهه بأحد الوجوه

٤١٥

السابقة لتوجيه الشرط المتقدم أو المتأخر للمأمور به ، كما يظهر بالتأمل.

وبهذا ينتهي الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة ويقع الكلام في المباحث المقصودة بالأصل ، وهي ـ كما يظهر مما تقدم في الأمر الأول ـ ثلاثة.

المبحث الأول

في الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته

وقد اختلفوا في ثبوت الملازمة وعدمه على أقوال بين النفي مطلقا ، والإثبات كذلك ، والتفصيل.

وقد استدل للقول بالإثبات مطلقا بوجوه كثيرة. وأقدم الوجوه ـ فيما يظهر ـ ما نسب لأبي الحسين البصري من أنها لو لم تجب لجاز تركها ، فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

ووضوح وهن هذا الوجه يغني عن إطالة الكلام في مناقشته ، بداهة أن أحد الأمرين ـ من التكليف بالمحال ، وخروج الواجب عن كونه واجبا ـ إنما يلزم من وجوب ترك المقدمة ، بحيث يمتنع وجودها ، لا من مجرد جواز تركها شرعا مع إمكان فعلها ، بل وجوبه عقلا ، كما يأتي. ومن هنا يلزم النظر في غيره من الوجوه المستدل بها في المقام.

ولعل عمدتها ما ذكره جماعة من المتأخرين. وحاصله : أن الوجدان السليم يقضي بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه. وليس المدعى في المقام هو الطلب الفعلي للمقدمة على نحو طلب ذيها ـ لوضوح أن الطالب قد يغفل عن المقدمات ، بل قد يعتقد عدم توقف الواجب على بعضها ـ بل هو طلبها تبعا إجمالا ، بمقتضى الارتكازيات الكامنة في النفس ، على نحو لو توجه إليها تفصيلا لطلبها كذلك ، وذلك نحو من أنحاء الطلب الذي تترتب عليه

٤١٦

آثاره. بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب المقدمة في التكاليف الشرعية فاستحالة الغفلة من الشارع الأقدس تستلزم الطلب الفعلي التفصيلي منه بعد ثبوت الملازمة بالنحو المذكور بين التكليف بالمقدمة والتكليف بذيها. فهو نظير ما تقدم منا في الأمر الأول من التمهيد لمباحث المقدمة من أن حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل شيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته.

لكن ذلك لا يكفي في تعلق الطلب الغيري بالمقدمة والتكليف بها لأمرين :

أحدهما : أن مثل هذه الإرادة أو الداعوية لا تكون منشأ للطلب والتكليف ، لأن الغرض من التكليف إحداث الداعي لفعل المكلف ـ وإن لم يندفع عنه ـ وبدونه يكون لاغيا ، وحيث كان التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي نحو المقدمة ، تبعا لإحداث الداعي نحو ذيها ، يكون التكليف بها مع التكليف به لاغيا. ولا مجال لكونه مؤكدا للداعوية المذكورة نحوها ، لأن ذلك إنما يتجه مع كون الداعويتين في عرض واحد ينشأ كل منهما عن ملاك وغرض مستقل عن ملاك الأخرى وغرضها ، لا في مثل المقام ، حيث يكون التكليف الغيري بالمقدمة في طول التكليف بذيها ، وداعويته في طول داعويته ، لكونهما ناشئين عن غرض واحد ، ولا يكون التكليف الغيري سببا لداعوية خاصة للمقدمة في قبال الداعوية لها الحاصلة من التكليف النفسي ، لتكون مؤكدة لها ، بل يتعين عدم صلوحه لإحداث داعوية أصلا ، فيكون لاغيا.

ثانيهما : أن ذلك يبتني على ما تكرر في كلام جماعة من انتزاع التكليف من تعلق إرادة المولى بفعل المكلف على نحو إرادته لفعل نفسه ، على نحو لا فرق بينهما إلا في متعلق الإرادة ، وأن الإرادة التشريعية من سنخ الإرادة التكوينية ، إذ عليه لا يتحقق التكليف النفسي إلا بعد تعلق غرض المولى

٤١٧

وإرادته بذي المقدمة المستلزم لتعلق غرضه وإرادته بالمقدمة تبعا.

لكن سبق في مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الحكم التكليفي المنع من ذلك وأن التكليف منتزع من الخطاب بداعي جعل السبيل ، ولا مجال مع ذلك لاحتمال وجوب المقدمة. لوضوح أن الخطاب بذي المقدمة إنما يقتضي جعل السبيل بالإضافة إليه ، دون مقدمته ، لأنه هو موضوع الملاك والغرض الفعلي ، وهو الذي يكون موضوعا للإطاعة والمعصية ، وما يستتبعهما من ثواب وعقاب ، ولا ملازمة بين جعل السبيل بالإضافة إليه وجعله بالإضافة إلى المقدمة ، والملازمة المتقدمة إنما هي بالإضافة للإرادة والداعوية ، أما جعل السبيل فيختص بموضوع الغرض ، بل يلغو بالإضافة للمقدمة بعد عدم ترتب آثاره بالإضافة إليها.

نعم ، لما كان التكليف بذي المقدمة مستلزما لحدوث الداعي إليه في حق المكلف ، فهو مستلزم ـ بتبع ذلك ـ لحدوثه بالإضافة إلى المقدمة في حقه أيضا ، لما سبق. فالمقدمة تشترك مع ذيها في الداعوية المسببة عن التكليف ، لا في الداعوية السابقة عليه رتبة ، وهي داعوية الملاك والغرض لجعل التكليف ، بل هي مختصة بذي المقدمة الذي هو موضوع الملاك والغرض.

وبذلك يظهر أن الأوامر الشرعية ببعض المقدمات لا بد أن تكون مسوقة لبيان شرطيتها ومقدميتها للواجب ، أو لبيان مطلق اللزوم ولو بلحاظ الداعي العقلي ، أو بلحاظ كيفية إيقاع الواجب وحصوله خارجا أو غير ذلك مما يناسبه لسان تلك الأدلة ، ولا مجال لحمله على الوجوب الشرعي بعد ما ذكرنا.

هذا ، وأما التفصيلات ، فهي كثيرة قد يتضح بعضها مما يأتي في المبحثين الآتيين ، وبعضها ظاهر الضعف بملاحظة ما تقدم.

ولعل الأولى الاقتصار على التفصيل بين السبب وغيره ، لعدم خلوه عن

٤١٨

الفائدة ولو في غير المقام.

وكأن مرادهم بالسبب هو السبب التوليدي الذي لا ينفك عنه الواجب ، بل يكون نتيجة قهرية له من دون توسط اختيار الفاعل بينهما ، كإلقاء الثوب في النار الموجب لاحتراقه ، وأفعال الوضوء الموجبة للطهارة.

وقد استدل على وجوبه بأنه لا بد من صرف التكليف بالمسبب إليه ، لأنه فعل المكلف المقدور له ، دون المسبب ، بل هو نتيجة فعله ، ممتنع عليه مع عدم تحقق السبب ، وواجب مع تحققه ، من دون أن يكون فعلا له ، ولا مقدورا له بنفسه ، ليصح تكليفه به.

لكنه ـ كما ترى ـ لا يصح دليلا على وجوب السبب غيريا ـ الذي هو محل الكلام ـ بل على صرف الوجوب النفسي من المسبب للسبب. على أنه يندفع بأنه يكفي في نسبة المسبب للمكلف وقدرته عليه المصححين لتكليفه به قدرته على فعل سببه المذكور الذي لا ينفك عنه ، ولا وجه معه لصرف التكليف للسبب مع ظهور الدليل في التكليف بالمسبب.

بقي شيء

وهو أنه لا إشكال في استحقاق العقاب بمخالفة تكليف المولى الأعظم المستحق للطاعة وعصيانه. وكذا في استحقاق الثواب بموافقته وإطاعته ، لا بمعنى ثبوت حق للمطيع على المولى ، نظير استحقاق الأجير أجرته ، لعدم وضوح ذلك بعد كون الطاعة حقا للمولى ، بل بمعنى كونه أهلا للثواب بملاك الشكر والجزاء ، ولا يكون ثوابه تفضلا ابتدائيا ، كسائر النعم المبتدأة.

والمتيقن من ذلك هو موافقة ومخالفة التكليف النفسي. وأما التكليف الغيري بالمقدمة ـ لو قيل بثبوته ـ فيظهر مما نقله في التقريرات عن بعضهم

٤١٩

مشاركته للتكليف النفسي في ذلك ، بل صرح في محكي الإشارات بثبوت عقابين.

لكنه مخالف للمرتكزات العقلائية ، فإن المعيار في التقرب والتمرد اللذين يناط بهما الثواب والعقاب هو التكاليف النفسية المجعولة بالأصل ، والتي هي مورد الأغراض والملاكات ، دون الغيرية التي هي في طولها جعلا وطاعة ومعصية. وملازمة التكليف مطلقا لاستحقاق الثواب والعقاب. ممنوعة جدا بعد كون المرجع في الملازمة العقل.

نعم ، حيث كان ترك المقدمة موجبا لمخالفة التكليف النفسي تعين كونه سببا لاستحقاق العقاب عليه.

كما أنه لما كان المعيار في استحقاق الثواب هو الحسن الفاعلي ـ بالانقياد للمولى والخضوع لأمره وتحمل المشقة في سبيله ـ يكون فعل المقدمة منشأ لاستحقاق الثواب. لكن لا من جهة امتثال أمره الغيري ، بل لكونه شروعا في امتثال التكليف النفسي الذي يزيد ثوابه كلما كان أشق وكان أمد الانقياد بمتابعته أطول ، كما يناسبه ما تضمن أن أفضل الأعمال أحمزها (١).

وعليه ينزل ما ورد في كثير من النصوص من ثبوت الثواب على مقدمات كثير من الطاعات. ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.

والظاهر أن ذلك جار في جميع دواعي الطاعة المترتبة على التكليف ، كشكر المنعم ، وكونه أهلا للطاعة ، ومحبوبيته ، والتقرب منه ، فهي لا تقتضي فعل المقدمة لامتثال أمرها الغيري ـ لو قيل بثبوته ـ بل لكونه شروعا في امتثال الأمر النفسي الذي هو مورد الملاك والغرض الأصلي.

__________________

(١) بحار الأنوار ج : ٧٠ ص : ١٩١.

٤٢٠