الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

الباب الثاني

في الملازمات العقلية

أشرنا في المقدمة إلى أن الأصول النظرية هي التي يكون مضمونها أمرا واقعيا مدركا لا يتضمن العمل بنفسه ، بل لخصوصية في متعلقه ، ككونه حكما شرعيا ، وأنها تنحصر في مباحث الألفاظ المتكفلة بتشخيص الظهورات الكلامية ، ومباحث الملازمات العقلية المبنية على إدراك العقلاء الملازمة بين أمرين ، ليكون العلم بأحدهما مقدمة للعلم بالآخر.

ويفترقان في أن الظهورات اللفظية حيث لا تستلزم العلم بمضمونها يتوقف العمل بها على ثبوت كبرى حجية الظهور التي هي مسألة أصولية. أما الملازمات العقلية فحيث كانت قطعية كان ترتب العمل عليها مبنيا على كبرى حجية العلم وليست هي مسألة أصولية ، كما يأتي في محله.

ولا وجه مع ذلك لما جرى عليه بعض المعاصرين رحمه‌الله من جعلها صغريات لكبرى مسألة أصولية ، وهي مسألة حجية الدليل العقلي. ومن هنا فالمسألة الأصولية ليست إلا مسألة الملازمة ، حيث تقع نتيجتها ـ لو تمت ـ كبرى تنتج بضميمة ثبوت اللازم الحكم الشرعي.

إذا عرفت ذلك فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول ..

٣٨١

الفصل الأول

في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

وقع الخلاف بين المسلمين من عصور الإسلام الأولى في ثبوت حكم العقل ، ثم في حقيقته ، ثم في ملازمة حكم الشرع له.

وحيث كانت الملازمة المذكورة متفرعة على ثبوت حكم العقل كان المناسب البحث عن ذلك ـ وإن كان خارجا عن البحث في الملازمة ـ لأن الملازمة لا تتضح إلا بعد اتضاح أطرافها.

وحيث لا يكون البحث في حكم العقل في متناول الناظر في علم الأصول فينبغي التعرض له هنا. وهو وإن كان من سنخ المقدمة للكلام في الملازمة ، إلا أن أهميته تناسب عقد بحث مستقل له.

ومن هنا يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين :

المبحث الأول

في ثبوت حكم العقل في الوقائع العملية وعدمه

من الظاهر أنه لا بد في صدور الفعل الاختياري من أن يدرك فاعله داعيا ينبعث نحوه ، ويفعل الفعل من أجله.

ولا إشكال في وجود الدواعي الفطرية ـ كطلب النفع ودفع الضرر ـ والعاطفية ـ كالحب والبغض والشهوة والغضب ـ والتأديبية ـ الشرعية والاجتماعية والقانونية ـ والعادية العرفية والشخصية.

٣٨٢

وإنما الكلام في وجود الدواعي العقلية ، وهي التي تدعو العاقل بما هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن العقل ، وهي دواعي الحسن والقبح.

فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك. فادعى العدلية ثبوت الحسن والقبح في الأشياء في الجملة ، وأنكر ذلك الأشاعرة ، فليس الحسن والقبيح عندهم إلا ما حسّنه الشارع أو قبحه. وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبيح.

والحق الأول. وقد يستدل عليه بوجوه ، لعل الأولى الاقتصار على وجهين منها.

أولهما : الوجدان. فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام ، والبعيد عن الدواعي الخارجية ـ الشهوية والغضبية وغيرها ـ يرى أن في الأفعال ما هو حسن ينبغي فعله ، ويمدح فاعله ـ كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار ـ وما هو قبيح ينبغي تركه ويذم فاعله ـ كالكذب والخيانة وإيذاء الغير والتعدي عليه ـ وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها. وربما تبتني على شبهات أو عواطف تخرج بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.

نعم لا إشكال في أن جهات الحسن والقبح في تلك الأفعال قد تزاحم بجهات تضادها ، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية ، كما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد ، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة عقلا لا يخرج في الحقيقة عن القبح ، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن الحسن ، بل تسقط داعوية قبح الأول وحسن الثاني بسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.

ولعل هذا هو مرادهم من أن الحسن والقبح في هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين ، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه

٣٨٣

من الحسن أو القبح الاقتضائي بطروء الجهة المزاحمة. وهو في غير محله ، لأن لازمه كون الكذب الذي ينحصر به اندفاع المفسدة المهمة كغيره مما لا قبح فيه إذا توقف عليه اندفاع تلك المفسدة ، وهو مخالف للارتكاز جدا. ويأتي بعض الكلام في ذلك عند الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين.

كما أن جهات الحسن والقبح العقلية قد تزاحم بدواع خارجية عاطفية أو غيرها. وقد تمنع من تأثيرها في فعلية الاندفاع عنها ، كما هو الحال في جميع الدواعي مع اختلاف سنخ الداعوية ـ كما لو تزاحم الداعي العاطفي والداعي الشهوي مثلا ـ حيث يبقى كل من الداعيين على ما هو عليه من فعلية الداعوية وإن امتنع تأثيرهما في العمل معا ، بل يختص أحدهما به أو يسقطان معا عن التأثير.

بل الدواعي المزاحمة في المقام قد تمنع من تجلي الحسن أو القبح المدركين ، أو من الاعتراف بهما مع تجليهما ، حيث قد لا يهون على الإنسان الاعتراف بخروجه عن الميزان العقلي ، بل تكون كبرياؤه غشاء مانعا من تجلي الحقيقة ، أو سببا في الإنكار والمباهتة.

لكن ذلك لا يغير الحق عما هو عليه ، ولا ينهض بالعذر في مقابل المرتكزات العقلية التي تقوم بها الحجة عند الله تعالى وعند الناس.

ثانيهما : أنه بعد صدور الممكنات ـ من التكوينيات والتشريعيات ـ من الله عزوجل فحيث يمتنع تحقق الإرادة من غير داع ، وامتنع في حقه سبحانه الداعي الفطري ـ من طلب النفع ودفع الضرر ، لاستلزامهما الحاجة ـ وغيره من الدواعي العقلائية غير العقلية المتقدمة ـ لاستلزامها النقص ـ فضلا عن الدواعي غير العقلائية ـ لاستلزامها العبث ـ تعين ثبوت الداعي العقلي الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي ، المعلوم له جل شأنه في رتبة سابقة

٣٨٤

على تعلق إرادته به.

غاية الأمر أنا لا نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنها بخصوصياتها ، وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور واقعا ، والعلم به إجمالا بسبب العلم بالإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه.

ولا مجال مع ذلك لما عن الأشاعرة من تبعية الحسن لإرادته تعالى وحكمه. على أنه لا يتضح لنا بمدركاتنا حكم العقل بالحسن في رتبة متأخرة عن حكم الشارع إذا لم يندرج في كبرى يستقل العقل بإدراكها ـ كحسن شكر المنعم ـ أو يرجع إلى كشف حكمه عن واقع سابق عليه رتبة ، كما ذكرنا.

إلا أن يكون مرادهم إنكار حكم العقل بالحسن والقبح حتى في الرتبة المتأخرة عن حكم الشارع ، وأنه ليس في البين إلا تحسين الشارع وتقبيحه ، الراجع إلى أمره ونهيه اللذين يلزم طاعتهما بمقتضى الداعي الفطري ، الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر.

هذا وقد احتج الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع النظر عن حكم الشارع بوجوه ..

أحدها : أن الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه والاعتبارات ، فيكون الصدق قبيحا لو ترتب عليه مفسدة مهمة ، والكذب حسنا لو اندفعت به مفسدة مهمة ، وكذا غيرهما.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن الاختلاف إنما يكون في داعوية الحسن والقبح بسبب المزاحمة ، لا في أصل ثبوتهما. ولو سلم فهو إنما يمنع من كون الأمور المذكورة عللا تامة للحسن والقبح ، لا من ثبوتهما لهما في الجملة ولو مع عدم المزاحم ، فهي من سنخ المقتضي لأحدهما من دون حاجة لحكم الشارع.

٣٨٥

ثانيها : أنه لو حسن الفعل أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون الباري مختارا في تشريع الأحكام ، لأن قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه تعالى يستلزم امتناع مخالفته منه ، فلا يكون مختارا فيه.

وفيه : أن امتناع صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه ، كي ينافي اختياره ، بل لأن اختياره له لا يناسب كماله ويلزم باختياره للحسن ، فهو مبتن على الاختيار ، وليس منافيا له.

ثالثها : ما قيل : إنه أهم أدلتهم ، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان هناك فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء ، مع وضوح الفرق بينهما ، حيث لا خلاف في الثاني ، مع شدة الخلاف في الأول.

وفيه : أنه لا ملزم باتفاق المدركات العقلية في الوضوح والخفاء ، بل تختلف باختلاف القضايا ، فقضية : الكل أعظم من الجزء ، لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها فهي من الأوليات التي يكون التصديق بها عند الالتفات إليها لازما لتصور طرفيها ، بخلاف قضية التحسين والتقبيح ، فإنها ليست كذلك ، بل يحتاج التصديق بها إلى شيء من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه ، وللتمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الداعويات النفسية المتقدمة ، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والإشكالات عليها ، حتى قد يلتبس الأمر ويضيع على النفس مقتضى المرتكزات أو تتحفز فيها المكابرة والمغالطات ، كما حصل في كثير من البديهيات ، كتوقف وجود الممكن على العلة وامتناع الصدفة.

وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وضوح

٣٨٦

ضعفها ، أو ابتنائها على مبان ظهر بطلانها في محلها المناسب. بل الإنصاف أن الأمر من الوضوح بحدّ يلحق أدلة المنع بالشبهة في مقابل البديهة.

بقي الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين ، وكيفية إدراك العقل لهما. والظاهر بعد التأمل في المرتكزات أن العقل يدرك أولا حسن الشيء أو قبحه على أنه أمر واقعي ـ كسائر المدركات الواقعية ـ ثم يدعو لفعل الحسن وترك القبيح.

والداعوية المذكورة وإن كانت نحوا من الحكم ، إلا أنه لا يعتمد على قوة وسلطان ، ليكون أمرا ونهيا ، إذ لا قوة للعقل ولا حول ، بل محض إرشاد ونصح ، مبتن على نحو من التشجيع والتأنيب نابع من صوت الوجدان والضمير الذي أودعه تعالى في الإنسان واحتج به عليه. وإليه يرجع حكم العقلاء باستحقاق المدح والذم ، وأهلية الثواب أو العقاب. والحكمان المذكوران مختلفان سنخا ، ومترتبان في أنفسهما ترتب الحكم على الموضوع. ونظير ذلك إدراك اللذات في الأشياء ، ثم دعوة النفس لتحصيلها ، وغير ذلك من الداعويات المختلفة. ولا يهم مع ذلك تحقيق أن الحاكم هو العقل النظري أو العملي ، إذ هو أشبه بالاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

لكن يظهر من بعض المعاصرين رحمه‌الله إنكار الأمر الأول ، وأن الحسن والقبح متمحضان في الثاني ، حيث ذكر أنه لا واقع لهما إلا إدراك العقلاء وتطابقهم على أن الشيء ينبغي أن يفعل أو يترك ، وأن ذلك من التأديبيات الصلاحية الداخلة في القضايا المشهورة التي لا واقع لها وراء تطابق العقلاء.

قال : «فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أن فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم. ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة ، وأنها ليست من قسم الضروريات ـ ما قاله الشيخ الرئيس في منطق

٣٨٧

الإشارات : ومنها الآراء المسماة بالمحمودة ، وربما خصصناها باسم الشهرة ، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة. وهي آراء لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسّه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسّه. مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي».

وهو كما ترى! لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الأفعال ليس اعتباطا ، بل لإدراكهم أمرا فيها يقتضي فعلها أو تركها ، تكون الداعوية العقلية إليه متفرعة عليه تفرع الحكم على الموضوع. وذلك الأمر هو الحسن والقبح ، وهو متقدم رتبة على إدراكهم له ، فضلا عن داعويتهم على مقتضاه. ولذا يصح أن يقال : ينبغي الصدق ولا ينبغي الكذب ، لأن الصدق حسن والكذب قبيح.

وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه آنفا من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن والقبح لا يخرج الحسن عن حسنه والقبيح عن قبحه ، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية لو لم يكونا أهم من المزاحم. أما لو تم ما ذكره من أن الحسن والقبح عبارة عن نفس حكم العقلاء المذكور وحكمهم باستحقاق المدح والذم لزم تأثير المزاحم فيهما ورفعه لهما ، بل يخرج عن كونه مزاحما ، ويكون من قيود الموضوع.

وأما الاستشهاد بقول العلمين المذكورين فلا مصحح له إلا الشهرة. على أنه قد يكون مرادهما أن الشهرة هي العمدة في إثبات الحسن والقبح واستيضاحهما ، لا في ثبوتهما ، فلا ينافي ما ذكرنا ، كما قد يناسبه أن المحقق الطوسي ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة يجوز ارتكاب أقل القبيحين لظهوره في المفروغية عن ثبوت قبح الأضعف مع المزاحمة ، وإن لم يستتبع الداعوية العقلية لتركه.

٣٨٨

المبحث الثاني

في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

لعل المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ، ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الأمور شرعا بدليل العقل ، لابتناء الاستدلال به على إدراك قبحها ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.

وقد استدل عليها بجملة من الوجوه ، تعرض لجملة منها في الفصول وأطال الكلام فيها.

ولعل أمتنها ما جعله ثالث الوجوه ، وإليه يرجع ما اعتمده بعض المعاصرين رحمه‌الله قال : «فإن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ... فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم ، لأنه منهم ، بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء لا بد أن يحكم بما يحكمون. ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع. وهذا خلاف الفرض».

ومقتضاه كون الملازمة في المقام من صغريات ملازمة الجزء للكل ، نظير ملازمة قول الإمام عليه‌السلام للإجماع المصطلح بين الأصحاب.

لكنه يشكل بأن محل الكلام ليس هو إدراك الشارع كسائر العقلاء حسن الشيء أو قبحه والدعوة لفعل الأول وترك الثاني ، واستحقاق المدح والذم بموافقتها ومخالفتها ، فإن ذلك لا يصحح نسبة الحكم إليه ، بنحو تكون موافقته طاعة له مستتبعة لاستحقاق ثوابه ، ومخالفته معصية له

٣٨٩

مستتبعة لاستحقاق عقابه.

وأما ما ذكره بعض المعاصرين رحمه‌الله من أن المراد باستحقاق المدح والذم المفروض في حكم العقل بالتحسين والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب ، والمكافأة بالشر الشامل للعقاب. فيشكل بأن العقلاء يشاركون الشارع الأقدس في التحسين والتقبيح العقليين ، مع عدم استحقاق الموافق له والمخالف الثواب عليهم والعقاب منهم. بل لا بد في استحقاقهما على الشخص من نسبة الحكم له بما هو مولى ، بأن يأمر وينهى كذلك ، ليصدق الطاعة له بموافقته والمعصية له بمخالفته ، المستتبعتين لاستحقاق الثواب عليه والعقاب منه إذا كان أهلا للطاعة ، ولا يكفي فيه إدراكه الحسن والقبح بما هو عاقل ، بل ولا أمره ونهيه كذلك ، وإنما يكونان إرشاديين فقط ، لا يستتبعان طاعة ولا معصية ، ولا ثوابا ولا عقابا.

ولذا لو أمر ونهى على خلاف مقتضى ما يدركه من التحسين والتقبيح العقليين ، كان المعيار في صدق الطاعة والمعصية له واستحقاق الثواب والعقاب منه ـ بنظره ومعاييره ـ على أمره ونهيه ، لا على ما يدركه من التحسين والتقبيح.

فلا بد في المقام من إثبات ملازمة الحكم الشرعي بالمعنى المذكور للحكم العقلي زائدا على إدراك الشارع له بما هو عاقل من العقلاء. ولم يتضح لنا عاجلا ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه المذكورة في الفصول.

والتحقيق : أن لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل يبتني على وجوب اللطف منه تعالى عقلا بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعا.

وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في الجري على مقتضى حكم العقل ..

أولا : لقصور العقل عن الإحاطة بكثير من الصغريات لكبريات التحسين

٣٩٠

والتقبيح العقليين ، للجهل بموارد المصالح والمفاسد ، وبخصوصيات المزاحمات لها.

وثانيا : لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في الجري على مقتضى حكم العقل ، لمزاحمتها بالدواعي الأخرى في أكثر الناس.

ومن هنا يجب على الشارع الأقدس حفظ مقتضى حكم العقل بجعل الحكم المولوي من قبله على طبقه ، لتتأكد الداعوية العقلية بالداعوية الشرعية ، حيث يتسنى بجعله للحكم المولوي الجري على مقتضى الحكم العقلي لأجله تعالى والعمل لحسابه ، لكونه المنعم المالك الكامل القادر ، إما لأنه اللازم الشكر لإنعامه ، أو الذي هو أهل لأن يعبد بالطاعة بمالكيته وكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بمثله ، أو لأنه المحبوب لإنعامه وكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي العاطفي ، أو لأنه المرجوّ المرهوب لمالكيته وقدرته ، المستلزمين لرجاء الثواب والرهبة من العقاب بسبب استحقاقهما منه ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر ، الذي هو أقوى الدواعي عند عامة الناس.

ولا يخفى أن وجوب اللطف المذكور عليه تعالى حكم آخر للعقل متفرع على حكمه بحسن الحسن وقبح القبيح ، تفصيلا مع العلم بخصوصياتهما ، وإجمالا مع الجهل بها. نظير وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعا ، المتفرع على ثبوت المعروف والمنكر تشريعا. وهو مختص بحق الشارع الأقدس ، لاختصاص القدرة على مقتضاه به ، بسبب علمه المطلق التام بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد مزاحماتها ، وقدرته على حفظها بالدواعي المذكورة آنفا بسبب التشريع ، لواجديته لجهاتها ، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم وجه ، ولا يشاركه في ذلك غيره سبحانه وتعالى جل شأنه وعزّ اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه.

٣٩١

هذا ، ولكن وجوب اللطف المذكور عليه تعالى بحفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع ـ لو تم ـ لا بد فيه من أمرين :

أحدهما : عدم المزاحم للمقتضيات المذكورة بما يمنع فعلية تأثيرها في الداعوية العقلية.

ثانيهما : عدم المانع من التشريع على طبقها ، وإن كانت فعلية التأثير في الداعوية العقلية ، حيث قد يكون في جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية ، بحيث يتعين جعل الحكم منه على نحو آخر ، نظير رفع القلم عن الطفل المميز ، فإن الداعي العقلي في حقه وإن كان فعليا ـ فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلا ـ إلا أن الشارع الأقدس حيث أدرك المفسدة في إلزامه بمقتضاه شرعا رفع القلم عنه من قبله ولم يلزمه بالجري على مقتضاه.

ولعل منه كثيرا من موارد الحكم بالاستحباب أو الكراهة ، بأن يكون عدم الإلزام لمصلحة في الترخيص أو لمفسدة في نفس الإلزام ، لا لمزاحمة جهة الحسن أو القبح في الفعل بما ينافيها عملا ، كما هو ظاهر ما تضمن الترخيص للامتنان والتيسير ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة» (١).

وأما ما تضمن اهتمام الشريعة بالفضائل ومحاسن الأخلاق ، كالنبوي المشهور : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (٢). فهو محمول على كون الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولي فيه ، في مقابل الشرائع الباطلة ، المهملة لذلك ، أو المبتنية على انتهاك الحرمات وترويج الرذائل ، فلا ينافي

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٣ من أبواب السواك حديث : ٤.

(٢) بحار الأنوار : ج : ٧٠ ص : ٣٧٢.

٣٩٢

ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع والوقوف عندها.

ومن هنا يمتنع البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بنحو ينتقل من الثاني للأول ، لعدم إحاطة العقل بكثير من موانع التشريع غير المانعة من الداعوية العقلية ، كما لا يحيط أيضا بكثير من المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية المانعة من فعلية الداعوية.

والداعوية مع الجهل بوجود المزاحم وإن كانت فعلية ، لعدم التعويل على احتمال المزاحم في الخروج عن المقتضي للداعوية ، إلا أن احتمال اطلاع الشارع على المزاحم يمنع من العلم بجعله الحكم على طبق المقتضي العقلي المعلوم.

هذا وقد تكرر في كلامهم أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح وللداعوية العقلية ، ولا يمكن مزاحمتها بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها ، وأنه لا بد من حكم الشارع على طبق الداعوية العقلية فيها ، كعنوان العدل والإحسان والظلم والعدوان.

وذلك وإن كان مسلما في الجملة ، إلا أنه لا ينفع في المقام ، لأن تشخيص مصاديق العناوين المذكورة تابع للتشريع ، لما هو المعلوم من أن العدل ـ الذي هو محل الكلام ـ هو وضع الشيء في موضعه ، والإحسان هو فعل ما هو حسن ، وأن الظلم والعدوان هو هضم حق الغير والتجاوز عليه. ولا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة ثبوتا التشخيص العرفي لأفرادها ، بل ليس موضوعها الحقيقي إلا الفرد الواقعي المتحصل بتشخيص الشارع الأقدس.

ولذا لا يكون قتل المؤمن بالكافر عدلا ، ولا إعانة المرتد إحسانا ، ولا ذبح الحيوان أو قتل الحربي أو أكل المارة من ثمر الشجر في طريقهم المملوك

٣٩٣

للغير ظلما ولا عدوانا .. إلى غير ذلك.

وبعد فرض أخذ التشخيص من الشارع يكون الحكم الشرعي معلوما في رتبة سابقة على إحراز الحسن أو القبح عقلا ، فلا ينفع العلم بالحسن أو القبح في الاستنباط.

بل مرجع ذلك إلى ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع الأقدس هو المالك المطلق والمنعم المفضل الذي يجب عقلا متابعته والجري على مقتضى حكمه ، وإن لزم كون حكمه أيضا على طبق الميزان العقلي الذي يحيط به أكمل إحاطة ، لأن كماله يمنع من خروجه عن ذلك.

ومن جميع ما سبق يتضح أن المستلزم للحكم الشرعي ليس هو حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه ـ كما هو المدعى ـ بل حكم العقل بحسن الحكم نفسه ، إما لحسن متعلقه أو قبحه من دون مزاحم ولا مانع من جعل الحكم ، أو لمصلحة في نفس الحكم من دون نظر للمتعلق كمصلحة الامتنان والتيسير أو الامتحان أو التأديب والعقاب. كما لا يبعد ذلك في تكليف ابراهيم عليه‌السلام بذبح ابنه ، وفي تحريم بعض الأمور على اليهود ، كما قد يظهر من قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(١) ، وغيره. ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم الشرعي ، لعدم إحاطة العقل بنفسه بالملزوم بجميع خصوصياته ، ليتسنى تشخيص موارده.

نعم ، قد يدرك العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف ، وأنه ظلم ينزه عنه تعالى ، كالتكليف واقعا بما لا يطاق ، وظاهرا مع الجهل المطلق ـ حتى

__________________

(١) سورة الأنعام الآية : ١٤٦.

٣٩٤

بوجوب الاحتياط ـ لا عن تقصير ، الذي هو مرجع البراءة العقلية. وذلك ينفع في معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعي ومعرفة الوظيفة الظاهرية العملية.

إلا أن ذلك غير مهم فيما نحن فيه ، للتسالم على عدم التكليف بما لا يطاق ، بنحو لا يهتم بإثباته من طريق الملازمة ، ولعدم نهوض البراءة العقلية ببيان الحكم الواقعي ، لتكون من الأدلة التي هي مورد البحث ، وإنما هي أصل عملي عقلي يبحث عنه في محل آخر. إلا أن يراد من الأدلة ما يعم دليل الوظيفة الظاهرية العملية. ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.

بقي شيء

وهو أن صاحب الفصول وإن نفى الملازمة الواقعية بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، إلا أنه ذهب إلى الملازمة بينهما ظاهرا ، بمعنى أن مقتضى الأصل مطابقة حكم الشارع لحكم العقل ما لم يثبت خلافه من الشارع الأقدس. واستدل على ذلك بوجهين :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١) ، وقوله سبحانه : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(٢) ، وقوله عزّ اسمه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ ...)(٣) ، ونحو ذلك.

لكن الاستدلال بها حيث لا يرجع لحكم العقل ، بل لظهور الأدلة النقلية ، التي تكون نتيجتها أحكاما فرعية لا مسألة أصولية ، فهو خارج عن محل الكلام. كما لا يسعنا إطالة الكلام في مفادها. ولا سيما مع عدم اختصاص الأدلة

__________________

(١) سورة النحل الآية : ٩٠.

(٢) سورة الأعراف الآية : ١٥٧.

(٣) سورة الأعراف الآية : ٣٣.

٣٩٥

المناسبة بالآيات المذكورة ، واستقصاء الكلام في جميعها وفي مقتضى الجمع بينها في أنفسها وبينها وبين غيرها يحتاج لجهد كثير ووقت طويل ، فالأولى إيكاله إلى مورد الحاجة إليه من الفقه ، وبحثه بالمقدار الذي يقتضيه المورد.

الثاني : أن العقل بعد أن يدرك مقتضي الحكم لا يعتد باحتمال المانع. لكنه يبتني على قاعدة المقتضي التي لم تثبت كلية ، ولم يتضح الاعتماد عليها في خصوص المورد ، وإنما ثبت في بعض الموارد لخصوصيتها.

ولا مجال لقياس المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن وقبح القبيح ، حيث لا يعتد به العقل في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن والقبح المعلومين ، فلا ينبغي الكذب بمجرد احتمال ترتب مصلحة مهمة عليه ، ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.

للفرق بإحراز موضوع الداعوية بالإضافة للحكم العقلي ، وليس الشك إلا في المزاحم ، أما بالإضافة للحكم الشرعي فلا يحرز موضوع الداعوية ، الذي هو عبارة عن موضوع الحكم ، لأن موضوعه لا يتم بمجرد تمامية مقتضي حكم العقل ، بل لا بد معه من عدم المزاحم للمقتضي المذكور ، وعدم المانع من تشريع الحكم من قبل الشارع على طبقه. فهو نظير الفرق بين إحراز موضوع التكليف الشرعي مع الشك في المزاحم له ، وإحراز مقتضي ملاكه مع احتمال المانع ، الملازم لعدم إحراز موضوعه ، حيث يعتد بالاحتمال الثاني دون الأول. ومن هنا لا مجال للبناء على ما ذكره قدس‌سره.

٣٩٦

الفصل الثاني

في الإجزاء

وقع الكلام بينهم ـ في الجملة ـ في أن الإتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الأمر ويدعو إليه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟. وهو إنما يكون بعد الفراغ عن تحديد المأمور به ، وأنه المرة أو التكرار أو الأعم منهما على ما تقدم في مباحث الأوامر والنواهي. والبحث في هذه المسألة على بعض وجوهها عقلي ، وعلى بعضها الآخر يبتني على مقتضى الظهور أو الأصل ، على ما يتضح إن شاء الله تعالى ، وبلحاظ الأول حررناها في مباحث الملازمات العقلية.

هذا ، وقد وقع الكلام منهم في تحديد الإجزاء الذي هو محل الكلام ، وأنه عبارة عن إسقاط الأمر ، المستلزم لعدم الإعادة ، أو إسقاط القضاء. والظاهر ـ كما ذكره في التقريرات في الجملة ـ عدم خروج الإجزاء عن معناه اللغوي والعرفي وهو الكفاية ، وحيث كانت أمرا إضافيا يختلف باختلاف ما يكفي الشيء عنه أو فيه ، فالإجزاء يختلف باختلاف الأمر المهم الذي يراد البحث عنه ، وهو الامتثال أو سقوط القضاء.

ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب ، قد يكون منشؤه اختلاف الأمر الذي هو موضوع كلامهم ، حيث يراد منه .. تارة : الواقعي الأولي ، وأخرى : الواقعي الاضطراري ، وثالثة : الظاهري.

ولا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله تعالى بالجميع.

٣٩٧

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الأمر بالنحو الذي يدعو إليه تقتضي الإجزاء ، بمعنى امتثاله وسقوط داعويته عقلا ، وذلك عبارة أخرى عن عدم لزوم الإعادة ، فضلا عن القضاء ، الذي هو عبارة عن تدارك فوت المأمور به في الوقت بالإتيان به خارج الوقت محافظة على أصل الواجب دون خصوصية الوقت. من دون فرق في ذلك بين القول بأن القضاء بالأمر الأول والقول بأنه بأمر جديد ، إذ لا بد فيه ـ على كلا القولين ـ من الفوت ، ولا فوت في محل الكلام. ومنه يظهر أن التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامح ، إذ السقوط فرع المقتضى للثبوت.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه ، وإن حكي عن بعض العامة الخلاف فيه. قال في الفصول : «ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الأمر يستلزم الإجزاء. وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار فيما نقل عنه : لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب. ويلزم القضاء مع ذلك ...». وهو من الشذوذ ومخالفة الضرورة بمكان الظاهر.

نعم يمكن وجوب الإتيان بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه من دون أن يكون إعادة أو قضاء ، بل على أن يكون مأمورا به بأمر آخر من دون أن يكون قضاء للأمر الأول. وهو خارج عن محل الكلام.

هذا ، وقد ذكر غير واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر. وذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن ذلك ممكن ثبوتا ومحتاج للدليل إثباتا. وجعل منه ما ورد في إعادة الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة جماعة. وخصه المحقق الخراساني قدس‌سره بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، وإن كان يفي به بعد ذلك لو اكتفي به. قال : «كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق واطلع عليه العبد

٣٩٨

وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا. ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ـ كما كان له قبل إتيانه الأول ـ بدلا عنه ... ويؤيد ذلك ، بل يدل عليه ، ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة ، وأن الله يختار أحبهما إليه».

وكأن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من إمكان عدم مطابقة المأمور به للغرض ، وحيث سبق منا امتناعه مع علم المولى بما يطابق الغرض ، تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيدا لبا بما يترتب عليه الغرض ، ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الفعل ، بل يكون مراعى بترتبه عليه ، فتبديله بفرد آخر قبل ذلك لا يكون من تبديل الامتثال ، بل من العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره ، نظير العدول قبل الفعل. وهذا هو الوجه فيما ذكره من أن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، وإلا ففرض تحقق الامتثال بالفرد الأول لا يناسب عدم سقوط الأمر.

وأما مسألة إعادة الصلاة جماعة ـ التي تضمنتها جملة من النصوص (١) ـ فهي لا تبتني على تبديل الامتثال ، إذ لا إشكال في تحقق الامتثال بالصلاة الأولى وسقوط الأمر ، ومعه لا موضوع لامتثال آخر ، بل على مشروعية الإعادة واستحبابها بملاك زائد على ملاك أمر الفريضة الممتثل ، إما أن يقتضي استحباب الإعادة زائدا على أصل الماهية ـ كما يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلاة أخرى (٢) ، وقد يستفاد من غيره (٣) ـ أو يبتني على استحباب اختيار الفرد الأفضل ، كالصلاة جماعة أو نحوها. غاية الأمر أن ظاهر دليل تشريع الفرد

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٥ باب : ٦ ، ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

(٣) راجع الوسائل ج : ٥ باب : ٦ من أبواب صلاة الجماعة.

٣٩٩

الأفضل بدوا اختصاص موضوعه بامتثال أمر الماهية ، فلا موضوع له بعده ، إلا أن هذه الأدلة دلت على إمكان استيفائه بعده بالإتيان بالفرد الأفضل ، فيترتب ثوابه كما يترتب لو كان الامتثال به ابتداء. كما هو ظاهر ما تضمن : أن الله يختار أحبهما إليه (١) ونحوه. بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل وإن كان الامتثال بغيرها.

نعم في صحيحي هشام بن سالم وحفص بن البختري : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة» (٢) ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره ، لسقوط الفرض بالصلاة الأولى ، تعين حمله على أن المأتي به من سنخ الفريضة ماهية ، وإن لم تكن فريضة بالفعل ، وأنها تحسب في مقام الجزاء والثواب كما لو امتثل الفرض بها.

هذا ، ولا يخفى أن ما ذكرناه من أن موافقة الأمر تستلزم امتثاله وعدم مشروعية الإعادة والقضاء كما يجري في الأمر الواقعي الأولي يجري في الأمر الاضطراري الثانوي ، وفي الأمر الظاهري ، فموافقتهما تمنع من التعبد بهما ثانيا بالإعادة أو القضاء.

وإنما وقع الكلام بينهم في أمرين :

أولهما : إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري ، بمعنى أنه لا تجب مع موافقة الأمر الاضطراري الإعادة أو القضاء بالإتيان بالمأمور به الاختياري بعد ارتفاع العذر.

ثانيهما : إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، بمعنى : أنه لا تجب مع موافقة الأمر الظاهري الإعادة أو القضاء بالإتيان بالمأمور به الواقعي لو انكشف مخالفة المأتي به له.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ١ ، ١١.

٤٠٠