الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

نعم ، لا ينافي ذلك اتصاف تمام أفرادها أو بعضها بما لا يباين المحمول خارجا وإن خالفه مفهوما. فإذا قيل : الإنسان أبيض كان ظاهره صدق الأبيض على تمام أفراده وعدم انطباق غيره مما يضاده ويباينه خارجا ـ كالأحمر والأسود ـ على شيء منها ، وإن أمكن انطباق ما يخالفه ولا يضاده ـ كالماشي والآكل ـ عليها.

وبذلك يتم المدعى ، لأنه إذا كان ظاهر قولنا : العالم زيد كون العالم بتمام أفراده متصفا بأنه زيد لزم عدم كون غير زيد من أفراد الإنسان المباينة له عالما ، وهو عبارة أخرى عن المفهوم ، كما لا يخفى.

على أن الظاهر من حمل أحد الشيئين على الآخر ليس محض انطباق أحدهما على الآخر ، بل التطابق بينهما ، بحيث يكون أحدهما عين الآخر ـ مفهوما لو كان الحمل أوليا ذاتيا ، وخارجا لو كان الحمل شايعا صناعيا ـ كما هو مفاد هو هو ، ولازم ذلك اختصاص أحدهما بالآخر ، وعدم انطباقه على ما يباينه.

وعلى هذا يبتني التعريف بالرسم في مثل قولنا : الإنسان هو الحيوان الضاحك ، والخفاش هو الطائر الولود ، مع وضوح أن الحمل فيه شايع صناعي ، ولو لم يكن مقتضى الحمل التطابق لم يصلح الحمل فيه للتحديد.

ولا مجال للنقض على ذلك بالحمل مع تنكير أحدهما ، كما في قولنا : الإنسان ماش وزيد عالم.

لأن مفاد النكرة ليس هو نفس الجنس ، كمفاد المعرف باللام ، بل ما يعم مفاد الحصة منه ، فلا يدل الحمل المذكور إلا على التطابق بين الإنسان والماشي وبين زيد والعالم في الجملة ، ولو بلحاظ التطابق بينهما وبين حصة من كل منهما ، ومرجعه إلى مجرد انطباق جنس الماشي على الإنسان وجنس العالم

٣٠١

على زيد ، وإن لم يطابقاهما ولم يختصا بهما.

وبذلك يتضح عدم الفرق في الدلالة على الحصر بين كون المعرف بلام الجنس مسندا إليه ـ الذي هو محل الكلام ـ وكونه مسندا ، كالمثالين المتقدمين ، كما هو المطابق للمرتكزات الاستعمالية التي هي المعيار في الظهور الحجة.

ثم إن ما ذكرنا كما يجري في المعرف باللام يجري فيما يشبهه مما يحكي عن الجنس والماهية في مقام التعريف ، كالموصول في قولنا : الذي يجب إكرامه زيد ، أو زيد هو الذي يجب إكرامه. ومثله المضاف إذا أريد به العهد الجنسي نحو قول الشاعر.

إن أخاك الحق من يسعى معك

ومن يضر نفسه لينفعك

دون ما إذا سيق لمحض النسبة بين الطرفين ، كما هو كثير فيما يقع خبرا نحو : زيد أخو عمرو أو عدوه أو جاره. ولعله خارج عن أصل معنى الإضافة ، كما تعرض له بعض البيانيين.

ومنها : تقديم ما حقه التأخير. فقد ذكر البيانيون أنه يدل على حصر المتأخر بالمتقدم كتقديم المفعول في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١). وقد صرح في التلخيص وشرحه بأن دلالته ليست بالوضع ، بل بفحوى الكلام ، حسبما يدركه الذوق السليم.

لكنهم ذكروا أيضا في وجه تقديم المسند وغيره من متعلقات الفعل التي حقها التأخير وجوها أخرى ، كالتشويق في مثل قول الشاعر :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو اسحاق والقمر

والاهتمام كقولنا : أمير جاءني. ومرجع ذلك إلى تبعية دلالته على الحصر

__________________

(١) سورة الفاتحة الآية : ٥.

٣٠٢

للمناسبات والقرائن التي اختلفوا في ضوابطها ، وربما لا يبلغ بعضها إلا مرتبة الإشعار الذي يكفي في البلاغة دون الظهور الحجة ، الذي هو المهم في المقام. وقد يجري ذلك في تقديم ما حقه التقديم ، كالمسند إليه ، على ما ذكروه. ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

٣٠٣

الفصل الخامس

في مفهوم اللقب

ولا يبعد أن يكون المراد به ظهور جعل الحكم على موضوع في نفيه عما لا يتناوله. والظاهر عدم ثبوت المفهوم لذلك بنفسه ، كما نسبه في التقريرات إلى أهل الحق وجماعة من مخالفينا. وقال : «وذهب جماعة ـ منهم الدقاق والصيرفي وأحمد ـ إلى ثبوت المفهوم فيه». ويشهد لما ذكرنا عدم تبادر المفهوم من حاق الكلام مع قطع النظر عن القرينة.

غاية الأمر أن المفهوم قد يثبت لذلك لخصوصية في الحكم ، كما لو أخذ قيدا في متعلق أمر بدلي ، كما لو ورد الأمر بعتق رجل ، أو السفر للحج ، أو ماشيا ، أو يوم الجمعة ، فإنه يدل على عدم إجزاء عتق المرأة ، ولا السفر لغير الحج ، ولا راكبا ، ولا في غير يوم الجمعة. ولو ورد إطلاق يقتضي إجزاء أحد هذه الأمور لزم رفع اليد عنه بالدليل المذكور.

لكنه ليس لإفادة التقييد الحصر الذي هو محل الكلام ، بل لظهور الأمر بشيء في كونه تعيينيا ، ولذا لا يجري فيما لو لم يكن الأمر بدليا ، بل استغراقيا ، كما تقدم التنبيه له في مفهوم الوصف.

كما أنه قد يستفاد منه المفهوم لقرينة خارجية ، إما للزوم اللغوية بدونه عرفا ، ولا ضابط لذلك. وإما لوروده في مقام التحديد ، كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رجل لعلي بن الحسين عليه‌السلام : أين يتوضأ الغرباء؟ قال : تتقي شطوط الأنهار والطرق النافذة وتحت الأشجار

٣٠٤

المثمرة ومواضع اللعن ...» (١) ، لأن ظاهر السؤال طلب بيان تمام ما ينبغي اجتنابه.

كما قد يكون أخذ شيء في موضوع الحكم مشعرا بثبوت نقيضه في غيره ، فقول القائل في مقام التعريض بشخص : الحمد لله الذي نزهني عن السرقة ، مشعر بأن ذلك الشخص قد سرق. بل قد يبلغ مرتبة الظهور الحجة بضميمة خصوصية حال أو مقال لا مجال لضبطها. وكأن بعض ما تقدم هو الذي أوهم من سبق ثبوت مفهوم اللقب ، كما يظهر مما أشار إليه في الفصول والتقريرات من استدلالهم.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١٥ من أبواب أحكام الخلوة حديث : ١.

٣٠٥

الفصل السادس

في مفهوم العدد

الظاهر أنه لا مفهوم للعدد بنفسه ، كما نسبه في التقريرات لجمع كثير من أصحابنا ومخالفينا قال : «بل وادعى بعضهم وفاق أصحابنا فيه. وحكي القول بالإثبات مطلقا. ولم نعرف قائله».

ويقتضيه ما سبق في اللقب من عدم تبادره من حاق اللفظ فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النبوي : «إن الله كره لكم أيتها الأمة أربعا وعشرين خصلة ونهاكم عنها ...» (١) ، لا دلالة له على عدم كراهة ما زاد عليها. وقد أشار في الفصول والتقريرات إلى احتجاج القائلين بالمفهوم بوجوه ظاهرة الضعف لا مجال لإطالة الكلام فيها.

نعم ما سبق في اللقب من الدلالة عليه في خصوص بعض الموارد ، وإشعاره به في بعضها جار هنا. بل لا يبعد كونه هنا أظهر وأكثر ، ولا سيما التحديد ، حيث يكثر سوق العدد له ، بل لا إشكال في ظهور الكلام فيه لو ورد طرفا للحمل ، كقولنا : حد الزنا مائة جلدة ، لما سبق في تعريف المسند إليه من أن مقتضى الحمل التطابق بين طرفيه. وكذا لو وقع جوابا للسؤال عن الكم ... إلى غير ذلك.

غاية الأمر أن التحديد .. تارة : يكون لنفي الزيادة والنقيصة معا ، لكن بنحو يقتضي خروج الزائد عن الحدّ ، دون مانعيته من الامتثال.

وأخرى : لنفي النقيصة دون الزيادة ، كما في صحيح البزنطي عن

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٢ من أبواب قواطع الصلاة حديث : ٥.

٣٠٦

الرضا عليه‌السلام : «سألته عن الرجل يريد السفر في كم يقصر؟ فقال : في ثلاثة برد» (١).

وثالثة : بالعكس ، كحديث حماد : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في أدب الصبي والمملوك فقال : خمسة أو ستة وأرفق» (٢).

هذه هي المفاهيم المذكورة في كلماتهم بعناوينها الخاصة. وربما يستفاد المفهوم ـ الذي هو عبارة عن ثبوت نقيض الحكم المذكور في غير مورده ـ من بعض الألفاظ وفي بعض الموارد الخاصة ـ من دون أن يدخل تحت عنوان أحدها ـ ولو بضميمة قرينة خارجية ، وحيث لا ضابط لذلك لا يسعنا استقصاء موارده ، ولا إطالة الكلام فيه ، بل يوكل للناظر في الاستعمالات الممارس لها.

والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ١ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب بقية الحدود والتعزيرات حديث : ١.

٣٠٧

المقصد الرابع

في العام والخاص

تمهيد

جرى المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن مباحث المطلق والمقيد. وكأن مبنى الفرق بينهما عندهم على أن العام ما يفيد الشمول والسريان في الأفراد وضعا ، والمطلق ما يستفاد منه ذلك بضميمة مقدمات الحكمة. كما قد يظهر من بعض كلمات القدماء إطلاق العام على ما يكون حكمه شموليا ، والمطلق على ما يكون حكمه بدليا.

لكن الظاهر تداخل جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق ، كمباحث الجمع بين العام والخاص ، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، وتعقب الاستثناء لجمل متعددة وغيرها ، حيث يكون البحث فيها عن العام من حيثية ظهوره في تساوي الأفراد أو الأحوال بالإضافة إلى الحكم ، من دون فرق بين القسمين.

ولذا كان المناسب تعميم هذا المقصد لكلا القسمين ، بجعل موضوعه العموم والخصوص من الحيثية المذكورة ، مع التعرض عند الكلام فيما يدل على العموم لمنشا ظهور المطلق في الإطلاق ، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق على السريان لغير الوضع ليس اتفاقيا ، وكذلك دلالة بعض ما عدّ من ألفاظ العموم على العموم بالوضع ـ كالنكرة في سياق النفي والنهي ـ على ما

٣٠٨

سيظهر إن شاء الله تعالى. بل لا إشكال في عموم جملة من المباحث لما إذا استفيد العموم من قرائن خارجية خاصة ، من دون أن يستند للوضع ولا لمقدمات الحكمة.

ومن هنا كان المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه (ما دل على سريان الحكم في أفراد متعلقه أو أحواله ، بحيث تتساوى فيه) من دون نظر إلى منشأ الدلالة.

نعم يخرج عن ذلك ما إذا كان الاستيعاب مأخوذا في مفهوم المتعلق ، كالعشرة والشهر في قولنا : أضف عشرة رجال شهرا. لوضوح أن نسبة الأجزاء له حينئذ ليست نسبة الفرد أو الحال للمتعلق ، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه. ومن ثم لا تجري فيه مهمات المباحث الآتية.

أما الخاص فلا يراد به إلا (ما دل على حكم موافق أو مناف لحكم عام أوسع منه شمولا) سواء كان الموضوع فيه جزئيا أم كليا ، كقولنا : لا تكرم زيدا ، أو لا تكرم الفلاسفة ، بالإضافة لقولنا : أكرم العالم ، أو كل عالم ، أو أكرم عالما. فهو عنوان إضافي ، لا يصدق على الدليل اصطلاحا إلا بلحاظ عام أوسع منه شمولا ، وبلحاظه يصدق عليه ذلك ، وإن كان هو عاما في نفسه ، بل قد يكون هناك خاص أخص منه.

وهو بذلك يعم المقيد ، إذ لا فرق بين المقيد والخاص عندهم إلا في أن الخاص مقابل العام ، والمقيد مقابل المطلق ، وحيث أردنا بالعام ما يعم المطلق تعين أن يراد بالخاص ما يعم المقيد. وعلى ذلك جرى كثير من إطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة النسبة بين الأدلة حيث أغفلوا الفرق بين الأمرين.

إذا عرفت هذا فينبغي الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول ..

٣٠٩

الفصل الأول

في أقسام العموم

لا يخفى أن أخذ الطبيعة في الحكم بنحو تتساوى فيه جميع أفرادها ..

تارة : يكون بنحو الانحلال ، بأن يرجع إلى ثبوت الحكم لكل فرد من أفرادها على حياله واستقلاله مع قطع النظر عن غيره ، بحيث يكون كل منها متعلقا لحكم يخصه ، له إطاعته ومعصيته ، مع قطع النظر عن غيره ، فتتعدد الأحكام بعدد الأفراد.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل تكون الطبيعة بتمام أفرادها متعلقة لحكم واحد.

وهو .. تارة : يقتضي الجمع بين الأفراد بتمامها فعلا أو تركا أو غيرهما من أنحاء اقتضاء الحكم.

وأخرى : يقتضي الاكتفاء بفرد منها بنحو البدلية.

والأول هو العموم الاستغراقي ، والثاني المجموعي ، والثالث البدلي.

ويجري نظير الأقسام المذكورة بالإضافة إلى الأزمنة والأحوال.

ثم إنه إن علم أحد الأقسام بعينه فلا كلام ، وإلا فالظاهر عدم الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه ، بل الوضع والقرائن العامة والخاصة وافية بتمييز موارده عن مواردهما ، ولو فرض الاشتباه فلا طريق لتعيين أحدها ، وإنما الكلام في الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن الأصل في العموم أن يكون استغراقيا ، لاحتياج العموم المجموعي إلى مئونة زائدة ، وهي مئونة اعتبار الأمور الكثيرة أمرا واحدا ، ليحكم عليها بحكم واحد ، وهو خلاف الأصل.

ويشكل بعدم وضوح توقف العموم المجموعي على ملاحظة الأمور

٣١٠

الكثيرة أمرا واحدا بل يكفي فيه وحدة الحكم المجعول لها ولو مع ملاحظتها بأنفسها من دون انتزاع أمر واحد منها ، في قبال ما إذا كان لكل منها حكم مستقل به. ونظير ذلك يجري في تعاطف المفردات ، كما لو قيل : أكرم زيدا وعمرا وبكرا ، حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية والارتباطية.

بل قد يدعى أن العموم الاستغراقي هو المحتاج لنحو من العناية ، وهي ملاحظة الحكم الذي تضمنته القضية منحلا إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فإن ذلك إن لم يكن خلاف الظهور الأولي فلا أقل من كونه خلاف الأصل.

فالعمدة في وجه البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف العرف إليه من الإطلاق ، تبعا للمرتكزات الاستعمالية ، حيث تبتني المجموعية على الارتباطية التي تحتاج عندهم إلى مئونة بيان. وقد سبق في آخر الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في حكم النهي لو خولف ما ينفع في المقام.

٣١١

الفصل الثاني

فيما يدل على العموم

اختلفت كلماتهم فيما وضعت له أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على المفاهيم الذاتية والعرضية ، وأنه هل هو المطلق الساري في تمام الأفراد ، بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازا ، أو ما يعمه والمقيد.

وتوضيح ذلك : أن الماهية في مقام الحكم عليها تارة : تلحظ بنفسها بما لها من حدود مفهومية ، فيقصر الحكم عليها من دون أن يسري إلى ما في الخارج من أفرادها ، كما في قولنا : الإنسان نوع ، وكما في موارد الحمل الأولي الذاتي. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الذهنية.

وأخرى : تلحظ عبرة لما في الخارج من أفرادها ، فيكون الحكم واردا على الأفراد الحقيقية. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الخارجية.

وهي حينئذ تارة : تلحظ بنفسها مع قطع النظر عما هو الخارج عنها ، فيعبر عنها بالماهية لا بشرط ، نحو : أكرم العالم.

وأخرى : تلحظ مع ما هو الخارج عنها مقيدة بوجوده نحو : أكرم العالم العادل ، أو بعدمه نحو أكرم العالم غير الفاسق ، ويعبر عنها حينئذ بالماهية بشرط شيء ، أو بشرط لا.

هذا ، ولا إشكال ظاهرا في أن الاستعمال في الماهية الذهنية حقيقة ، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على العناية التي لا بد منها في المجاز. وكذا في الماهية الخارجية الملحوظة لا بشرط ، لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن

٣١٢

الماهية بحدودها المفهومية. وأما سوقها عبرة للأفراد فهو مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.

وإنما الإشكال في الاستعمال في الماهية الخارجية المقيدة فقد حكي عن القدماء أنه مجازي ، وعن السلطان ومن تأخر عنه أنه حقيقي. وهو الأظهر ، لقضاء التأمل بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ في حالتي الإطلاق والتقييد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيدا والحكاية عن التقييد بدال آخر لا يوجب خروج اللفظ عما هو الموضوع له ، نظير الإخبار والتوصيف حيث لا يوجبان خروج اللفظ الدال على موضوعهما عن معناه الحقيقي.

ودعوى : أخذ الإطلاق والسريان في الماهية قيدا في المعنى الموضوع له ، وحيث كان التقييد خروجا عن ذلك كان لازمه الاستعمال في غير ما وضع له ، فيلزم المجاز. مدفوعة بأن السريان أمر زائد على الموضوع له ، لأن الموضوع له هو الأعم من الماهية الخارجية والذهنية التي لا تقبل الإطلاق والتقييد.

ومثلها دعوى : أن السريان وإن لم يؤخذ في الموضوع له ، إلا أن التقييد مستلزم لأخذ أمر زائد على الموضوع له في مدلول اللفظ ، وهو الخصوصية المتقومة بالقيد الزائدة على الماهية ، فيلزم المجاز.

لاندفاعها بأن خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ الموضوع للماهية المقيدة ، ليلزم التصرف في المعنى الموضوع له ، بل ليس المستعمل فيه ـ مع التقييد ـ إلا الماهية بحدودها المفهومية. ودخل الخصوصية في الحكم مستفاد من دال آخر ، وهو التقييد ، الذي هو مطرد شايع غير مبتن على العناية. وهو نحو نسبة بين ذات المقيد ـ وهو الماهية ـ والقيد تقتضي قصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد من الذات.

٣١٣

وإلا فإن كان المدعى هو استعمال اللفظ الموضوع للماهية في الحصة المقارنة للقيد بذاتها لا بما هي واجدة للقيد ، فلازمه رجوع التقييد للتوصيف ، مع وضوح الفرق بينهما ارتكازا ، ولا سيما إذا كان التقييد بلسان الاستثناء ونحوه مما يتضمن إخراج مورده عن حكم العام.

وإن كان المدعى هو استعمال اللفظ في المقيد بما هو مقيد ، بحيث يكون القيد مقوما للمستعمل فيه لم يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحياله مؤدى بها ، بل كانت ألفاظا مهملة لا غرض من الإتيان بها إلا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى لفظ المقيد ، من دون أن تفيد معنى زائدا عليه ، وهو ـ مع ظهور وهنه ـ غير معهود في الاستعمالات العرفية ، فإن قرائن المجاز والمشترك ونحوها ذات مدلول خاص بها مباين للمعنى المراد بلفظ ذي القرينة ، وقرينيتها على المعنى المراد بلحاظ ملائمتها له ، من دون أن تتمحض لبيان استعمال اللفظ فيه.

ويتضح ما ذكرنا فيما لو أريد بيان شجاعة زيد مثلا تارة : بقولنا : زيد رجل ، وأخرى : بقولنا : زيد رجل شجاع ، حيث لا إشكال ظاهرا في وضوح الفرق في معنى الرجل بين الوجهين ، وابتناء الأول على الخروج به عن معناه الحقيقي ، واستعماله في خصوصية الشجاع زائدا عليه ، وعدم الخروج به في الثاني عن معناه ، وإنما أفيدت الشجاعة بالتقييد الزائد عليه.

وبالجملة : ليس مفاد التقييد إلا نسبة زائدة على الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ الموضوع لها ، ليلزم المجاز ، كما هو الحال في سائر النسب ، حيث توجب إضافة معنى على أطرافها ، من دون أن توجب تبدلا في معاني تلك الأطراف.

هذا كله في التقييد المتصل. وأما المنفصل فلا ينفع ما تقدم فيه ، لأنه يكشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع أن المأخوذ في موضوع الحكم هو الماهية لا

٣١٤

بشرط ، من دون أخذ القيد فيها بنسبة زائدة ، ليجري فيه ما تقدم.

وقد حاول غير واحد توجيه عدم المجاز في الاستعمال معه بدعوى : أن الموضوع له هو القدر المشترك بين الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ، الذي قد يعبر عنه باللابشرط المقسمي.

ويشكل .. أولا : بأن القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه ، لانحصار الماهية الملحوظة بأحد الوجوه المتقدمة ، وليس هو اعتبارا مقابلا لها ، مشتركا بينها ، ليكون جامعا مفهوميا يمكن الوضع له ، بل هو جامع انتزاعي بينها ، نظير عنوان أحد الأمور ، وليس مرجع الوضع له إلا إلى الوضع لأقسامه بنحو الترديد ، نظير الاشتراك اللفظي ، وهو مما يقطع بعدمه.

وثانيا : بأن لازم ذلك هو استعمال اللفظ مع التقييد المتصل في الماهية بشرط شيء ، وقد عرفت منعه ، وأنه ليس المستعمل فيه في جميع الموارد إلا الماهية بحدودها المفهومية القابلة للحاظ بالوجوه الثلاثة ، والتي هي قدر مشترك بينها.

وحينئذ حيث كان المفروض مع التقييد المنفصل عدم تقييد الماهية عند الحكم عليها مع ورود الحكم على المقيد منها فقط ، فقد تتجه دعوى المجاز والخروج باللفظ عما وضع له.

لكن الظاهر ابتناء الكلام فيه على أمر آخر ، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على الماهية الخارجية بحدودها المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام أفرادها ـ بحيث لو كان مختصا ببعضها لم يصح نسبته للماهية إلا مع التقييد المتصل الذي سبق عدم لزوم المجاز به ، أو استعمال اللفظ في المقيد خروجا به عما وضع له المستلزم للمجاز ـ أو لا ، بل يكفي في نسبة الحكم لها بحدودها المفهومية ثبوته لبعض أفرادها من دون حاجة للتقييد؟

وجهان ، الظاهر الثاني.

٣١٥

ومرجعه إلى صحة نسبة الحكم للماهية الخارجية بنحو القضية المهملة ، من دون أن يخرج باللفظ عن معناه ، أو يقصد البعض الخاص ـ باستعمال اللفظ فيه مجازا ، أو بإرادته بنحو التقييد الضمني ، أو بنتيجة التقييد المبتنية على ملاحظته بذاته ـ لعدم العناية ارتكازا في الاستعمال بالنحو المذكور ، الذي عليه يبتني كثير من القضايا الشائعة بين أهل اللسان ، كقولنا : قد رأيت الأسد ، وركبت الفرس ، ولبست الديباج ، وغيرها. وكما في القضايا المتضمنة للأحكام مع عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات ، حيث لا إشكال في عدم ابتناء ذلك على العناية باستعمال اللفظ في المقيد ، إذ قد لا يكون المتكلم حينئذ محيطا بالخصوصيات والقيود الدخيلة في الحكم ، ليتسنى له الاستعمال في المقيد بها أو المقارن لها ، فلو لا صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية بنحو القضية المهملة لم تصح الاستعمالات المذكورة.

والفرق بين ما ذكرنا وما سبق عن غير واحد من دعوى الوضع للجامع بين المطلق والمقيد أن التوسع على ما ذكروه في مفاد اللفظ الدال على الماهية ، وعلى ما ذكرناه في مفاد الحكم عليها.

نعم ، كما يمكن ابتناء الحكم في موارد التقييد المنفصل على ما ذكرنا يمكن ابتناؤه على قيام قرينة متصلة حالية أو مقالية قد اختفت ، أو على استعمال المطلق في المقيد مجازا ، لأنه بعد فرض انعقاد الظهور في العموم على خلاف ما ثبت في التقييد المنفصل تكون جميع الوجوه المذكورة مخالفة للأصل ، فلا بد في تعيين أحدها من معين.

ويأتي ما يناسب المقام في فصل العام المخصص إن شاء الله تعالى.

كما أن الإهمال يختص بالقضية الموجبة ، أما السالبة فالظاهر استفادة

٣١٦

العموم منها ، لا السلب في الجملة.

ومنشأ الفرق بينهما أن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها يستلزم صحة إثبات الحكم لها بثبوته لأفرادها في الجملة ، وعدم صحة نفيه عنها إلا بانتفائه عن تمام الأفراد. ويأتي في مبحث مفاد النكرة في سياق النفي والنهي ما ينفع في المقام.

ثم إن ما ذكرنا من صحة الحمل على الماهية تارة : بنحو التقييد المتصل وأخرى : من دون تقييد ، وأنه يكفي في الثاني ثبوت الحكم للماهية في الجملة ، فتكون القضية مهملة ، وتجتمع مع التقييد المنفصل ، يجري نظيره في النسبة التي إليها يرجع العموم الأحوالي ، فنسبة الحكم للموضوع قد تبتني على ثبوته له في خصوص حال يستفاد من التقييد بشرط أو غاية أو غيرهما من القيود المتصلة ، كما قد تبتني على ثبوته له في الجملة ، الذي يجتمع مع ثبوته له دائما ، ومع ثبوته في خصوص حال ، يستكشف بتقييد منفصل ، من دون أن يخرج في شيء منها عن مفاد النسبة وضعا ، لعدم العناية في جميع الاستعمالات المذكورة على نحو ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس. والظاهر عدم الفرق في إمكان إهمال النسبة بين الإيجابية والسلبية ، وليس هو كتسليط النفي على نفس الماهية الذي عرفت أنه لا يكون بنحو الإهمال ، بل يتعين كونه بنحو العموم الإفرادي.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن مقتضى الوضع مع عدم التقييد المتصل ليس إلا ثبوت الحكم للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة بالإضافة إلى الأفراد والأحوال. ومن هنا لا بد من الكلام فيما يدل على العموم وضعا أو عقلا أو بقرائن عامة ، ليترتب عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام ، وله عقد هذا الفصل. وذلك يكون في ضمن مباحث.

٣١٧

المبحث الأول

في أدوات العموم

لا إشكال في دلالة بعض الأدوات على العموم الأفرادي أو الأحوالي ، مثل : (كل) و(جميع) و(أي) ، في مثل : أكرم كل رجل ، أو جميع الرجال ، أو أي رجل ، و(دائما) وأدوات الغاية في مثل : الخمر نجسة دائما ، أو حتى تنقلب خلا ، ونحو ذلك. لأن ذلك هو المتبادر منها. ومعه لا مجال لما حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم والخصوص ، أو اختصاصها بالخصوص. كما لا مجال لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في مثل كتاب المعالم وغيره.

هذا ، ويظهر من غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم لتمام أفراد مدخولها ، بل لتمام أفراد ما أريد منه مطلقا كان أو مقيدا ، ولذا أمكن تقييد المدخول ، ففي مثل أكرم كل عالم عادل لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم ، بل لخصوص أفراد العادل منه. وحينئذ لا بد في استفادة العموم منها لتمام أفراد المدخول من إحراز كون المراد بالمدخول الماهية المطلقة المرسلة ، وهو إنما يكون بمقدمات الحكمة ، التي يأتي الكلام فيها ، ومع عدم تماميتها لا مجال لإحراز ذلك.

لكنه يبتني على كون اللفظ الدال على الماهية موضوعا للقدر المشترك بين المطلقة المرسلة والمقيدة ، حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى لمقدمات الحكمة. وقد سبق ضعفه ، وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية ، والتقييد نسبة زائدة عليها. غايته أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضي استيعابه لأفرادها ،

٣١٨

بل يكفي ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، فمع دلالة الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد المدخول يتعين خروج القضية عن الإهمال ، وكونها عامة ، بلا حاجة لمقدمات الحكمة. ولا ينافي ذلك قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل ، لأن نسبة التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي قصر العموم عليها ، ومع عدمه يتعين سعة العموم.

نعم لو احتمل التقييد المتصل لمدخول الأدوات بقرينة ـ حالية أو مقالية ـ قد اختفت فاستفادة العموم لتمام الأفراد تبتني على أصالة عدم القرينة ، لا على مقدمات الحكمة. وما ذكرناه هو المطابق للمرتكزات الاستعمالية من استناد الدلالة على العموم للأدوات المذكورة ، وعدم سوقها لتأكيد العموم المستفاد من مقدمات الحكمة ، بحيث لا يستفاد مع عدم تماميتها.

المبحث الثاني

في النكرة في سياق النفي والنهي

لا إشكال في دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم ، لأن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها كما يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها ـ الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهي ـ إلا بانتفاء جميعها ، كما تقدم في أوائل الفصل الخامس من مقصد الأوامر والنواهي وأشرنا إليه في آخر الكلام في مفاد أسماء الأجناس. ومنه يظهر أن الدلالة على العموم عقلية متفرعة على دلالة اللفظ وضعا على الماهية ذات الوجود الواسع.

كما يظهر جريان ذلك في كل ما يدل على الماهية المذكورة وإن لم يكن نكرة ، ك (اسم الجنس) المعرف باللام نحو قولنا : لم أر الأسد.

نعم بناء على ما سبق عن بعضهم من وضع اسم الجنس للقدر المشترك

٣١٩

بين المطلق والمقيد يتعين عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم إلا مع إحراز كون المراد بها المطلق ، بضميمة مقدمات الحكمة ، إذ بدون ذلك يحتمل إرادة الماهية المقيدة التي يكفي في نفيها نفي أفرادها لا غير. لكن عرفت ضعفه.

هذا كله في العموم الأفرادي ، أما العموم الأحوالي الذي هو مقتضى إطلاق الهيئة فلا يبعد توقفه على مقدمات الحكمة ، لما سبق في ذيل الكلام في مفاد أسماء الأجناس من إمكان إهمال النسبة من دون فرق بين القضية الموجبة والسالبة.

تنبيه :

ذكر غير واحد أن مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد. ولا يبعد كون نظرهم إلى قسم منها. وذلك أنها تختلف فتارة : تدل على الماهية بنفسها ، فتنطبق على الكثير بعين انطباقها على القليل ، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد المشتقات ، ولذا تقدم أن الأمر لا يقتضي المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس الافرادي ، كماء وتراب وحنطة.

وأخرى : تدل على الماهية المتشخصة بواحد ، كالمصدر الذي على وزن (فعلة) ومثل رجل وامرأة وثوب وما يقترن بالتاء من ما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجرة وحبة ، وما يتجرد عنها من عكسه ، ك (كمء).

وثالثة : تدل على الماهية المتكثرة ، وهو اسم الجنس الجمعي ، كالمجرد عن التاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجر وحب ، والمقترن بها من عكسه ك (كمأة) بناء على أنه اسم جنس لا جمع.

هذا ، وما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم كما يجري في الأول يجري في الثاني ، لأن انتفاء المتشخص بالواحد لا يصدق

٣٢٠