الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

وقد استدل عليه المحقق الخراساني قدس‌سره بأن المخصص إذا كان لفظيا فالمولى قد ألقى حجتين يجب اتباعهما ، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما تقديم الخاص وحمل العام على ما عدا مورده ، لزم التوقف في مورد الشك ، لعدم إحراز دخوله في المراد من العام. أما إذا كان لبيّا فالملقى من المولى ليس إلا العام الظاهر في إرادة العموم بتمامه ، فيلزم اتباعه إلا فيما يعلم بعدم إرادته منه ، لأن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ، واليقين بعدم إرادة الخاص إنما يكون حجة فيما يعلم بانطباقه عليه.

ويشكل بأن ذلك ليس فارقا بعد مشاركة المخصص اللبّي للفظي في صحة احتجاج المولى به وفي الكشف عن مراده من العام وعن قصور موضوع حكمه عن أفراد الخاص الواقعية الذي هو المنشأ لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية كما ذكره هو قدس‌سره وسبق منا.

كما أن ما ذكره في المخصص اللبّي من أن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه لا ينفع بعد ذلك ، وإلا فهو يجري في المخصص اللفظي أيضا.

وكذا ما ذكره من أن اليقين بعدم إرادة الخاص إنما يكون حجة فيما يعلم بانطباقه عليه وخروجه عن العام ، جار في اللفظي أيضا. لكنه إنما يقتضي عدم ترتب الحكم الخاص في مورد الشك ، لا ترتب حكم العام ، بعد أن كان مقتضى الجمع بينهما قصور العام عن أفراد عنوان الخاص الواقعية ، وأن تمام موضوعه ليس هو عنوان العام ، بل المتحصل من مجموع الدليلين ، وهو المقيد بغير مورد الخاص ، والمفروض عدم إحرازه في مورد الشك.

نعم لو لم يكن الدليل اللبّي عنوانيا ، أو كان عنوانيا مرددا بين الأقل والأكثر ، تعين الاقتصار على المتيقن منه ، ولزم إحراز خروج الفرد عن ذلك المتيقن ، مع الرجوع في الزائد لعموم العام ، للشك في زيادة التخصيص ، وخرج عن محل الكلام.

٣٦١

ومثله ما عن التقريرات من أن إلقاء المولى للخاص اللفظي كاشف عن أنه أحال معرفة أفراده وتمييزها عن بقية أفراد العام على المخاطب ، فلا يكون دخول المشكوك في الباقي تحت العام بأولى من دخوله في الخاص الخارج عنه. وأما إذا كان الخاص لبّيا فالمتكلم لم يلق لبيان حكمه إلا حجة واحدة ، وهي العام ، وظاهره أنه بصدد بيان مصاديق حكمه بنفس عنوان العام ، وأنه كلما يصدق عليه فهو محكوم بحكمه ، وأنه ليس في أفراده عنوان مناف لحكمه ، فيكون حجة في كل ما لم يعلم بخروجه من الأفراد.

لاندفاعه بأن الخاص اللبّي لما كان ـ كاللفظي ـ منافيا للعام وكاشفا ـ بعد فرض التخصيص ـ عن عدم وفاء عنوان العام ببيان مصاديق حكمه ، بل ليس موضوع الحكم إلا المتحصل من مجموع الدليلين ، فلا مجال للتمسك معه بالعام إلا مع إحراز الموضوع المذكور بأن يحرز أن الفرد خارج عن الخاص.

وأما دعوى دلالة العام على أنه ليس في أفراده مناف لحكمه. فهي إن رجعت إلى دعوى دلالته على عدم منافاة العناوين الموجودة في أفراده ـ الفعلية في القضايا الخارجية والأعم منها ومن المتوقعة في القضايا الحقيقية ـ لحكمه ، فهي عبارة أخرى عن دلالته على كون عنوانه تمام الموضوع ، والمفروض منافاة الخاص اللفظي واللبّي معا له في ذلك ، ولزوم الخروج عن عمومه بهما ، والبناء على منافاة عنوان الخاص للحكم.

وإن رجعت إلى دعوى دلالته على عدم وجود ما ثبت كونه منافيا للحكم في الأفراد ، وتحقق تمام ما يعتبر فيه ـ غير عنوان العام ـ فيها ، فقد سبق في التفصيل الأول أن العام كثيرا ما لا يدل على ذلك ، وإذا دل على ذلك في مورد فما دل على اعتبار ذلك الشيء في الحكم ـ لبيا كان أو لفظيا ـ لا ينافي العام حينئذ ، ليجمع بينهما بالتخصيص ، بل يكون العام واردا عليه ، ويتعين العمل عليه في تمام أفراده إلا ما ثبت فقده لذلك الشيء فيكون العام مخصصا بالإضافة

٣٦٢

إليه بخصوصيته ، لا بالعنوان المستفاد من اعتبار ذلك الشيء في الحكم ، ويكون الشك في حال الفرد من الحيثية المذكورة شكا في التخصيص ، الذي يكون المرجع فيه عموم العام ، لا في مصداق الخاص الذي هو محل الكلام.

وكأنه إلى ذلك نظر المحقق الخراساني قدس‌سره في ذيل كلامه ، حيث قال : «بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه عن حكمه ، فيقال في مثل : لعن الله بني أمية قاطبة ، إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه ، لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج أنه ليس مؤمن». ويظهر حاله مما ذكرنا.

على أن الدليل على ما يعتبر في الحكم وما ينافيه في المثال الذي ذكره ليس لبّيا فقط ، بل لفظيا أيضا ، لوضوح أن عدم جواز لعن المؤمن يستفاد بالمطابقة والالتزام مما دل على حرمة لعن غير المستحق (١) ، وسب المؤمن (٢) ، وتعييره وتأنيبه (٣) ، وإيذائه (٤) ، وإهانته (٥) ، وإذلاله واحتقاره (٦) ، والطعن عليه (٧) ، وغير ذلك مما يتضمن حرمته وحرمة عرضه.

بل لو لا ما ذكرنا لم يتجه التمسك بعموم اللعن حتى لو كان دليل حرمة لعن المؤمن لبّيا وتم التفصيل المذكور ، لاختصاص ذلك باللبّي المحتاج إلى نحو من الفحص ، بحيث لا يكون من الوضوح بحدّ يكون من القرائن المتصلة التي تحتف بالعام وتمنع من انعقاد ظهور الكلام في العموم ، لما أشرنا إليه في

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٦٠ من أبواب أحكام العشرة.

(٢) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة.

(٣) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٥١ من أبواب أحكام العشرة.

(٤) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٤٥ من أبواب أحكام العشرة.

(٥) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٤٦ من أبواب أحكام العشرة.

(٦) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٤٧ من أبواب أحكام العشرة.

(٧) راجع الوسائل ج : ٨ باب : ١٥٩ من أبواب أحكام العشرة.

٣٦٣

أول الفصل واعترف به هو قدس‌سره من سريان إجمال الخاص المتصل للعام بنفسه. ومن الظاهر أن حرمة لعن المؤمن من الوضوح في ارتكازيات المتشرعة بحيث تكون من القسم الثاني.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأمر الأول : لا يخفى أن التخصيص متصلا كان أم منفصلا تارة :

يتضمن تحديد موضوع حكم العام بحدود مفهومية زائدة على عنوان العام ، فالمتصل كالتخصيص بالوصف في مثل قولنا : أكرم العالم العادل ، والمنفصل كتخصيص عموم إكرام العلماء بمثل : إنما يكرم العالم العادل ، أو غير الفاسق.

وأخرى : لا يتضمن ذلك ، بل مجرد إثبات نقيض حكم العام أو ضده لبعض العناوين أو الأفراد وإخراجه عن عموم حكمه ، فالمتصل كالتخصيص بالاستثناء ونحوه مما لا يتضمن تحديد الباقي تحت عموم العام ، بل تحديد الخارج عنه لا غير ، والمنفصل كتخصيص عموم إكرام العلماء بمثل : لا تكرم النحويين ، أو لا تكرم زيدا.

ومن الظاهر أن القسم الأول يوجب تعنون موضوع حكم العام بالعنوان الخاص زائدا على عنوان العام ، بحيث يصير موضوعه مركبا من العنوانين. ويترتب على ذلك أنه يكفي في ترتب حكم العام في الفرد المشكوك حاله إحراز العنوانين فيه ولو بالأصل.

وأما القسم الثاني فالمحتمل فيه بدوا وجوه :

الأول : أنه يوجب تعنون موضوع حكم العام بعنوان وجودي مضاد لعنوان الخاص.

الثاني : أنه يوجب تعنونه بكل عنوان مناف له.

الثالث : أنه يوجب تعنونه بعنوان مناقض له.

٣٦٤

الرابع : أنه لا يقتضي تعنونه بعنوان آخر غير عنوان العام ، بل لا يقتضي إلا خروج مورده عن العام.

ولا ينبغي التأمل في ضعف الأول ، لمخالفته للمرتكزات في فهم الأدلة ، ولا سيما وأن العناوين المضادة للخاص قد تتعدد مع تلازمها ، والترجيح بينها في الموضوعية بلا مرجح ، والجمع بينها خال عن الفائدة ، فيمتنع للزوم اللغوية. ومنه يظهر ضعف الثاني وإن كان هو الظاهر من المحقق الخراساني قدس‌سره. ومن ثم لا مجال للاكتفاء في جريان حكم العام في المشكوك بإحراز العنوان المضاد واحدا كان أو أكثر.

وأما الثالث فقد استدل عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بأنه حيث يمتنع الإهمال في موضوع الحكم فموضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص إن كان ملحوظا بشرط شيء أو لا بشرط لزم التهافت أو التناقض بين حكمي العام والخاص ، فتعين لحاظه بشرط لا ، وهو المدعى ، لرجوعه إلى تقييد موضوعه بعدم عنوان الخاص.

وفيه : أن لحاظ موضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص لا بشرط إنما يستلزم التهافت والتناقض مع حكم الخاص إذا رجع إلى عموم موضوع حكم العام لمورد الخاص ، بأن يكون عنوان العام تمام موضوع الحكم ، وهو خلاف الفرض ، للمفروغية عن أن التخصيص يستلزم قصور موضوع حكم العام عن مورد الخاص ، المستلزم لعدم كون عنوانه تمام الموضوع ، إلا أن ذلك كما يكون لأخذ عدم عنوان الخاص متمما لموضوعه ، يمكن أن يكون لأخذ عنوان آخر أو عناوين أخر فيه ملازمة لقصوره عن مورد الخاص ، وحيث لا نظر في دليل الخاص لحكم العام ، ولا لتحديد موضوعه ، بل لمجرد ثبوت حكمه ـ المناقض لحكم العام أو المضاد له في مورده ـ فلا مجال لاستفادة تعنون موضوع العام بنقيض عنوان الخاص من دليله ، الذي ذكره قدس‌سره.

٣٦٥

فإن كان ما ذكرنا هو المراد من الوجه الرابع فهو المتعين. وإن كان المراد به عدم أخذ شيء في موضوع حكم العام زائدا على عنوانه أصلا ، أشكل بمنافاة ذلك لقصوره عن مورد الخاص ، لاستحالة انفكاك الحكم عن موضوعه.

نعم يتجه الوجه الثالث فيما إذا أحرز عموم مقتضي حكم العام لمورد الخاص ، وكان عنوان الخاص من سنخ العنوان الثانوي المانع من تأثير مقتضي الحكم الأولي ، كالحرج والضرر ، حيث يتعين حينئذ كون عدم عنوان الخاص مأخوذا في موضوع حكم العام ومتمما له ، كما يكون عدم المانع متمما للعلة في التكوينيات. أما في غير ذلك من موارد التخصيص فلا مجال لذلك ، ويتعين ما سبق.

هذا ، ولا ينبغي التأمل في أنه على الوجه الثالث يكفي في التعبد بحكم العام في الفرد المشكوك إحراز عدم عنوان الخاص فيه. وأما على الوجه الرابع ـ الذي قد يرجع إلى ما ذكرنا ـ فقد صرح بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدس‌سره ـ بعد اختيارهما له ـ بعدم جدوى الأصل الموضوعي وجوديا كان أو عدميا في ذلك ، وأن الأصل العدمي وإن كان ينفع في نفي حكم الخاص ، إلا أنه لا يقتضي اثبات حكم العام. وكأنه لأن العدم المذكور بعد أن لم يحرز أخذه في موضوع حكم العام فترتب التعبد بالحكم المذكور على الأصل المحرز له يبتني على الأصل المثبت.

لكن يصعب البناء على ذلك بالنظر للمرتكزات الاستدلالية ، بل لا يظن منهما ولا من غيرهما العمل على ذلك في الفقه. بل قد جرى سيدنا الأعظم قدس‌سره في مستمسكه في جملة من الفروع على التعبد بحكم العام بالأصل العدمي المذكور. وإن كان قد يظهر من بعض كلماته عدوله عن مبناه المتقدم والتزامه بالوجه الثالث.

٣٦٦

وكيف كان فالظاهر نهوض الأصل العدمي المذكور بالتعبد بحكم العام حتى على الوجه الرابع ، لأن التخصيص وإن لم يقتض تعنون موضوع حكم العام بعنوان عدم الخاص حينئذ ، إلا أنه يقتضي تحديده بما يطابقه ، لما سبق من أنه يكشف عن عدم كون عنوان العام تمام الموضوع لحكمه ، بل هو مقيد بخصوصية ما ، وهذه الخصوصية وإن لم تحدد من قبل الشارع الأقدس مفهوما بعنوان يكون سورا للموضوع ، إلا أنها قد حددت من قبله مصداقا ببيان عدم خروج غير موارد عنوان الخاص عنه ، فمع إحراز أن الفرد من القسم الباقي دون الخارج بالتخصيص يحرز واجديته للحدّ المأخوذ من الشارع لموضوع الحكم ، وذلك كاف في الخروج عن الأصل المثبت ، لأن المعيار فيه ليس على خصوص موضوع الحكم الدخيل فيه بمفهومه ، بل على إحراز مورد الحكم تبعا للحدّ المستفاد من الشارع الأقدس الإناطة به في مقام العمل. وهو حاصل في المقام.

وأما عدم الاكتفاء بإحراز العنوان الانتزاعي المذكور في كلام الشارع الأقدس فليس هو لعدم دخل العنوان المذكور في الحكم بمفهومه ، بل لسوقه في كلام الشارع لمحض الحكاية عما هو الحدّ للحكم من دون أن يراد تحديد الحكم وبيان موارده به ، فهو نظير الكنايات التي يراد بها الحكاية عما يباين مفاهيمها. فلا يقاس بما نحن فيه.

الأمر الثاني : لا إشكال في جواز التمسك بالعام لإثبات حكمه بعد إحراز موضوعه ، وإنما الإشكال في جواز التمسك به لإثبات حال الموضوع بعد إحراز الحكم. وقد ذكر في التقريرات لذلك موردين :

الأول : ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد معين ، وشك في كون خروجه عنه تخصيصا مع واجديته لعنوانه أو تخصصا لعدم واجديته لعنوانه ، كعموم وجوب إكرام العلماء مع العلم بعدم وجوب إكرام زيد

٣٦٧

المحتمل كونه عالما.

الثاني : ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد مردد بين ما هو من أفراد العام ، فيخرج تخصيصا ، وما ليس من أفراده ، فيقصر عنه تخصصا ، كعموم وجوب إكرام العلماء مع العلم بعدم وجوب إكرام زيد المشترك بين شخصين عالم وغيره.

وقد صرح في التقريرات بحجية العام فيهما ، فيبنى في الأول على أن زيدا ليس بعالم ، وفي الثاني على أن المراد به غير العالم.

لكن لا ينبغي التأمل في البناء في الثاني على ثبوت حكم العام في الفرد الواجد لعنوانه من طرفي الترديد ، لإحراز عنوان العام فيه مع الشك في حكمه ، فيكون العام حجة فيه كسائر موارد الشك في التخصيص ، ولا يبتني على الكلام في هذه المسألة.

وإنما الكلام في نهوض العام بشرح الدليل الدال على عدم ثبوت حكم العام ، وحمله على أن المراد به خصوص الطرف الآخر ، بحيث تترتب جميع لوازم ذلك. وكذا الكلام في البناء في الأول على أن الفرد غير واجد لعنوان العام كما سبق من التقريرات. بل قال : «وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها [بأنها. ظ] لا تنجس المحل ، فإن كان نجسا غير منجس يلزم تخصيص قولنا : كل نجس منجس».

هذا ، ومن الظاهر أنه لا نظر للعموم بطبعه إلى حال الموضوعات ، بل هو متكفل بإثبات الحكم بعد الفراغ عن تحقق الموضوع. وغاية ما يقال في وجه ما في التقريرات : إن ثبوت الحكم لتمام أفراد العام الذي هو مفاد أصالة العموم لما كان ملازما لشرح حال الموضوع لزم البناء عليه ، لأن العام من سنخ الأمارة التي هي حجة في لازم مؤداها ، وليس كالأصل يقصر عن ذلك. فمثلا قضية : كل

٣٦٨

عالم يجب إكرامه ، تستلزم أن كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، لأنه عكس نقيضها ، فيترتب عليه ما تقدم في الموردين.

لكنه يندفع بما ذكره غير واحد من أن الدليل على حجية العموم لما كان هو سيرة أهل اللسان الارتكازية لزم الاقتصار في حجيته على مقتضاها ، والمتيقن منها الرجوع للعام في ثبوت حكمه في فرض تحقق موضوعه ، دون شرح حال الموضوع بالنحو المدعى. وما اشتهر من أن الأمارة حجة في لازم مؤداها ليس على إطلاقه ، على ما ذكرناه عند الكلام في الأصل المثبت من مباحث الاستصحاب. ولذا لا يظن منه قدس‌سره ولا من غيره البناء على نهوض العام برفع إجمال الخاص لو تردد بين الأقل والأكثر ، مع أنه لازم لجريان حكم العام في مورد الشك.

نعم ، إذا كان بيان الحكم المخالف للعام في مورد مسوقا لبيان عدم ثبوت عنوان العام فيه من باب بيان الموضوع بلسان بيان الحكم ، أو مستفادا منه بسبب الملازمة العرفية الذهنية بينها أو بقرائن خاصة ، فلا إشكال في البناء على عدم التخصيص. كما في ما تضمن عدم وجوب غسل ملاقي بعض الأمور ـ كالجاف والمذي ـ أو عدم وجوب الوضوء من بعض الأمور ـ كالقبلة وخروج المذي ـ حيث يستفاد من ذلك عدم تنجس الملاقي وعدم سببية الأمور المذكورة للحدث ، ولا مجال معه لاحتمال التنجس وتحقق الحدث من دون أن يجب التطهير من الخبث أو التطهير من الحدث في الموارد المذكورة تخصيصا لعموم مانعيتهما.

ولعل هذا هو الذي أوهم صحة الاستدلال بأصالة العموم في المقام ، كما نسبه في التقريرات للأصحاب في استدلالاتهم. لكنه ليس لأصالة العموم في الحقيقة ، بل لخصوصية في دليل الحكم المخالف للعام. وأما الاستدلال المتقدم منه على طهارة الغسالة فهو عقيم ، كما نبه له بعضهم.

٣٦٩

الفصل الخامس

في تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

قد وقع الكلام بينهم في أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده هل يمنع من البناء على عموم حكمه ، فيقتصر فيه على خصوص الأفراد المرادة بالضمير ، أو لا بل يبقى العام على عمومه؟

والظاهر التفصيل بين أن يكون اختصاص الضمير ببعض الأفراد مقتضى قرينة متصلة ، وأن يكون مقتضى قرينة منفصلة. فالأول نحو قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١) ، فإن الإيلاء هو الحلف على ترك الوطء ، ومن أجله أمكن عموم حكم الإيلاء لكل زوج حتى من كان زواجه منقطعا ، إلا أن قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) مختص بمن يشرع منه الطلاق ، وهو من كان زواجه دائما.

وفي مثل ذلك يتعين التوقف عن عموم حكم العام ، لأن ذلك من القرائن المحيطة بالكلام التي لو لم توجب ظهوره في الخصوص فلا أقل من أن تمنع انعقاد ظهوره في العموم ، وجميع ما ذكر في كلماتهم في وجه عدم رفع اليد عن العموم ـ لو تم ـ إنما يتوجه مع انعقاد ظهوره في العموم ، وتحقق مقتضى الحجية فيه.

والثاني نحو قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ٢٢٦ ، ٢٢٧.

٣٧٠

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ...)(١) ، فإن ظاهر الصدر عموم العدة المذكورة لجميع المطلقات ، وظاهر الذيل المشتمل على الضمير جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة ، وتخصيصه ببعض الأقسام ـ كالطلاق الأول والثاني دون الثالث ـ إنما استفيد من أدلة أخرى خارجة عن الكلام. وفي هذا القسم حيث ينعقد الظهور في عموم حكم العام السابق على حكم الضمير ، وهو حجة في نفسه ، فلا ملزم برفع اليد عنه بالدليل الخارج المتضمن تخصيص حكم الضمير ، لعدم التلازم بينهما ، بل يتعين العمل على العموم المذكور.

إن قلت : لما كان ظاهر الكلام التطابق بين الضمير ومرجعه ، فبعد قيام الدليل الخارجي على اختصاص حكم الضمير ببعض الأفراد يدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على خصوص تلك الأفراد ، والتصرف في الضمير بالبناء على عدم التطابق بينه وبين مرجعه من باب الاستخدام ، أو على التوسع في اسناد الحكم إليه على عمومه مع ثبوته لبعض أفراده ، وليس التصرف في الضمير بأحد الوجهين بأولى من التصرف في العام بالتخصيص ، بل لعل الثاني هو الأولى.

قلت : إنما يتم ذلك لو كان مرجع الجمع بين العام والخاص بالتخصيص إلى كون العام مستعملا في بعض أفراده ، حيث يلزم مع تخصيص حكم الضمير دون حكم مرجعه التصرف في الضمير بأحد الوجهين المذكورين ، وقد سبق أن الجمع بالتخصيص لا يبتني على ذلك ، بل على مجرد رفع اليد عن ظهور العام في إرادة العموم لمورد الخاص ، تقديما لأقوى الحجتين في الكشف عن مراد المتكلم ، وإن أمكن أن يكون العام مستعملا في العموم لضرب القاعدة التي يرجع اليها عند عدم المخرج عنها أو مع قرينة متصلة على

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ٢٢٨.

٣٧١

اختصاص حكم العام ببعض الأفراد أو الأحوال أو غير ذلك ، ومن الظاهر أن ذلك يقتضي الاقتصار في التخصيص على مورد التعارض بين العام والخاص ، وهو حكم الضمير ، دون حكم مرجعه.

وبذلك يظهر أن الأولى جعل عنوان المسألة أن تخصيص حكم الضمير الذي يرجع للعام هل يقتضي تخصيص حكم العام؟ لأن عود الضمير في ذلك إلى بعض أفراد العام أول الكلام.

تتميم :

ما ذكرناه في معيار التفصيل يجري في جميع موارد اشتمال الكلام الواحد على عمومات متعددة ثبت التخصيص في بعضها بقرينة متصلة أو منفصلة ، واحتمل سريانه لجميعها ومنه الجمل أو المفردات المتعددة المتعقبة باستثناء واحد ، فإن المتيقن وإن كان هو رجوع الاستثناء للأخير ، إلا أن الاستثناء لما كان من القرائن المتصلة فهو يمنع من انعقاد الظهور في العموم في الجميع. وإن كانت الموارد ربما تختلف تبعا لخصوصيات الكلام ، حيث يصعب معه إعطاء قاعدة عامة ، بل يتعين إيكال ذلك لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

٣٧٢

الفصل السادس

في الجمع بين المطلق والمقيد

سبق في أول الفصل الثالث أن الكلام في العام المخصص إنما هو بعد الفراغ عن تقديم الخاص على العام وحمل العام على ما عدا أفراد الخاص.

وذلك كما يجري فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ، الذي هو العموم باصطلاحهم ، يجري فيما لو كانت بمقدمات الإطلاق الذي هو المطلق باصطلاحهم. غير أنه وقع الكلام في بعض صغريات الجمع بين المطلق والمقيد ، لخصوصية أوجبت تنبههم لتحرير الكلام في ذلك ، دون الجمع بين العام والخاص. ونحن نتابعهم في ذلك ، ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير المطلق والمقيد.

فنقول : حيث كان الجمع العرفي بين الدليلين فرع التنافي بينهما بدوا فالتنافي بين المطلق والمقيد يتوقف على أمرين :

أحدهما : وحدة الحكم الكبروي الذي يردان لتحديده ، لوضوح عدم المانع من اختلاف الحكمين في الحد. ولا ينبغي التأمل في تعدد الحكم مع اختلاف الموضوع ، كما لو ورد : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، و: إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، أو : إن أفطرت فلا تعتق إلا رقبة مؤمنة. ومنه ما لو أطلق أحدهما وعلق الآخر على موضوع خاص.

وأما في غير ذلك فلا إشكال فيما لو صرح بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما. بل لا يبعد البناء على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين أو معلقين على أمر واحد ، حيث لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما ، لبعد اقتصار

٣٧٣

المتكلم في كل دليل على بيان أحد التكليفين وإهمال الآخر مع وحدة الموضوع. وكذا حمل المطلق على بيان أصل الواجب والمقيد على بيان الواجب في الواجب بنحو تعدد المطلوب ، إذ يبعد إهمال المتكلم عند الإطلاق لخصوصية القيد لو كانت واجبة زائدا على وجوب أصل الماهية.

ثانيهما : أن يتنافيا بحسب ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد ، كما لو كان المطلق بدليا ظاهرا في الاكتفاء بأصل الماهية ، وكان المقيد ظاهرا في مطلوبية خصوصية زائدة عليها ، أو عدم الاكتفاء ببعض أفرادها. كما في قولنا : اعتق رقبة ، مع قولنا : اعتق رقبة مؤمنة ، أو : لا تعتق رقبة كافرة.

وأما لو كان المطلق شموليا وكان المقيد متضمنا ثبوت الحكم لبعض الأفراد أو في بعض الأحوال ، فإن كان المقيد ظاهرا في الحصر فلا إشكال في التنافي بينهما. والظاهر وضوح لزوم تنزيل المطلق على المقيد عندهم حينئذ ، لأن ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق. بل كثيرا ما يكون أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل السابع.

وأظهر من ذلك ما لو دل المقيد على نفي الحكم عن بعض الأفراد أو في بعض الأحوال صريحا أو ظاهرا. وعلى ذلك يبتني تقديم الخاص على العام عندهم ، ولذا سبق في أول الكلام في العام والخاص مشاركة المطلق والمقيد لهما في أكثر جهات الكلام.

وإن لم يكن المقيد ظاهرا في الحصر فلا تنافي بين الدليلين ، لأن ثبوت الحكم لبعض أفراد الماهية أو أحوالها لا ينافي ثبوته لجميعها.

ومن ثم يختص الكلام في المقام بما إذا كان المطلق بدليا. بل مقتضى فرضهم الكلام في الإثباتيين كون محل الكلام بعض أقسامه وأن تحكيم المقيد

٣٧٤

مع كونه سلبيا ليس موردا للإشكال ، كما صرح به بعضهم.

إذا عرفت هذا فالمعروف بينهم حمل المطلق في ذلك على المقيد. والوجه فيه : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس‌سره من أن ظهور المقيد في الأمر التعييني الإلزامي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد.

ولا مجال مع ذلك لتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري للواجد للقيد ، أو على الوجوب التعييني مع إلغاء خصوصية القيد وكون الخطاب بالمقيد بما أنه من أفراد الماهية المطلوبة ، أو على الاستحباب وبيان أفضل الأفراد.

والوجه فيه : أن حمل الأمر بالمقيد على كونه تخييريا بعيد عن ظاهره جدا. وكذا إلغاء خصوصية القيد. وحمله على بيان أفضل الأفراد وإن لم يكن كذلك إلا أنه أبعد من رفع اليد عن الإطلاق. ولذا سبق عدم الإشكال عندهم في تقديم المقيد المنفي ، مع أنه يمكن حمله على الكراهة ببيان الفرد المرجوح ـ كما ثبت في كثير من الموارد ـ حفاظا على الإطلاق.

نعم قد يحتفّ المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية تقتضي أقوائية المطلق ، فيلزم تحكيمه وحمل المقيد على أحد الوجوه المتقدمة ، ولا سيما الأخير منها. كما لا يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي ، مثل قولنا : اعتق أي رقبة شئت. ولا يبعد خروجه عن مورد كلامهم ، وأن مرادهم العموم المستفاد من مقدمات الإطلاق مع المقيد في أنفسهما مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجري ذلك في بقية الأقسام المتقدمة التي لا إشكال بينهم ظاهرا في تقديم المقيد فيها ، كما لو كان المقيد سلبيا أو إثباتيا ظاهرا في الحصر.

٣٧٥

بقي شيء

وهو أنه قد يشكل ما سبق في وجه تقديم المقيد على المطلق بعدم بنائهم على ذلك في المستحبات ، بل يغلب بناؤهم فيها على حمل المقيد على أفضل الأفراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه تحكيما للإطلاق.

لكن لا يخفي أنه لا مجال للإشكال المذكور فيما إذا كان إطلاق الاستحباب شموليا ، كإطلاق استحباب قراءة القرآن والدعاء وزيارة المعصومين عليهم‌السلام مع ما تضمن الحث عليها مقارنة لبعض الآداب كالطهارة والاستقبال وغيرهما ، وإطلاق استحباب الصدقة ووجوه البر مع ما تضمن الحث على الإتيان بها سرا ... إلى غير ذلك مما هو كثير ، لما سبق من عدم التنافي بين الدليلين إذا كان المطلق شموليا.

وأما إذا كان بدليا فالمقيد وإن كان ظاهرا في التعيين وعدم امتثال أمره بفاقد القيد ، إلا أن أمره كما يمكن أن يكون هو عين الأمر بالمطلق ، ليلزم التنافي بين الدليلين ـ لامتناع اختلاف متعلق الأمر الواحد بالإطلاق والتقييد ـ فيلزم الجمع بتنزيل المطلق على المقيد ، يمكن أن يكون أمرا آخر متعلقا بالخصوصية زائدا على الماهية المطلوبة بأمر المطلق ، فلا ينافي المطلق ليلزم حمله عليه ، ومرجع ذلك إلى حمل المقيد على أفضل الأفراد. ولا مجال للبناء على الأول ـ بعد منافاته لمقتضى الإطلاق ـ إلا بقرينة خاصة.

وأما ما سبق في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين من استبعاد تعدد الحكم مع إطلاقه في الدليلين أو تعليقه على شرط واحد فهو مختص بالحكم الإلزامي الذي لا يحسن التسامح في بيانه ، أما الحكم غير الإلزامي فلا يبعد فيه ذلك حيث قد يهتم الحاكم ببيان مطلوبية أصل الماهية لإحداث الداعي لها ، ويهمل بيان مطلوبية الخصوصية الزائدة عليها ، لعدم كونها إلزامية وعدم مناسبة

٣٧٦

المقام لبيانها.

على أن الأثر المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد ، وفي المستحبات هو مشروعية فاقد القيد ، والأول كما لا يترتب مع وحدة الحكم المستلزمة لتنافي الدليلين وحمل المطلق على المقيد لما سبق ، لا يترتب مع تعدده ، وحمل المقيد على تعدد المطلوب ، لوجوب امتثال الثاني حينئذ. أما الثاني فيترتب مع تعدد الحكم ، لا مع وحدته ، وحيث كان مقتضى الإطلاق ترتبه المستلزم لتعدد الحكم ، فلا بد في الخروج عنه من قرينة ملزمة بوحدة الحكم.

وبعبارة أخرى : حمل المقيد على أفضل الأفراد في الواجبات مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في الإلزام بالخصوصية ، وهو أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق كما سبق. أما في المستحبات فحيث لا يراد الإلزام من المقيد فلا بد في الخروج عن مقتضى الإطلاق من قرينة ملزمة بوحدة الحكم ، ليكون المقيد منافيا له ، ومع عدمها يتعين العمل بالإطلاق.

نعم ، ذلك إنما يتم إذا كان تمحض المقيد في الأمر بالخصوصية ، أما إذا كان ظاهره زائدا على ذلك شرح الماهية المطلوبة ، كما لو ورد السؤال عن كيفية زيارة الحسين عليه‌السلام فأجيب بالأمر بالطهارة فيها ، فمقتضى القاعدة حينئذ وحدة الحكم والجمع بالتقييد. وحمله حينئذ على بيان أفضل الأفراد محتاج لقرينة ، ولو كانت هي المناسبات الارتكازية. وكذا لو كان ظاهرا في بيان حدّ الماهية لا بلسان الأمر ، كقولنا : إنما النافلة بعد الفريضة ، أو : لا نافلة لمن لا يؤدي الفريضة.

هذا ، وأما إذا كان المقيد بلسان النهي عن بعض الخصوصيات ، مثل : لا تزر الحسين عليه‌السلام ضاحكا ، أو بغير غسل. فإن أمكن إبقاؤه على ظاهره من

٣٧٧

كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا فلا إشكال في كون ظهوره أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، فيقيد به المطلق لو كان شموليا. وأما لو كان بدليا فالتنافي بينهما يبتني على ما يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي. وإن تعين حمله على الإرشاد لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره تعذر امتثال المستحب بمورده. ولا مجال للخروج عن ذلك إلا بقرينة تقضي بحمله على الفرد المرجوح والأقل فضيلة.

هذا ما تيسر لنا في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبع الأدلة.

وكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة ـ ومنها مناسبة الحكم والموضوع ـ بنحو تؤكد مقتضى ذلك ، أو تلزم بالخروج عنه.

٣٧٨

الفصل السابع

في تخصيص العام بالمفهوم

لما كان المعيار في التخصيص على أقوائية الخاص ظهورا من العام فقد وقع الكلام في تخصيص العام بالمفهوم ، بلحاظ أن دلالة الكلام على المفهوم أضعف من دلالته على المنطوق. وحيث كانت دلالة العام على العموم بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وإن كان أضعف منه من حيثية العموم والخصوص.

لكن لا يبعد غلبة أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له. بل لا إشكال في ذلك في جملة من المفاهيم ، كمفهوم الغاية وبعض أقسام مفهوم الحصر. وإن كان اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في كيفية الجمع العرفي بينهما مما يوكل لنظر الفقيه ، لعدم الضابط له.

هذا في مفهوم المخالفة ، وأما مفهوم الموافقة فلا إشكال بينهم في تخصيص العام به ، لأن وضوح ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفا. فعدم تخصيص العام به تستلزم رفع اليد عن المنطوق أيضا ، ولا يجري فيه الوجه السابق للتوقف.

وهناك بعض المسائل الأخرى لمباحث العموم والخصوص حررها الأصوليون أعرضنا عن التعرض لها ، إما لعدم أهميتها بسبب عدم ترتب الأثر العملي لها ـ كمسألة عموم الخطاب لغير المشافهين ـ أو لظهور الكلام فيها من ما يأتي في مباحث الحجج ، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر واحد التي يتضح الحال فيها من ما يأتي في استدلال المانعين من حجية خبر الواحد ،

٣٧٩

لكثرة مخالفته لظواهر الكتاب ، ومسألة الدوران بين التخصيص والنسخ التي يظهر الحال فيها ما يأتي في مباحث الجمع العرفي من التعارض عند الكلام في الدوران بينه وبين النسخ ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص التي يظهر الحال فيها مما يأتي في خاتمة مباحث الاجتهاد والتقليد من الكلام في وجوب الفحص عن الأدلة.

كما أنهم خصوا المجمل والمبين بمقصد خاص من مباحث الألفاظ ، تعرضوا فيه لتعريفهما ولبعض صغرياتها. ولا مجال لصرف الوقت في ذلك بعد كون مفهومهما بالمقدار الذي يحتاج إليه في مقام العمل من المفاهيم العرفية الجلية ، وعدم انضباط صغرياتهما ، لأنها كما تتبع الظهورات النوعية المنضبطة تتبع القرائن الخاصة غير المنضبطة ، وتتبع تحديد مفاهيم المفردات وعدمه. فيتعين إيكالها لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

وبذلك ينتهي الكلام في المقام الأول من الأصول النظرية

الخاص بمباحث الألفاظ.

والحمد لله رب العالمين.

٣٨٠