الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

«إذ ليس المستفاد من الأمر إلا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل [بالفعل. ظ] على ما هو مدلول المادة ، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب ، لامتناع طلب الحاصل».

لكن ذلك إن رجع إلى ظهور الصيغة في طلب المادة بنفسها ووفائها بالغرض فهو عبارة أخرى عن التمسك بإطلاق المادة الذي فرض امتناعه وأنكره في صدر كلامه.

وإن رجع إلى ظهورها في طلب المادة في الجملة من دون أن ينهض بالإطلاق من حيثية القيد المذكور ـ ليناسب ما سبق منه ـ فمن الظاهر أن طلب المادة في الجملة لا يستلزم إجزاء المأتي به لا بقصد القربة ، لعدم ثبوت شمول المطلوب له ، ليلزم من عدم إجزائه طلب الحاصل.

وإن رجع إلى إمكان تعلق الطلب بالمادة على إطلاقها وإن لم تف بالغرض ، لتوقف الغرض على ما يمتنع التقييد به ، مع إمكان عدم مطابقة الأمر للغرض ، فلا بد من البناء على عدم استلزام تحقق المطلوب لسقوط الطلب ، بل يتوقف سقوطه على تحقق جميع ما يتوقف عليه الغرض وإن لم يؤخذ في المطلوب ، وإلا لزم امتناع التعبدي. ومن ثم كان كلامه في غاية الإشكال.

بل يظهر منه في مواضع أخر من التقريرات والفرائد قصور الإطلاق عن إثبات أحد الأمرين ، وأن المرجع هو الأصل العملي مع الاختلاف في الأصل الجاري ، وأنه البراءة المطابقة عملا للتوصلية ، أو الاشتغال المطابق عملا للتعبدية.

ومن ثم كانت مبانيه في غاية الاضطراب ، ولا يسع المجال استقصاء كلماته.

٢٢١

أما بعض الأعاظم قدس‌سره فبعد أن سبق منه امتناع كل من الإطلاق والتقييد ولزوم الإهمال من حيثية القيد المذكور ، وأنه لا بد في التعبدية من تتميم الجعل بالأمر الثاني ذكر أن التوصلية وإن لم ينهض بها الإطلاق اللفظي إلا أنها مقتضى الإطلاق المقامي بدعوى : أن المولى إذا كان بصدد بيان تمام جعله ، ولم ينصب قرينة على الجعل الثاني المتمم للجعل الأول ، فمقتضى الإطلاق تمامية الجعل الأول وعدم احتياجه للمتمم ، وبذلك تحرز التوصلية.

لكنه يشكل بأنه لما كان مبنى كلامه على الإهمال وعدم الإطلاق ثبوتا ، لامتناع الإطلاق بامتناع التقييد ، فلا معنى لكشف الإطلاق المقامي عن تمامية الجعل ، كما هو الحال لو صرح بالإهمال من بعض الجهات ، بل لا بد للجعل من متمم يفيد فائدة الإطلاق أو فائدة التقييد. غاية الأمر أن يدعى أن مقتضى الإطلاق المقامي كون المتمم بخصوص أحد الوجهين ، ولم يتعرض في كلامه لذلك ، ولا لوجهه.

وأما دعوى : أن الإطاعة عند العقلاء لما كانت بموافقة المأمور به ، كان مقتضى الإطلاقات المقامية للأوامر الشرعية ذلك ، واحتاج اعتبار التقرب فيها لبيان خاص.

فهي مدفوعة بأن احتمال التعبدية لا يرجع لاحتمال مخالفة الطاعة في الأوامر الشرعية للطاعة في الأوامر العرفية ، بل لاحتمال دخل التقرب في المأمور به ، لتوقف الغرض عليه ، والمفروض عدم نهوض الإطلاق بدفع ذلك.

نعم ، قد يوجه ذلك : بأن غلبة التوصلية في الأوامر العرفية ، بل ندرة التعبدية أو عدم وقوعها يقتضي ظهور الكلام عرفا في التوصلية واحتياج التعبدية للعناية والبيان المخرج عن الظهور المذكور. لكن في كفاية الغلبة في

٢٢٢

ذلك بعد فرض قصور الإطلاق إشكال. وإلا فما أكثر القيود الشرعية التي لا عهد للعرف بأخذها في المأمور به ـ كالطهارة والاستقبال وغيرهما ـ فهل يدعى نظير ذلك فيها لو فرض قصور الإطلاق؟!. على أن ذلك ـ لو تم ـ لا يرجع إلى توجيه الإطلاق المقامي ، بل إلى دعوى ظهور الكلام بسبب الغلبة.

والعمدة عدم وضوح مبنى قصور الإطلاق اللفظي ، ليتسنى التأمل في وجه الحمل على التوصلية مع عدمه ، واستيضاح ذلك ، أو منعه.

بقي شيء

وهو أنه ذهب جماعة ـ منهم الكلباسي في الإشارات على ما حكي ـ إلى أن مقتضى الأمر التعبدية ، لأن غرض المولى من الأمر جعله محركا للعبد نحو الفعل المأمور به ، فلا بد في موافقته للغرض المذكور من الإتيان بالمأمور به بداعي امتثال الأمر. وبذلك يرفع اليد عن إطلاق المادة لو تم كونه مقتضيا للتوصلية. بل لا بد في الاكتفاء بالإتيان بالمأمور به بدون قصد الامتثال من دليل مخرج عن ذلك.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من ابتنائه على لزوم قصد الامتثال في التعبدي ، مع أنه ليس بلازم.

فيندفع بأن البناء على عدم لزوم قصد الامتثال والاكتفاء بغيره من وجوه التقرب إنما هو لعدم الدليل على لزومه ، ولو تم هذا الوجه كان صالحا لإثباته ، ولزم البناء على ذلك لأجله ، وإن لم نلتزم به لولاه.

فالعمدة عدم تماميته في نفسه لوجوه :

الأول : أن الغرض من الشيء ليس إلا ما يترتب عليه ولا يتخلف عنه ، ومن الظاهر أن فعلية التحرك عن الأمر ليس مما يلزم ترتبه عليه ، بل كثيرا ما يتخلف عنه بالمعصية أو غيرها ، فلا يكون غرضا من الأمر ، بل ليس الغرض

٢٢٣

منه إلا إحداث الداعي العقلي الصالح للمحركية نحو العمل ، وهو مشترك بين التعبدى والتوصلي.

الثاني : أن الغرض الذي يجب متابعته ويلزم مطابقة المأمور به له سعة وضيقا وإطلاقا وتقييدا هو الغرض من المأمور به ، وهو الملاك ونحوه مما يترتب عليه ، لا الغرض من الأمر نفسه ، كمحركية المأمور أو إحداث الداعي العقلي له أو نحوهما ، فلو كان غرض الآمر من الأمر تعوّد المكلف على الفعل لم يلزم تقييد الفعل واختصاص الامتثال بحال التعوّد ، بل لو فعل ما أمر به نادرا في خصوص بعض الوقائع تحقق الامتثال وسقط الأمر في تلك الوقائع.

كيف؟! ولا ريب في أن الغرض المذكور ـ وهو المحركية أو إحداث الداعي العقلي أو نحوهما ـ هو الغرض من جميع الأوامر حتى التوصلية ، فلو لا عدم اقتضائه تقييد المتعلق بقصد الامتثال لامتنع كون الأمر توصليا.

ودعوى : أن جميع الأوامر تعبدية ، وأن الدليل على عدم اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر لا يكشف عن عدم اعتبار قصد الامتثال في متعلقه وعن كونه توصليا ، بل غاية الأمر أن يكون الفعل الخالي عنه رافعا لموضوع الأمر ، فيسقط الأمر به ، لعدم الموضوع له معه ، لا لكونه امتثالا له. وإليه ترجع جميع الأوامر التوصلية.

غريبة جدا ـ وإن صدرت من بعض من لا يستهان به في مجالس المذاكرة أو الدرس على ما ببالي ـ ضرورة أن سقوط الأمر بالعمل الخالي عن القصد المذكور في تلك الموارد ليس لتعذر استيفاء الملاك معه ، نظير سقوط أحكام الميت بإتلافه ، ولذا لا يكون محرما ، بل لحصول الملاك به ، كما يحصل مع القصد المذكور ، ومع عموم الملاك لا وجه لتقييد المتعلق وقصور الامتثال.

الثالث : أن الالتزام بذلك في الأمر يقتضي الالتزام به في النهي ، حيث

٢٢٤

يدعى أن الغرض منه أيضا جعله داعيا للترك. بل في الترخيص أيضا ، لأن الغرض منه أيضا كونه داعيا للعبد للسعة في مقام العمل. ومن الظاهر عدم كونهما تعبديين. كما لا يظن بأحد الالتزام بأن ذلك للدليل الخاص مع تقييد متعلقهما بما يناسب التعبدية.

الجهة الثانية : في مقتضى الدليل الخارجي.

وقد استدل لأصالة التعبدية بأمور :

الأول : قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(١) ، وظاهر قوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أن الحكم المذكور ليس من شأنه النسخ ، لأن المراد بالقيمة الملة أو الأمة المستقيمة.

فلا يبتني الاستدلال بالآية الشريفة على استصحاب أحكام الشرائع السابقة الذي هو محل الكلام.

وفيه أولا : أن الظاهر من الإخلاص لله تعالى في الدين ليس هو التقرب بالعمل له ، فإنه إخلاص له في العمل لا في الدين ، بل هو التوحيد في مقابل التدين بالشرك أو بعبادة غيره تعالى. ويناسبه قوله سبحانه : (حُنَفاءَ) حيث تضمن جملة من الآيات الشريفة أخذه في التدين بدين الإسلام ، وتضمن جملة منها مقابلته بالشرك.

وفي صحيح عبد الله ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (حَنِيفاً مُسْلِماً) قال : «خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان» (٢).

__________________

(١) سورة البينة الآية : ٥.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٢٢٥

كما يناسبه أيضا عطف الصلاة والزكاة اللتين هما من الواجبات الزائدة على التوحيد ، والمعتبر فيها الإخلاص بمعنى التقرب ، حيث لا يناسب عطفهما عليه لو كان هو المراد بالإخلاص.

بل حيث كان المعنى المذكور غير لازم في كثير من الواجبات فالحمل عليه يستلزم التخصيص ، مع أن مقتضى قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أن الحكم المذكور ليس من شأنه التخصيص.

وثانيا : على أنه لو تم إرادة التقرب بالعمل من الآية فهي لا تنفع فيما نحن فيه ، لأن اللام في قوله تعالى : (لِيَعْبُدُوا) إن كانت للغاية والمغيى نفس الأمر ، أو لتقوية العامل ـ فتساوق لام الإرادة التي ذكرها بعضهم ـ فهي لبيان المأمور به. وحينئذ تدل الآية على أنهم لم يؤمروا إلا بالعبادة الخالصة له تعالى ـ إن كان الحصر حقيقيا ـ أو لم يؤمروا بالعبادة إلا على وجه الإخلاص له تعالى ـ إن كان الحصر إضافيا ـ لا أنه يعتبر في الواجبات أن تكون عبادية.

وهي حينئذ ظاهرة في بيان قضية خارجية أخبر بها عن حال أحكامهم ، والتشريعات الثابتة في حقهم ، لا قضية حقيقية تشريعية تتضمن لزوم الإخلاص في الواجبات ، لتنفع في حقنا.

نظير ما لو قال : لم نأمرهم إلا بالصلاة عن طهارة ، فإنه لا يقتضي اعتبار الطهارة في كل صلاة حتى غير ما أمروا به ، بخلاف ما لو قيل : (لا صلاة إلا بطهور) فإنه يقتضي شرطية الطهور في كل صلاة تفرض ، حتى لو لم تجب عليهم ، فينفع في الصلاة التي وجبت علينا.

وإن كانت اللام للغاية والمغيى المأمور به ، فمقتضاه أنهم لم يؤمروا إلا بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة ، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير مما ورد الأمر به ، وهو أجنبي عما نحن فيه.

٢٢٦

الثاني : ما في غير واحد من النصوص من أنه لا عمل إلا بنية ، وأن الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى (١) ، بتقريب : أنه بعد تعذر حمله على المعنى الحقيقي يتعين حمله على الحث على النية بلسان نفي الموضوع ادعاء بلحاظ عدم ترتب الأثر ، وهو راجع إلى تقييد إطلاق موضوع الأثر بالواجد للنية ، نظير قولهم : (لا صلاة إلا بطهور). وحيث كان ظاهر هذه النصوص إرادة التقرب من النية بكون مقتضى إطلاقها عموم التعبدية في الواجبات.

لكنه يشكل بأنه بعد أن تعذر حمل النفي على الحقيقة فليس حمله على إناطة الإجزاء بالنية بأولى من حمله على إناطة الثواب ونحوه بها ، لأن كلا منهما مورد للغرض المهم الصالح لأن يبين ، فيصح نفي الحقيقة توسعا بلحاظه.

وليس أحدهما من مراتب الآخر نظير الصحة والكمال ، ليكون ظاهر نفي الحقيقة نفي ما يعم المرتبة الدنيا المستلزم لانتفاء تمام المراتب ، لأنه أقرب لنفي الحقيقة ، بل الثواب والإجزاء أمران متباينان بينهما عموم من وجه موردي يمكن تعلق الغرض بكل منهما بانفراده.

ودعوى : أن مقتضى الإطلاق العموم لكلا الأمرين.

مدفوعة بعدم الجامع بينهما عرفا ، إذ لو أريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية إرشادية ، ولو أريد نفي الإجزاء كانت تعبدية محضة ترجع إلى تقييد إطلاقات التشريع بالنية.

وبهذا يظهر أن الأول أظهر في نفسه ، لأن أنس الذهن بالقضايا الارتكازية يوجب انصراف الذهن إليها مع صلوح الكلام لها ، فإرادة غيرها يحتاج إلى قرينة صارفة ، وبدونها يحمل الكلام عرفا على القضية الارتكازية. ولا سيما مع استلزام الثاني كثرة التخصيص بنحو ظاهر عند الخطاب بالكلام ،

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب مقدمة العبادات.

٢٢٧

لأن عدم اعتبار التقرب في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي لا تخفى بحال ، خصوصا مع شمول إطلاق القضية للمستحبات ، بل لموضوعات جميع الأحكام حتى الوضعية. ومن ثم كانت القضية آبية عن التخصيص عرفا ، مع وضوح أن الآبي عن التخصيص هو المعنى الأول الارتكازي.

ويؤيده ما في حديث إسماعيل بن محمد عن الرضا عليه‌السلام وعلي بن جعفر عن الإمام الكاظم عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال : «إنما الاعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزوجل ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى» (١).

الثالث : ما تضمن الأمر بالطاعة من الآيات والروايات الكثيرة ، بدعوى : أن الإطاعة لا تكون إلا بقصد الامتثال.

وفيه : أن الظاهر من الإطاعة في المقام محض الموافقة في مقابل المخالفة ، فتكون الأوامر المذكورة للإرشاد ، كما يناسبه مقابلته بالمخالفة في مثل قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٢) وعطف إطاعة الرسول عليه ـ وحده أو مع أولي الأمر ـ في كثير من الآيات ، مع وضوح عدم اعتبار قصد امتثال أمر غيره تعالى.

مضافا إلى ظهور شمولها للنواهي مع عدم الإشكال في عدم اعتبار قصد التقرب فيها ، كعدم اعتباره في كثير من الأوامر. والتزام خروجها تخصيصا ـ مع استلزامه تخصيص الأكثر ـ ليس بأولى من الحمل على المعنى الذي ذكرناه. بل هو الأولى بعد كونه ارتكازيا ينصرف الذهن إليه ، نظير ما ذكرناه في الدليل

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٠.

(٢) سورة التغابن الآية : ١٢.

٢٢٨

الثاني ، ولذا كانت آبية عن التخصيص ارتكازا. ومن هنا كان المنصرف من الأوامر المذكورة مطلوبية الإطاعة استقلالا ، ولو إرشادا ، لا الإرشاد لقيديتها في متعلق الأوامر الأخرى.

الجهة الثالثة : في مقتضى الأصل العملي مع عدم الدليل الاجتهادي.

ولا ينبغي التأمل ـ بناء على ما سبق منا من دخل قصد التقرب في متعلق الأمر العبادي تبعا لدخله في الغرض ـ في كون المقام من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين التي كان التحقيق فيها جريان البراءة من الأمر المشكوك ، والاكتفاء في مقام الامتثال بما علم التكليف به من الأجزاء والشرائط.

وكذا الحال بناء على وجوبه بأمر ثان ، لأنه لما كان الأمر الثاني متمما للجعل الأول فالشك فيه شك في حدود الواجب الارتباطي المستفاد من الأمرين معا.

كما أنه بناء على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الأمر فلا يبعد البناء على عدم منجزية العلم الإجمالي بأحد التكليفين إلا للأثر المشترك بينهما المتيقن في مقام العمل ، وهو مجرد الموافقة ، دون ما يمتاز به التكليف التعبدي من لزوم التقرب ، فهو نظير العلم الإجمالي بوجوب شيء أو استحبابه ، حيث لا ينجز ما يمتاز به الوجوب من لزوم الامتثال بل خصوص القدر المشترك ، وهو رجحانه.

وأما لو كان الفرق في الغرض الداعي للتكليف ـ كما تقدم من المحقق الخراساني قدس‌سره ويحتمله كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ فقد قيل : إنه لا مجال للرجوع للبراءة حتى بناء على كونها المرجع عند الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وكأنه لاختصاص البراءة العقلية والشرعية بالشك في التكليف الشرعي

٢٢٩

ولو كان ضمنيا ، والمفروض عدم احتمال دخل التقرب في المكلف به ، ليكون مكلفا به ولو ضمنا ، وإنما يحتمل وجوبه عقلا لتحصيل غرض المولى. بل حيث كان الشك في دخله في الغرض مستلزما للشك في سقوط التكليف بالواجب بدونه كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان به عقلا ، تحصيلا للفراغ اليقيني.

لكن لا يخفى أن ذلك جار في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لما هو المعلوم من ملازمة احتمال دخل شيء في المأمور به لاحتمال دخله في الغرض ، ومع فرض اختصاص البراءة بالشك في التكليف فهي لا تقتضي إلا السعة من حيثية التكليف لا من حيثية الغرض وإن كان ملازما له ، بل يلزم الاحتياط من حيثية الغرض بعين البيان المذكور هنا.

ومن هنا ذكرت شبهة الغرض وجها للاحتياط في تلك المسألة ، ولا بدّ في البناء على البراءة فيها من دفع الشبهة المذكورة ، وقد ذكرت جملة من الوجوه لدفعها تنفع كلها أو جلها في المقام.

وعمدتها ـ حسبما ذكرناه في محله ـ أن بيان أصل الغرض وما هو الدخيل فيه من وظيفة المولى ، كبيان التكليف وخصوصيات المكلف به ، وكما لا يتنجز التكليف ولا خصوصيات المكلف به إلا ببيانها ، كذلك لا يتنجز الغرض من أصله ولا بخصوصيات ما يتوقف عليه بدونه.

نعم ، لو علم بالغرض بتمام الخصوصيات المعتبرة فيه وشك في حصوله للشبهة الموضوعية لزم إحراز الفراغ عنه ، كما هو الحال في التكليف وخصوصيات المكلف به.

ومنه يظهر الحال في المقام ، لأن تعلق الغرض بالعمل في الجملة وإن كان معلوما إلا أن دخل التقرب فيه لما لم يكن معلوما فلا يتنجز.

٢٣٠

ومن هنا كان الظاهر على جميع المباني جريان البراءة في المقام ، إما لأن المسألة من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ـ كما هو الظاهر ـ أو لأنها نظيرها. بل بناء على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الأمر قد يكون جريان البراءة فيها أظهر ، كما يظهر بملاحظة ما تقدم.

بقي في المقام تنبيهات :

الأول : مما تقدم في اعتبار التقرب في التعبدي يظهر الحال في غيره مما قيل أو يحتمل اعتباره في العبادة مما كان متفرعا على الأمر ، كقصد الوجه ـ الذي هو عبارة عن قصد خصوصية الأمر من الوجوب والاستحباب داعيا ـ والتمييز ـ الذي هو عبارة عن قصد خصوصيتي الوجوب والاستحباب عنوانا للفعل ، أو تمييز الأجزاء الواجبة والمستحبة ـ فإنهما كقصد الامتثال يمتنع تقييد المأمور به بهما بعنوانهما ، وقد سبق أن ذلك لا يمنع من التمسك بالإطلاق والأصل لنفي اعتبار القيد.

وكذا الحال في الاجتزاء بالامتثال الاحتمالي والإجمالي وإن استلزم التكرار. لأنه يكفي في التقرب الإتيان بالفعل لاحتمال كونه مطلوبا وموردا للغرض ، فاعتبار ما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل مخرج عن مقتضى الإطلاق والأصل بالتقريب المتقدم. ويأتي في الفصل الخامس من مباحث القطع ما ينفع في المقام.

التنبيه الثاني : من الظاهر اختصاص الإشكال في التعبدي بما إذا كان الأمر نفسه تعبديا قد أخذ في متعلقه قصد التقرب من حيثيته إما بقصد امتثاله ، أو بقصد موافقة الغرض المستكشف به ، أما لو كان الأمر توصليا وقد اعتبر التقرب في موضوع حكم آخر فلا إشكال أصلا ، بل هو كسائر القيود غير المتفرعة على الحكم المقيد والتي يمكن لحاظها في مرتبة سابقة عليه وأخذها في متعلقه.

٢٣١

ومن ذلك الطهارات الثلاث. فإن أمرها النفسي ـ وهو الأمر بالكون على الطهارة ـ توصلي لا يعتبر في امتثاله التقرب به ، بل هو راجع إلى استحباب الكون على الطهارة بالمعنى الاسم المصدري وإن كان إحداث الطهارة بالمعنى المصدري بداعي أمر آخر غير الاستحباب المذكور.

وكذا الحال في مطلوبيتها الغيرية لمثل الصلاة والطواف سواء قيل بثبوت الأمر الشرعي الغيري أم قيل بعدمه ولزوم المقدمة عقلا ، لتوقف امتثال ذي المقدمة عليها ، وأن مقربيتها بلحاظ ذلك ، حيث تكون شروعا في امتثاله. لما هو المعلوم من أن مطلوبية المقدمة ليست تعبدية ، فلا يعتبر في مقدمية المقدمة التقرب بأمرها المقدمي ، بل يكفي حصولها بأي وجه اتفق.

غاية الأمر أن الدليل قام على أن سببية أسباب الطهارة لها مشروطة بإيقاعها بوجه عبادي قربي ، ومن الظاهر أن مقربية الطهارة لا تتفرع على سببية أسبابها لها ، ليمتنع تقييدها بها ، ويجري الكلام المتقدم في التعبدي. بل هي متفرعة على مطلوبيتها نفسيا أو مقدميتها لمطلوب نفسي ، وهو أمر أجنبي عن السببية المذكورة.

ويترتب على ذلك أنه لو فرض الشك في معيار التعبدية المعتبرة لزم الاقتصار على المتيقن والرجوع في نفي الزائد لإطلاق أدلة سببية الأسباب للطهارة.

وتظهر ثمرة ذلك في بعض الفروع المبتنية على اعتبار العبادية في الطهارات المذكورة في الفقه ، ولا يسعنا التعرض لها هنا.

التنبيه الثالث : لا إشكال في عدم اختصاص التعبدي بالواجب ، بل يجري في المستحب. وأما جريانه في المنهي عنه فهو يتم بناء على أن القصد القربي في التعبدي أمر خارج عن المتعلق يعتبر فيه شرعا بأمر آخر ، أو عقلا لتوقف الغرض عليه. حيث لا يقتضي النهي عن الماهية إلا محض الترك ، وإن

٢٣٢

وجب شرعا أو عقلا امتثاله بنحو التقرب.

أما بناء على أنه من شئون المتعلق المأخوذة فيه ـ كما سبق أنه الأظهر ـ فلا يكون النهي تعبديا ، لأن اعتبار قصد التقرب قيدا في الترك راجع إلى الحث عليه ، والحث على القيد حث على المقيد ، فيرجع الأمر المذكور إلى الأمر بالترك المقيد بقصد التقرب ، من دون أن يكون الفعل منهيا عنه ، لما سبق في مقدمة مبحث الأوامر والنواهى من أن النهي ليس أمرا بالترك ، بل هو نسبة مقابلة لنسبة الأمر تقتضي ترك المتعلق. ولعل ذلك هو المنشأ لعدّهم الصوم من الواجبات التعبدية ، ولم يعدوا ما يمسك عنه الصائم محرما تعبديا.

والحمد لله رب العالمين.

٢٣٣

الفصل السابع

في تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد

وقد اختلفت كلماتهم في تحرير النزاع ، بنحو قد يظهر منهم عدم تحديده مما قد يستوجب نسبة كل طرف في النزاع للآخر ما لا يقول به. ولا ينبغي إطالة الكلام في ذلك ، لخلوه عن الفائدة ، بل المناسب بيان حقيقة الكلام في المقام من دون تعرض لكلماتهم وتعقيبها. وذلك يكون بذكر أمور ..

الأول : أن تعلق التكليف بمتعلقه ليس على حدّ تعلق سائر الأعراض الحقيقية والاعتبارية بمتعلقها ، لوضوح أن العرض الخارجي لا يقوم إلا بمتعلقه الخارجي ، ولا يكون فعليا في مورد عدم فعلية متعلقه ، بخلاف التكليف ، فإنه لا يكون فعليا إلا في ظرف عدم وجود متعلقه ، وإنما يتعلق بمتعلقه بحدود المفهومية التي بها تتقوم الماهية المتعلقة للتكليف ، غايته أنه يدعو إلى وجود متعلقه أو إلى عدمه ، وليس وجود متعلقه في الخارج إلا ظرف سقوط التكليف بالإطاعة أو العصيان. نعم قد يكون تعلقه في ظرف فعليته بالحدود المفهومية مصححا لنسبته للماهية ، كما تكون داعويته لوجودها أو عدمها ـ الذي يكون بوجود الفرد أو بعدمه ـ مصححة لنسبته للفرد.

الثاني : لا ريب في أن محط الأغراض والملاكات هو الوجود الخارجي ، دون الماهية المجردة التي لا موطن لها إلا الذهن ، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي بها ، فلو ورد الحكم على الماهية تعين حملها على الماهية الخارجية ، لأن ما في الخارج هو موطن الأغراض والملاكات. ولا يظن بأحد النزاع في ذلك ، وإن أوهمت بعض استدلالات القائلين بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد كون مراد

٢٣٤

القائل بتعلقها بالطبائع تعلقها بالماهية المجردة.

الثالث : أن قيام الغرض والملاك بأفراد الماهية بنحو يقتضي الخطاب بالأمر والنهي تارة : يكون لاستناد الغرض إلى خصوص ما به الاشتراك بينهما ، ويكون ما به امتياز كل منها مقارنا لمورد الملاك غير دخيل فيه وأخرى : يكون لدخل ما به امتياز كل منها فيه بنحو البدل أو الاستغراق ، كما لو كان للعلم والإحسان والكرم والشرف دخل في تعلق الغرض بالإكرام ، وكان في الدار عالم ومحسن وكريم وشريف ، فأمر بإكرام من في الدار بنحو البدلية أو الاستغراق.

وحيث كان موضوع متعلق الأمر هو موضوع الغرض تعين في الأول تعلق الأمر بالجهة المشتركة بين الأفراد ، دون خصوصياتها ، وفي الثاني تعلقه بالخصوصيات بنحو الاستغراق أو البدلية ، وعدم الاكتفاء بالجهة المشتركة ، لعدم وفائها بالغرض.

ولكن يظهر من غير واحد أن مراد القائلين بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد دخل الخصوصيات في متعلقهما مطلقا حتى في الصورة الأولى. وإن كان ذلك بعيدا جدا ، بل أنكره بعضهم أشد الإنكار. ولعله ناشئ عن عدم تحديد محل النزاع بوجه كاف.

وكيف كان فظاهر تعلق الأمر بالطبيعة بعنوانها هو الأول دون الثاني ، لرجوعه إلى أن ذكر العنوان لمجرد كونه مشيرا لمتعلقات الأحكام وجامعا لشتاتها من دون أن يكون بنفسه متعلقا لها ، وهو خلاف ظاهر أخذ العنوان في موضوع الحكم.

ومن جميع ما سبق يتضح عدم تحصل نزاع جوهري في البين ، وأنه يقرب ابتناء النزاع على عدم تحديد موضوع الكلام بنحو كاف.

٢٣٥

الفصل الثامن

في الأمر بالأمر والنهي

قد وقع الكلام في أن الأمر بالأمر هل يكون أمرا في حق المأمور الثاني أو لا. ونظيره في ذلك الأمر بالنهي ، وأنه هل يقتضي نهي المنهي من قبل الآمر بالنهي أو لا. ولا وجه لتخصيص الكلام في الأمر إلا ذكرهم ذلك في مباحث الأوامر.

وحيث كان مبنى الكلام في المقامين واحدا فلنجر في تحرير المسألة على ما جروا عليه ، ومنه يتضح الحال في النهي. وينبغي الكلام في صور ذلك ثبوتا ، ثم فيما هو الظاهر من الأمر ولو بضميمة القرائن العامة إثباتا.

فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في صور الأمر المذكور ثبوتا

اعلم أنه إذا أمر زيد عمرا بأن يأمر بكرا بالسفر فهو يكون على وجوه ..

الأول : أن يكون ناشئا من ملاك مستقل بالأمر من دون ملاك يقتضي أمر زيد لبكر بالسفر حتى بعد أمر عمرو له به ، كما لو أراد استكشاف حال بكر ، وأنه يطيع عمرا أو لا. وعليه يكون الأمر من عمرو لبيان مراده ، لا لبيان مراد زيد ، وتكون إطاعة بكر له لا لزيد. كما لا أثر للأمر المذكور من زيد في حق بكر

الثاني : أن يكون ملاكه تتميم الملاك للسفر في حق بكر ، بأن يكون ملاك السفر من بكر موقوفا على أمر عمرو له به. وهذا الوجه موقوف على

٢٣٦

وجوب إطاعة عمرو على بكر من قبل زيد ، نظير وجوب إطاعة المولى على العبد شرعا ، وإلا لم يتوصل بأمر عمرو لبكر للغرض المذكور فيكون أمر عمرو بكرا.

بالسفر محققا لموضوع أمر زيد له به ، فهو شرط للواجب والوجوب معا.

ويكون إطاعة الأمر الثاني إطاعة لهما معا ومعصيته معصية لهما معا. كما أنه لا يكفي الأمر المذكور في وجوب السفر على بكر إذا لم يأمره عمرو به ، لا من قبل زيد لعدم تحقق موضوع أمره ولا شرط المأمور به ، ولا من قبل عمرو لعدم صدور الأمر منه.

الثالث : أن يكون ملاكه محض التبليغ ، وإيصال تكليف زيد لبكر بالسفر من طريق الأمر المذكور ، نظير أمره تعالى لرسله بأمر أممهم بما تضمنته شريعته من أوامر. وعليه لا يكون الأمر من عمرو لبيان مراده ، بل لبيان مراد زيد ، فلا تكون إطاعة بكر للأمر ومعصيته له إطاعة ومعصية لعمرو ، بل لزيد عكس الوجه الأول. كما يكفي العلم بالأمر المذكور في لزوم الطاعة في حق بكر وإن لم يأمره عمرو بالسفر.

الرابع : أن يكون ملاكه تأكيد الداعي لبكر في إطاعة الأمر بالسفر مع ثبوته في حقه وفعليته مع قطع النظر عن أمر عمرو له به ، نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يشارك الوجه الثاني في كون الإطاعة والمعصية من بكر لهما معا. ويفارقه في عدم توقف لزوم الطاعة من حيثية زيد على أمر عمرو له بالسفر.

الخامس : أن يكون ملاكه حمل بكر على السفر من دون أن يكلف به من قبل زيد حتى بعد أمر عمرو له به ، لعدم علقة بينهما تصحح تكليفه له ، كما لو كان بكر عبدا لعمرو وكان السفر مرغوبا لزيد ، أو لمانع من تكليفه له ، كما لو كان زيد يترفع عن تكليف بكر ، أو يرأف به بنحو لا يرغب أن يكون مسئولا

٢٣٧

من قبله ، فتكون الإطاعة والمعصية من بكر لعمرو فقط ، كما في الوجه الأول ، وإن فارقه في كون السفر من بكر هو الغرض الأقصى من أمر زيد لعمرو.

وربما يكون هناك بعض الوجوه الأخر يضيق المجال عن ذكرها قد يظهر حالها مما سبق.

المقام الثاني : في مفاد الأدلة إثباتا

حيث ظهر اختلاف وجوه الأمر بالأمر ثبوتا فالظاهر أن الوجه الأول بعيد في نفسه ، ومخالف لظاهر الأمر ، لأن ارتكاز اقتضاء الأمر لتحصيل متعلقه موجب لظهور الأمر به في تعلق الغرض بمتعلقه الذي هو كالمعلول له ، كسائر موارد الأمر بالعلة.

كما لا يبعد ذلك في الوجه الثاني أيضا ، لأن استبعاد تقييد المطلوب بخصوصية علة له ـ بحيث لا يراد منه إلا ما يصدر عنها ـ يوجب انصراف إطلاق الأمر عنه ، وظهوره في تعلق الغرض بمتعلق الأمر بذاته وإن لم يسبق بالأمر المذكور. مع عدم الأثر المهم له في الأوامر الشرعية بعد ما سبق من توقف الوجه المذكور على فرض تكليف الآمر الأول للمأمور الثاني بإطاعة المأمور الأول ، إذ مع إحراز ذلك لا بد له من إطاعته له في أمره بالعمل وإن لم يكن مرادا للآمر الأول بعنوانه.

فيتردد الأمر بين الوجوه الثلاثة الباقية. وذهب جماعة إلى ظهور الأمر بالأمر في الثالث. وكأنه ناشئ عن غفلتهم عن الوجهين الأخيرين. وإلا فالظاهر توقف الظهور في الوجه المذكور على المفروغية في ظرف الخطاب بالأمر عن كون وظيفة المخاطب به التبليغ عن الآمر ، كما في الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، حيث ينصرف أمره بالأمر إلى إرادة إعمال وظيفته.

وأما في غيره فلا يتضح وجه ظهور الأمر فيه. بل حمل الأمر الذي يؤمر

٢٣٨

به على مجرد التبليغ مخالف لظاهره لغة وعرفا. ولذا يفهم منه لزوم قيام المخاطب بوظيفة الآمر الذي يحمل المأمور مسئولية أمره ، بل يحاول السعي لتحصيل مطلوبه بالترغيب والترهيب ونحوهما.

كما أن الوجه الرابع حيث يبتني على تكليف الآمر الأول للمأمور الثاني بالفعل احتاج إلى قرينة ومئونة بيان. وبدون ذلك يتعين الوجه الخامس ، لأنه مقتضى الأصل. وأولى بذلك ما لو كانت هناك قرينة على عدم كونه بصدد تكليفه ، فضلا عما لو علم بذلك.

ثم أنه ذكر غير واحد أن ثمرة النزاع المذكور تظهر في عبادات الصبي ، وأنه بناء على الوجه الثالث ـ الذي سبق عن جماعة ظهور الأمر بالأمر فيه ـ يمكن استفادة شرعيتها من مثل قوله عليه‌السلام : «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام» (٢) ، وغيرهما مما ورد في أمر الولي للصبي بالعبادات.

ولا بد لأجله من حمل حديث رفع القلم على رفع الإلزام مع ثبوت أصل المشروعية.

لكنه يشكل بأنه لو بني على ذلك فمقتضى الجمع العرفي حينئذ تخصيص حديث رفع القلم بأدلة الأوامر المذكورة ، لأنها أخص مطلقا ، لاختصاصها بالصلاة والصوم للصبي لا رفع اليد عن ظهور الأوامر المذكورة في الوجوب ، وإنما يلتزم بتقديم حديث رفع القلم على المطلقات الشاملة للصبي وغيره ، لأنه حاكم عليها بعد أن كان بينها وبينه عموم من وجه ، مع أنه ليس

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ باب : ٣ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج : ٧ باب : ٢٩ من أبواب من يصح منه الصوم حديث : ٣.

٢٣٩

بناؤهم على ذلك.

بل كيف يجمع بينه وبين الأوامر المذكورة بحملها على عدم الإلزام مع صراحة بعض تلك الأوامر في الأمر بإلزامهم وأنهم يضربون على ذلك (١) ، إذ لو كان الأمر طريقيا مبنيا على محض التبليغ فلا وجه للإلزام بما ليس بلازم شرعا.

فلا وجه للبناء على عموم حديث الرفع مع ذلك إلا حمل الأوامر المذكورة على الوجه الخامس.

كما هو المتعين فيما تضمنته جملة من النصوص أو قام عليه الإجماع واقتضته المرتكزات من لزوم منعه وتعزيره عن بعض المحرمات المستهجنة كالزنا واللواط وشرب الخمر. فهو نظير ما تضمن الأمر بمنع الصبيان والمجانين من دخول المساجد لا يراد به إلا تجنب ذلك من دون خطاب لهم بحرمة الدخول أو كراهته.

نعم ، يمكن استفادة مشروعية العبادات المذكورة للصبي من الأوامر المذكورة ، لا بالوجه المتقدم منهم ، بل من جهة ظهور نسبة العبادات المذكورة للصبيان في الأمر بها على ما هي عليه بحقائقها المعهودة المستلزم للقدرة عليها كذلك ، لا أنهم يؤمرون بصورها لمحض التمرين ، فيلزم مشروعيتها ، لتعذر التقرب بها بدونها.

هذا ، مضافا إلى نهوض إطلاقات أدلة العبادات بإثبات مشروعيتها في حق الصبي ، لما هو التحقيق من ظهور حديث رفع القلم في مجرد رفع الإلزام ، فيكون مقتضى الجمع بينه وبينها ثبوت المشروعية دون الإلزام في حق الصبي ، بلا حاجة إلى هذه النصوص. وتمام الكلام في محله.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٣ باب : ٣ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، وج : ٧ باب : ٢٩ من أبواب من يصح منه الصوم.

٢٤٠