الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل التاسع

في الأمر بعد الأمر

ذكرنا غير مرة أن التكليف إضافة ونسبة قائمة بين المكلّف والمكلّف والمكلف به ، وحيث كانت وحدة الإضافة منوطة بوحدة أطرافها ، والمفروض وحدة المكلّف والمكلف فلا بد في تعدد التكليف من تعدد المكلف به ، ومع وحدة المكلف به من جميع الجهات يتعين وحدة التكليف.

إذا عرفت هذا ، فإذا ورد الأمر بالماهية مرتين مثلا فالمحتمل وجوه ثلاثة.

الأول : أن يراد بهما بيان تكليف واحد تابع لملاك واحد لا تأكد فيه ، والتكرار لتأكيد البيان أو غيره مما يأتي.

الثاني : أن يراد بهما معا بيان تكليف واحد متعدد الملاك وقد تضمن كل منهما ثبوته من حيثية خاصة مباينة للحيثية المبينة بالآخر. ولازمه تأكد التكليف لتعدد ملاكه والجهة المقتضية له ، ولا تأكيد في بيانه ، لتعدد المبنيين حقيقة بسبب تعدد الجهة.

الثالث : أن يراد بكل منهما بيان تكليف مستقل تابع لملاكه مباين للتكليف المبين بالآخر ، وحيث سبق استلزام تعدد التكليف لتعدد المكلف به فلا بد من كون متعلق كل منهما مباينا لمتعلق الآخر وإن كانا من ماهية واحدة ، بأن يراد بكل منهما فرد منها مباين للفرد الآخر.

هذا ، ومقتضى إطلاق متعلق التكليف في كل من الخطابين هو الاكتفاء بصرف الوجود المستلزم لوحدة التكليف ، فيتردد الأمر بين الوجهين الأولين. بل مع اتحاد موضوع التكليف في الخطابين ـ كما لو ورد مرتين : من ظاهر

٢٤١

فليكفّر ـ يتعين الوجه الأول ، لوحدة الجهة المقتضية للتكليف.

ودعوى : أن التأكيد في البيان خلاف الأصل ، بل الأصل فيه التأسيس وتعدد المبين ، إما لتعدد التكليف أو لتعدد الجهة الموجبة له.

مدفوعة أولا : بأن أصالة التأسيس ليست بنحو تنهض برفع اليد عن إطلاق المتعلق المقتضي لوحدة التكليف.

وثانيا : بأن تكرار البيان في الوجه الأول قد لا يكون للتأكيد ، بل لغفلة الآمر ـ لو أمكن في حقه الغفلة ـ أو المأمور عن البيان الأول ، أو جهلهما به ، كما قد يكون لاختلاف مقام البيان مع وحدة المبين ، لاختصاص التأكيد المخالف للأصل بالبيان اللاحق المبتني على البيان السابق بحيث يكونان في مقام واحد. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

نعم ، لو كان ظاهر الخطاب تعدد الجهة الموجبة للأمر ، بأن اختلف موضوعه أو شرطه ـ كما في مثل : من أفطر فليكفّر ، و: من ظاهر فليكفّر ـ فلا مجال للوجه الأول. وحينئذ يتردد الأمر بين الوجهين الأخيرين. ويأتي في التنبيه الخامس لمبحث مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى أن الأصل في مثل ذلك يقتضي الوجه الثالث الذي إليه ترجع أصالة عدم التداخل ، لا الثاني الذي ترجع إليه أصالة التداخل.

هذا ، وأما النهي بعد النهي فلا مجال فيه للوجه الثالث ، لكون النهي استغراقيا يقتضي ترك تمام الأفراد سواء اتحد أم تعدد ، فيتردد الأمر فيه بين الوجهين الأولين ، ولا أثر للتردد المذكور عملا. على أنه مما سبق يتضح لزوم حمله على الثاني مع تعدد الموضوع أو الشرط ، وعلى الأول بدون ذلك. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم ، ومنه نستمد العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين.

٢٤٢

المقصد الثالث

في المفاهيم

والبحث هنا عن ظهور الكلام في المفهوم كما هو الحال في سائر مقاصد مباحث الألفاظ ، لا عن حجية المفهوم مع المفروغية عن الظهور فيه ـ وإن أوهمته بعض عباراتهم ـ فإنه من صغريات كبرى حجية الظهور التي تأتي في مباحث الحجج من القسم الثاني لعلم الأصول إن شاء الله تعالى.

تمهيد

من الظاهر أن المنطوق لغة هو المؤدى بآلة النطق ، والمفهوم هو المعنى المدرك بقوة الفهم ، وكل منهما بالمعنى المذكور له ليس موردا للكلام في المقام ، وإنما يراد بهما مصطلح خاص بالجمل المتضمنة لحكم خبري أو إنشائي. وهما متقابلان في الكلام الواحد ، فالكلام الذي له مفهوم له منطوق ، وما لا مفهوم له لا منطوق له بالمصطلح المذكور.

ويستفاد من غير واحد أن المنطوق هو الحكم الذي تتضمنه القضية بمدلولها المطابقي ، والمفهوم هو الحكم الذي لم يذكر فيها ، وإنما استفيد بالملازمة من خصوصية قد تضمنتها ، فمنطوق قولنا : إنما القائم زيد ، ثبوت القيام لزيد المستفاد من الكلام بالمطابقة ، ومفهومه عدم قيام غيره ، وهو ملازم للحصر الذي تؤديه أداة (إنما).

لكن الظاهر أنه لا يعتبر في الخصوصية التي يستفاد منها المفهوم أن تتضمنها القضية ، بل يكفي استفادتها منها بدلالة الاقتضاء أو غيرها ، كما في مفهوم الموافقة ومفهوم الوصف لو قيل به. كما لا يعتبر في المنطوق أن يكون

٢٤٣

مدلولا مطابقيا لها ، بل قد يكون لازما لها ، فمنطوق القضية الشرطية هو ثبوت الجزاء حال الشرط ، الذي هو مفاد قضية حملية مقيدة بحال ثبوته ، وهو لازم للشرطية ـ المتضمنة إناطة الجزاء بالشرط ـ لا عينها ، والتعبير عن المنطوق في جملة من كلماتهم بنفس الشرطية مبني على الغفلة أو التسامح.

ومن هنا لم يكن اختلاف المنطوق والمفهوم اصطلاحا بما ذكر ، بل بلحاظ كيفية استفادتهما من القضية عرفا ، فالمنطوق أقرب عرفا لمضمون القضية من المفهوم ، إما لكونه المدلول المطابقي لها ، والمفهوم مدلولها الالتزامي ، أو لأنه الأقرب للمدلول المطابقي والمفهوم الأبعد منه. على أنه لم يتضح بعد عموم ذلك واطراده ، في كل ما هو الأقرب للمنطوق والأبعد ، ليتجه تعريفهما بذلك ، بل المتيقن أن ذلك مشترك بين جميع الموارد التي أطلق فيها المفهوم مقابل المنطوق ، ووقع الكلام فيها في هذه المباحث.

ثم إنهم قسموا المفهوم إلى قسمين :

الأول : مفهوم الموافقة ، وهو الذي يوافق المنطوق في الإيجاب والسلب.

الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو الذي يخالف المنطوق فيهما.

وقد جعلوا الأول مفهوم الأولوية العرفية. والمعيار فيه أن يستفاد عرفا من الخطاب بالحكم في الأضعف ثبوته في الأقوى أو العكس بسبب إدراك العرف جهة الحكم من نفس الخطاب به ، نظير دلالة تحليل وطء الجارية على تحليل ما دونه من الاستمتاع كالتقبيل ، ودلالة المنع من التقبيل على المنع من ما فوقه كالوطء ، وإن فرض غفلة المتكلم عنه حين التحليل أو المنع ، حيث يفهم عرفا أن الجهة الموجبة للتحليل هي الاهتمام بمتعة المحلّل له وإشباع رغبته ، ومن الظاهر أن رفع الحرج لأجل ذلك عن الأهم يستلزم عرفا رفعه عن الأخف. كما أن الجهة الموجبة للمنع هي الاهتمام بصون الجارية ، والمنع

٢٤٤

لأجل ذلك من الأخف يستلزم المنع من الأشد.

وأظهر من ذلك ما لو فهم من الكلام سوقه لبيان عموم الحكم ببيان ثبوته في الأدنى أو الأعلى ، لينتقل لغيره بالأولوية. ولعل منه قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١). إذ يفهم منه عرفا أن الغرض منه بيان عموم النهي عن الإهانة والإيذاء بالنهي عن الفرد الضعيف منهما.

وبهذا كان الانتقال المذكور من باب العمل بالظهور ، وافترق عن الانتقال من أحد الفردين للآخر بالأولوية التي هي من الأدلة العقلية ، حيث لا يعتبر فيها أن يفهم من الدليل سوقه لبيان عموم الحكم ، ولا إدراك جهة الحكم من نفس الدليل ، بل أن يثبت من الخارج أن الملاك في الفرد الآخر أقوى منه في مورد الدليل. ولذا لا بد فيه من القطع بالملاك ، ولا يعتبر ذلك في مفهوم الموافقة ، بل يكفي ظهور الدليل عرفا في ذلك.

ومنه يظهر أن الأنسب عدم اختصاص مفهوم الموافقة بمورد الأولوية العرفية ، بل يجري في جميع موارد فهم عموم الحكم من الدليل الوارد في خصوص بعض الموارد ، إما للعلة المنصوصة ، وإما لإلغاء خصوصية المورد عرفا ، حيث لا يعتبر في التعدي حينئذ أولوية مورد التعدي عن مورد الدليل.

لكنهم اقتصروا في بيان مفهوم الموافقة على مفهوم الأولوية العرفية. إما لعدم كونهم بصدد موارده ، أو لغير ذلك مما لا يهمّ بعد عدم الخلاف في التعدي عن مورد الدليل في الموارد المشار إليها ، حيث لا ينبغي معه إطالة الكلام فيها.

ومن هنا نقتصر على الكلام في مفهوم المخالفة ، تبعا لأهل الفن ، حيث تعرضوا لجملة من الموارد ، وقع الكلام في انعقاد الظهور في المفهوم فيها. والبحث فيها يقع ضمن فصول.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية : ٢٣.

٢٤٥

الفصل الأول

مفهوم الشرط

لا إشكال في دلالة القضية الشرطية على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، وهو منطوقها اصطلاحا. وإنما الكلام في دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط الذي هو مفهومها ، فقد أصر عليه جماعة كثيرة ومنعه آخرون. ومحل الكلام إنما هو في دلالتها وضعا أو بالقرينة العامة ، بحيث يكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي للقضية الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة ، وإلا فلا إشكال ظاهرا في فهمه منها في كثير من الموارد ، وتجردها عنه في موارد أخرى بالقرينة المتصلة أو المنفصلة.

ومحل الكلام فعلا ما تضمن من القضايا الشرطية (إن) ونحوها ، لأنه المتيقن منه ، وأما عموم ذلك لكل شرطية فيأتي الكلام فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا وظاهر شيخنا الأعظم قدس‌سره وجملة ممن تأخر عنه أن المعيار في دلالة الشرطية على المفهوم ظهورها في كون الشرط علة منحصرة للجزاء ، وبدونه لا دلالة لها عليه.

لكن الظاهر ـ كما صرح به في الفصول ـ أنه يكفي ظهورها في مجرد لزوم الشرط للجزاء ، بمعنى عدم وجوده إلا مع وجود الشرط ، سواء كان الشرط علة منحصرة للجزاء ، أم كان الجزاء علة للشرط ، أم كانا معلولين لعلة واحدة ، لاشتراك الجميع في المطلوب ، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط. بل يكفي ظهورها في التلازم الخارجي بالنحو المذكور وإن كان اتفاقيا. ومن هنا كان ذلك هو المهم في محل الكلام.

٢٤٦

إلا أن المناسب التعرض لما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من الكلام في دلالتها على العلية المنحصرة ، لأنها وإن كانت أخص من اللزوم المذكور ، إلا أن تحقيق دلالة الشرطية عليه لا يخلو في نفسه من فائدة. مع أنه ينفع في إثبات اللزوم المذكور. والكلام في ذلك يقتضي الكلام في أمور مترتبة في أنفسها.

الأول : لزوم الجزاء للشرط لعلاقة بينهما في مقابل كون الشرطية اتفاقية.

والظاهر أن المعيار في العلاقة أن تكون مدركة للمتكلم ، ليتسنى الحكاية عنها ، ولا يكفي وجودها واقعا. كما لا يعتبر فيها أن تكون عقلية ، بأن يمنع العقل من التخلف بسببها ، بل يكفي أن تكون طبعية مدركة ولو بالتجربة.

ولا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في ذلك ، كما أصر عليه غير واحد. بل لا يصح استعمالها في الاتفاقية إلا بعناية ، كما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره.

والظاهر أن مبنى تقسيم المنطقيين الشرطية إلى لزومية واتفاقية على أن مرادهم بالشرطية ما تضمن مجرد الاتصال بين النسبتين أو الانفصال بينهما ، ولذا تؤدى المتصلة عندهم بمثل : (كلما كان كذا كان كذا) ، مع وضوح أن (ما) في كلما ظرفية مصدرية متمحضة في الدلالة على الزمان ، وليست كأدوات الشرط خصوصا (إن) التي سبق أنها محل الكلام فعلا ، حيث لا إشكال في أن المفهوم منها عرفا معنى زائد على الظرفية لا يصدق في الاتفاقية.

الثاني : ترتب الجزاء على الشرط ، دون العكس ، أو كونهما في مرتبة واحدة ، لكونهما معلولين لعلة ثالثة. وقد أصرّ غير واحد على ظهور الشرطية فيه ، وإن اختلفوا في كونه بالوضع أو بسبب آخر.

نعم ، ظاهر المحقق الخراساني قدس‌سره إنكاره ، لعدم العناية في استعمالها في مطلق اللزوم من غير ترتب ، بل مع عكسه ، كما في قولنا : إن عوفي زيد فقد استعمل الدواء ، وإن أفطر فهو مريض.

٢٤٧

لكن لا إشكال في استهجان استعمالها فيما لو كان الجزاء متقدما رتبة ، كما لو قيل : إن انكسر الإناء وقع على الأرض ، وإن طهر الثوب غسل.

وأما مثل الاستعمالين المتقدمين فليس الجزاء فيه علة للشرط ، بل معلول له ـ كما نبه له غير واحد في الجملة ـ لأن مفاد نسبة الجزاء فيه ليس محض الحدوث الذي هو علة للشرط ، ولذا لو قيل بدل المثالين المتقدمين : إن عوفي زيد شرب الدواء ، وإن أفطر مرض ، انقلب المعنى.

بل مفادها في المثال الأول التحقق والاتضاح الذي هو مفاد (قد) وفي المثال الثاني ذلك أيضا ، أو التقرر والثبوت الذي هو مفاد الجملة الاسمية ، وكلاهما مسوقان لبيان لزوم العلم بالجزاء بطريق الإنّ ، المبني على الانتقال من وجود المعلول لوجود العلة ، ومن الظاهر أن العلم بالعلة في مثل ذلك معلول للعلم بالمعلول ومترتب عليه.

ويشهد به دخول الفاء على الجزاء الدالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، ولا معنى لترتب العلة على المعلول إلا بلحاظ ترتب العلم بها على العلم به.

وأما استعمالها فيما لو كانا متحدي الرتبة ، كما في قولنا : إن صارت هند زوجة لك صرت زوجا لها ، وإن ركع زيد ركع عمرو فيما لو كانا مأمومين في جماعة واحدة ، فلا يبعد ابتناؤه على التوسع بتجريد (إن) عن الشرطية واستعمالها في الظرفية ، أو بادعاء ترتب الجزاء على الشرط ، بسبب سبق فرضه ، حيث يستتبع فرض الجزاء بضميمة التلازم بينهما ، كما يناسب الثاني الفرق ارتكازا بحسب المعنى في كل طرف بين جعله شرطا وجعله جزاء ، وليس هو كالتقديم والتأخير في مثل : اشترك زيد وعمرو ، لا أثر له في المعنى.

وإلا فمن البعيد جدا إفادة الشرطية القدر الجامع بين خصوص ترتب

٢٤٨

الجزاء على الشرط وتساويهما في المرتبة ، لعدم كونه جامعا عرفيا بينهما ، ولا مفهوما من الشرطية. بل ليس الجامع العرفي بينهما إلا محض التلازم الذي يعم صورة ترتب الشرط على الجزاء. وحيث سبق استهجان الاستعمال في الصورة المذكورة ، تعين اختصاصها بترتب الجزاء على الشرط ، وابتناء استعمالها مع تساويهما رتبة على التوسع ، كما ذكرنا. ولذا لو لم تقم قرينة ملزمة بحمل القضية على التوسع بأحد الوجهين المتقدمين كان ظاهر الشرطية الترتب الحقيقي بينهما ، فيستفاد من مثل : إن جاء زيد جاء عمرو ، تبعية عمرو لزيد في المجيء.

وأما ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله من أن المترتب على الشرط في مثل ذلك وفيما لو كان الجزاء علة للشرط ليس هو الجزاء ، بل الإخبار والحكاية عنه.

فلا مجال للبناء عليه ، لأن التعليق إنما هو بين مفادي الشرط والجزاء المحكيين ، فكما يكون المعلق عليه هو الشرط لا الحكاية عنه يكون المعلق هو مضمون الجزاء لا الحكاية عنه. ولو تم ما ذكره لصح استعمال الشرطية مع عكس الترتيب في مثل قولنا : إن انكسر الإناء وقع على الأرض ، وقد سبق استهجانه.

الثالث : كون الترتب بنحو العلية. وظاهر كلام جماعة أن الكلام فيه هو الكلام في أصل الترتب ، حيث لم يفصلوا بينهما. وكأنه لعدم كون المراد بالترتب هو الترتب بالشرف ولا بالزمان ، لعدم استلزامهما كون حصول الجزاء عند حصول الشرط لعلاقة الذي سبق دلالة الشرطية عليه ، بل الثاني مستلزم للانفكاك بينهما ، وإنما المراد به الترتب بالطبع الذي يظهر منهم أن المعيار فيه كون المتقدم جزءا من علة المتأخر.

٢٤٩

ولذا لا إشكال ظاهرا في بناء الفقهاء وأهل الاستدلال على ظهور الشرطية في القضايا الشرعية في كون الشرط موضوعا للحكم الذي يتضمنه الجزاء ، بمعنى كونه سببا في فعليته بضميمة الجعل الشرعي الكبروي له. ومن ثم يكفي التعبد به ظاهرا في التعبد بالحكم ، ولا يبتني على الأصل المثبت ، وذلك لا يتم بمجرد اللزوم من دون علية.

وأما ما عن بعضهم من كون الأسباب الشرعية معرفات فلا يبعد كون المراد به أنها معرفات لفعلية الملاكات الداعية لجعل الحكم ، لملازمة موضوع الحكم لفعلية ملاكه في قبال كونها بنفسها ملاكات للأحكام ، أو أنها معرفات للجعل الشرعي الفعلي الذي هو السبب التكويني للحكم ، في قبال كونها أسبابا حقيقية تكوينية له ، لا أنها معرفات عن الموضوعات من دون أن تكون موضوعات حقيقية.

كما أن المراد بالعلية ليست هي العلية التامة ، لتكون أخص وتحتاج إلى إثبات زائدا على إثبات الترتب ، لعدم الإشكال في عدم دلالة الشرطية عليها ، كيف والأحكام الشرعية أهم أجزاء علتها جعل الشارع لها ، ولا يؤخذ شرطا في القضايا الشرطية المتكفلة ببيانها إلا موضوعاتها التي هي شروط فعليتها.

فالمتعين كون المراد بالعلية في المقام هو الأعم من العلية التامة وتتميم العلة ، لأن ذلك هو المستلزم لوجود الجزاء عند وجود الشرط.

الرابع : كون العلية بنحو الانحصار. وقد وقع الكلام بينهم في ظهور الشرطية فيه ، وأصرّ عليه غير واحد. ولو تم تعين دلالة الشرطية على المفهوم ، بل سبق أنه يكفي فيه دلالتها على لزوم الشرط للجزاء بنحو لا يتحقق الجزاء بدونه ، فالمهم إثبات اللزوم المذكور. إلا أنه بعد دلالتها على العلية ـ كما سبق ـ يكون اللزوم المذكور مساوقا لكون العلية بنحو الانحصار. وكيف كان فقد استدل له بوجوه ..

٢٥٠

أولها : أن الظاهر من إطلاق العلاقة اللزومية إرادة الفرد الأكمل منها ، وهو الناشئ عن انحصار العلية. وفيه ـ مضافا إلى عدم انصراف الإطلاق للأكمل ـ : أنه لا دخل لانحصار العلية في اللزوم بنحو يقتضي أكمليته ، وكذا الحال في العلية ، بل أكمليتهما قد تتبع منشأهما ، فاللزوم الذاتي أكمل عرفا من اللزوم لأمر خارج ، والعلية العقلية أكمل من العلية الطبعية.

ثانيها : أنه مقتضى إطلاق نسبة اللزوم ، كما كان مقتضى إطلاق هيئة الأمر الحمل على الوجوب التعييني دون التخييري. ويشكل بالفرق بأن هيئة الأمر حيث كانت متضمنة للبعث نحو المأمور به كانت ظاهرة في لزوم الانبعاث نحوه وعدم الاكتفاء بغيره ، إلا مع قيام الدليل على وجود العدل له بحيث يتخير بينهما. بخلاف المقام فإن اللزوم لا يقتضي إلا عدم انفكاك الجزاء عن الشرط ، ولا دخل للانحصار وعدمه في ذلك.

ومثله في ذلك تقريب هذا الاستدلال بأنه مقتضى إطلاق الشرط ، قياسا على اقتضاء إطلاق الواجب كونه تعيينيا. إذ فيه : أن كون الواجب تعيينيا لا يستفاد من إطلاق الواجب ، بل إطلاقه لا يقتضي إلا الاجتزاء بأي فرد منه من دون نظر لكونه تعيينيا ، وإنما يستفاد ذلك من إطلاق الوجوب ، سواء استفيد من مدلوله الاسمي أم من معنى حرفي وهو مفاد الهيئة بالتقريب المتقدم.

وكذا تقريب الاستدلال المذكور بإطلاق نسبة الجزاء بدعوى أن الاقتصار في تقييدها على الشرط وعدم تقييدها بغيره بمفاد : (أو) ظاهر في انحصار العلة به ، كما كان عدم تقييدها بغيره بمفاد الواو ظاهرا في استقلال الشرط وعدم توقف نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه ، بحيث يكون هو العلة التامة أو متمم العلة ، كما تقدم.

لاندفاعه : بأن الإطلاق إنما ينهض بدفع القيد لرجوعه إلى تضييق

٢٥١

موضوعه الذي هو مفاد الاسم أو الحرف ، ومن الظاهر أنه كما يكون أصل اشتراط نسبة الجزاء بالشرط راجعا إلى تضييق النسبة المذكورة ، فيكون مدفوعا بإطلاقها ، كذلك يكون عدم استقلال الشرط في فرض التقييد به ، لأن توقف فعلية نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه موجب لزيادة تضييقها ، فيكون زيادة في تقييدها ، ويدفع بإطلاقها ، أما عدم انحصار العلية بالشرط وقيام شيء آخر مقامه فهو لا يستلزم زيادة تضييق النسبة المذكورة ، ليدفع بإطلاقها.

وبالجملة : لا مجال للاستدلال بالإطلاق سواء أريد به إطلاق نسبة اللزوم أم إطلاق الشرط أم إطلاق الجزاء ، على اختلاف كلماتهم واضطرابها. ومجرد الحاجة في بيان الشرط الآخر إلى العطف بمفاد (أو) لا يكفي في ذلك ، ولا يصح قياسه على حمل إطلاق الأمر على الوجوب التعييني. ولذا لو صرح باللزوم بالمفاد الاسمي كما لو قيل : مجيء زيد مستلزم لوجوب إكرامه لم ينفع الإطلاق في استفادة الانحصار ، سواء أريد به إطلاق اللازم أم الملزوم أم الملازمة ، بخلاف ما لو صرح بالوجوب بالمفاد الاسمي ، حيث يحمل كهيئة الأمر على الوجوب التعييني.

ثالثها : أن ظهور القضية الشرطية في دخل خصوصية الشرط في وجود الجزاء موجب لظهورها في كونه علة منحصرة له ، إذ لو ناب منابه شرط آخر كان الجزاء مستندا للجامع بينهما بلا دخل للخصوصية.

ويندفع ـ مضافا إلى انتقاضه بغير الشرطية من القضايا المتكفلة ببيان موضوعات الأحكام ، وبما لو صرح بسببية شيء للحكم بالمفاد الاسمي ـ بأنه يبتني على أن وحدة الأثر تستلزم وحدة المؤثر الذي سبق المنع منه في مبحث الصحيح والأعم. ولو تم فهو كبرى برهانية لا يدركها العرف وأهل اللسان ، ليترتب عليها الظهور النوعي في المفهوم ، لوضوح أن الظهورات النوعية تبتني على الارتكازيات المدركة لعامة أهل اللسان.

٢٥٢

على أن ذلك إنما يقتضي كون الشرط هو القدر المشترك إذا كان الملاك واحدا وكان دخلهما فيه بنحو واحد ، دون ما لو تعدد الملاك ، أو كان واحدا واختلف نحو دخلهما فيه. مثلا إذا كان الفقر مقتضيا للتصدق على الشخص ، وكانت الإساءة مانعة من التوسعة على المسيء ، صح الحكم بوجوب الصدقة على الفقير إذا لم يكن مسيئا ، وإذا كان ذا عيال ، من دون ملزم برجوع الشرطين لجامع واحد ، لأن دخل عدم الإساءة في الملاك بلحاظ عدم المانع ، ودخل كونه ذا عيال بلحاظ قصور المانع.

رابعها : أنه بناء على ما سبق من ظهور الشرطية في العلية فمقتضى إطلاقها تأثير الشرط للجزاء مطلقا ، ولازمه انحصار العلة به ، إذ لو كان غيره مؤثرا له لزم انفراد الغير به لو كان أسبق ، ولا يكون هو مؤثرا له حينئذ.

ويشكل أولا : بأن المنصرف من إطلاق تأثير المؤثر للأثر بيان تحققه تبعا له في فرض عدمه ، لا مطلقا بنحو يقتضي عدمه قبله ، فإذا قيل وقوع الإناء على الأرض سبب لانكساره كان ظاهره تأثير الوقوع للانكسار لو لم ينكسر قبله ، لا أنه لا ينكسر قبله ، ليستلزم انحصار السبب به ، بل انكساره قبله رافع لموضوع الإطلاق عرفا من دون أن ينافيه عرفا.

وثانيا : بأن ذلك إنما يمنع من استناد الجزاء لأمر سابق على الشرط بنحو لا يبقى معه موضوع لتأثير الشرط في ظرف وجود ، كما في موارد عدم قابلية الجزاء للتكرار مع إمكان اجتماع السببين في الموضوع الواحد ، كما لو قيل : إن استقبل زيد الشمس فقد بصره ، واحتمل فقده له باستقبال النار.

بخلاف ما لو كان الجزاء قابلا للتكرار ، أو لم يمكن اجتماع السببين في الموضوع الواحد ، كما لو قيل : إن صلى زيد فادفع له درهما ، واحتمل وجوب دفع درهم له إذا صام أيضا ، أو قيل : إن أفطر الرجل في نهار شهر رمضان

٢٥٣

بالجماع وجبت عليه الكفارة ، واحتمل وجوبها عليه إن أفطر بالأكل أيضا.

وحيث لا إشكال في عدم الفرق في دلالة الشرطية على الانحصار والمفهوم بين الموارد لزم عدم نهوض هذا الوجه بإفادة الانحصار ، كما يناسبه الغفلة عنه بحسب المرتكزات في مقام إفادة الشرطية لمعناها واستفادته منها تعين استناد إفادتها الانحصار على المفهوم ـ لو تمت ـ لوجه آخر.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم لإثبات ظهور الجملة الشرطية في الانحصار بضميمة الإطلاق من دون أن تكون موضوعة لذلك ، بل مع عدم وضعها عند بعضهم حتى لإفادة العلية ، وقد عرفت وهنها. وهكذا الحال في بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم التي يضيق المجال عن استقصائها.

ولعل الأولى ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره وسبقه إليه جملة من القدماء من ظهورها بنفسها وضعا في الانحصار ، بمعنى لزوم الشرط للجزاء بحيث ينتفي بانتفائه ـ الذي سبق أنه المعيار في المفهوم ـ لقضاء الوجدان بذلك حسب التأمل في المرتكزات الاستعمالية ، للفرق ارتكازا بين الشرط وغيره من قيود النسبة ـ كالظرف والحال وغيرهما ـ في أن التقييد به لا يبتني على مجرد ثبوت النسبة عند وجوده ، بل تعليقها عليه وإناطتها به.

ولذا أطلق عليه الشرط عندهم ، وعلى القضية أنها شرطية ، لوضوح أن شرط الشيء ليس كل ما يحصل عنده ، بل خصوص ما يتوقف وجوده عليه ، فلو لا ارتكاز أن مفاد الشرطية الإناطة بالنحو الذي ذكرنا لم يكن وجه لإطلاق الشرط عليه.

نعم ، لا إشكال في كثرة موارد تجريد الشرطية عن الخصوصية المذكورة وسوقها لبيان مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط من دون تعليق عليه ولا إناطة به.

٢٥٤

ولعل ذلك هو منشأ بناء من تقدم على كون الخصوصية المستلزمة للمفهوم خارجة عن مفاد القضية وضعا ، وبسبب ارتكاز ظهورها في الخصوصية المذكورة تكلفوا توجيه كونها مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة.

لكن الارتكاز المذكور كاف في إثبات إفادتها لها وضعا من دون أن ينافيه كثرة موارد تجريدها ، لشيوع التوسع في الاستعمال ، نظير التوسع في استعمال غير الشرطية من القضايا المتضمنة للتقييد بالوصف والظرف وغيرهما بسوقها لبيان الإناطة والتعليق بنحو تكون ذات مفهوم ، مع وضوح عدم إفادتها بنفسها لذلك لا وضعا ولا إطلاقا.

ثم إنه قد يستدل على إفادة الشرطية للمفهوم ببعض النصوص الظاهرة في المفروغية عن إفادة الشرطية للمفهوم ، كصحيح عبيد بن زرارة : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قوله عزوجل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، قال : ما أبينها ، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه» (١) ، وصحيح أبي أيوب عنه عليه‌السلام : في تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، قال عليه‌السلام : «فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل. ولكنه قال : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)» (٢) ، وصحيح أبي بصير : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال : لا تأكل ، إن عليا عليه‌السلام كان يقول : إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل» (٣) ، وغيرها. وهي إن لم تكن بنفسها دليلا على المطلوب ـ لاحتمال استناد استفادة المفهوم في مواردها لقرائن خفيت علينا ـ فلا أقل من كونها مؤيدة له ، ولا سيما الأولين ، وخصوصا الثاني لظهوره في فهم الناس المفهوم من الشرطية بأنفسهم.

__________________

(١) الوسائل ج : ٧ باب : ١ من أبواب من يصح منه الصوم حديث : ٨.

(٢) الوسائل ج : ١٠ باب : ٩ من أبواب العود إلى منى حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج : ١٦ باب : ١٢ من أبواب الذبائح حديث : ١.

٢٥٥

هذا ، وأما ما ذكره المنطقيون في القياس الاستثنائي من أن رفع المقدم لا يقتضي رفع التالي ، فهو مبني على أن مرادهم من الشرطية ما تضمن مجرد الاتصال بين النسبتين ، على ما سبق عند الكلام في دلالة الشرطية على اللزوم.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : أشرنا في أول الفصل إلى أن المتيقن من محل الكلام الجملة المقترنة ب (إن) ونحوها ، لأن (إن) أظهر أدوات الشرط في إفادة الخصوصية المستلزمة للمفهوم ، وهي الإناطة والتعليق. ولكن الظاهر مشاركة كثير من أدوات الشرط لها سواء كانت جازمة ك (من) و(ما) ، أم لا ك (إذا) كما يؤيده النصوص المتقدمة. ولا ينافي ذلك ما صرح به النحويون من أن (إذا) وصلتها جملة ظرفية معمولة للجزاء ، لأنه لو تم فتضمن (إذا) معنى الظرف لا ينافي إفادتها الإناطة أيضا. نعم ما يقل استعماله في أعرافنا مثل (أيان) و(حيثما) و(إذ ما) و(متى) و(مهما) لا يسهل تحديد مفادها بالتبادر ، وإن كان من القريب مشاركتها لسائر أدوات الشرط في التعليق والإناطة ، وأن ذلك هو المنشأ لعدّ النحويين لها من أدوات الشرط.

بل الظاهر استفادة المفهوم من الشرطية الخالية عن الأداة ، وهي المتضمنة لجواب الطلب ، نحو : (أسلم تسلم) لقوة ظهورها في التعليق والإناطة. ويؤيدها ما في صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال له رجل : جعلت فداك إن الله يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وإنا ندعوا فلا يستجاب لنا. قال : لأنكم لا تفون الله بعهده ، وإن الله يقول : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم» (١).

نعم ، يشكل استفادة المفهوم من الحملية المشعرة بالشرط ، وهي التي

__________________

(١) تفسير القمي ج : ١ ص : ٤٦.

٢٥٦

كان المبتدأ فيها موصولا والخبر مقترنا بالفاء ، نحو : الذي جاءني فله درهم ، فإنهم وإن ذكروا أن دخول الفاء على الخبر مشعر بتضمن الموصول معنى الشرط ، إلا أن المتيقن من ذلك تضمنه له من حيثية إفادة كون الصلة علة لمفاد الخبر ، دون الإناطة والتعليق.

الأمر الثاني : تكرر في كلماتهم أن المفهوم انتفاء سنخ الحكم عن غير موضوعه ، وإلا فانتفاء شخص الحكم عن غير موضوعه لا بد منه في كل قضية ، لتقوم الحكم الشخصي بجميع ما يؤخذ في القضية المتضمنة له من موضوع وقيود على اختلاف أقسامها.

ومن هنا وقع الكلام في وجه دلالة الشرطية وغيرها من القضايا ذات المفهوم على انتفاء سنخ الحكم ، مع أن المنشأ فيها ليس إلا شخص الحكم.

وقد أطالوا الكلام في ذلك وربما بناه بعضهم على عموم المعنى الحرفي وخصوصه. ولا مجال لتعقيب ما ذكروه ، بل ينبغي التعرض لحقيقة الأمر حسبما يتراءى لنا ، فنقول :

لا إشكال في أن الحكم سواء أدى بمفهوم اسمي أم حرفي ، يتضيق بالنسب الطارئة عليه في مقام الإخبار أو الإنشاء ، لا بمعنى تضيقه بعد سعته خارجا ، لتقوم الحكم في الخارج بموضوعه وقيوده بنحو لا وجود له إلا بها ، فلا يتبدل عما وقع عليه إلا بنسخه وجعل حكم آخر بدله أوسع منه ، أو أضيق ، بل بمعنى وجوده ضيقا ، تبعا لموضوعه والنسب الطارئة عليه ، وعدم بقائه على سعته المفهومية. فهو في مرتبة سابقة على التقييد أوسع منه في المرتبة المتأخرة عنه.

ومن هنا ينبغي أن يراد من شخص الحكم هو الحكم في المرتبة المتأخرة عن التقييد ، وهو الحكم المتحصل بعد تمامية القضية بموضوعها وقيودها ، وهو الحكم المنشأ أو المخبر عنه ، وهو يقصر عن غير حدودها من

٢٥٧

موضوع وقيود. كما يراد من سنخ الحكم هو الحكم في المرتبة السابقة على التقييد بما له من سعة ، سواء كان حكما مجردا غير مضاف إلى موضوع ولا قيد أصلا ، أم مضافا لموضوعه من دون تقييد ، أو مشتملا على بعض القيود ، من دون أن تتم قيود القضية. وهو أضيق سعة من الأول ـ وهو الحكم المجرد ـ وإن كان يشاركه في عدم التشخص ، لعدم تمامية القضية به.

وتشترك في ذلك جميع القضايا ، سواء تضمنت التعرض للحكم بمفاد اسمي ـ كالوجوب والحرمة والملك ـ أم حرفي ـ كهيئة افعل ولام الملك ـ لأن لكل منهما نحوا من السعة مفهوما ، وهي قابلة للتضييق بالقيد ، على ما أشرنا إليه عند الكلام في التنبيه الأول من تنبيهات المعنى الحرفي. كما لا يفرق في ذلك بين القضايا ذات المفهوم وغيرها.

وليس معيار المفهوم إلا نحو النسبة. بيان ذلك : أنه إذا كان مقتضى النسبة قصر الحكم ـ بما له من سعة مع قطع النظر عنها ـ على طرفها وإناطته به ، كان لها مفهوم راجع إلى نفي الحكم المذكور عن غير مورد القيد ، وإن كان مقتضاها مجرد مقارنة الحكم لطرفها لم يكن للقضية مفهوم ، لأن الحكم المتحصل منها وإن قصر عن غير مورد القيد ، إلا أنها لا تنهض بنفي ثبوت مثل ذلك الحكم في غير مورد القيد.

نعم ، إذا كان ثبوت شخص الحكم في مورد القيد منافيا لثبوت مثله في غير مورده تعين عدم ثبوته في غير مورده مطلقا ، من دون فرق بين القضايا.

لكن ذلك لا يرجع إلى دلالة القضية على المفهوم بالمعنى المصطلح ، بل لخصوصية في الحكم ، وذلك كما في الوقوف والوصايا ونحوها مما يتعلق بالأموال الخارجية من الإضافات غير القابلة للتعدد في الموضوع الواحد.

فإذا قال إخبارا أو إنشاء : هذه الدار وقف على أولادي الفقراء ، فكما لا

٢٥٨

يشمل هذا الوقف الذي تضمنته القضية غير الفقراء من أولاده ـ وإن لم نقل بثبوت مفهوم الوصف ـ ولا غير أولاده ـ وإن لم نقل بثبوت مفهوم اللقب ـ لما سبق من قصور الحكم الشخصي عن غير حدود القضية ، كذلك لا مجال لدخول غيرهم في وقفية أخرى للدار ، لامتناع وقف المال مرتين ، إلا مع بطلان الأولى. نعم مع تعدد الموضوع لا مانع من تعدد الوقف ونحوه ، كما لو أوقف دارا أخرى على جميع أولاده.

وعلى هذا لو أوصى بإعطاء داره لجيرانه ، ثم أوصى بإعطائها لجيرانه الفقراء كانت الوصية الثانية ناسخة للأولى ، للتنافي بينهما ، من دون فرق بين كون القضية الثانية ذات مفهوم وعدمه. أما لو أوصى بإعطاء كل رجل من جيرانه عشرة دراهم ، ثم أوصى بإعطاء كل من كان فقيرا منهم عشرة دراهم كان نسخها للأولى موقوفا على ظهور القضية الثانية في المفهوم.

ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما عن الشهيد الثاني في محكي تمهيد القواعد من عدم الإشكال في دلالة القضية على المفهوم في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان قال : «كما إذا قال : وقفت هذا على أولادي الفقراء أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك. ولعل الوجه في تخصيص المذكور هو عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم ، وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك : وقفته على أولادي مطلقا».

ثم إنه على ما ذكرنا يظهر المعيار في سعة المفهوم ، فانها تابعة لسعة الحكم الذي يكون طرفا للتقييد ، فحيث كان مفهوم اللقب مبنيا على ظهور جعل الشيء موضوعا للحكم في انحصاره به ، وكان الموضوع قيدا للحكم بما للحكم من سعة مفهومية ، فهو ـ لو تم ـ أوسع المفاهيم ، لرجوعه إلى انتفاء ذات الحكم عن غير الموضوع المذكور في القضية. أما غيره من القيود ـ كالشرط والوصف والغاية ـ فحيث كانت واردة على الحكم بعد تضييقه بالانتساب

٢٥٩

لموضوعه المذكور في القضية فمفهومها ـ لو قيل به ـ انتفاء الحكم الوارد على ذلك الموضوع في غير مورد القيد ، لا انتفاء الحكم مطلقا عن غير مورد القيد ، بحيث يستلزم انتفاءه عن موضوع آخر.

ولذا كان مفهوم الوصف في قولنا : أكرم العالم العادل ، عدم وجوب إكرام العالم غير العادل ، لا عدم وجوب إكرام غير العالم مطلقا ، أو إذا لم يكن عادلا ، وكان مفهوم الشرط في قولنا : أكرم زيدا إن جاءك عدم وجوب إكرام زيد عند عدم مجيئه ، لا عدم وجوب إكرام غيره مطلقا أو عند عدم مجيئه.

كما ظهر بذلك الحال في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع ، فإن ظهور الشرطية في المفهوم ـ كما سبق ـ إنما يقتضي ظهور الشرطية المذكورة في إناطة ثبوت الحكم لموضوعه بالشرط المفروض عدم انفكاكه عنه ، ولازمه ارتفاع الحكم عن موضوعه بارتفاع الشرط بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، وأما ارتفاع الحكم عن غير موضوعه بارتفاع الشرط فهو أمر خارج عن المفهوم. فعدم دلالة الشرطية المذكورة عليه لا ينافي ظهور الشرطية في المفهوم ، ليصح النقض به في المقام ، كما عن بعضهم.

الأمر الثالث : لما كان منشأ مفهوم الشرط هو ظهور الشرطية في إناطة الجزاء بالشرط ، كان مقتضاه ثبوت نقيض الجزاء عند عدم الشرط. وهو ظاهر فيما إذا كان مفاد الجزاء حكما واحدا ، كما في قولنا : أكرم زيدا إن جاءك ، وكذا لو كان حكما عاما منحلا إلى أحكام متعددة بعدد أفراد موضوعه وكان الشرط منحلا إلى شروط متعددة بعددها ، كما في قولنا : أكرم العالم إن كان عادلا ، حيث يكون المستفاد منه إناطة وجوب إكرام كل عالم بعدالته.

أما لو كان مفاده حكما عاما وكان الشرط واحدا لا يبتني على الانحلال فهل يكون المفهوم قضية كلية لا تختلف مع المنطوق إلا في الإيجاب والسلب

٢٦٠