الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

الاستحقاق ، وللمولى الشرعي ونحوه بالوجوب الشرعي. وأما لغيرهم فلا تجب ، بل يكون فعلها بدواع أخر ، كخوف الضرر الذي قد يجب دفعه شرعا ، والوفاء وغيرهما. إلا أن ذلك لا يوجب اختلاف منشأ انتزاعها من قبل من تصدر منه ، والذي يكون به قوامها.

وتوضيح ذلك : أن صاحب الحق بالذات ـ وهو المولى الأعظم ـ أو بالجعل أو بالزعم والقهر ، أو بغير ذلك ، إذا خاطب بالأمر والنهي بداعي جعل مقتضاهما محسوبا عليه ومنتسبا إليه ـ بحيث يصح أن يؤتى به لأجله وعلى حسابه بما أنه صاحب تلك الجهة المقتضية للمتابعة ـ كان ذلك الخطاب منشأ لانتزاع المشروعية التي هي أعم من الوجوب والاستحباب ومن الحرمة والكراهة.

وحينئذ إن ابتنى الخطاب مع ذلك على جعل السبيل على المخاطب ومسئوليته بحيث يكون عدم متابعته له خرقا لها وخروجا على مقتضاها كان منشأ لانتزاع أحد الحكمين الإلزاميين ، وهما الوجوب والحرمة ، وإن لم يبتن على ذلك بل على مجرد بيان نسبة مقتضى الخطاب للمخاطب ، بحيث يتابع لأجله من دون أن يخل بتلك الجهة ، كان منشأ لانتزاع أحد الحكمين الاقتضائيين غير الإلزاميين ، وهما الاستحباب والكراهة. ومنه يتضح حال الإباحة بالمعنى الأخص فهي الترخيص لبيان عدم اقتضاء الجهة المذكورة للفعل ولا للترك.

ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الخطاب بالتكليف يتضمن إيقاع المادة تشريعا على المكلف ، وما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد الطلب اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ، لأن جعل السبيل والمسئولية يشبه ما ذكراه ، وإلا فما ذكراه من سنخ الوضع المباين للتكليف.

٢١

هذا ، والظاهر أن الخطاب بالنحو المذكور هو حقيقة الإرادة والكراهة التشريعيتين اللتين شاع في كلماتهم انتزاع الأحكام التكليفية منهما ، كما وقع التعبير عنهما بالإرادة والمحبة والكراهة والبغض لغة وعرفا وشرعا. ومن الظاهر أن الإرادة والكراهة تستعملان لغة وعرفا حقيقة في الحالتين النفسيتين المستتبعتين لتحريك العضلات نحو تحقيق المراد ومنع المكروه ، والمعبر عنهما بالإرادة والكراهة التكوينيتين ، فإطلاق الإرادة والكراهة أيضا على الإرادة والكراهة التشريعيتين ـ بالمعنى المتقدم ـ إما أن يبتني على الاشتراك اللفظي أو على التوسع والمجاز ، إما بلحاظ مشاركتهما للتكوينيتين في اقتضائهما تحقيق المراد ومنع المكروه ، أو بلحاظ كثرة موارد تبعية التشريعيتين للتكوينيتين ، إذ كثيرا ما تكون التشريعيتان من مقدمات تحقيق المراد أو منع المكروه التكوينيين.

وكيف كان ، فهما مختلفتان سنخا ، فالحقيقيتان التكوينيتان من الصفات النفسية الحقيقية ، وهما تابعتان لوجود الغرض الداعي لمقتضاهما مما يترتب خارجا عليه ، والتشريعيتان من سنخ الأمور الاعتبارية المتقوّمة بالجعل الذي هو ـ كسائر الأفعال الاختيارية ـ تابع لإرادة تكوينية متعلقة به تابعة لغرض مترتب على نفس الجعل. ولذا أمكن فيهما أمور ..

الأول : تحقق التشريعيتين مع العلم بعدم تحقق مقتضاهما من المكلّف ـ قصورا أو تقصيرا ـ مع امتناع ذلك في التكوينيتين.

الثاني : تخلف مقتضاهما عنهما ـ قصورا أو تقصيرا ـ مع قدرة المكلّف على تحقيق مقتضاهما بإيصال التكليف وتمكين المكلّف من مقدمات الامتثال ، وإحداث الداعي له إليه بترغيب وترهيب ، وبتوفيق وهداية منه تعالى ، أو بإقناع ـ ولو بواسطة ـ من غيره. وهو ممتنع أيضا في التكوينيتين.

٢٢

الثالث : فرض الإلزام وعدمه في التشريعيتين مع عدم تعقل عدم الإلزام في التكوينيتين إذا أخل بتحقيق المراد ومنع المكروه ، لأن الإرادة والكراهة لما كانتا عبارة عن الشوق والبغض المستتبع لتحريك العضلات لإيجاد المراد ومنع المكروه فالشوق والبغض المذكوران مهما كانت مرتبتهما من الضعف والقوة ـ تبعا لمرتبة ملاكهما ـ إن بلغا مرتبة تحريك العضلات والسعي لتحصيل المراد ومنع المكروه امتنع الترخيص في مخالفة متعلقهما إذا أخل بتحقيق المراد ومنع المكروه ، وإلا لم يبلغا مرتبة الإرادة والكراهة ، وكانا محض رغبة ونفرة لا تستتبعان السعي لتحصيل متعلقهما ومنعه بالخطاب.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر ضعف ما يظهر من غير واحد من كون التشريعيتين من سنخ التكوينيتين ، بل من أفرادهما حقيقة ، وانحصار الفرق بينهما بالمتعلق ، فمتعلق التكوينيتين فعل المريد وترك الكاره بنفسيهما ، ومتعلق التشريعيتين فعل المكلّف من قبله وتركه ، فإن ذلك ـ مع منافاته للوجدان الصادق في حقيقة التشريعيتين ـ لا يناسب ما سبق من وجوه الفرق الثلاثة.

وكأن منشأ اختلاط الأمر إطلاق الإرادة والكراهة على الأمرين معا ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ وكثرة موارد تقارنهما عند تعلقهما بفعل الغير بسبب كونه واجدا لمصلحة أو مفسدة تقتضيهما معا.

لكن التأمل في الارتكازيات وملاحظة الشواهد المتقدمة قاض بعدم تلازمهما ، فضلا عن اتحادهما ، بل ليس بينهما إلا عموم من وجه موردي ، مع كون التشريعية في مورد الاجتماع معلولة للتكوينية ، بلحاظ أن التكليف من مقدمات وجود المراد ومنع المكروه التكوينيين.

ولا بد في مثل ذلك من علم المكلّف أو احتماله امتثال التكليف ،

٢٣

واستفراغه الوسع في ذلك بترغيب المكلّف وترهيبه ونحوهما. كما لا بد من عدم الاكتفاء بالخطاب غير الإلزامي إلا مع علمه بتحقق مقتضاه. لما سبق من امتناع التخلف في التكوينيتين مع القدرة ، وامتناع حصولهما مع العلم بالتخلف.

وتنفرد التكوينية فيما لو تعذر تكليف الشخص الذي يراد أو يكره فعله أو لزم منه محذور ، وأمكن حصول الغرض بخطابه التماسا أو إرشادا أو بتكليف شخص ثالث بأن يكلفه أو نحوهما مما يستلزم حصول مقتضاها منه.

كما تنفرد التشريعية في موارد التكاليف الناشئة عن ملاكات في المتعلق لا تقتضي الاهتمام بحفظها من جميع الجهات. وكذا في موارد التكاليف الامتحانية ونحوها مما يكون ملاكه مصلحة في التكليف دون المكلف به ، حيث يكون بالإرادة المذكورة قوام التكليف الذي هو المدار في الداعوية العقلية ، من دون حاجة للإرادة والكراهة التكوينيتين.

ولذا كان التكليف الامتحاني حقيقيا يجب إطاعته حتى لو علم المكلف بحاله ، ولا يكون التكليف صوريا إلا إذا خلا من الإرادة أو الكراهة التشريعيتين ، كما لو كان الغرض من الخطاب إظهار تكليف المخاطب أمام الغير لغرض في الإظهار لا في التكليف ، ولذا لا يجب على المخاطب متابعة الخطاب المذكور لو علم بحاله ، بل قد لا يحسن.

وينبغي التنبيه على أمور ..

الأول : بناء على ما سبق منا في حقيقة الحكم الاقتضائي الإلزامي وغيره يظهر أن الفرق بينهما ثبوتا تابع لذاتي الحكمين في مقام الجعل ، فإن الخطاب بكل منهما وإن ابتنى على جعل مقتضاه محسوبا على المخاطب بما أنه صاحب الجهة المقتضية للمتابعة ، إلا أنه يبتني في الإلزامي ـ مع ذلك ـ على جعل السبيل

٢٤

بلحاظ تلك الجهة ، وفي غير الإلزامي لا يبتني على ذلك.

ومن الظاهر أن الخطاب لا يخلو عن أحد الوجهين ، ولا دخل للترخيص وعدمه في ذلك. نعم هما لازمان للخصوصيتين المذكورتين. كما قد يكون الترخيص أو عدمه سببا في إثبات إحدى الخصوصيتين وإحرازها.

ويظهر نظير ذلك حتى ممن بنى على أن الإرادة التشريعية من سنخ الإرادة التكوينية ، حيث يظهر منه أنها تنقسم للإلزامية وغيرها.

لكن صرح بعض الأعاظم قدس‌سره بأن الخطاب بنفسه موضوع لصدق عنوان الإطاعة الواجبة عقلا ما لم تقم قرينة على أن مصلحته غير لزومية ، وذلك بورود الترخيص من المولى ، فإذا ورد لم تصدق الإطاعة وكان الفعل مستحبا أو مكروها. ومقتضاه تقوم الحكم غير الإلزامي بوصول الترخيص.

وهو غريب ، لوضوح أن إلزامية الحكم وعدمها لا يختصان بأحكام الشارع الأقدس الواجب الطاعة عقلا ، بل يجريان في أحكام غيره ـ ممن تجب إطاعته أو لا تجب ـ تبعا لخصوصية في الحكم ، وليس الترخيص وعدمه إلا لازمين لإحدى الخصوصيتين. كيف! ولازم ذلك انقلاب الطلب من الوجوب أو التحريم للاستحباب أو الكراهة بوصول الترخيص ، ولا يظن منهم البناء على ذلك إلا في النسخ الذي لا إشكال في عدم كون ما نحن فيه منه.

وما أبعد ما بينه وبين ما عن بعضهم من إرجاع الاستحباب والكراهة للأوامر والنواهي الإرشادية ، لدعوى منافاة البعث للترخيص في الترك. وإن كان هو ظاهر الضعف أيضا بعد ما ذكرنا من ابتناء الخطاب بالاستحباب والكراهة على كون مقتضاهما منسوبا للمولى ومحسوبا عليه ، مع وضوح عدم كون الأوامر والنواهي الإرشادية كذلك.

الثاني : مما تقدم تظهر حقيقة الحكم غير الاقتضائي ، وهو الإباحة

٢٥

بالمعنى الأخص. لكن لا يخفى أن مجرد عدم تمامية ملاك الحكم الاقتضائي في الفعل والترك لا يصحح جعل الحكم المذكور بعد كفاية عدم جعل الحكم الاقتضائي في ترتب أثر الإباحة.

نعم ، قد يحسن عرفا ذلك لدفع توهم الحظر كما قد يحسن في مورد وجود مقتضي المنع ، تنبيها للمقتضي المذكور ، ولإنعام المولى على المكلفين بالتخفيف تشريعا ، كما هو ظاهر الأدلة في موارد كثيرة.

ومن ثم قد يحسن العمل بالترخيص إذعانا بالنعمة المذكورة وشكرا لها ، كما قد يشير إليه ما عن تفسير النعماني بإسناده عن علي عليه‌السلام : «قال : ... وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» (١) ، ولا يتحقق ذلك بمجرد عدم المنع فإنه قد يكون لعدم المقتضي.

اللهم إلا أن يقال : هذا إنما يقتضي تشريع الحلّ بالمعنى الأعم ، لكفايته في دفع توهم الحظر ، وفي الامتنان والسعة عملا ، كما هو ظاهر الأدلة المتضمنة للرخصة والحلّ والإباحة ونحوها ، وأما خصوصية الإباحة بالمعنى الأخص فلا أثر لها في السعة. ولعله لذا لا استحضر ورود دليل يتضمن تشريعها ، بل لا يعهد لفظ مختص بها لغة ، بل ولا عرفا ، وإنما هي مصطلح للفقهاء في مقام تقسيم الأحكام إلى الخمسة.

ومن هنا لا يبعد عدم جعل الإباحة بالمعنى الأخص ، بل هي حكم منتزع من عدم تشريع الحكم الاقتضائي مع الترخيص أو بدونه.

نعم ، لو كان منشأ الحكم الاقتضائي الإرادة والكراهة الحقيقيتين كان منشأ الإباحة الرضا بالفعل والترك معا ، وكان أمرا حقيقيا ، كالحكم الاقتضائي. لكن عرفت المنع من ذلك.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٢٥ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ١.

٢٦

الثالث : أن التكليف وإن كان تابعا لفعلية الخطاب به تبعا لفعلية موضوعه ، إلا أن الظاهر ـ تبعا للمرتكزات العقلائية ـ أن موضوع الطاعة والمعصية والتقرب والتمرد هو فعلية الغرض ، بمعنى بلوغه مرتبة الداعوية ، بحيث يهتم المولى بحفظه تشريعا ، وإن لم يكن التكليف فعليا لوجود المانع من فعلية الخطاب به ، كما في موارد التزاحم. ومن ثم ذكروا عدم جواز تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف قبل دخول الوقت فضلا عما بعده ، كما ذكرنا في مبحث التزاحم عدم جواز فعل ما يؤدي إلى تزاحم التكليفين وتعذر امتثال أحدهما ، مع وضوح أن الباقي مع التعجيز والتعذر ليس إلا الملاك دون التكليف ، وذكروا في مسألة الضد أن سقوط أمر المهم لمزاحمته بأمر الأهم ـ بناء على عدم ثبوت الأمر الترتبي ـ لا يمنع من مشروعية التقرب بلحاظ ملاكه. ويترتب على ذلك ثمرات عملية مهمة أشير إليها في مباحث التزاحم استوفينا الكلام في كثير منها في مسألة الضد ومباحث التعارض.

بل لا إشكال في حسن تحصيل الغرض المذكور مع غفلة المولى عنه ـ لو كان ممن يمكن منه الغفلة ، كما في الموالي العرفيين ـ وكفايته في التقرب إليه. بل لزوم تحصيله لو كان لزوميا ، وعدم صحة الاعتذار بعدم فعلية الخطاب به. نعم ، لا مجال لذلك مع انحصار الغرض بالامتحان ، لأن غفلة المولى مساوقة لعدم فعلية غرضه المذكور ، لتقوم الامتحان بالقصد ، فلا موضوع للامتثال والتقرب حينئذ.

الرابع : لما كان الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره بزيادة حدّ في الإلزامي يستتبع المسئولية بالإضافة للجهة التي يبتني الخطاب على ملاحظتها ، مع اشتراكهما في المشروعية والانتساب للمولى ـ كما سبق ـ كان الحكم الاقتضائي غير الإلزامي موجودا بذاته في ضمن الحكم الإلزامي وإن لم يكن موجودا بحدّه المميز له ، وحينئذ فالمرتكزات العقلائية قاضية بأنه كما يكون للحاكم رفع

٢٧

الحكم الإلزامي بكلا حدّيه ، بنحو لا تبقى معه المشروعية ، له رفعه بحدّه المميز له عن الحكم غير الإلزامي ، برفع المسئولية المقتضية للإلزام مع بقاء المشروعية ، فيخلفه الحكم الاقتضائي غير الإلزامي ، لتمامية حدّيه بذلك ، فرفع الإلزام والحكم بالاستحباب أو الكراهة لا يتوقف على رفع مشروعية الفعل أو الترك المقارنة للإلزام ثم تشريعهما مرة أخرى.

وإلى هذا يرجع ما في كلماتهم من التعبير بالرخصة والعزيمة ، حيث يراد بالأولى رفع الإلزام مع بقاء المشروعية ، وبالثانية رفع أصل المشروعية. ومن ثم كانتا من شئون الأحكام التكليفية.

هذا ، وتشخيص مفاد دليل الرفع وأنه بأي من النحوين تابع لما يستفيده الفقيه من الأدلة.

المقام الثاني

في الأحكام الوضعية

وينبغي تقديم الكلام في حقيقتها بأمور ..

الأمر الأول : إن إطلاق الحكم في المقام ليس باعتبار الحكم به شرعا ، لأن حكم الشارع به مساوق لجعله له ، مع أن الكلام هنا إنما هو في جعل الشارع للأحكام الوضعية ، بل المراد به ما حكم به في كلام أهل الاستدلال أو المتشرعة مما كان تابعا في الجملة لجعل الشارع ، سواء كان مجعولا له أم لازما لجعله أم غير ذلك.

الأمر الثاني : ربما وقع الاختلاف في عدد الأحكام الوضعية ، فقيل : إنها ثلاثة ، وهي السببية والشرطية والمانعية ، وقيل : إنها خمسة ، بإضافة العلية والعلامية ، وقيل : إنها تسعة ، بإضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة ،

٢٨

وقيل : إنها غير محصورة ، بل كل ما ليس بحكم تكليفي فهو حكم وضعي. ولا طريق لنا لتحديد المصطلح المذكور بعد عدم الوقوف على مبدئه ومنشئه.

نعم ، حيث كان سبب البحث فيها هو الاختلاف في حقائقها ، وهو لا يختص بما سبق ، فالمناسب تعميم البحث لكل ما ليس بحكم تكليفي ، بل لا بأس بتعميم المصطلح له ـ كما سبق منا ـ تبعا لعموم الغرض المصحح للاصطلاح ، وهو الخلاف في حقيقة هذه الأحكام. وعلى هذا جرى المتأخرون.

الأمر الثالث : الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية ليس في تحديد مفاهيمها تفصيلا ، لعدم تيسر ذلك ، بسبب كثرتها وبساطة مفاهيمها وارتكازية بعضها بالنحو غير القابل للشرح ، مع أنه لا أثر لذلك ، فلو أشير إلى ذلك في بعضها فهو استطراد خارج عن محل الكلام. بل الكلام إنما هو في جعلها شرعا ، بحيث يكون لها بسبب

الجعل الشرعي نحو من الوجود الصالح لأن يترتب عليه الأثر العملي ، لما يترتب على البحث في ذلك من الأثر المهم ، وهو إمكان التعبد بها ظاهرا عند الشك فيها.

وتوضيح ذلك : أن من الظاهر أن المصحح للتعبد الشرعي الظاهري هو ترتب الأثر العملي ، بحيث يكون التعبد منشأ لحدوث الداعي العقلي للعمل ، ويلغو بدون ذلك ، إما لكونه أجنبيا عن مقام العمل كطيران الطير في الجو وغوص السمك في البحر ، أو لمضي وقت العمل ، كما لو شك المكلف بعد أكل الطعام في حرمته ، أو لتعذر العمل ، كما لو شك في حل أكل ما يتعذر أكله.

كما أنه تقرر في مباحث الأصول العملية أنه لا بد في العمل الملحوظ في مقام التعبد الظاهري من كونه مترتبا بلحاظ القضايا الشرعية ، من دون توسط أمر خارج عنها ، إما لكون الأمر المتعبد به مجعولا للشارع ومنشأ لحدوث

٢٩

الداعي العقلي للعمل بلا واسطة ـ كالأحكام التكليفية ـ أو لكونه موضوعا ـ في قضية شرعية ـ لحكم شرعي يترتب عليه العمل وإن لم يكن بنفسه مجعولا للشارع ، كالوقت الذي هو موضوع لوجوب الصلاة.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام هنا في أن الحكم الوضعي هل له بمفهومه نحو من الوجود الاعتباري مستند للشارع ، ليمكن التعبد الظاهري به نفيا أو إثباتا بلحاظ كل من العمل المترتب عليه بلا واسطة والمترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي ، أو أن له نحوا من الوجود لا يستند للشارع ، فلا يمكن التعبد به إلا بلحاظ العمل المترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي ، دون المترتب عليه بلا واسطة ، أو أنه لا وجود له أصلا يكون به موضوعا للأحكام الشرعية ، فلا يترتب عليه العمل بنفسه ولا بواسطة الحكم الشرعي ، فلا يمكن التعبد به أصلا.

الأمر الرابع : قد يعبر في كلام أهل الفن عن المفهوم المتقرر تارة : بالأمر الحقيقي. وأخرى : بالأمر الاعتباري. وثالثة : بالأمر الانتزاعي.

ولا إشكال في المراد بالأمر الحقيقي وأنه عبارة عما له ما بإزاء في عالم التكوين والخارج ، كما أن وجوده يستند لأسبابه التكوينية من دون دخل للجعل التشريعي والاعتباري فيه. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه. والمهم إنما هو الكلام في الأمر الاعتباري والأمر الانتزاعي ، حيث وقع في كلام بعضهم الخلط بينهما ، للاشتباه في المفهوم والمصداق ، فلا بد من بيان المقوم لكل منهما ، فنقول :

أما الأمر الاعتباري فهو المفهوم المتقرر عند العرف أو عند الشارع ـ إمضاء لما عند العرف أو تأسيسا ـ الذي له نحو من الوجود تابع ثبوتا لجعله تشريعا ، والبناء عليه ممن بيده الأمر ، ومسبب عنه ، من دون أن يكون له ما

٣٠

بإزاء في الخارج تكوينا.

ولا معنى مع ذلك لإنكار وجوده ، إذ إنكار وجوده في عالم الاعتبار خلاف الفرض ، وإنكار وجوده في الخارج لا ينافي المدعى.

وبذلك يكون متوسطا بين الأمر الحقيقي ـ الذي تقدم بيانه ـ والأمر الادعائي المحض الذي لا يكون له تقرر ووجود ـ لا عرفا ولا شرعا ـ وراء الادعاء مسبب عنه ، كما في موارد الاستعارات والمبالغات المبنية على العلاقات المجازية ونحوها ، كادعاء أن الرجل الشجاع أسد ، وأن المطلقة رجعيا زوجة ، والمزوجة متعة مستأجرة.

هذا ، وقد يقع الاعتبار في كلماتهم مرادا به مطلق الانتزاع الذهني وإن كان تخييليا. لكنه لا يحكي عن مصطلح في قبال ما تقدم.

ثم إن الغرض المصحح لاختراع المفهوم الاعتباري والبناء عليه في عالم الاعتبار ، مع عدم التقرر له في الخارج ، هو تنظيم الأحكام والآثار العملية المناسبة له التابعة لمن بيده الاعتبار من شرع أو عرف ، فكما كان له جعل الأحكام كان له اختراع موضوعاتها وتنظيمها.

لكن لا بمعنى تقوم مفهوم الأمر الاعتباري بخصوص بعض الأحكام ، ليلزم ارتفاعه بارتفاعها ، بل بمعنى كون اعتباره لأجل تحديد الموضوع الصالح لها في الجملة وإن لم تجعل.

نعم ، قد يتقوم بعض الأمور الاعتبارية بالعمل ويلغو بدونه ، كالحجية بناء على أنها من المجعولات الاعتبارية.

وأما الأمر الانتزاعي فهو مأخوذ من الانتزاع الذي يراد به استحصال العنوان من الجهة المقومة لمفهومه ، وتشترك في ذلك جميع العناوين ، فالعناوين الذاتية تنتزع من مقام الذات ، والعرضية تنتزع من الذات بلحاظ

٣١

طروء العرض عليها ، على اختلاف الأعراض في كونها حقيقية أو اعتبارية ، والإضافية تنتزع من نحو نسبة بين الأطراف ، كالعلية والفوقية والمشابهة وغيرها.

لكن الظاهر ـ كما ذكر غير واحد ـ عدم كون ذلك مرادا لهم على إطلاقه هنا ، بل المراد المناسب للمقام ما يصلح أن يكون قسيما للأمر الحقيقي والاعتباري ، وهو أحد معنيين.

الأول : ما عدا التكوينيات والاعتباريات من المفاهيم المتقررة في عالمها والتي يستقل العقل بإدراكها وانتزاعها من منشأ انتزاعها ـ حسب ما أودعه الله جلّت قدرته في الإنسان من قوة الإدراك والبيان بصورة عجيبة تذهل المعتبر لا تقف عند حدود الخارجيات التكوينية والاعتباريات الجعلية ـ سواء كانت من سنخ الجواهر والذوات القائمة بأنفسها ، كالكليات العقلية المجردة ، والعدميات ، والمفاهيم الممتنعة ـ كشريك الباري ـ أم من سنخ الأعراض القائمة بغيرها المحمولة عليه ، كالامتناع والإمكان والجنسية والنوعية ، أم من سنخ النسب القائمة بأطرافها والمنتزعة من خصوصيات تلك الأطراف ، كالعلية والمعلولية والفوقية والتحتية والمشابهة والتناقض والتضاد وغيرها.

وقد ذكر بعضهم أنها ذهنية محضة لا وجود لها إلا بملاحظتها ذهنا.

فإن كان المراد نفي وجودها الخارجي التكويني أو الاعتباري فهو في محله ، غاية الأمر أن منشأ انتزاعها قد يكون موجودا خارجيا أو اعتباريا ، كأفراد الكلي التي هي منشأ انتزاع الكلي الطبيعي والعقلي ، وخصوصيات الموجودات التي ينتزع منها التشابه والتضاد وغيرهما من النسب.

وإن كان المراد أن وظيفة الذهن اختراعها من دون أن يكون لها تقرر في الظرف المناسب مع قطع النظر عن اختراعه ـ نظير التخييليات والاعتباريات ـ

٣٢

فلا مجال للبناء عليه ، لما هو المدرك بالوجدان من عدم انسلاخ عناوينها عن الحكاية ، بل هي حاكية عن مفاهيمها المتقررة ، كما تحكي عناوين التكوينيات والاعتباريات عما يطابقها في عالم الخارج أو الاعتبار ، ولذا لا يكون الذهن مطلقا في انتزاعها ـ كما في التخييليات والاعتباريات ـ فلا يكون النوع جنسا ولا الفوق تحتا ولا المعلول علة ولا المتقدم متأخرا ، بل هي تابعة لواقع واحد ليس للذهن التصرف فيه ، وإنما له إدراكه والوصول إليه. وتمام الكلام في المطولات.

الثاني : ما يحكم به في كلام الشارع أو المتشرعة أو يحكم عليه مع أنه في الحقيقة ليس محكوما به ولا محكوما عليه ، إما لكون موضوعه منتزعا في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم ، فيستحيل أخذه في موضوع الحكم ، لاستحالة أخذ المتأخر في المتقدم ، كوجوب أداء الفرائض ، حيث لا يصدق عنوان الفريضة إلا في مرتبة متأخرة عن وجوبها ، فلا تكون بمفهومها موضوعا للوجوب المذكور ، فلا بد من كون الحكم المذكور منتزعا من وجوب ذواتها ـ كالصلاة والصوم والحج ـ لا بما هي فرائض.

وإما لكون المحكوم به أو عليه هو الواقع الخارجي المطابق له بعنوان آخر ، كالغصب الذي قد يحكم عليه بالحرمة ، أو يحكم به على بعض التصرفات ، مع أن موضوع الحرمة ليس هو الغصب بما هو أمر وجودي بمفهومه العرفي الذي هو عبارة عن الاستيلاء على ملك الغير قهرا عليه ، بل هو التصرف في ملك من هو محترم المال بغير طيبة نفسه أو نفس من يقوم مقامه ، فهو موضوع مركب من أمر وجودي ـ وهو التصرف ، واحترام المال ـ وعدمي ـ وهو عدم طيبة النفس ـ ونحو ذلك مما يكون بمفهومه منتزعا من حكم آخر مجعول للشارع أو موضوع آخر محكوم عليه من قبله.

ثم إن الكلام في المقام حيث كان في حقيقة الأحكام الوضعية وأنها

٣٣

مجعولة أو منتزعة ، فالظاهر أن المراد بكونها منتزعة أحد هذين المعنيين ـ على ما يتضح عند الكلام في ذلك ـ في قبال كونها مجعولة بنفسها بما لها من مفاهيم خاصة.

ويظهر أثر النزاع المذكور في كونها موضوعا للتعبد الشرعي ، كما يتضح بملاحظة ما سبق في الأمر الثالث في ضابط جريان التعبد المذكور ، حيث إنه بناء على كونها مجعولة يتجه التعبد بها بلحاظ آثارها العملية المترتبة عليها بلا واسطة أو بواسطة أحكامها الشرعية ، كما سبق.

أما بناء على كونها منتزعة بالمعنى الأول فحيث كان لها نحو من الوجود لا يستند للشارع أمكن التعبد بها بلحاظ آثارها الشرعية ، دون غيرها من الآثار.

وأما بناء على كونها منتزعة بالمعنى الثاني فلا مجال للتعبد بها أصلا بمفاهيمها الخاصة ، لفرض عدم كونها بنفسها موردا للجعل ولا موضوعا لحكم مجعول شرعا ، بل لا يمكن التعبد إلا بمنشإ انتزاعها.

إذا عرفت هذه الأمور فالكلام في حقيقة الأحكام الوضعية يكون في ضمن مسائل ..

المسألة الأولى : الظاهر أن الأحكام الوضعية التي أخذت في موضوع الأحكام الشرعية الأخرى ـ كالحرية والرقية والزوجية والملكية والوقفية وغيرها ـ أمور مجعولة للشارع الأقدس تأسيسا أو إمضاء لما عليه العرف. لظهور أدلتها في ذلك تبعا للمرتكزات المتشرعية ، بل العرفية في كثير منها. ولا سيما مع أن كثيرا منها يثبت تبعا لإنشائه ممن له السلطنة عليه في العقود والإيقاعات ، حيث لا إشكال في أن قصد المنشئ لها إيجادها اعتبارا ، وظاهر أدلة النفوذ والإمضاء الشرعية تنفيذ إنشائه وجعل مقتضاه شرعا. ومنه يظهر أن جميع مضامين العقود والإيقاعات المعتبرة أحكام شرعية وضعية.

٣٤

وخالف في ذلك شيخنا الأعظم قدس‌سره قال في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب ـ عند الكلام في حقيقة الصحة والفساد ، بعد أن ذكر أنهما في المعاملات عبارة عن ترتب الأثر وعدمه ـ : «فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي ـ كالبيع لإباحة التصرفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات ـ فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها. وإن لوحظت سببا لأمر آخر ـ كسببية البيع للملكية والنكاح للزوجية والعتق للحرية وسببية الغسل للطهارة ـ فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاما شرعية.

نعم ، الحكم بثبوتها شرعي. وحقائقها إما أمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب والصلاة ، نقيض النجاسة ، وإما أمور واقعية كشف عنها الشارع».

ولا يخفى أن ما ذكره من أن الحكم بها شرعي وإن لم تكن أحكاما شرعية مبني على أن المراد من الحكم مجرد الحمل والإسناد الذي هو مفاد القضية وإن كان بداعي الإخبار. كما أن تعبيره بأنها أمور اعتبارية مبني على التوسع في معنى الاعتبار بالوجه الذي أشرنا إليه في ذيل الكلام في تحديد مصطلح الأمر الاعتباري ، ومراده هنا ما يناسب الأمر الانتزاعي بالمعنى الثاني الذي تقدم في أواخر الأمر الرابع.

وكيف كان ، فلا مجال لما ذكره قدس‌سره بعد ما عرفت. على أن كونها منتزعة من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها لا يناسب أخذها في موضوع تلك الأحكام ، على ما تضمنته أدلتها ، لما أشرنا إليه ـ في تحديد المعنى الثاني للأمر الانتزاعي ـ من امتناع كون العنوان المنتزع من الحكم موضوعا له ، ولا مجال لاحتمال الإشارة بها لما هو الموضوع بعنوان آخر ، لأنه ـ مع مخالفته لظاهر أخذها في أدلة تلك الأحكام ـ موقوف على وجود عنوان ملازم لها خارجا

٣٥

مدرك للعرف صالح للموضوعية ، وإلا لزم عدم صلوح الحكم لأن يترتب عليه العمل ، لعدم إدراك موضوعه ، ومن الظاهر أنه لا وجود للعنوان المذكور.

مضافا إلى عدم اتفاق الأفراد الواجدة لعناوين الأحكام الوضعية ولا أحوالها في الأحكام التكليفية ، واشتراك أكثر من حكم وضعي في بعض الأحكام التكليفية ، فالزوجية ـ مثلا ـ لا تقتضي جواز الوطء أو الاستمتاع دائما ، بل يحرم الاستمتاع بالزوجة حال الإحرام مثلا ، كما لا تختص به ، بل يشاركها فيه ملك اليمين ، وملك اليمين إنما يقتضي جواز الاستمتاع إذا كان المالك رجلا والمملوك امرأة بشروط خاصة ، دون بقية الصور ، فلو كان عنوان الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي لزم اختلاف مفهومه باختلاف الأحكام التكليفية في مورده ، كما يلزم اتحاد مفاهيم الأحكام الوضعية المشتركة في الأحكام التكليفية التي يفرض انتزاعها منها ، مع وضوح بطلان ذلك كله.

وقد اعترف قدس‌سره بذلك في النجاسة في أول الكلام في النجاسات من طهارته ، قال : «ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذارا واستنفارا ، وظاهر هذا الكلام أن النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب. وليس كذلك قطعا ، لأن النجاسة مما يتصف به الأجسام فلا دخل له في الأحكام. فالظاهر أن مراده أنها صفة انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار والاستنفار. وفيه : أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرع عليها تلك الأحكام ، وهي القذارة التي ذكرناها ، لا أنها صفة منتزعة من أحكام تكليفية ، نظير الأحكام الوضعية المنتزعة منها ، كالشرطية والسببية والمانعية».

وأما كونها أمورا واقعية كشف عنها الشارع فهو خلاف المقطوع به في أكثر تلك الأحكام ، حيث لا يشك العرف في تبعيتها حدوثا وارتفاعا للإنشاء والجعل من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج.

٣٦

نعم ، قد يعتد بالاحتمال المذكور في خصوص الطهارة والنجاسة ، لعدم تبعيتهما للإنشاء ليدرك العرف اعتباريتهما ، ولمناسبة ملاكهما للأمر الحقيقي.

لكن منع من ذلك بعض الأعاظم قدس‌سره مدعيا بداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية ، ولذا يستقذر العرف والعقلاء بعض الأشياء دون بعض. غايته أن الشارع قد أضاف بعض الأمور لذلك مما لا يستقذرونه ، تخطئة منه لهم في المصداق ، من دون تبديل المفهوم.

ويشكل .. أولا : بأن الاستقذار العرفي يبتني على عدم ملائمة الشيء للنفس لخصوصية فيه يدركها العرف ويكون للعادة والتنفير دخل في ذلك ، ولذا يختلف باختلاف المجتمعات والأفراد والأوقات ، فهو من الأمور الواقعية الإضافية ، لا الاعتبارية الجعلية. بل ما ذكره قدس‌سره من فرض تخطئة الشارع فيه للعرف لا يناسب كونه اعتباريا.

وثانيا : بأن التأمل في المرتكزات الشرعية والعرفية قاض باختلاف الطهارة والنجاسة الشرعيتين عن النظافة والقذارة العرفيتين سنخا ، وأن النجاسة الشرعية بمفهومها تناسب قبح الارتكاب المقتضي للذم ، والقذارة العرفية تناسب عدم الارتكاب لمجرد عدم ملاءمته للنفس ، وليس الاختلاف بينهما ناشئا من تخطئة الشارع للعرف في المصداق مع اتحادهما حقيقة.

ويناسب ما ذكرنا صحيح زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله ... فإنما ذلك بمنزلة النخامة ، وكل شيء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير وليس بشيء فلا تغسله من ثوبك إلا أن تقذره» (١). لظهوره في إقرار الغسل للاستقذار من دون أن يكون الحكم بعدم نجاسته راجعا لتخطئة العرف في

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١٢ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٢.

٣٧

استقذاره ورادعا عن غسله.

فلعل الأولى في تقريب كونهما اعتباريتين ملاحظة بعض النصوص ، كصحيح داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا فانظروا كيف تكونون» (١).

لظهوره في كون مطهرية الماء حكما امتنانيا تسهيليا ، ولو كانت الطهارة أمرا واقعيا كشف عنه الشارع لكانت مطهرية الماء تكوينية.

ونحوه في ذلك قوله عليه‌السلام في الصحيح : «إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» (٢). حيث يلزم حمله على الجعل التشريعي دون التكويني بقرينة السياق ، لأن طهورية التراب تشريعية ، كما يظهر من النصوص (٣).

وما في رواية جابر في الطعام الذي تقع فيه الفأرة من النهي عن أكله حيث قال السائل : «الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها. فقال عليه‌السلام : إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك ، إن الله حرم الميتة من كل شيء» (٤) ، بناء على أن المراد بالتحريم النجاسة ، لمناسبتها لمورد الرواية.

على أن ملاحظة اختلاف موارد ثبوتهما تبعّد كونهما واقعيتين تابعتين لخصوصية مشتركة بين تلك الموارد ، وتقرب كونهما اعتباريتين مجعولتين للشارع تبعا للملاكات المختلفة وإن لم تكن قائمة بذات النجس ، كالتنفير والحرج ، فماء الاستنجاء طاهر أو لا ينجّس ما أصابه من بين الغسالات المختلفة ـ على المشهور ـ والدم المتخلف في الذبيحة طاهر دون الخارج

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الماء المطلق حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ١ من ابواب الماء المطلق حديث : ١.

(٣) راجع الوسائل ج : ٢ باب : ٧ من أبواب التيمم.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب الماء المضاف حديث : ٢.

٣٨

بالذبح ، والشمس تطهر الأمور الثابتة دون المنقولة ، والأرض تطهر باطن القدم والنعل دون غيرهما ، وبعض الأمور تطهر بالتبعية ، والكافر وما يلحق به من أطفاله قد اشتهر القول بنجاستهم عينا ... إلى غير ذلك.

وهناك بعض الأقوال الأخر في الطهارة والنجاسة لا مجال لإطالة الكلام فيها قد يظهر ضعفها بما ذكرنا وبالتأمل فيها. فلتطلب من المطولات.

هذا ، ومما ذكرنا في وجه كون النجاسة والطهارة الخبثيتين اعتباريتين يظهر أن الحدث الأكبر والأصغر والطهارة الحدثية المائية والترابية اعتبارية أيضا ، لأن سبر الأدلة شاهد بتبعيتها للجعل الشرعي ، وبدخل الحرج ونحوه من الملاكات الخارجة عن خصوصية البدن فيها ، كما يظهر مما تضمن طهورية الماء والتراب (١) ، وما تضمن تعليل تخفيف الوضوء بأن الفرائض إنما وضعت على قدر أقل الناس طاقة (٢) ، وما تضمن أن الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم من يطيعه ومن يعصيه ، وأن المؤمن لا ينجسه شيء (٣) ، وتعليل عدم وجوب الغسل مما يخرج من الطرفين بأنه شيء دائم لا يمكن الاغتسال منه كلما حصل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها (٤). بل هو المقطوع به بلحاظ الاكتفاء في أسباب الطهارة بالميسور من ذي الجبيرة ونحوه ، وبما تقتضيه التقية ، وبلحاظ الانتقال للطهارة الترابية عند تعذر المائية وغير ذلك.

ونظيرها في ذلك التذكية في الحيوان ، للاكتفاء فيها بالميسور في كثير من الموارد ، واعتبار بعض ما يقطع بعدم دخله تكوينا في الحيوان المذبوح ، كالتسمية والاستقبال.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ أبواب الماء المطلق ، وج : ٢ باب : ٧ من أبواب التيمم.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ١٥ من أبواب الوضوء حديث : ١٣.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٥٢ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ٢ من أبواب الجنابة حديث : ٤.

٣٩

بقي شيء :

وهو أنه مما تقدم في أول المسألة يتضح أن الإمامة العامة وإمامة الجماعة وكون الشخص قاضيا والولاية والوصاية والوكالة من الأحكام الوضعية المجعولة شرعا ، لتبعيتها للجعل والاعتبار ممن بيده الاعتبار. بل الأربعة الأخيرة مقتضى مضمون إنشائي ، كسائر مضامين العقود والإيقاعات التي عرفت وضوح جعلها شرعا. ولأخذ الكل في موضوع الأحكام الشرعية ، كوجوب الطاعة والمتابعة في أفعال الصلاة وجواز التصرف ونفوذه ونحوها ، حيث يكون ذلك شاهدا بتقدمها رتبة على تلك الأحكام ، كما تقدم نظيره.

وأما ما يظهر من غير واحد من المفروغية عن عدم كون الإمامة العامة من الأحكام الوضعية ، وأنها كالنبوة. فهو كما ترى! إذ لا ينبغي التأمل في تبعيتها للجعل والاعتبار بعد قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(١). والنصوص المتضمنة لذلك.

ولا يمنع من ذلك اعتبار كمال النفس وصفائها بمرتبة عالية فيها ، لأنها شرط الأهلية لها ، لا مقومة لمفهومها ، لتكون من الأمور الحقيقية التكوينية.

وأما النبوة فإن كانت تابعة للجعل والاعتبار على نحو ما يعتبر في الإمامة فالالتزام بأنها من الأحكام الوضعية المجعولة غير عزيز ، وإن كانت تابعة لسبب تكويني فلا وجه لقياس الإمامة عليها.

المسألة الثانية : الظاهر أن الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها ، كما يظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره ، ومرجعها إلى كون الشيء بنحو يصلح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل. ولازم ذلك نهوضها بالمعذرية والمنجزية بالإضافة للواقع. ومقتضاهما حكم العقل طريقيا

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٢٤.

٤٠