الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

مع وجود الأفراد المتكثرة. نعم لو كان مفاد نفيها انتفاء وحدة التشخص لم يناف وجود المتكثر. لكن من المعلوم عدم اقتضاء نفي النكرة ذلك.

وأما مثل لا رجل في الدار بل رجلان ، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود المنفي بالانفراد ، فكأنه قيل : لا رجل فقط في الدار بل رجلان ، نظير قولنا :

ليس بعض العلماء في الدار بل كلهم ، وليس زيد في الدار بل الزيدان. وإليه يرجع ما ذكره بعض النحويين من أن (لا) تأتي لنفي الوحدة. وإلا فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائما لنفي ما بعدها الذي إليه يرجع نفي الجنس ، ولذا يحتاج نفي الوحدة لقرينة الاستدراك.

وأما الثالث فقد يشكل جريان ما تقدم فيه ، لعدم منافاة انتفاء الطبيعة المتكثرة لوجود الفرد الواحد أو الفردين. لكن الرجوع للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك ، فمثل لا شجر في الدار ولا ثمر في الشجر ، ولا بقر في المرعى يدل على انتفاء الماهية رأسا ، كما عن بعض النحويين التنبيه عليه.

ولعله ناشئ عن شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهي في نفي الطبيعة ، فأوجب الانصراف لذلك وفهمه عرفا حتى في هذا القسم إلغاء لقيد المجموعية. أو عن عدم أخذ التكثر قيدا في مفهوم هذا القسم لغة ، بل هو كالقسم الأول ، وانصرافه للمتكثر بسبب كثرة استعماله فيه ، كما احتمله أو جزم به بعض النحويين ، ولذا يتجرد عن قيد التكثر مع تعريفه بلام الجنس ، كما في مثل : الشجر نبات له ساق مرتفع وأغصان ، و: رأيت الشجر ، وأكلت التمر والثمر ، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهي يستعمل في معناه الأصلي.

ثم إن أخذ النكرة بجميع أقسامها في الحكم الإثباتي لا يقتضي العموم المجموعي ولا الاستغراقي ، بل البدلي ، بمعنى الاجتزاء بالواحد من مدلولها ، فردا كان أو أكثر ، الراجع للعموم البدلي. كما أن سعة العموم المذكور لتمام

٣٢١

أفراد الماهية موقوف على قرينة خارجية ، ولو كانت هي مقدمات الحكمة ، لنظير ما سبق في أسماء الأجناس من إمكان نسبة الحكم للماهية بنحو الإهمال.

المبحث الثالث

في المعرف باللام

لا إشكال في دلالة اللام على التعريف في الجملة ، وإنما الكلام في اختصاصها به أو دلالتها على غيره ، وفي سنخ التعريف الذي تدل عليه. فقد ذكر غير واحد أنها تدل تارة : على التعريف العهدي ، بالإشارة لفرد معهود ، لتقدم ذكره ، كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١) أو أنس الذهن به كقوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)(٢) وأخرى : على الاستغراق لتمام أفراد المدخول كقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٣).

وثالثة : لتعريف الجنس نحو قولنا : الرجل خير من المرأة ، و: أكلت الخبز وشربت اللبن ، حيث لا عهد ، فإنه لا يراد منه العموم ، لتكون استغراقية ورابعة : للتزيين أو للمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ في الأعلام الشخصية ، كالحسن والحسين والفضل.

لكن الظاهر بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في الجميع عن التعريف. وحقيقته

الإشارة لما أريد من المدخول بما أنه متعين ذهنا وحاضر عند العقل. لكن لا على أن يكون الحضور الذهني هو تمام المراد

__________________

(١) سورة المزمل الآية : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة القصص الآية : ١٥.

(٣) سورة العصر الآية : ١ ، ٢ ، ٣.

٣٢٢

من المعرّف أو جزءا منه ـ كما توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام التعريف ـ ليلزم امتناع كون المعرف طرفا للنسبة ذات المطابق الخارجي ، لعدم انطباق الوجود الذهني على ما في الخارج ، بل على أن يكون مقارنا للاستعمال ، مع كون المراد بالمعرف نفس المفهوم في التعريف الجنسي والفرد في التعريف العهدي ، المفروض حضورهما ذهنا ، وهما اللذان يكونان طرفا للنسبة ، من دون دخل فيها للحضور الذهني. فالتعريف نظير الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في طرفيته للنسبة بوجه.

هذا ، وتمحض اللام في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف مفاد الكلام تبعا لاختلاف خصوصيات الموارد بما يناسب الأقسام الأربعة المتقدمة ، فحيث يكون هناك ما يقتضي تعين فرد بخصوصيته ـ من تقدم ذكره أو أنس الذهن به ـ ينصرف التعريف للماهية من حيثية تشخصها في الفرد المذكور ، ويكون التعريف عهديا ، ومع عدمه ينصرف التعريف للماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو مدلول المدخول المتعين ذهنا من دون صارف عنه ، فيكون التعريف جنسيا ، ويراد بالمدخول مفهومه من حيثية تعينه ذهنا.

ودعوى : أن مفهومه مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهنا بلا حاجة إلى اللام ، ومع الجهل به لا تصلح اللام لتعيينه ، فلا بد من كون التعريف فيه صوريا لفظيا ، بخلاف التعريف العهدي ، فإن مفاد النكرة الفرد الشائع المردد ، وفائدة التعريف رفع الشياع والتردد في الفرد ، وتعينه بالفرد المعهود.

مدفوعة بأن فائدة اللام ليست هي التعيين ذهنا ـ وإنما هو مستند لغيرها ـ بل الإشارة للمتعين بما هو متعين والتنبيه لتعيينه ، من دون فرق بين التعريف العهدي والجنسي. وأما ارتفاع الشياع والتردد في التعريف العهدي فهو ليس مفاد اللام ، بل حيث كان المراد بالمدخول الفرد ، فإفادة اللام التنبيه على التعيين تلزم بحمله على الفرد المتعين ، لتقدم ذكره أو لأنس الذهن به.

٣٢٣

أما مع فرض عدم خصوصية بعض الأفراد ذهنا وتساويها فيه ، فيتعين حمل التعريف والتنبيه للتعيين ـ الذي هو مقتضى اللام ـ على الماهية نفسها بلحاظ أنس الذهن بها ، من دون أن يقتضي رفع الشياع والتردد ، لعدم التردد في الماهية. ولا ملزم مع ذلك بحمل اللام على التعريف اللفظي الصوري ، بل لا مجال له.

ولذا كان دخول اللام مع عدم العهد موجبا لفهم عدم إرادة الفرد الشائع بين الأفراد ـ الذي هو مفاد النكرة ـ بل الماهية بنفسها ، لأنها هي المتعينة بعد فرض عدم تعين الفرد ، لعدم العهد. ولو كانت اللام في ذلك منسلخة عن التعيين والتعريف لم يكن وجه لاختلاف مفاد المعرفة عن مفاد النكرة حينئذ.

وأما ما ذكره بعضهم من أن قولنا : ادخل السوق واشتر اللحم ، مع عدم العهد في معنى قولنا : ادخل سوقا واشتر لحما. فهو مخالف للوجدان ، لوضوح الفرق بينهما في نسبة الحكم للماهية في الأول وللفرد في الثاني وإن كانا متلازمين خارجا.

ومجرد عدم إفادة اللام في الأول رفع الشياع لا ينافي اقتضاءها التعريف ، لعدم تقوم التعريف برفع الشياع ، بل هو لازم له في خصوص ما إذا كان الحكم واردا على الفرد الذي لا يقبل الشياع.

على أنه لا مجال له في مثل : الإنسان نوع ، و: الرجل خير من المرأة ، لعدم مناسبة الحكم لمفاد النكرة.

ثم إن اللام حيث تكون للجنس مع عدم العهد ، ويكون طرف النسبة هو الجنس والماهية ، فإن كان الحكم من شئون الماهية بحدودها المفهومية مقصورا على ذاتياتها من دون نظر للخارج لم يقبل العموم ولا الخصوص ، كما في القضايا الذهنية ، مثل : الإنسان نوع ، والواردة للتحديد

٣٢٤

مثل : الإنسان حيوان ناطق.

وإن كان الحكم من شئون الماهية الخارجية ، لكونه لاحقا للأفراد ، فهو يقبل العموم والخصوص ، وحيث تقدم عند الكلام في مفاد اسم الجنس أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها ، فليس مفاده وضعا إلا قضية مهملة ، ولا يستفاد عمومها إلا بقرينة عامة ، كمقدمات الحكمة ، أو خاصة كالاستثناء الذي هو فرع العموم.

وإليه ترجع اللام الاستغراقية المتقدمة في كلماتهم. وليس العموم حينئذ مستفادا من اللام ومؤدى لها في قبال تعريف الجنس ، لتكون في قبال اللام الجنسية وقسيمة لها ، لعدم الفرق في معنى اللام ارتكازا ، ولبعد الاشتراك اللفظي خصوصا في الأدوات.

ثم إنه قد تقدم في مفهوم الحصر أن تعريف المسند إليه ظاهر في عموم الحكم لجميع أفراده ، لخصوصية في هيئة الجملة لا من جهة اللام ، وليست اللام إلا لتعريف الجنس. وعليه يترتب أن مثل : الرجل خير من المرأة ، و: العالم خير من الجاهل ، يقتضي العموم. غايته أنه لا إطلاق للحكم بنحو يعم جميع الجهات ، بل التفاضل يختص بحيثية العنوان المذكور في الكلام ، كحيثية الرجولة والأنوثة ، والعلم والجهل ، فهو في معنى قولنا : الرجولة خير من الأنوثة ، والعلم خير من الجهل. ومن هنا لا وجه لعدّهم اللام في ذلك في قبال الاستغراقية وقسيمة لها ، بل هي من أفرادها لو كانت الاستغراقية قسيمة للجنسية.

هذا ، وأما لام التزيين في الأعلام الشخصية فالظاهر رجوعها إلى لام العهد التي هي لتعريف المفرد ، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى المعنى الأصلي الكلي القابل للانطباق على كثيرين ، والذي يمكن

٣٢٥

أن يراد به ـ بضميمة اللام ـ خصوص المسمى ، لأنه المعهود ذهنا ، كما يناسبه ما ذكروه من أن اللام للمح المعنى المنقول عنه اللفظ ، واعتبروا في جواز دخولها قابلية المعنى المنقول عنه لها. فليست هي لتزيين اللفظ ، بل لتزيين البيان ، بلحاظ تضمنه معنى زائدا على الذات ، أو لتزيين المراد بها إذا كان المعنى الأصلي مدحا ، وإن كان ذما كانت للتهجين والذم. نعم قد يغفل عن ذلك في أعرافنا المتأخرة ، للبعد عن اللغة ، والجهل بخصوصيات البيان.

وبهذا يتم ما ذكرناه آنفا من تمحض اللام في التعريف ، وأن الأقسام المذكورة لا تخرج عنه ، واختلافها إنما يكون لاختلاف خصوصيات الموارد.

كما ظهر أن إفادة المعرف باللام للعموم يحتاج إلى قرينة عامة ـ كمقدمات الحكمة ، وكون المعرف مسندا إليه ـ أو خاصة ، كالاستثناء. هذا كله في تعريف المفرد.

وأما تعريف الجمع فالظاهر عدم الإشكال في إفادته العموم مع عدم العهد لخصوص بعض الأفراد ، وإنما الكلام بينهم في وجهه.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره أنه يبتني إما على كون اللام فيه للاستغراق ، وإما على وضعه بهيئته له ابتداء.

ويشكل الأول ـ مضافا إلى أن المتبادر منه استغراق الأفراد ، لا استغراق الجموع ، كما هو مقتضى الوجه المذكور ـ بأنه لو تم وضع اللام للاستغراق وغض النظر عما سبق ، فلا ريب في عدم اختصاصها به ، واحتياج حملها عليه إلى القرينة ، مع عدم الإشكال في عدم الحاجة لها في المقام.

كما يشكل الثاني ـ مضافا إلى أن لازمه كون استعماله في الخصوص في موارد العهد يبتني على الاشتراك أو المجاز ـ بأن اختصاص المركب بمعنى لا تؤديه مفرداته غير معهود في اللغة.

٣٢٦

فالظاهر أن استفادة العموم منه ليس إلا بسبب دلالة اللام على التعريف. لكن لا يراد به تعريف الماهية بنفسها على أن يكون التعريف للجنس ـ كما في تعريف المفرد ـ لظهور أن هيئة الجمع لا تناسب ذلك ، لدلالتها على التكثر ، ولا تكثر في الماهية ، وإنما التكثر في أفرادها. بل المراد تعريف نفس الأفراد المتكثرة ، وإنما يستفاد العموم من أجل أنه حيث لا مرجح لبعض الأفراد على بعض ـ لفرض عدم ما يوجب العهد لبعضها بخصوصه ـ يتعين إرادة جميعها ، بلحاظ تعينها في الذهن وتميزها عن غيرها من حيثية كونها أفرادا للماهية ، بخلاف ما لو أريد بعضها لعدم امتيازها عن غيرها من أفراد الماهية ، ليصح فرض التعيين لها المستفاد من التعريف.

بقي في المقام أمران :

الأول : ما ذكرناه كما يجري في المعرف باللام يجري في المعرف بالإضافة ، نحو : أكرم عالم البلد ، أو علماءه ، لأن الإضافة بطبعها تقتضي التعريف زائدا على الاختصاص ، للفرق الواضح بين قولنا : غلام زيد وغلام لزيد ، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.

وحينئذ إذا كان المضاف جمعا اقتضى الاستغراق والعموم بالتقريب المتقدم ، وإذا كان مفردا حمل غالبا على العهد الذهني ، فيراد من مثل عالم البلد أظهر علمائه.

وقد يراد به الجنس المقيد ، كما في قولنا : الصلاة في مسجد البلد بمائة صلاة. وقولنا : ماء البحر مالح ، وشجر الصحراء صلب العود.

نعم ، قد تتمحض الإضافة في الاختصاص من دون تعريف ، كما سبق. ومنه الإضافة للنكرة ، كعالم بلد ، لأن شيوع المضاف إليه يستلزم شيوع المضاف ، فيكون نكرة مثله ، ويلحقه حكمها.

٣٢٧

الثاني : الكلام في تعريف لام الجنس وأنه حقيقي أو لفظي يجري في تعريف علم الجنس ، كأسامة للأسد ، وثعالة للثعلب. ولا مجال للرجوع في حقيقته للتبادر والمرتكزات الاستعمالية بعد عدم شيوع استعماله في عصورنا.

نعم الظاهر إطباقهم على كونه بمعنى المعرف بلام الجنس ، ولذا كان اختيارهم فيهما متفقا. ويناسبه صحة استعمال أحدهما في موضع الآخر. وحينئذ يجري فيه ما تقدم في المعرف بلام الجنس من كون التعريف حقيقيا ، لا لفظيا.

المبحث الرابع

في مقدمات الحكمة التي يبتني عليها الإطلاق

سبق أنه يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، وأن استفادة العموم الأفرادي فبأحوالي تحتاج إلى قرينة خاصة أو عامة. وحيث كانت القرائن الخاصة غير منضبطة فاللازم إيكالها للفقيه عند النظر في الأدلة ، ومن ثم اختصت مباحث الألفاظ من علم الأصول بالظهورات النوعية.

وينبغي التعرض هنا للقرينة العامة ، وهي مقدمات الحكمة التي عليها يبتني الإطلاق الإفرادي فبأحوالي عندهم. وقد اختلفوا في عددها وتحديدها. ولا بد من التعرض لجميع ما ذكر في كلماتهم ، والنظر في توقف الإطلاق على كل واحد منها. وهي عدة مقدمات.

المقدمة الأولى : إمكان التقييد فلو امتنع ، لاستحالة لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم ، لكونه متفرعا عليه ، يمتنع الإطلاق ، كما في تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله ، وتقييد الحكم بالعلم به. وقد ذكر ذلك غير واحد ، أولهم ـ فيما عثرت عليه ـ شيخنا الأعظم قدس‌سره على ما في التقريرات.

٣٢٨

ولا يخلو المراد بذلك عن إجمال إذ تارة : يراد بذلك أن امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق ثبوتا في مقام ورود الحكم على الماهية واقعا ، فلا يكون الحكم مطلقا ولا مقيدا لبّا ، بل يكون مهملا ثبوتا.

وأخرى : يراد به أن امتناع التقييد مانع من ظهور الكلام في الإطلاق اثباتا ، بل يكون مجملا من هذه الجهة ، وإن كان ثبوتا غير خارج عن الإطلاق والتقييد ، لامتناع الإهمال. فالواسطة بين الإطلاق والتقييد على الأول الإهمال ثبوتا ، وعلى الثاني الإجمال إثباتا.

أما الأول : فعمدة الوجه فيه ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الإطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد ، إلا أن التقابل بينهما ليس من تقابل النقيضين ، بل من تقابل الملكة والعدم ، حيث لا بد فيهما من ورود الحكم على المقسم بين واجد القيد وفاقده ، وهو الذي يقبل الإطلاق والتقييد ، ويمتنع كل منهما مع امتناع ورود الحكم على المقسم ، كما هو المفروض في المقام ، بلحاظ عدم انتزاع المقسم ـ الذي يلحظ عند التقسيم للقسمين ـ إلا في رتبة متأخرة عن الحكم.

وقد رتب على ذلك أنه لا بد من جعل آخر يتمم الجعل الأول ، ويفي بالحكم في مورد الإهمال الذي يستلزمه ، إما على ما يناسب الإطلاق أو على ما يناسب التقييد ، وهو الذي عبر عنه بمتمم الجعل. وحيث كان الجعلان ناشئين عن غرض واحد كانا ارتباطيين في مقام الامتثال والعمل.

لكنه يشكل بأن تقابل الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة ، لا من تقابل الضدين ، لأنه يكفي في الإطلاق عدم لحاظ القيد ، وعدم أخذه عند جعل الحكم ، ولا من تقابل النقيضين ، لأنه لا بد فيهما من فرض موضوع قابل لهما ، ولذا لا يصدق الإطلاق والتقييد الأفراديين إذا كان موضوع الحكم هو

٣٢٩

الماهية الذهنية المجردة التي لا وجود لها في الخارج ، أو الجزئي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين ، بل لا بد فيهما من ورود الحكم على الماهية الخارجية القابلة للانطباق على كثيرين. إلا أن ذلك لا يستلزم الإهمال ثبوتا ، بل الماهية المتعلقة للحكم إن كانت وافية بالغرض تعين الاكتفاء بأخذها في الحكم وعدم أخذ شيء معها ، فيلزم الإطلاق وسريان الحكم لتمام أفرادها حتى ما كان مقارنا لخصوصية متفرعة على الحكم ، لأن امتناع لحاظ تلك الخصوصية وتعميم الحكم بلحاظها لا ينافي شمول الحكم للفرد بذاته ، لانطباق الماهية عليه قهرا. وإن لم تكن وافية بالغرض فلا مجال للاكتفاء بها ، بعد كون انطباقها قهريا ، وامتناع عدم مطابقة الجعل للغرض ، بل لا بد من أخذها بنحو تقصر عما لا يفي من أفرادها بالغرض ، إما بالتقييد صريحا بالعنوان الدخيل في الغرض ـ لو امكن ـ أو بما يلازمه ، وإما بنتيجة التقييد بقصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد بذاتها.

وعلى ذلك إن أراد من الإهمال مجرد عدم التقييد بالقيد الخاص بعنوانه وعدم التعميم من حيثيته ، مع ثبوت أحدهما بلحاظ ذات الأفراد ، فهو خلاف ما نفهمه من الإهمال ، ولا يستلزم قصور الجعل ثبوتا ، بحيث يحتاج لمتمم الجعل الذي ذكره ، بل يحتاج لبيان حال الجعل الواحد سعة وضيقا بوجه غير التقييد بالقيد الخاص أو التعميم من حيثيته. وإن أراد منه عدم شمول الحكم ولا قصوره ، فلا مجال له بعد ما ذكرنا.

وأما ما ذكره قدس‌سره من أنه لا بد في الإطلاق من ورود الحكم على المقسم. فيندفع بأن المقسم في المقام ليس إلا الماهية الخارجية كما ذكرنا ، لأن مقسميتها لحصصها واقعية قهرية. ومجرد امتناع تعنون الحصة بالقيد في مرتبة ورود الحكم على الماهية إنما يمنع من مقسميتها للحصة بعنوانها المذكور ، لا من مقسميتها لها بذاتها. واللازم حينئذ إما شمول الحكم لها بذاتها أو قصوره

٣٣٠

عنها كذلك ، ويمتنع الإهمال.

ثم إن ذلك يجري في الإطلاق الأحوالي أيضا ، لأن الغرض الداعي لجعل الحكم إن كان يقتضي جعله على جميع الأحوال تعين الإطلاق بلحاظها ، وإلا تعين قصور الجعل عما لا يقتضيه الغرض ، إما بتقييده صريحا بالعنوان الدخيل في الغرض أو بلازمه ، وإما بقصوره عن الحال الذي يقصر عنه الغرض بنتيجة التقييد ، ولا يعقل الإهمال.

على أن ما ذكره من لزوم متمم الجعل في مورد الإهمال الذي ادعاه يشكل .. تارة : بما هو المعلوم بالوجدان في الأحكام العرفية من وحدة الجعل وعدم الحاجة للمتمم المذكور على طبق الإطلاق أو التقييد بالإضافة للقيود التي يمتنع أخذها في مقام الجعل.

وأخرى : بأنه يجري في المتمم المذكور ما يجري في الجعل الأول من امتناع تقييده بما يتفرع عليه ، فلو امتنع الإطلاق أيضا ولزم الإهمال احتيج لمتمم له ، وهكذا الحال في متممه ... إلى ما لا نهاية ، وهو معلوم البطلان ، كما نبه له شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأما الثاني : وهو عدم ظهور الكلام في الإطلاق مع امتناع التقييد ، بل يلزم الإجمال وبه تكون المسألة من مباحث الظهورات ، فعمدة الوجه فيه : أن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بلحاظ أن عدم التقييد مع دخل القيد في الغرض مناف للحكمة ، وهو إنما يتم مع إمكان التقييد ، أما مع تعذره فلا بد من عدم بيان القيد ولو مع تعلق الغرض به من دون أن ينافي الحكمة.

لكنه يشكل بأن التقييد وإن تعذر إلا أنه يمكن بيان إرادة خصوص واجد القيد بطريق آخر ـ كالتقييد بلازم القيد المطلوب ، أو بإتباع الكلام بشرح تفصيلي للمراد ـ أو إحاطة الكلام بما يوجب إجماله من حيثية القيد المذكور ،

٣٣١

أو ترك البيان رأسا لو لم يكن الإطلاق وافيا بغرضه ، فعدم سلوك المتكلم لهذه الطرق وإطلاقه لكلامه ينافي الحكمة لو لم يكن الإطلاق وافيا بغرضه ، وذلك مستلزم لظهور كلامه في الإطلاق.

على أن عدم منافاة الإخلال بالتقييد للحكمة لا يختص بصورة تعذر التقييد عقلا ـ كما في محل الكلام ـ بل يجري في سائر موارد العذر العقلائي لتركه ، من ضرر أو خوف ، أو غفلة عن الحاجة له ـ لتخيل ملازمة القيد المطلوب للذات خارجا ـ أو وجود مصحح للإخلال بالبيان ، كعدم استيعاب السامع لتمام ما يلقى إليه مع عدم ابتلائه بفاقد القيد ، حيث لا يخل ترك التقييد حينئذ بالغرض ، بل قد يكون ذكره مخلا به. فلو بني على توقف ظهور الكلام في الإطلاق على أن يكون الإخلال بالتقييد منافيا للحكمة لزم قصور الإطلاق وعدم استفادة العموم منه في جميع الموارد المذكورة.

بل مقتضاه التوقف بمجرد احتمال شيء من ذلك ، حيث لا يحرز معه كون عدم ذكر القيد لو كان دخيلا في الغرض منافيا للحكمة ، ولا أصل يدفع الاحتمالات المذكورة. ولازم ذلك عدم استفادة العموم من الإطلاق إلا مع العلم بانحصار سبب عدم ذكر القيد بعدم دخله في الغرض ، بحيث لو كان دخيلا كان ترك التقييد منافيا للحكمة ، وحينئذ يكون الإطلاق موجبا للعلم بالمراد في فرض حكمة المتكلم. وهو خلاف المقطوع به من محل كلامهم ـ تبعا لأهل اللسان ـ لما هو المعلوم من أنه من صغريات حجية الظهور الذي قد لا يوجب الظن ، فضلا عن العلم.

فلا بد من البناء على أن وجود المصحح لترك القيد مع دخله في الغرض وإن كان عذرا للمتكلم في تركه حينئذ ، إلا أنه لا يمنع من ظهور الكلام في الإطلاق الذي هو حجة للمتكلم وعليه. ولأجله يتعين على المتكلم الحكيم تجنب البيان بالنحو المذكور ـ الظاهر في الإطلاق ـ إذا لم يف بغرضه ، إما بتركه

٣٣٢

البيان رأسا ، أو بإحاطته بما يمنع من ظهوره في الإطلاق. ولو فرض وجود الملزم له حينئذ بالبيان بالنحو الظاهر في الإطلاق كان عذرا له من دون أن يمنع من ظهور كلامه فيه ، ويكون الظهور حجة ما لم يبتل بما يسقطه عن الحجية.

ومن هنا لا يبعد أن يكون مرجع ما ذكروه ـ من ابتناء ظهور عدم ذكر القيد في إرادة الإطلاق على منافاة عدم ذكر القيد مع دخله في الغرض للحكمة ـ إلى أن تعلق الغرض بالقيد لما كان مقتضيا لبيانه ـ بأي وجه ـ من الحكيم لو لا المانع ، كان ذلك قرينة عامة عند العقلاء وأهل اللسان موجبة لظهور عدم ذكر القيد في عدم دخله في الغرض ، وظهور الكلام في الإطلاق ، ولا يعتنى باحتمال استناد عدم ذكر القيد لأمر آخر مع دخله في الغرض. فمحذور الإخلال بالحكمة بلحاظ المقتضيات الأولية جهة ارتكازية وقرينة نوعية موجبة لظهور الكلام مع عدم التنبيه للقيد ـ بأي وجه كان ـ في الإطلاق ، وليس علة شخصية فعلية بلحاظ تمام الجهات يدور انعقاد الظهور مدارها.

ولذا لا إشكال في انعقاد الظهور المذكور وحجيته حتى مع العلم بعدم حكمة المتكلم ، وعدم تقيده باستيفاء مراده ببيانه أو احتمال ذلك ، فيصح الاحتجاج منه وعليه بظاهر كلامه المستند للقرينة المذكورة ، ولا يصح الاعتذار منه ولا من المخاطب بعدم حكمته.

والمتحصل مما تقدم : أن الإطلاق لا يتوقف ـ ثبوتا ، ولا إثباتا ـ على إمكان التقييد ذاتا ، فضلا عن إمكانه بلحاظ الجهات العرضية أيضا ، فلا مجال لعدّ ذلك من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها انعقاد الظهور في الإطلاق.

ويتضح ذلك بأدنى ملاحظة لطريقة أهل اللسان ومرتكزاتهم ، حيث يستفيدون بطبعهم العموم بلحاظ القيود المذكورة من الإطلاق من دون التفات لهذه الخصوصيات. ولذا بنى من منع من الإطلاق في الفرض على ما يطابقه

٣٣٣

عملا ، فأصرّ في التقريرات على ظهور الأمر في التوصلية ، كما أصر بعض الأعاظم قدس‌سره على استفادتها بمتمم الجعل ، وادعى غيره وفاء الإطلاق المقامي بها ، من دون أن يتضح وجه تقريب هذه الدعاوى في كلماتهم بعد فرض عدم الإطلاق اللفظي. بل الظاهر عدم الإشكال في عدم تماميتها لو صرح في الخطاب بثبوت الحكم بنحو القضية المهملة ثبوتا ـ لو أمكن ـ أو إثباتا ، مع أن مرجع إنكار الإطلاق اللفظي إلى ذلك.

المقدمة الثانية : عدم البيان على التقييد سواء كان بلسان الحصر وثبوت نقيض الحكم لفاقد القيد ـ كالقيود ذات المفهوم ـ أم بلسان آخر لا يقتضي إلا قصور شخص الحكم عن الفاقد للقيد. ولا إشكال في اعتبار هذه المقدمة ومانعية البيان من الظهور في الإطلاق.

وإنما الإشكال في عموم ذلك للبيان المنفصل ، بحيث يكون وروده رافعا لموضوع الإطلاق ، ومانعا من تمامية مقتضى الظهور فيه ، أو اختصاصه بالمتصل ، فلا يكون العثور على المنفصل رافعا لموضوع الإطلاق ومانعا من تمامية مقتضى الظهور فيه ، بل منافيا له ومعارضا بدوا ، كسائر الظهورات المتنافية التي يعالج تنافيها بالجمع العرفي المبتني على تنزيل أضعف الظهورين على أقواهما.

صرح في التقريرات بالأول. قال في بيان ما يتوقف عليه الإطلاق : «انه موقوف على أمرين : الأول : انتفاء ما يوجب التقييد داخلا وخارجا ... فلو دل دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق ، لارتفاع مقتضي الإطلاق ، لا لوجود المانع عنه ، وإن كان الدليل الدال على التقييد أيضا مما يحتمل فيه التصرف بحمل الأمر الوارد فيه على الاستحباب ، إلا أن أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال. ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق ، لعدم لزوم مجاز فيه ، وإنما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل. فالإطلاق حينئذ بمنزلة

٣٣٤

الأصول العملية في قبال الدليل ، وإن كان معدودا في عداد الأدلة ، دون الأصول فكأنه برزخ بينهما». ويظهر من بعض الأعاظم قدس‌سره في مبحث التعارض الجري على ذلك.

لكن المرتكزات الاستعمالية تشهد بأن الإطلاق كسائر الظهورات تابع لفراغ المتكلم عن كلامه ، لسيرة أهل اللسان على أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء ، ولا يستقر ظهور كلامه ما دام مشغولا به ، فإذا فرغ منه استقر ظهوره ، وتم مقتضي الحجية فيه ، ويكون البيان المنفصل على خلافه منافيا للمقتضي المذكور ، لا مانعا منه ورافعا لموضوعه. وبذلك يفترق عن البيان المتصل.

ويناسبه أن احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية مانع من انعقاد ظهوره في الإطلاق وتمامية موضوع الحجية فيه ، وإن لم يكن ظاهرا في التقييد ، فضلا عن الحصر ، مع عدم الإشكال في عدم مانعية البيان المنفصل من ذلك إذا كان مجملا ومحتملا لما ينافي الإطلاق ، بل لا بد من ظهوره في ذلك.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من خروج الشارع الأقدس عن طريقة أهل اللسان في البيان ، لاعتماده على القرائن المنفصلة. فهو ـ مع عمومه لغير الإطلاق من الظهورات الوضعية وغيرها ـ غير تام في نفسه ، كما يأتي في مبحث التعارض عند الكلام في الجمع العرفي إن شاء الله تعالى.

ويترتب على ذلك أن الجمع بين الإطلاق والبيان المنفصل من صغريات الجمع العرفي المبني على تقديم أقوى الظهورين ، ولا يتعين تقديم البيان المنفصل ، بملاك رافعيته لموضوع الإطلاق. ومجرد عدم لزوم المجاز من التصرف في المطلق ولزومه من التصرف في البيان المنفصل ـ مع عدم اطراده ـ لا يصلح لترجيح ظهور البيان المنفصل ، فضلا عن كونه رافعا لموضوع الظهور الإطلاقي ، لأن أصالة الحقيقة من صغريات أصالة الظهور ، فمع تمامية ظهور

٣٣٥

المطلق في الإطلاق يشتركان في تحقق ملاك الحجية ، ويتعين ترجيح أقوى الظهورين.

هذا ، ولو شك في التقييد المتصل فلا إشكال عندهم في البناء على عدمه. وهو من صغريات أصالة عدم القرينة التي يعول عليها في تشخيص سائر الظهورات عند الشك في احتفافها بما يمنع من انعقادها. نعم أشرنا آنفا إلى أنه لو احتف الكلام بما يصلح للتقييد ـ وإن لم يحرز إرادته منه ـ فلا مجال للبناء على عدم التقييد ، بل لا يستقر الظهور في الإطلاق ، كما هو الحال في سائر الظهورات عند احتفافها بما يصلح للقرينية.

المقدمة الثالثة : كون المتكلم في مقام البيان ومن الظاهر أن الغرض من الكلام هو البيان والإفادة للمقاصد ، وعدم كون المتكلم في مقام البيان أصلا إما أن يكون لخروجه عن مقتضى طبيعة الكلام ، الذي هو خلاف الأصل فيه ، أو لغفلته عن صدور الكلام منه ، التي يدفعها أصالة عدم الغفلة ، المعول عليها في جميع تصرفات الإنسان وأفعاله. ومن هنا كان بناء العقلاء على كاشفية الكلام عن مقاصد المتكلم وأغراضه.

لكن ذلك بمجرده لا ينفع في محل الكلام ، إذ هو إنما يقتضي كونه بصدد إفادته لمؤداه الذي يصلح لبيانه ، وحيث فرض في محل الكلام أن مفاد المطلق وضعا ليس إلا القضية المهملة ، فاستفادة العموم منها يحتاج إلى مزيد عناية ، ولا يكفي فيها إحراز كون المتكلم في مقام البيان بالوجه المتقدم.

بل لا بد من كون المراد من هذه المقدمة أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ما يكون دخيلا في موضوع الحكم وترتب الغرض ، ليكون اقتصاره على ذكر الماهية ـ المطلقة أو المقيدة ـ كاشفا عن كونها تمام الموضوع وما يحصل به الغرض ، المستلزم للعموم لتمام أفرادها ، وعدم إرادة القضية المهملة المساوقة

٣٣٦

للجزئية والمستلزمة لعدم إحراز وفاء الماهية المذكورة بالغرض ، لتكون تمام موضوع الحكم ، بل قد تتوقف على انضمام قيد إليها يكون متمما له. وقد ذكر أو يذكر له وجوه ..

الأول : الغلبة كما يظهر من التقريرات. ويشكل بأن الغلبة ـ مع عدم الدليل على حجيتها ـ غير ظاهرة ، إذ لا قرينة في أكثر المطلقات على ذلك ، وغاية ما يدعي بناء العقلاء على حمل المطلقات على الإطلاق ، لكن من دون إحراز الغلبة المدعاة في رتبة سابقة على ذلك.

الثاني : بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو المذكور. لما ذكره بعض المحققين من أنهم كما بنوا على أصالة مطابقة المراد الجدي للاستعمال بنوا على أصالة بيان المراد الجدي وعدم إهماله ، وحيث كان المراد الجدي مرددا بين المطلق والمقيد ولا إهمال فيه ، تعين عدم الحمل على الإهمال ، وبعد فرض عدم التقييد يتعين الحمل على الإطلاق.

ويشكل بأنه لم يتضح من العقلاء البناء على أصالة بيان المراد الجدي بتمامه ، ولا وجه لقياسه على بنائهم على أصالة مطابقة البيان للمراد الجدي الذي هو مقتضى طبع البيان ووظيفته حسبما يدركه الإنسان ، بل للمتكلم الاقتصار على بيان بعض مراده ، وهو في المقام القدر المشترك بين الإطلاق والتقييد ، من دون تعرض لإحدى الخصوصيتين ، وليس في ذلك خروج عن مقتضى طبيعة الكلام.

ولذا لا يحمل غير المطلق من وجوه البيان على الإطلاق إذا لم يف به الكلام ، فلو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ، و: لا صلاة إلا بطهور ، لم يحمل على عدم دخل غير الزاد والراحلة في الحج ، وعدم اعتبار غير الطهارة في الصلاة.

٣٣٧

الثالث : بناء العقلاء على أن الأصل في الكلام أن يترتب عليه العمل ، لأنه الغرض النوعي منه ، وحيث لا تصلح القضية المهملة لذلك ، وكذا بيان جزء الموضوع الدخيل في الغرض من دون استيفائه بالبيان ، يتعين حمل المطلق في القضية على كونه تمام الموضوع ، المستلزم لكونها كلية صالحة لأن يترتب عليها العمل.

وفيه أولا : أنه لو كان ذلك هو الوجه في الحمل على الإطلاق لزم عدم ظهور المطلق في الإطلاق فيما لا يترتب عليه العمل ـ كالقضايا التاريخية ، والقضايا العلمية والواقعية ـ وفيما لو كان له متيقن في مقام التخاطب صالح لأن يترتب عليه العمل ، كالمورد والتمثيل ونحوهما مما يعلم معه بإرادة بعض الأفراد أو الأحوال ، بنحو يكفي في ترتب العمل ولو مع عدم إرادة الإطلاق ، مع ظهور عدم البناء على شيء من ذلك.

وثانيا : أن كون الغرض من الكلام بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل ليس بنحو يمنع من الحمل على القضية المهملة إذا كانت هي مفاد الكلام حتى في القضايا العملية. وكثيرا ما يكون غرض المتكلم مقصورا على ذلك ، لعدم إحاطته حين الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في الغرض ـ كما في الموالي العرفيين الذين يمكن في حقهم الجهل ـ أو لعدم كون غرضه من البيان ترتب العمل عليه ، بل مجرد الإعلام ، أو لاكتفائه بترتب العمل في الجملة اللازم من بيان القضية المهملة مع الاتكال على بيان آخر يستقل بالعمل ، أو غير ذلك. ولم يتضح بناء أهل اللسان على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة.

ولذا لا إشكال في عدم بنائهم على ذلك في غير الإطلاق مما يتضمن دخل شيء في موضوع الحكم والغرض ، كما في مثل : لا صلاة إلا بطهور ، ويتوقف الحج على ملك الزاد والراحلة ، كما سبق.

نعم قد يحتف بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يستقل بالعمل ،

٣٣٨

فيتعين وروده لبيان تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض وحمله على القضية الكلية دون المهملة كما لو ورد الخطاب بالإطلاق أو بغيره مما يدل على دخل شيء في موضوع الحكم عند طلب المكلف من المولى بيان ما يعمل عليه فعلا ، حيث يستفاد منه حينئذ عدم دخل أمر غير ما تضمنه البيان المذكور. كما لو قال السائل : أريد أن أسافر فبأي سيارة أركب؟ فقال : لا تركب سيارة صغيرة. فإن المستفاد منه جواز الركوب بكل سيارة غير صغيرة ، مع أن الكلام بنفسه لو لا القرينة المذكورة لا ينهض بذلك. لكن من الظاهر أن حمل المطلق على الإطلاق لا يختص بالمورد المذكور.

الرابع : بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في خصوص موارد الإطلاق. وقد استشهد له غير واحد ببناء العرف وأهل اللسان في محاوراتهم على التمسك بالإطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام صدوره لبيان أصل التشريع بنحو القضية المهملة ، نظير قول الطبيب للمريض : لا بد لك من استعمال الدواء ، أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(١) ، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الأكل مطلقا من حيثيتها ، لا من جميع الجهات ، بحيث لا يجب تطهير محل الامساك ، ولا يفرق بين أقسام الحيوان المصيد ، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.

ويشكل بأن السيرة المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان إلا إذا ثبت توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز ذلك ، نظير توقفه على عدم التقييد المتصل ، وهو غير ثابت ، بل قد يكون مبنيا على وجه آخر. وغاية ما تكشف عنه السيرة المذكورة أن الإطلاق عندهم

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٤.

٣٣٩

مقتضى الأصل والظهور النوعي ، الذي يحمل عليه المطلق ما لم يحتف بما يناسب وروده في مقام أصل التشريع أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، فيتعين البناء على ذلك.

وهو لا ينافي ما تقدم من صحة إرادة القضية المهملة من المطلق ، لأن الوجه في ذلك لما كان هو الرجوع لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة ـ كما سبق ـ فاللازم النظر في حدود سيرتهم ، وهي تختص بما إذا احتف الكلام بما يناسب أحد الأمرين ، مع سيرتهم ـ كما تقدم ـ على الحمل على الإطلاق في غير ذلك وأنه مقتضى الأصل عندهم ، ولا ملزم بدعوى تفرعه على إحراز وروده في مقام البيان ، ثم التماس الطريق لإحراز ذلك.

بل الإنصاف أن التأمل في المرتكزات الاستعمالية قاض بأن ورود المطلق في مقام البيان بالنحو المذكور مقتضى ظهوره في الإطلاق والسريان وتابع له إثباتا ، كالعام الوضعي ، لا من مقدمات ظهوره في الإطلاق التي يلزم إحرازها في رتبة سابقة ، نظير عدم وجود القيد المتصل ، الذي هو من مقدمات الظهور في الإطلاق المحرزة بأصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من نفس الكلام.

ولذا لو ثبت من الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان ـ إما مع التقييد المنفصل أو بدونه ـ من دون أن يحتف بالكلام ما يناسب أحد الأمرين المتقدمين لم ينكشف عدم ظهور المطلق في الإطلاق ـ الذي يتفرع عليه ظهور كونه في مقام البيان ـ بل الظهور فيه باق وإن سقط عن الحجية ، بخلاف ما لو ثبت احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد ، حيث ينكشف بذلك كذب أصالة عدم القرينة ، وعدم ظهور المطلق في الإطلاق ، لعدم تمامية مقدمته ، لا أن الظهور باق مع سقوطه عن الحجية.

٣٤٠