الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

لزم نهوض هذا الوجه بإثبات مفهوم اللقب ، مع عدم استدلالهم به عليه. بخلاف المعتمد على موصوف ، لأن إطلاق الموضوع كاف في بيان ثبوت الحكم في مورد الوصف ، فلا بد من كون فائدة ذكر الوصف المعتمد أمرا آخر.

كما أن المفهوم اللازم من الاستدلال بهذا الوجه هو كون انتفاء الوصف موجبا لانتفاء الحكم عن بقية أفراد الموضوع وأحواله ، لكفايته في رفع اللغوية المدعاة ، وإن لم يوجب ارتفاع الحكم عن موضوع آخر حال فقد القيد ، كما لعله ظاهر.

وكيف كان فيندفع هذا الوجه بأن توقف عدم لغوية ذكر الوصف على المفهوم غير مطرد ، بل قد يكون ذكره لدفع توهم عدم ثبوت الحكم في مورده ـ لكونه من أفراد الموضوع الخفية ـ أو لكونه مورد اهتمام الحاكم لأولويته بالملاك ، أو لكونه مورد الابتلاء أو السؤال أو نحو ذلك.

مضافا إلى أنه يكفي في رفع اللغوية دخل القيد في الحكم ، بنحو لا يثبت لذات لمقيد مطلقا ، ولا يتوقف على انحصار الحكم به بحيث لا يخلفه أمر آخر ، كما هو مقتضى المفهوم ، فإذا قيل : أكرم الرجل العالم ، لم يتوقف عدم لغوية التقييد بالعالم على انحصار وجوب الإكرام به ، بل يكفي دخل العلم فيه وإن أمكن أن يقوم مقامه أمر آخر ، كالتدين وحسن الخلق والفقر في مقابل وجوب إكرام كل رجل.

الثاني : دلالة الوصف على العلية. قال في التقريرات : «قد ملأ الأسماع قولهم : إن التعليق على الوصف يشعر بالعلية». وهو لو تم مختص بالوصف ولا يعم غيره من القيود. كما أنه لا يختص بالوصف المعتمد على الموصوف.

وأما المفهوم الذي يقتضيه فهو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مطلقا إن لم يكن الوصف معتمدا. وإن كان معتمدا ، فإن رجع الوجه المذكور إلى كون

٢٨١

الوصف علة تامة منحصرة من دون خصوصية للموضوع تعين عموم المفهوم وانتفاء الحكم تبعا لانتفاء الوصف مطلقا ولو عن غير الموصوف ، وإن رجع إلى ما يعمّ كونه متمم العلة اتجه اختصاص المفهوم بالموضوع ، من دون نظر لانتفاء الوصف عن غيره ، لإمكان اختصاص الاحتياج إلى تتميم العلة بالموصوف ، مع كون غيره علة تامة من دون حاجة إلى الوصف.

وكيف كان فيشكل أولا : بأن المعروف بينهم الإشعار بالعلية ، دون الظهور الحجة. وثانيا : بأنه غير مطرد ، بل يختص بالوصف المناسب للحكم ارتكازا ، كالعلم والعدالة بالإضافة إلى وجوب الإكرام ، دون مثل قولنا : تقلّ الثياب البيض ، والماء العذب ، وتكثر الرجال القصار ، والنساء الطوال. وثالثا :

بأن العلية بمجردها لا تكفي في المفهوم ما لم تكن بنحو الانحصار ، ولا إشعار للوصف بذلك.

نعم ، قد يستفاد الانحصار من قرينة خاصة ، أو من سوقه مساق التعليل ، كما لو قيل : لا تأكل الرمان لأنه حامض. ولعله إليه يرجع ما عن العلامة من التفصيل في ثبوت المفهوم بين كون الوصف علة وعدمه.

الثالث : أنه لو لا ظهور الوصف في المفهوم لم يكن وجه لحمل المطلق على المقيد إذا كانا إثباتيين ، لعدم التنافي بينهما بدوا ، مع أن بناء الفقهاء وأهل الاستدلال على التنافي البدوي بينهما ولزوم الجمع بذلك. وهو لو تم يعم الوصف المعتمد وغيره ، بل يعم غير الوصف من القيود ، لعموم بنائهم على الجمع بين المطلق والمقيد فيها. كما أن مقتضاه اختصاص الحكم بالمقيد ، وانتفاؤه عن غيره حتى في غير موضوع القيد.

وفيه : أن الجمع المذكور لا يبتني على دلالة الوصف على المفهوم ، بل على كون ظهور الدليل المقيد في التعيين أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

٢٨٢

ولذا يختص بما إذا كانا إثباتيين مع كون المطلق بدليا يقتضي التخيير بين واجد القيد وفاقده ، دون ما إذا كان استغراقيا إثباتيا أو سلبيا على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى ، مع وضوح عدم اختصاص دلالة الوصف على المفهوم لو قيل بها بذلك.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم. وربما استدل بعضهم بفهم أهل اللسان المفهوم في بعض الموارد. وهو كما ترى لا ينهض بالاستدلال بعد احتمال استناد فهمهم لقرائن خاصة خارجة عن مفاد التوصيف.

ومن هنا يتعين البناء على عدم دلالة الوصف بنفسه على المفهوم ، وإن كان قد يحمل الكلام عليه لقرائن خاصة مقالية أو حالية غير منضبطة.

بقي شيء

وهو أن المحكي عن بعض مشايخنا أن الوصف وإن لم يدل على المفهوم بمعنى انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف ، إلا أنه يدل على عدم ثبوت الحكم لذات الموصوف على الإطلاق ، بل لا بد في تتميم موضوعيتها من انضمام أمر آخر إليها ، سواء كان هو الوصف المذكور أم غيره ، فقولنا : أكرم الرجل العالم ، وإن لم يدل على عدم وجوب إكرام غير العالم ، إلا أنه يدل على عدم وجوب إكرام كل رجل ، بل لا بد في وجوب إكرام الرجل من اشتماله على خصوصية زائدة ، سواء كانت هي العلم أم غيره.

وقد استدل على ذلك بأن ظاهر القيد أن يكون احترازيا إلا بقرينة مخرجة عن ذلك ، وثبوت الحكم للذات الوارد عليها القيد على إطلاقها من دون أن يكون الوصف دخيلا فيه ينافي كون القيد احترازيا.

ومن ثم خصه بالوصف المعتمد على موصوف ، أما غيره فحيث لم يكن مسوقا لتقييد متعلق الحكم لم يكن له ظهور في الاحترازية ، بل هو كسائر

٢٨٣

الموضوعات التي يرد عليها الحكم ابتداء ، فلا مجال لدعوى ظهوره في المفهوم بناء على عدم ثبوت مفهوم اللقب.

لكنه يشكل بأن المراد بأصالة الاحترازية في القيد إن كان بالإضافة إلى شخص الحكم ـ كما تقدم احتماله آنفا ـ فهو لا ينفع في إثبات ما ذكره ، لأن ثبوت شخص الحكم لذات الموصوف في مورد الوصف لا ينافي ثبوت مثله لها في مورد عدمه ، كما يظهر بملاحظة ما ذكرناه في أول الفصل. وإن كان بالإضافة إلى سنخ الحكم فهو يقتضي انحصاره بواجد القيد المستلزم للمفهوم ، لأن مقتضاه الاحتراز بالقيد عن ورود الحكم في غير موارده ، ولا ينهض بالتفصيل الذي ذكره.

نعم ، يتجه ما ذكره لو كان المدعى ظهور القيد في دخله في ثبوت الحكم في مورده ، لاستلزام ذلك عدم كفاية الذات في ثبوت الحكم وعدم كونها تمام الموضوع له ، فلا يثبت في تمام أفرادها ، وإن أمكن أن يخلفه أمر آخر يقوم مقامه في الدخل في الحكم وتتميمه لموضوعه. وبما تقدم في الاستدلال على المفهوم يظهر حال الظهور المذكور.

٢٨٤

الفصل الثالث

في مفهوم الغاية

وقع الكلام في أن التقييد بالغاية هل يدل على انتفاء الحكم بحصولها ، أو لا؟. وقد ذكر غير واحد أن الغاية تارة : تكون قيدا للحكم وأخرى : تكون قيدا للموضوع. وبنوا على ذلك الكلام في المفهوم في المقام. وينبغي الكلام في التقسيم المذكور مقدمة للكلام في المفهوم ، فنقول :

الظاهر أن المراد بالأول رجوع الغاية للنسبة التي يتضمنها الكلام ، لا للمحمول ، ففي قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» وقولنا : كل مسافر مستوحش حتى يجد رفيقا ، يكون المراد استمرار النسبة إلى حصول الغاية ، لا الحكم بحصول الطهارة والوحشة المستمرتين إلى حصول الغاية.

فإن لازم الثاني توقف صدق القضية على حصول الغاية ، لأن صدق الحملية كما يتوقف على تحقق المحمول يتوقف على تحقق قيوده. وليس كذلك على الأول ، لعدم توقف صدق القضية على تحقق قيود النسبة التي تضمنتها من شرط أو غاية أو ظرف أو غيرها.

غاية الأمر أنه لا بد من مطابقة النسبة في ظرف تحققها لنحو قيدية القيد ، فتتحقق النسبة مع تحقق الشرط والظرف ومع عدم تحقق الغاية ، وترتفع في غير ذلك أو تكون مسكوتا عنها ، على الكلام في ثبوت المفهوم للقيود المذكورة وعدمه.

وحيث لا ظهور للقضية في تحقق الغاية ، ولذا لا تكذب مع عدم تحققها ، لزم رجوعها للنسبة. وما يظهر من بعض عباراتهم من أنها قد ترجع

٢٨٥

إلى المحمول في غير محله على الظاهر ، لعدم معهوديته في القضايا المتداولة.

وأما الثاني فقد تردد في بعض كلماتهم أن الغاية فيه ترجع تارة : لمتعلق الحكم ، كالسير في قولنا : سر من الكوفة إلى البصرة.

وأخرى : لموضوع المتعلق ، كالأيدي والأرجل في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١) ، حيث لا تكون غاية للغسل والمسح ، ولذا لا يجب الانتهاء فيهما بالمرفق والكعب ، وإليه يرجع ما قيل من أنها لتحديد المغسول.

لكن الظاهر رجوع الثاني للأول ، وأن المراد بالآية بيان غاية الغسل والمسح ، غاية الأمر أنه ليس بلحاظ التدرج في وجود أجزائهما ـ الذي يكون معيار الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى بدء الوجود ونهايته ـ بل بلحاظ محض التحديد وبيان المقدار الذي يكون الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى بمحض الاعتبار ، نظير تحديد الأمكنة والبقاع ، حيث يصح أن يقال في تحديد البحر الأبيض المتوسط مثلا : أنه يمتد من جبل طارق إلى بلاد الشام ، كما يصح أن يقال : أنه يمتد من بلاد الشام إلى جبل طارق. فيكون المراد بيان مقدار الغسل بلحاظ سعة المغسول. وإلا فحملها على تقييد نفس الموضوع الخارجي بلحاظ أجزائه بعيد عن المرتكزات ، غير معهود النظير ، كما لا يناسب ما ذكره النحويون ، وتساعد عليه المرتكزات ، من أن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بالفعل أو ما يقوم مقامه من الأسماء المتضمنة معنى الحدوث والتجدد ، حيث يناسب ذلك أن يكون الجار والمجرور قيدا للنسب التي يتضمنها الفعل والأسماء المذكورة ، ولا يكون قيدا للأسماء الجامدة المتمحضة في الاسمية.

وبالجملة : الغاية ترجع دائما للنسبة ، وليس الفرق بين رجوع الغاية

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٦.

٢٨٦

للحكم ورجوعها للموضوع إلا في أن مرجع الغاية في الأول هي النسبة بين الحكم ومتعلقه ، وفي الثاني هي النسبة التي تكون متعلقا للحكم ، فإذا قيل : يجب أن تقرأ في المسجد من طلوع الشمس إلى الظهر ، فإن كان التوقيت للنسبة بين الوجوب والقراءة ـ مع إطلاق القراءة الواجبة ـ كانت الغاية راجعة للحكم ، وإن كان التوقيت للنسبة الصدورية بين المكلف والقراءة التي هي متعلق الوجوب ـ مع إطلاق النسبة بين الوجوب وبينها ـ كانت الغاية راجعة للموضوع.

إذا عرفت هذا فالمناسب الكلام في مقامين :

المقام الأول : في غاية الحكم

وقد ذكر غير واحد ثبوت المفهوم ، بل لعله المعروف بينهم. وقد استدل المحقق الخراساني قدس‌سره على ذلك بأن فرض كون الشيء غاية لشيء ملازم لارتفاعه بارتفاعه وإلا لم يكن غاية له.

ولا مجال للإشكال فيه بأن ذلك فرع كون الغاية غاية لسنخ الحكم لا لشخصه ، ولا بد من إثبات ذلك. لظهور اندفاعه مما سبق في التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط من أن ما تتضمنه القضية وإن كان هو شخص الحكم المتقوم بتمام ما أخذ فيها من قيود ، إلا أن موضوع التقييد هو الذات على سعتها المساوقة للسنخ بالمعنى المتقدم فتتضيق بالقيد ، فالقيد دائما يرد على السنخ وإن كان المتحصل من القضية المتضمنة له هو الشخص ، فإذا كان مقتضى القيد ارتفاع المقيد ـ كما هو الحال في الغاية ـ كان مفاد التقييد ارتفاع السنخ ، لا الشخص فقط.

فالعمدة في الإشكال على الاستدلال المذكور : أنه مع فرض كون الشيء غاية فكما لا بد من ثبوت المفهوم ، كذلك لا معنى للنزاع فيه ، فلا بد من رجوع

٢٨٧

النزاع إلى النزاع في ظهور الكلام في كون الشيء غاية. فإن التعبير بالغاية إنما وقع في كلام أهل الفن تسامحا ، من دون أن يتضمنه الكلام الذي وقع النزاع في دلالته على المفهوم ، وإنما تضمن الكلام أدوات خاصة ، مثل : (حتى) و(إلى). ومرجع النزاع في المقام إلى النزاع في ظهور تلك الأدوات في كون ما بعدها غاية للنسبة بحيث ترتفع بعده ، وعدم ظهورها في ذلك ، بل إنما تدل على مجرد استمرار النسبة إليه ، سواء انتهت به أم بقيت بعده.

ونظير ذلك تعبيرهم عن المقدم في الشرطية بالشرط ، فإن فرض كونه شرطا ملازم لدلالة القضية على المفهوم ، والنزاع في دلالتها عليه راجع للنزاع في ظهور الأدوات في شرطيته للجزاء ، أو في مجرد تحققه حينه ، وإن أمكن أن يتحقق بدونه.

وحينئذ لا ينبغي التأمل في عدم دلالة الأدوات المذكورة على الانتهاء والغاية ، بل على مجرد الاستمرار فيما لو كانت قيودا لفعل المكلف ، لا للحكم ، فقولنا : سرت من الكوفة إلى البصرة ، أو حتى دخلت البصرة ، لا يستفاد منه انتهاء السير بالبصرة ، بحيث لا سير بعد الدخول إليها ، وقولنا : سر من الكوفة إلى البصرة ، لا يستفاد منه إلا تقييد السير الواجب بأن يستمر للبصرة وإن لم ينته بها ، بل يستمر بعدها. وكذا الحال في الغاية الزمانية ، كما لو قيل : سرت إلى ساعة ، أو : سر إلى ساعة ، حيث لا يستفاد الانتهاء بالمدخول إلا بقرينة خارجة عن ذلك ، كورود الكلام في مقام التحديد ، حيث يستفاد المفهوم معه حتى في اللقب والعدد ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولعل شيوع ورود الأدوات المذكورة في المورد المذكور هو الموهم لدلالتها على الانتهاء والغاية زائدا على الاستمرار. لكن تشخيص المفاد الوضعي إنما يكون بملاحظة الموارد الخالية عن القرائن الخارجية. وربما يكون أظهرها موارد الاستفهام ، كما لو قيل : هل سرت من الكوفة إلى البصرة ،

٢٨٨

أو : حتى دخلت البصرة ، أو : هل جلست في الدار من الشروق إلى الزوال ، أو : حتى صار الزوال ، حيث لا إشكال ظاهرا في أن المستفاد منه الاستفهام عن مجرد الاستمرار ، دون الغاية والانتهاء زائدا على ذلك ، إلا بقرينة خاصة مخرجة عن مقتضى الظهور النوعي.

كما لا إشكال أيضا في انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأدوات المذكورة ، تبعا لظهورها في الغاية والانتهاء زائدا على الاستمرار. بل ظهورها فيه أقوى من ظهور التقييد بأدوات الشرط فيه ، كما صرح به غير واحد.

ويشهد به كثرة استعمال أدوات الشرط معراة عن المفهوم ، بخلاف الأدوات المذكورة. مضافا إلى ظهور التعارض مع اختلاف الغاية بالزيادة والنقيصة ، كما لو قيل : كل شيء طاهر حتى يشهد شاهدان أنه قذر ، وكل شيء طاهر حتى يشهد أربعة شهود أنه قذر ، مع وضوح عدم التنافي لو تمحضت الأداة ببيان الاستمرار.

ولا يهم تحقيق منشأ الظهور المذكور ، لعدم تعلق الغرض به ، بل بنفس الظهور الذي هو أمر وجداني لا يقبل الإنكار أو الإشكال. نعم يبعد جدا اختلاف مفاد الأدوات وضعا باختلاف متعلق التقييد بها ، بل هو كالمقطوع بعدمه.

ومن هنا كان من القريب عدم دلالتها وضعا إلا على الاستمرار ، من دون نظر للغاية والانتهاء. وأما دلالتها عليها ـ المستتبعة لدلالتها على المفهوم ـ في مقام تقييد الحكم ، فهي ناشئة عن أمر آخر غير الوضع ، وهو سوقها للتحديد ، فإنه لما كان مقتضى إطلاق جعل الحكم على موضوعه استمراره باستمراره كان سوق هذه الأدوات لبيان مجرد الاستمرار مستغنى عنه ولاغيا عرفا ، بخلاف فعل المكلف فإن مقتضى إطلاقه الاكتفاء بصرف الوجود ، فلا يلغو بيان

٢٨٩

استمراره. وذلك أوجب مألوفية استعمالها عند تقييد الحكم بها في مقام التحديد زائدا على بيان أصل الاستمرار الذي هو مفادها الوضعي ، حتى صار لها عند تقييد الحكم بها ظهور ثانوي في ذلك زائدا على ظهورها الوضعي في الاستمرار.

ولا يرجع ذلك إلى كون اللغوية قرينة موجبة للظهور في التحديد ، ليتجه ما سبق في وجه منع استناد مفهوم الوصف إليها من عدم انحصار الغرض المصحح لذكر القيد بالتحديد ، بل إلى كونها علة في مألوفية استعمالها في التحديد بين أهل اللسان ، بنحو أوجب ظهورها فيه نوعا ، وإغفالهم بقية الأغراض المصححة لبيان مجرد الاستمرار.

مضافا إلى الفرق بين مدخول الأدوات المذكورة ومثل الوصف والظرف ، فإن الوصف والظرف ونحوهما إنما تقارن حصصا خاصة من أفراد الماهية وأحوالها ، فأمكن أن يكون الغرض من بيان ثبوت الحكم فيها أمرا غير التحديد ، ككونه أخفى الأفراد والأحوال أو مورد السؤال أو غير ذلك مما تقدم في مفهوم الوصف. أما مدخول الأدوات فهو إنما يتضمن الحدّ ، ولا فائدة في بيان الاستمرار للحد بعد أن كان مقتضى إطلاق الحكم ، فيتعين حمله على التحديد والمفهوم.

نعم ، قد يكون ذكر الغاية لتأكيد الإطلاق ، وذلك فيما إذا كان الحدّ مساوقا لارتفاع الموضوع ، نحو قولنا : أكرم الصادق حتى يكذب والعادل حتى يفسق.

المقام الثاني : في غاية الموضوع

وقد ذكر غير واحد أنه لا دلالة لها على المفهوم ، لأن ثبوت الحكم للموضوع المقيد لا ينافي ثبوت مثله لفاقد القيد ، نظير ما تقدم

٢٩٠

في مفهوم الوصف.

هذا وحيث سبق عدم وضع الأدوات المذكورة للغاية والنهاية فلا إشكال في عدم دلالة التقييد بها على كون متعلق الحكم هو الفعل المنتهى بمدخولها ، بحيث لا ينطبق على ما لا ينتهي به ويستمر بعده بأن تكون الزيادة مانعة من الامتثال به.

وإنما الكلام في أن التقييد بها هل يدل على انتهاء متعلق الحكم بحصول مدخولها ، بحيث لا يكون ما بعده موردا للحكم ، أو لا ، بل يكون مسكوتا عنه محتملا لذلك؟ فإذا قيل : اجلس في المسجد من طلوع الشمس إلى الظهر ، هل يكون ظاهر الكلام خروج الجلوس بعد الظهر عن الواجب ، أو لا ، بل يكون مسكوتا عنه ، بحيث لو دل دليل على دخوله في الواجب لم يكن منافيا له؟.

ولا ينبغي التأمل في الظهور في المفهوم بحمل التقييد بالأدوات على التحديد زائدا على الاستمرار الذي هو مفادها وضعا في موردين.

الأول : ما إذا كان مدخول هذه الأدوات جزءا مما قبلها ، كما في آية الوضوء ، وكما لو قيل : اجلس في المسجد يوم الجمعة إلى الظهر ، لأن أخذ ما قبلها في موضوع الحكم يقتضي الاستيعاب له وضعا ، فجعل مدخولها بعض أجزائه ـ كالمرافق والكعبين في الآية ، والظهر في المثال ـ لو كان لمجرد بيان إرادة الاستيعاب له من دون تحديد به كان لاغيا ، بل موهما لخلاف المراد ، فيتعين حمله على التحديد المستلزم للمفهوم ، فهو نظير استثناء ما بعد الغاية من الاستيعاب المستفاد وضعا ، ونظير بدل البعض من الكل ، الذي يلزم حمله على حصر الحكم الوارد على الكل به ، دفعا للغوية.

الثاني : ما إذا تمت مقدمات الإطلاق ، كما هو الحال في فرض وحدة الحكم ، بأن كان بالإضافة لأجزاء الزمان بدليا ، كما لو قيل : يجب أن تجلس

٢٩١

ساعة من طلوع الشمس إلى الظهر ، أو مجموعيا ارتباطيا ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) ، لأن مقتضى إطلاق متعلق الحكم تحديده سعة وضيقا على طبق القيود المأخوذة في الخطاب من دون خصوصية لأدوات الغاية ، فإذا كان بدليا كان مقتضاه تعين الامتثال بفرد من الماهية المقيدة والاجتزاء به ، وإذا كان مجموعيا كان مقتضاه الاجتزاء بالماهية المذكورة وعدم لزوم ما زاد عليها ، وكلاهما يستلزم عدم دخول ما بعد مدخول الأدوات المذكورة في متعلق الحكم.

وأما مع تعدد الحكم ، لكونه بالإضافة لأجزاء الزمان انحلاليا راجعا إلى أحكام متعددة بعددها ، لكل منها إطاعته ومعصيته ، فالإطلاق إنما يقتضي ثبوت الحكم للفعل في كل جزء من أجزاء الزمان أو المكان الواقعة قبل مدخول الأدوات بحياله واستقلاله من دون نظر إلى غيره فلا ينهض بنفي الحكم عما بعد مدخولها.

إلا أن يستفاد من ذكرها إرادة التحديد وبيان الغاية زائدا على الاستمرار ، كما هو غير بعيد. ولعله لشيوع استعمالها في مقام التحديد. ولذا لا يفرق ارتكازا في ظهور مثل آية الصوم في عدم وجوب ما زاد على الحد بين كون الإمساك الواجب في تمام النهار مجموعيا وكونه انحلاليا.

ومن هنا يتعين البناء على ظهور الأدوات المذكورة في المفهوم ، من دون فرق بين كونها قيدا للحكم وكونها قيدا للموضوع ، كما أطلقه بعضهم ، من دون أن يستند لوضعها للغاية والانتهاء ، بل لاستعمال العرف لها ـ في الموردين ـ في مقام التحديد وبيان الغاية زائدا على الاستمرار والاستيعاب الذي هو مفادها الوضعي ، بنحو يكون منشأ لثبوت ظهور ثانوي لها فيه.

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٨٧.

٢٩٢

نعم ، تختلف الموارد في مراتب ظهورها في ذلك. فأظهرها ما كان الاستيعاب الاستمرار فيه مقتضى الوضع لو لا التقييد بها ، كما لو كان مدخولها جزءا مما قبلها. ثم ما كان الاستمرار فيه مقتضى الإطلاق ، كما في موارد تقييد الحكم. ومثله ما إذا كان المفهوم مقتضى الإطلاق ، كما إذا كانت قيودا في متعلق الحكم مع وحدة الحكم لكونه بدليا أو مجموعيا. ثم ما عدا ذلك مما قد يكون منشؤه شيوع استعمالها في مقام التحديد ومألوفيته عرفا.

وينبغي التنبيه على أمور ..

الأول : بناء على عدم الفرق في ثبوت المفهوم بين رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع فلا أثر لتشخيص أحد الأمرين إثباتا ، أما بناء على اختصاص المفهوم بالأول ، فتشخيص أحد الأمرين مورد للأثر العملي.

ولا ينبغي التأمل في رجوع الغاية المكانية للموضوع دون الحكم ، لما سبق في مبحث الواجب المعلق من عدم قابلية الحكم للظرفية المكانية ، وأما الغاية الزمانية فهي من لواحق الظرفية الزمانية ، وقد سبق هناك تقريب ظهور الكلام بدوا في رجوعها للحكم ، واحتياج خلاف ذلك للقرينة. فراجع.

الثاني : لا إشكال في أن من أدوات الغاية التي هي محل الكلام (إلى) و(اللام) التي بمعناها و(حتى) الجارة. دون العاطفة التي هي لبيان عموم الحكم للمورد الخفي ، كما في قولنا : مات الناس حتى الأنبياء ، فإنها لتأكيد العموم ، من دون نظر للاستمرار والغاية.

وأما (أو) التي ذكر النحويون أنها بمعنى (إلى) أو (إلا) فالظاهر أنها لا تخرج عن معناها من الترديد الذي يراد به في المقام مفاد مانعة الخلوّ ، غايته أنها إن تعقبت فعلا لا يقبل الاستمرار دلت على لزوم وقوع أحد الأمرين ، فتناسب مفاد (إلا) وإن تعقبت فعلا يقبله دلت على استمراره إلى أن يتحقق مدخولها ، فيناسب مفاد (إلى) من دون نظر لارتفاعه بعد حصوله ، كما هو حال

٢٩٣

مانعة الخلوّ ، ولا تدل حينئذ على المفهوم. إلا أن يستفاد من الكلام ورودها للتحديد ، نظير ما تقدم.

الثالث : وقع الكلام في دخول مدخول أدوات الغاية في حكم المغيى بحيث يستمر الحكم حينه ، ويرتفع أو يكون مسكوتا عنه ـ على الكلام في المفهوم ـ بعده ، وعدم دخوله في حكمه ، بل يستمر الحكم إلى ما قبل المدخول ، ويرتفع أو يكون مسكوتا عنه حينه. والكلام إنما هو في مقتضى الظهور النوعي مع قطع النظر عن القرائن ، إذ كثيرا ما تتحكم القرائن الحالية والمقالية في تعيين أحد الأمرين.

وربما استدل على عدم دخولها في حكم المغيى بما عن نجم الأئمة من أن الغاية من حدود المغيى ، فيتعين خروجها عنه. وهو كما ترى ، لأن كونها حدا بالمعنى المذكور أول الكلام ، بل للقائل بدخولها دعوى كونها آخره الذي ينتهي به ، لا الذي ينتهي قبله.

أما ابن هشام فقد فصل في المغني بين (إلى) و(حتى) مدعيا البناء على الدخول في الثانية دون الأولى ، حملا على الغالب في البابين.

لكن الغلبة ـ لو سلمت ـ إنما تنفع إذا أوجبت الظهور النوعي ، ولا يتضح ذلك في المقام.

وأما مجرد الغلبة ولو مع القرائن الخاصة فهي ليست من القرائن العامة التي يلزم العمل عليها في مورد فقد القرينة. ومن هنا يتعين التوقف في مورد فقد القرينة.

والذي يهوّن الأمر كثرة احتفاف الكلام بما يصلح شاهدا على أحد الأمرين.

٢٩٤

الفصل الرابع

في مفهوم الحصر

لا يخفى أن حصر الحكم بمورد مساوق لانتفائه عن غيره الذي هو عبارة أخرى عن المفهوم ، ولا معنى مع ذلك للكلام في مفهوم الحصر ، بل لا بد من رجوع الكلام في المقام إلى الكلام في تشخيص مفاد أدوات خاصة ، وفي أنها هل تدل على الحصر ، ليكون لها مفهوم ، أو لا ، بل هي متمحضة في الدلالة على ثبوت الحكم في المورد من دون أن تتضمن الحصر؟ ، نظير ما تقدم في مفهوم الغاية. وهي عدة أدوات.

منها : أدوات الاستثناء ، مثل (إلا) و(غير) و(سوى) و(عدا) وغيرها مما ذكره النحويون. ومورد الكلام ما إذا وردت للاستثناء ، دون التوصيف ، بل يبتني الكلام فيها حينئذ على الكلام في مفهوم الوصف.

هذا والظاهر شيوع استعمال (غير) للتوصيف ، دون الاستثناء كما في قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(١) ، وقولنا : أكرم عالما غير فاسق ، وأكرمت رجلا غير فاسق. ومن هنا يشكل البناء على الاستثناء في المورد الصالح له وللتوصيف ، كما في قولنا : أكرم العلماء غير العدول. إلا أن يعين أحد الأمرين بكيفية الإعراب ، أو بقرينة خارجية.

وأما (إلا) فقد ذكر النحويون أنها قد تكون للتوصيف مستشهدين بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢) ، على كلام لا مجال للإطالة فيه ،

__________________

(١) سورة فاطر الآية : ٣٧.

(٢) سورة الأنبياء الآية : ٢٢.

٢٩٥

كما ذكروا أنها قد ترد عاطفة وزائدة. لكن لا ينبغي التأمل في تبادر الاستثناء منها ، فيتعين الحمل عليها إلا في مورد امتناعه الذي لا يسعنا فعلا ضبطه. كما أن الظاهر عدم استعمال بقية الأدوات في التوصيف.

إذا عرفت هذا فلا إشكال في دلالة الاستثناء على ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه ، وهو المراد بالمنطوق في المقام. وأما بالإضافة إلى المستثنى فقد وقع الكلام في دلالته على انتفاء الحكم فيه وثبوت نقيضه له المساوق للمفهوم ـ كما هو المعروف ، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه ـ أو عدم دلالته على ذلك ، بل يكون مسكوتا عنه ، لتمحض الاستثناء في تضييق دائرة الموضوع ، كما عن أبي حنيفة.

والحق الأول ، لتبادر ذلك منه ، حيث يتضح بملاحظته الفرق بين الاستثناء ومثل الوصف مما يتمحض في تضييق الموضوع. ومن ثم اشتهر ـ تبعا للمرتكزات الاستعمالية ـ دلالة الاستثناء على الحصر. ولا سيما بملاحظة أنه لا يراد به دلالته على انحصار الحكم بما عدا المستثنى ، بل على انحصار نقيضه بالمستثنى ، المناسب للمفروغية عن ثبوت النقيض له ، بل كونه المقصود بالأصل منه. كما يناسبه أيضا حسن تأكيده بما يدل على انحصاره به ، مثل : (وحده) و: (لا غير). إذ انصراف التأكيد إليه شاهد بكونه هو المقصود بالأصل منه ، وأن ذكر حكم المستثنى منه للتمهيد له.

ومع ذلك لا حاجة للاستدلال عليه بقبول إسلام من قال كلمة الإخلاص ، مع وضوح أنه لو لا دلالة الاستثناء على ذلك لم تدل على التوحيد. فإن الاستدلال المذكور وإن كان تاما ، إلا أن الأمر أوضح من أن يتشبث له به.

وأما الإشكال في الاستدلال المذكور .. تارة : بأن قبول الإسلام بذلك شرعا لا يستلزم دلالته عليه لغة ، بل هو نظير الشعار الذي يعتمد على التباني

٢٩٦

والاصطلاح.

وأخرى : بأن مجرد الاستعمال لا يدل على الوضع ، لإمكان استناد الدلالة على التوحيد لقرينة حال أو مقال.

فهو كما ترى! لوضوح أن قبول الإسلام بها شرعا فرع دلالتها على الإقرار بالتوحيد ، كما يناسبها تأكيده بقوله : (وحده لا شريك له) ، وحيث لم يكن قبوله مشروطا باطلاع القائل على القرينة واستناده إليها فلا بد من دلالته عليها وضعا. وهو المناسب للنصوص الشارحة للإسلام بالشهادتين (١).

نعم ، قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأن خبر (لا) إن قدر (موجود) لم تدل على امتناع إله غيره تعالى ، وإن قدر (ممكن) لم تدل على فعلية وجوده تعالى.

وقد حاول غير واحد الجواب عن ذلك. ولعل أقرب الوجوه ما في التقريرات وغيرها من أنه لا يعتبر في التوحيد المعتبر في الإسلام إلا الإقرار بألوهيته تعالى فعلا ونفيها عن غيره كذلك. وأما نفي إمكان ألوهية غيره فهو بواسطة ملازمة واقعية لا يضر خفاؤها ، ولا يخل عدم الإذعان بها في جريان حكم الإسلام.

نعم ، لا يبعد كونه من ضروريات الإسلام الزائدة على أركانه ، فلا يعتبر في الإسلام الالتفات إليه ، فضلا عن الإذعان به إلا بعد الاطلاع على حاله من الدين ، بسبب الرجوع لمرتكزات المتشرعة والنظر في الاستدلال عليه في الكتاب والسنة بقضايا برهانية واضحة عند المسلمين ، كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢).

__________________

(١) راجع الكافي ج : ٢ ص : ١٨ ـ ٢٥ الطبعة الحديثة.

(٢) سورة الأنبياء الآية : ٢٢.

٢٩٧

على أنه لو فرض أخذ امتناع ألوهية غيره تعالى في التوحيد الذي هو ركن الإسلام أمكن ذلك بحمل القضية على بيان الانحصار به تعالى خارجا مع كون الضرورة جهة لها بتمامها ارتكازا ، لا أن الإمكان قيد في موضوع عقد السلب منها ، كي لا تدل على فعلية وجوده تعالى وألوهيته.

هذا ، وقد استدل لما سبق عن أبي حنيفة من عدم دلالة الاستثناء على ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى بمثل قولهم عليهم‌السلام : «لا صلاة إلا بطهور» بدعوى : أنه لو دل على ذلك لدل على حصول الصلاة مع الطهارة ولو مع فقد بقية الأجزاء والشرائط ، مع أنه لا إشكال في عدم دلالتها على ذلك.

ويندفع بأن حكم المستثنى منه لما كان هو السلب المطلق للصلاة بدون الطهارة بنحو الاستيعاب والاستغراق ، فمفهومه المستفاد من الاستثناء ليس إلا نقيضه وهو وجودها في الجملة مع الطهارة ، لا وجودها معها مطلقا ، إذ نقيض السلب الكلي هو الإيجاب الجزئي ، دون الإيجاب الكلي. وهكذا الحال في نظير المثال من التراكيب.

وقد تقدم توضيح ذلك في التنبيه الثالث من مبحث مفهوم الشرط.

ومنها : (إنما) فإن المعروف فيها إفادة الحصر ، على ما يظهر من تصريح أهل اللغة ، بل عن بعضهم أنه لم يظهر مخالف فيه ، وعن آخر دعوى إجماع النحاة عليه ، وفي التقريرات أنه المنقول عن أئمة التفسير.

ويقتضيه التبادر ، حيث لا إشكال في ظهورها في انحصار المتقدم بالمتأخر. غاية الأمر أنها ـ كسائر أدوات الحصر ـ كثيرا ما تستعمل في الحصر الإضافي بلحاظ خصوص بعض الجهات التي تشهد بملاحظتها القرائن الحالية والمقالية.

بل هو المتعين دائما في حصر الموصوف بالصفة ، نحو : إنما زيد شاعر ،

٢٩٨

حيث لا يراد به نفي كل صفة أخرى عنه ، لما هو المعلوم من عدم خلوّه عن كثير من الصفات ، كالحياة والتكلم وغيرهما ، بل المراد به خصوص نفي بعض الصفات مما تقتضيه قرينة السياق ، كالعلم أو الشجاعة أو غيرهما. وكأن ذلك هو الذي أوجب الالتباس عند بعضهم ، فقد استشكل في التقريرات في دلالتها على الحصر ، لاختلاف موارد استعمالها.

كما أنكر الرازي دلالتها عليه في مقام الجواب عن استدلال الإمامية بقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١) ، قال : «لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، ولا نسلم أن كلمة (إنما) للحصر. والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(٢) ، ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل. وقال : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٣) ، ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها).

لكن الآيتين الكريمتين لا تنافيان دلالة (إنما) على الحصر. أما الأولى فلأن وجود أمثال أخر للدنيا إنما يمنع من حملها على الحصر الحقيقي ، دون الإضافي للردع عن توهم أهميتها ، المناسب لركون عامة الناس إليها كأنها باقية لهم ، ولذا حسن الحصر ب (إلا) في نظيره في قول الشاعر :

وما الدهر إلا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذبا

وكذا الحال في الآية الثانية ، فإن الحصر فيها إضافي توهينا لحال الدنيا وردعا لمن يرغب فيها. لكن مع ابتنائه على التغليب ـ ولو ادعاء ـ إغفالا لما

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٥٥.

(٢) سورة يونس الآية : ٢٤.

(٣) سورة محمد الآية : ٢٦.

٢٩٩

يكسبه أهل البصائر والكمال من المكاسب الشريفة والمقاصد المنيفة ، ولذا حسن الحصر المذكور ب (إلا) في مثل قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(١).

وأما ما ذكره من أن اللهو واللعب قد يحصل في غيرها فهو إنما ينافي حصر اللهو واللعب بها ، لا حصرها بهما الذي تضمنته الآية.

ومنها : تعريف المسند إليه باللام ، حيث يدل على انحصاره بالمسند وانتفائه عن غيره ، نحو : العالم زيد ، والنجس من الميتة ما كان له نفس سائلة ، ونحوهما. ومحل الكلام ما إذا لم تكن اللام للعهد ، وإلا اقتضت انحصار المعهود بالمسند دون أصل الماهية.

وقد استشكل فيه بأنه موقوف إما على كون الحمل أوليا ذاتيا ، لملازمة التطابق المفهومي للتساوي المصداقي في الخارج ، أو على كون اللام للاستغراق ، أو كون الماهية ملحوظة بنحو الإرسال. لكن الحمل الأولي خلاف الظاهر في القضايا المتعارفة ، بل يتعين عدمه في غالب الموارد للعلم فيها بعدم التطابق المفهومي ، فليس الحمل فيها إلا شايعا صناعيا. كما أن الأصل في اللام أن تكون للجنس ، وحملها على الاستغراق يحتاج إلى القرينة لو كان معهودا في الاستعمالات ، كحمل الماهية على الإرسال. وعلى ذلك فليس مفاد القضية في المقام إلا حمل المسند على الماهية بلحاظ تطابقهما في الخارج ، وهو لا يقتضي اختصاصها به.

ويندفع بأن ظاهر حمل الشيء على الماهية ـ ولو بضميمة مقدمات الإطلاق ـ اتصاف تمام أفرادها به ، المستلزم لعدم اتصاف شيء منها بما يباينه في الخارج.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية : ٣٢.

٣٠٠