الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

الاستقلال بامتثاله ، إما بالاشتراك مع الغير في امتثال واحد أو باستقلال الغير في ذلك بإحداث الداعي له للامتثال ، أو باقداره عليه ، وذلك للقدرة على الماهية المطلقة حينئذ ، فلا يسقط التكليف بها بالعجز عن الاستقلال بالامتثال. وليس هو كالواجب العيني الذي يسقط بالعجز عن الاستقلال بامتثاله ، ويحتاج وجوب السعي معه لامتثال الغير إلى دليل مخالف لمقتضى الأصل.

بقي في المقام أمور

الأول : أن المكلف به حيث كان هو الوجود المطلق تعين عدم إجزاء العمل الناقص الاضطراري من العاجز عن التام الاختياري ، لا في حقه ، ولا في حق غيره ، إلا مع تعذر العمل التام من غيره ولو لعصيانه وتعذر اقناعه ، لعدم صدق الاضطرار إلا مع ذلك. وهذا بخلاف ما لو كان كل فرد مكلفا بفعله ، حيث يصدق الاضطرار في حقه بذلك ، فيشرع له الناقص.

الثاني : حيث كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي بإطلاق المكلف به في الكفائي بنحو يكتفى فيه بصرف الوجود الصادر من أي مكلف ، وتقييده في العيني بفرد يختص بالمكلف ، فإن كان هناك إطلاق يقتضي الأول ـ كما لو كان الخطاب بالفعل المبني للمجهول مثل : يجب على المسلمين أن يحج البيت ـ عمل به. وإلا فإن كان هناك ظهور يقتضي تكليف بعضهم أو جميعهم بأفراد تخصهم ـ كما هو ظاهر الخطاب بالفعل المبني للفاعل مثل : صل في المسجد ، أو حجوا البيت ـ تعين الثاني.

وإن فقد الأمران كان المرجع الأصل العملي. وحينئذ إن علم بتكليف الكل وشك في أن المكلف به مطلق إيجاد الماهية الذي يكفي فيه صرف الوجود ولو من واحد الراجع للوجوب الكفائي ، أو الوجود المتعدد بعدد الأفراد ، فمقتضى الأصل الأول ، بناء على ما يأتي في مبحث الأقل والأكثر

٢٠١

الارتباطيين من أن المرجع البراءة مع الشك في أخذ الخصوصية الزائدة على الماهية. وإن علم بتكليف شخص واحد بمطلق الماهية وشك في تكليف غيره بذلك أيضا ، ليكون الوجوب كفائيا ، فمقتضى الأصل عدم تكليف الغير ، والاقتصار على تكليف المتيقن.

الثالث : كما أن الأمر بالطبيعة يقتضي تكليف كل من أفراد الموضوع ..

تارة : بفرد يخصه منها وأخرى : بالوجود المطلق القابل للعدم المحض ، فيكون عينيا في الأول وكفائيا في الثاني.

كذلك النهي عن الطبيعة يقتضي نهي كل فرد تارة : عن إيجاده هو لها وأخرى : عن أصل وجودها من أي شخص فرض.

وعلى الأول يكفي في امتثال كل فرد لتكليفه تركه هو ، ولا يجب عليه منع غيره إلا بدليل ، كدليل النهي عن المنكر. وأما على الثاني فلا يتحقق امتثال كل فرد من المكلفين إلا بترك الطبيعة من الكل ، فيجب منع غيره من المكلفين لأجل ذلك ، بل قد يجب منع غير المكلفين أيضا. فهو نظير الوجوب الكفائي في كيفية توجيه التكليف للطبيعة.

غاية الأمر أنهما يفترقان في كيفية الامتثال ، حيث يكفي في امتثال الوجوب الكفائي فعل الواحد ، ويعتبر في امتثال النهي المذكور ترك الكل. لكن الفرق بذلك متفرع على الفرق بين الأمر والنهي طبعا في كيفية الامتثال ، حيث يكتفى في امتثال الأمر بصرف الوجود ويعتبر في امتثال النهي ترك تمام الأفراد.

نعم ، يكثر في موارد القسم الثاني من النهي ثبوت النهي عن الخصوصية أيضا ـ وهي التسبيب والمباشرة ـ في حق كل فرد. مثلا : النهي عن قتل المؤمن راجع إلى نهيين نهي عن مباشرة قتله عينا على كل أحد يكفي في امتثاله من كل

٢٠٢

مكلف تجنبه له ، ونهي للكل عن تحقق ذلك ، بنحو يجب على الكل منع كل أحد منه ، وهو مساوق لوجوب حفظه عليهم ، فمن لم يقتله ومنع من قتله امتثل النهيين ، ومن لم يقتله ولم يمنع من قتله امتثل الأول دون الثاني ، ومن قتله خالفهما معا. ولذا يكون أشد معصية من الثاني. وكذا الحال في الوجوب الكفائي ، فإنه كثيرا ما يصاحب استحبابا عينيا للمباشرة ، كما في أحكام الميت في الجملة.

المبحث السادس

في تقسيم المأمور به إلى مطلق وموقت

من الظاهر أنه لا بد من الزمان في كل حدث ، ومنه الفعل المأمور به ، فهو من لوازم المأمور به التي يمتنع أخذها فيه شرعا ، للزوم اللغوية.

إلا أنه تارة : لا تؤخذ فيه خصوصية زمانية. وأخرى : تؤخذ فيه خصوصية زمانية زائدة على أصل الزمان اللازم له. والأول هو المطلق ، والثاني هو الموقت.

وقد تقدم في المسألة الثانية من الفصل الخامس ما يتعلق بالمطلق ، وأن إطلاق الأمر هل يقتضي الفور في مقام الجعل أو الامتثال ، أو لا يقتضيه؟ ومن ثم كان المهم في المقام الكلام في الموقت.

وقد قسموه إلى قسمين :

الأول : الموسع ، وهو الذي يكون وقته أوسع منه.

الثاني : المضيق ، وهو الذي يكون وقته بقدره.

وقد استشكل بعض القدماء في الموسع بأنه يؤدي إلى ترك الواجب.

٢٠٣

وفيه : أنه إن كان المراد به تركه في أول الوقت اللازم من تأخيره ، فهو ليس محذورا. وإن كان المراد تركه في تمام الوقت الذي قد يحصل بسبب جواز التأخير ، حيث قد يتخيل المكلف القدرة عليه في آخر الوقت أو يكون ذلك مقتضى الأصل ، فلا يبادر إليه ، ثم ينكشف عجزه عنه في آخر الوقت ، فهو غير راجع لجواز ترك الواجب واقعا الذي هو محذور ينافي وجوبه ، بل لفوته خطأ مع العذر ، الذي كثيرا ما يحصل في التكاليف في موارد الطرق الظاهرية والخطأ في الاعتقاد ، وليس هو محذورا.

وأما المضيق فقد يستشكل فيه بأنه لا بد من تقدم البعث على الانبعاث ولو آناً ما ، فإذا كان حدوث البعث والتكليف سابقا على الوقت لزم تقدم المشروط على شرطه ، وإن كان مقارنا لأوله لزم تأخر الانبعاث والفعل عنه ، وهو راجع إلى كون الوقت أوسع من الفعل ، لا بقدره.

وفيه ـ مضافا إلى أن تقدم البعث على الانبعاث طبعي رتبي لا زماني ـ : أنه يمكن فرض تقدم البعث على الوقت قليلا بالمقدار الذي يقتضيه الترتب المدعى بين البعث والانبعاث حتى لو قلنا بامتناع الواجب المعلق ، لأن عمدة ما يذكر وجها لامتناعه هو امتناع فعلية التكليف بالأمر المتأخر لعدم كونه اختياريا ، فيلغوا البعث نحوه. وهو ـ لو تم ـ إنما يقتضي امتناع تأخر المكلف به عن التكليف مدة أطول مما يقتضيه الترتب بين البعث والانبعاث ، أما تأخره عنه بالمدة المذكورة فلا يستلزم لغويته ، كما لا يخفى.

نعم ، كثيرا ما لا يتيسر العلم بدخول الوقت وخروجه مقارنا لأوله ولآخره ، بل لا يعلم بدخوله إلا بعد مضي شيء منه ، ولا بخروجه إلا بعد أمد ما ، لعدم وضوح حدوده. كما أن ترتب العمل على العلم يحتاج إلى مدة قليلة ، ليستحكم المعلوم في النفس ويندفع المكلف تبعا له ، كما هو الحال في سائر موارد العلم بموضوع العمل ، على ما يتضح بالرجوع للمرتكزات.

٢٠٤

ومن هنا لا يتناسب التضييق إلا مع كون المأمور به أمرا استمراريا يمكن الشروع فيه قبل الوقت والبقاء عليه بعده لا بنية الامتثال ، بل ليقع ما يقارن منه تمام الوقت امتثالا ، كالإمساك في الصوم ، والكون في المسجد في الاعتكاف ، دون مثل الصلاة ، حيث لا مجال لتوقيتها بوقت ضيق بحيث يلزم الشروع فيها في أوله والفراغ منها في آخره ، لتعذر امتثالها عادة حينئذ.

هذا وحيث اتضح إمكان كل من المطلق والموقت ، بل لا إشكال في وقوعهما ينبغي الكلام في أمور.

الأمر الأول : لا ريب في عدم دلالة الأمر بالوقت بوجه على وجوب تداركه لو فات في الوقت ، لأن التوقيت لما كان راجعا إلى التقييد ، وكان تعذر القيد موجبا لتعذر المقيد ، تعين قصور دليل الأمر بالموقت عن إثبات وجوب الفعل خارج الوقت ، بل لا بد في استفادة وجوبه أو عدمه من دليل آخر.

وتوضيح ذلك : أنه تارة : يكون هناك إطلاق يقتضي وجوب ذات الواجب ولو خارج الوقت ، واستفيد التوقيت من دليل منفصل. وأخرى : لا يكون هناك إطلاق بالنحو المذكور ، بل ليس إلا الأمر بالموقت.

كما أن دليل التوقيت تارة : يكون ظاهرا في انحصار مشروعية الواجب بالوقت ، بحيث لا يشرع في خارجه مطلقا. وأخرى : لا يكون ظاهرا في ذلك ، بل في مجرد لزوم الإتيان به في الوقت.

ففي الصورة الأولى لدليل التوقيت يلزم البناء على عدم وجوب تدارك الواجب بعد الوقت في كلتا صورتي دليل أصل الواجب المتقدمتين ، وفي الصورة الثانية لدليل التوقيت يلزم البناء في الصورة الأولى لدليل أصل الواجب على وجوب تدارك الواجب بعد الوقت ، أما في الصورة الثانية لدليل الواجب فلا بد من التوقف والرجوع لدليل ثالث.

٢٠٥

وربما يدعى أن مقتضى قاعدة الميسور ـ بناء على شمولها للشروط ـ وجوبه بعد الوقت ، كسائر موارد تعذر بعض ما يعتبر في الواجب. بل قد يدعى أن مقتضاها وجوبه حتى لو كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار ، لحكومتها على أدلة الاجزاء والشرائط الظاهرة في الارتباطية بينها مطلقا المستلزمة لسقوط الواجب بتعذر بعضها. لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة من أصلها ، على ما يأتي في التنبيه الثالث من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين إن شاء الله تعالى.

هذا ، ولو لم ينهض دليل بإثبات التدارك ولا عدمه فالمرجع البراءة من وجوب التدارك. ولا مجال لاستصحاب وجوب الواجب إلى ما بعد الوقت ، لاحتمال كون الوقت قيدا في الواجب ، فيكون ما بعد الوقت مباينا لما علم بوجوبه في الوقت ، ومع احتمال تعدد الموضوع يمتنع جريان الاستصحاب ، ولا اعتبار بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب ، على ما ذكرناه في محله.

الأمر الثاني : لو كان دليل الموقت قاصرا عن إثبات وجوبه بعد الوقت ـ لعدم الإطلاق لدليل أصل الواجب ، أو لظهور دليل التوقيت في الحصر ـ فقد ورد وجوب القضاء في كثير من الفرائض والنوافل ، كالصلاة والصوم وغيرهما.

وحينئذ يقع الكلام في أن القضاء هل هو من سنخ الأداء ـ إما لوفائه بتمام ملاكه مع كون ملاك الوقت مباينا لملاك الواجب ، بحيث يكون الوقت معتبرا بنحو تعدد المطلوب ، وإما لوفائه ببعض ملاكه لكون الوقت دخيلا في بعض مراتب ملاكه ـ أو هو من سنخ آخر لا يكون محصلا لمصلحة الأداء ، لفوتها بتمامها بفوت الوقت ، بل هو تدارك لفوته ، نظير تدارك المرض الحاصل من عدم الأكل بالدواء وتدارك التلف بالضمان.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن الأول وإن كان ممكنا ثبوتا ، إلا أن ظاهر أدلة القضاء الثاني ، لظهور لفظ القضاء في تدارك ما فات في وقته ، ولا معنى

٢٠٦

للتدارك في الأول ، حيث يكون الفعل خارج الوقت مأمورا به بنفس الأمر الأول بعد كون ملاكه باقيا بتمامه أو ببعض مراتبه. ويؤيده ثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين ، مع أن الوجوب في النذر تابع لقصد الناذر ، وهو لم يتعلق إلا بالفعل المقيد بزمان خاص ، فيستحيل بقاء الأمر التابع لقصده بعد فوت الوقت المقيد به.

وفيه : أنه إن أريد بتدارك ما فات في وقته ـ الذي ادعي ظهور لفظ القضاء فيه ـ مجرد الإتيان بالواجب بعد وقته فهو لا ينافي الوجه الأول. وإن أريد به تدارك النقص الحاصل بسبب فوت الواجب ، بحيث يكون الفرق بين الأداء والقضاء هو الفرق بين حراسة المال من السرقة ، وضمانه بعد السرقة بسبب التفريط في الحراسة. فهو بعيد عن معنى القضاء عرفا ، بل لا يكون قضاء الشيء بعد وقته إلا بالإتيان بما هو من سنخه ، كما يناسبه تفسير اللغويين للقضاء بالأداء والوفاء للدين أو بالعهد أو نحوهما.

وهو الظاهر من قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)(١) ، وقوله سبحانه : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) ... (٢) ، وقوله عزّ اسمه : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ)(٣) ، وقول الشاعر :

قضى كل ذي دين فوفى غريمه

 .............

إلى غير ذلك مما هو كثير جدا. وهو الظاهر أيضا من الاستعمالات العرفية ، ولذا لا يصدق القضاء عندهم على مثل الضمان في الفرض السابق وعلى استعمال الدواء أو العملية الجراحية تداركا للتفريط في

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ٢٠٠.

(٢) سورة النساء الآية : ١٠٣.

(٣) سورة القصص الآية : ٢٩.

٢٠٧

الصحة ، وغيرهما.

والظاهر عدم خروج القضاء عند المتشرعة عن ذلك ، فهو أداء للشيء بنفسه ، غايته أنه يختص بما إذا كان بعد وقته. ولذا لا يصدق عندهم على جميع أنحاء التدارك الشرعية بالضمان والدية والفدية والصوم وغيرها ، ويصدق على الصوم بعد شهر رمضان ممن تركه فيه لسفر أو مرض مع قوله تعالى في تشريع الصوم والقضاء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ...)(١) ، فإنه ظاهر في وحدة الأمر تبعا لوحدة الغرض والملاك ، وإن اختلف الزمان الواجب في الصوم باختلاف الأشخاص ، كما يناسبه صدره المتضمن فرض الصيام واختلاف أيامه باختلاف الأشخاص ، وذيله المتضمن تعليل القضاء بإكمال العدة ، حيث لا يناسب ذلك اختصاص الملاك بصوم شهر رمضان ، بحيث يكون صيام المسافر والمريض جبرا لما حصل من نقصان بسبب الإفطار فيه ، نظير الفدية ، والضمان في المثال المتقدم.

على أن جملة من أدلة القضاء لم تتضمن عنوان القضاء ، بل مجرد الأمر بالفعل بعد الوقت ، والمفهوم منه عرفا قيام الفعل بعد الوقت بما يقوم به في الوقت ولو ببعض مراتبه.

ودعوى : أن ذلك لا يناسب تعبيرهم عن القضاء بأنه تدارك ما فات ، لأن مصلحة أصل الواجب لا فوت فيها مع تحققها بالقضاء ومصلحة الوقت لا

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٨٣ ـ ١٨٥.

٢٠٨

يمكن تداركها.

مدفوعة : بأنه لم يعلم كون موضوع الفوت والتدارك هو المصلحة ، بل الظاهر أنه نفس الواجب ففوته بلحاظ عدم حصوله في وقته الذي ينبغي وقوعه فيه ، وتداركه بلحاظ الإتيان به بعد ذلك. على أن التعبير بذلك لم يقع ممن يؤمن عليه الخطأ ، ليخرج به عما هو المرتكز في معنى القضاء.

وأما تأييد ما ذكره بثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين. فيدفعه أنه لا دليل على قضاء الحج المنذور إلا الإجماع ، كما قيل ، ولا يعلم منهم إرادة المعنى الخاص العرفي من القضاء ، بل لعلهم نزلوا البدلية منزلة القضاء. وأما قضاء الصوم المنذور فقد تضمن أكثر نصوصه وجوب يوم مكان يوم أو بدل يوم (١) ، ولم أعثر على ما اشتمل على عنوان القضاء إلا خبر صالح بن عبد الله : «قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : إن أخي حبس فجعلت على نفسي صوم شهر فصمت فربما أتاني بعض إخواني فأفطرت أياما أفأقضيه؟ قال : لا بأس» (٢) ، وهو ـ مع عدم صراحته في الصوم المعين ـ قد يحمل على نحو من التسامح في اطلاق القضاء ، خصوصا مع كون إطلاقه في كلام السائل ، لا في كلام الإمام عليه‌السلام.

على أن قيود المنذور وإن كانت مأخوذة في مقام الجعل بنحو الارتباطية تبعا لقصد الناذر ، إلا أنه يمكن لحاظها في مقام التكليف شرعا بالأداء بنحو الانحلال ، بحيث يكون أداء الفاقد للقيد وافيا ببعض مراتب ملاك أداء النذر وإن لم يكن أداء لبعض المنذور ، ولذا ورد وجوب أداء المنذور مع تعذر بعض القيود الأخرى غير الوقت (٣).

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٧ باب : ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب.

(٢) الوسائل ج : ٧ باب : ١٧ من أبواب بقية الصوم الواجب حديث : ٢.

(٣) راجع الوسائل ج : ٧ باب : ١٣ ، ١٦ من أبواب بقية الصوم الواجب.

٢٠٩

ومن هنا لا مجال للخروج عما ذكرناه في مفهوم القضاء من كونه من سنخ الأداء ، وإن لم يكن وافيا ببعض مصلحته وهي مصلحة الوقت.

نعم ، لا يبعد اختصاصه عند المتشرعة بما إذا كانت مصلحة الوقت من مراتب مصلحة الواجب ، بحيث يكون الوقت وقتا للواجب ، دون ما إذا كانت مستقلة عنها ، كما لو نذر المكلف أن يأتي بالفريضة في الوقت الفضيلي فلم يأت بها فيه ، حيث لا يصدق على الإتيان بها بعد ذلك القضاء ، كما لا يصدق الفوت بالإضافة إلى الفريضة ، لعدم كون النذر موجبا لتوقيتها به.

وعلى ذلك لا يصدق القضاء مع الإخلال بالفورية إذا لم تكن قيدا ، بل وجبت بملاك آخر.

ومن هنا لا بأس بإطلاق الفوت والقضاء فيما إذا استفيد وجوب الواجب خارج الوقت من إطلاق دليل الواجب مع عدم ظهور دليل التوقيت في الانحصار إذا استفيد من دليل التوقيت دخله في ملاك الواجب. ولا وجه لما يظهر من غير واحد من الإشكال فيه.

هذا ، وأما في الاستعمالات الشرعية فلم يتضح تحديد القضاء بذلك ، بل قد يختلط فيها المعنى المذكور بالمعنى اللغوي المتقدم.

والمتحصل من جميع ما سبق : أنه في غير صورة إطلاق دليل الواجب وعدم ظهور دليل الوقت في الانحصار يحتاج القضاء لدليل خاص. لكنه لا يكشف عرفا عن أمر مباين للأمر الأول ، تبعا لتباين متعلقيهما وملاكيهما ، بل يكشف عن حال الأمر الأول ، وأنه بنحو يقتضي التكليف بالموقت بعد الوقت استيفاء لبعض ملاكه.

ومن هنا كان المنصرف منه أخذ جميع ما يعتبر في الأداء من الأجزاء والشرائط في القضاء وإن لم يصرح في الأمر به بذلك.

٢١٠

الأمر الثالث : كما يمكن أن يكون الموقت بنحو يجب قضاؤه لو فات في الوقت يمكن أن يكون بنحو يجزي مع تقديمه عليه ، لوفائه بملاكه ، فيجزي عنه في وقته ، لاستيفاء ملاكه. وهو إنما يكون من تقديم الواجب على وقته إذا كان الوقت شرطا للتكليف ، حيث لا يقع قبل الوقت امتثالا مع عدم فعلية التكليف ، كما هو الحال في ما ورد من تقديم الفطرة في شهر رمضان.

أما مع إطلاق التكليف فلا مجال لأخذ الوقت شرطا في المكلف به مع فرض وفاء الفعل السابق بالغرض ، لتبعية التكليف للغرض سعة وضيقا ، ومع إطلاق التكليف والمكلف به لا يكون الفعل قبل الوقت من تقديم الواجب على وقته.

الأمر الرابع : لا إشكال في عدم اختصاص التقسيم المذكور بالواجب وجريانه في المستحب. بل الظاهر جريانه في المنهي عنه أيضا ، لإمكان اختصاص الفعل المنهي عنه بزمان خاص ، تبعا لاختصاص الغرض به. ولا إشكال فيه مع ضيق الوقت ، فيقتضي تركه في تمام الوقت.

وأما مع سعته بحيث يتعلق الغرض بتركه في بعض الوقت لا في تمامه ، فهو وإن كان ممكنا ، إلا أنه لا يناسب النهي ، لما سبق من ابتنائه على استيعاب أفراد المنهي عنه الطولية والعرضية بالترك ، لا البدلية فيها ، فلا بد في مطابقة التكليف للغرض المذكور من أن يكون بنحو الأمر بالترك في بعض الزمان الخاص ، فتكون السعة في المأمور به لا في المنهي عنه.

٢١١

المبحث السابع

في تقسيم المأمور به إلى تعبدي وتوصلي

والمراد بالتعبدي ما يعتبر فيه حصوله بوجه قربي ـ على الكلام الآتي في تحديد الوجه القربي ـ وبالتوصلي ما لا يعتبر فيه ذلك ، بل يكفي فيه تحقق المأمور به بأي وجه.

تمهيد :

حيث كان تحديد الوجه القربي مما يبتني عليه الكلام في المقام فالمناسب التعرض له مقدمة له. فأعلم أنهم ذكروا للمقربية وجوها كثيرة ، كقصد الامتثال ، وقصد المصلحة ، وطلب الثواب وخوف العقاب الأخرويين أو الدنيويين. وفي الجواهر أن الجميع محمول على إرادة قصد الامتثال وراجع إليه ، لأنه في طوله. وقد يظهر من غير واحد موافقته. وعن شيخنا الأعظم قدس‌سره موافقته فيما عدا قصد المصلحة ، بل هو في عرضه. وربما قيل بأنها جميعا في عرض واحد. كما ربما يمنع من تحقق التقرب وصحة العبادة مع طلب الثواب وخوف العقاب ، بل نسب ذلك للمشهور ، وعن السيد رضي الدين بن طاوس القطع به ، وعن قواعد الشهيد أن الأصحاب قد قطعوا بذلك.

هذا وقد تقدم في التنبيه الثالث في ذيل الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية أن موضوع الطاعة والمعصية والتقرب هو فعلية الغرض والملاك وبلوغه مرتبة تقتضي اهتمام المولى بتحصيله والحكم على طبقه ، وإن لم يترتب الحكم ، لغفلة المولى عن الملاك ـ لو كان ممن يمكن في حقه الغفلة ـ

٢١٢

أو للتزاحم الحكمي. وعليه يبتني ما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم مع مزاحمته بالأهم وإن قيل بعدم ثبوت الأمر الترتبي. وعلى ذلك تكون مقربية قصد امتثال الأمر بلحاظ كونه في طول قصد موافقة الغرض والملاك الفعلي ، لتبعية الأمر للملاك المذكور.

كما أن قصد المصلحة إن أريد به قصدها بما هي هي فهو ليس مقربا من المولى ، لعدم دخله به ، وإن أريد به قصدها بما أنها قد تعلق غرض المولى بتحصيلها فهو عبارة عما ذكرنا من قصد موافقة الغرض والملاك الفعلي.

وأما قصد طلب الثواب وخوف العقاب فالظاهر أنهما في طول قصد موافقة الغرض والملاك ، لا في عرضه.

وتوضيح ذلك : أن موافقة الغرض لما لم يكن راجحا بنظر المكلف لذاته لم يصلح للداعوية إلا بلحاظ جهات خارجية تكون داعية في طول داعويته ، وتلك الجهات .. تارة : ترجع إلى المولى نفسه ، ككونه أهلا للطاعة ، أو حبّ العبد له ، أو شكره لإنعامه وامتنانه وأخرى : ترجع إلى العبد نفسه ، كطلب الرفعة عند المولى واستحقاق الشكر منه ، أو طلب الثواب أو خوف العقاب في الآخرة ، أو دفع المحذور واستجلاب المحبوب في الدنيا. والظاهر عدم منافاة شيء منها للتقرب والعبادية ، بل تصح العبادة مع الجميع.

إن قلت : العمل برجاء تحصيل المحبوب ودفع المكروه من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مقام العبودية للسيد المستحق للطاعة لذاته.

قلت : ذلك إنما يتم إذا لحظت داعويتهما بالمباشرة ، نظير داعوية الأجرة للأجير. أما إذا لحظ في طول داعويتهما إرضاء المولى والتحبب له وعبادته والتذلل له ونحو ذلك فلا يخلّ بالعبادية ، ولا يمنع من التقرب ، وذلك بأن يأتي العبد بالعمل إرضاء للمولى وطاعة له ، كي يقع موقع القبول منه ،

٢١٣

ويكون العبد أهلا لرحمته وثوابه وبعيدا عن نقمته وعقابه ، نظير تحبب الإنسان لعشيرته بالإحسان إليهم ، لأنهم جناحه الذي به يطير ويده التي بها يصول ، حيث لا إشكال في كونه متقربا لهم ، ومستوجبا لشكرهم وامتنانهم ، واستحقاق الجزاء منهم.

إن قلت : من المعلوم أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي ، فاذا أمر زيد بإطاعة عمرو فمن أتى بالفعل إطاعة لأمر عمرو بداعي إطاعة أمر زيد كان الداعي الحقيقي للفعل هو إطاعة زيد ، ويكون التقرب له ، لا لعمرو ، وحيث فرض في المقام أن الداعي للفعل بداعي إطاعة المولى هو طلب ثوابه أو دفع عقابه كان طلب الثواب ودفع العقاب هو الداعي الحقيقي ، ولا ينظر لداعي إطاعته ليكون متقربا بسببه.

قلت : هذا إنما يتم إذا كان الداعي الأول مجرد موافقة أمر الآمر نظير موافقة أمر المستأجر ، دون ما إذا كان هو موافقته من حيثية كونه محبا للعمل المستتبعة لرضاه والتحبب إليه ، فإنها تكون مقربة منه وإن كان الداعي لها أمرا آخر كموافقته أمر شخص آخر أو طلب الثواب ودفع العقاب. ولذا كان قضاء حاجة المؤمنين والإحسان إليهم من حيثية إيناسهم وتحقيق محبوبهم بداعي أمر الشارع بذلك موجبا للتقرب منهم واستحقاق الشكر عليهم والجزاء الحسن منهم بحسب المرتكزات العقلائية.

على أنه لا ينبغي التأمل في عدم منافاة داعوية طلب المحبوب ودفع المكروه الأخرويين والدنيويين لصحة العمل ومقربيته بملاحظة سيرة المتشرعة وارتكازياتهم ، وبعد ملاحظة الآيات الكثيرة والروايات المستفيضة الحاثّة على الطاعة والزاجرة عن المعصية ببيان ما يترتب على الأولى من أنواع الخير الدنيوي والأخروي وعلى الثانية من أنواع المحذور الدنيوي والأخروي ، لوضوح سوقه ليكون داعيا للعمل. وكذا نصوص قاعدة التسامح في أدلة

٢١٤

السنن (١) ، وما تضمن بيان مراتب العبادة (٢) ، كصحيح هارون الآتي وغيره.

بل تضمن بعض النصوص الترغيب في العمل طلبا لما عند الله تعالى ففي النبوي : «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزوجل ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى» (٣).

وفي صحيح الحسين بن أبي سارة : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو» (٤).

نعم ، العمل بقصد دفع المحذور وطلب المحبوب مرتبة دانية من الإطاعة ، والتقرب به دون التقرب بالوجوه الأخرى المتقدمة ، لأن تلك الوجوه أظهر في تعظيمه تعالى. مع مناسبتها لرفعة نفس العامل المتقرب وعلوّ همته وشرف مقصده ، ففي صحيح هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : العبادة [إن العباد] ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبّا له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (٥) ، وقريب منه غيره.

لكنه أمر آخر لا ينافي الصحة والإجزاء الذي نحن بصدده ، بل يدل عليه.

هذا ، ولا يبعد ابتناء عمل المتشرعة مع قصد طلب الثواب ودفع العقاب

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٩ من أبواب مقدمة العبادات.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٠.

(٤) الوسائل ج : ١١ باب : ١٣ من أبواب جهاد النفس حديث : ٥.

(٥) الوسائل ج : ١ باب : ٩ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٢١٥

الأخرويين على الوجه الذي ذكرناه الراجع إلى كون ترتبهما فرع التحبب بالعمل لله تعالى واسترضائه به ، ليكون العبد أهلا لرحمته وبعيدا عن نقمته. وكذا الحال في قصد طلب المحبوب ودفع المحذور الدنيويين ، لا بتناء ترتبها بنظرهم على كونها من سنخ الجزاء منه تعالى للعبد لصيرورته أهلا للرحمة بتقربه إليه ، لا من سنخ اللوازم والآثار الطبيعية الوضعية للعمل المترتبة عليه بنفسه ، ولا من سنخ الأجر المحض عليه ، نظير أجرة الأجير على عمله.

ولو فرض كون ترتب بعضها بأحد النحوين الآخرين ، من دون توسط التحبب للمولى واسترضائه ، فلا بد في صحة العبادة مع قصدها من الداعي القربي واستقلاله في التأثير بحمل النفس على ذلك ولو بترويضها عليه لأجل ترتب المنافع ودفع المضار المذكورة. وإلا أشكلت صحة العبادة ، كما هو الحال في جميع الضمائم غير القربية ، على ما يذكر في مباحث النية من الفقه.

ودعوى : أن المستفاد من النصوص المشار إليها وسيرة المتشرعة اكتفاء الشارع بقصدها في تحقق العبادية تعبدا ، فالعمل معها عبادة تعبدية لا عرفية.

ممنوعة ، بل ظاهر النصوص الحث على العبادة من طريق بيان المرغبات لها ، لا التصرف في مفهومها ، وسيرة المتشرعة مبتنية على مفاد النصوص ، ومرتكزاتهم تناسب ما ذكرنا.

ولو فرض خروج بعض العوام منهم عن ذلك واكتفائهم بالإتيان بالعمل بداعي طلب المحبوب ودفع المكروه الدنيويين أو الأخرويين من دون توسط التقرب للمولى فهو ناشئ عن جهلهم بمفاد النصوص وغفلتهم عما ذكرنا ، لا لاطلاعهم على ما يقتضي الاكتفاء بذلك تعبدا ، لينهض بالخروج عما ذكرنا.

إذا عرفت هذا ، فالكلام يقع : تارة : في الفرق بين التعبدي والتوصلي بحسب حقيقتهما في مقام الثبوت ، وهو الفرق الذي استلزم اختلافهما عملا

٢١٦

بلزوم قصد التقرب في التعبدي دون التوصلي.

وأخرى : في مقتضى الوظيفة العملية في مقام الإثبات عند دوران المأمور به بينهما ، فهنا مقامان :

المقام الأول : في الفرق بين التعبدي والتوصلي ثبوتا

والظاهر بدوا أن الفرق بينهما في إطلاق المتعلق في التوصلي وتقييده بما يؤتى به بوجه قربي في التعبدي. ولا إشكال في ذلك بناء على ما سبق منا في الأمر الأول من أن الوجه القربي هو موافقة غرض المولى البالغ مرتبة الفعلية ، لوضوح أنه أسبق رتبة من الأمر فيمكن أخذه قيدا في متعلقه.

أما بناء على ما هو المعروف من أن الوجه القربي هو موافقة قصد امتثال الأمر فيه فقد استشكل فيه بوجهين :

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره وتبعه جماعة على اختلاف عباراتهم وحاصله : أن قصد الامتثال لما كان من شئون الأمر كان متأخرا عنه رتبة ، وحيث كان المأمور به متقدما على الأمر رتبة تقدم الموضوع على عرضه كان قصد الامتثال متأخرا عن المأمور به بمرتبتين ، فيمتنع أخذه فيه ، لامتناع أخذ المتأخر في المتقدم.

وأما ما ذكره بعض المحققين قدس‌سره من أن العارض على المتعلق المتأخر عنه رتبة هو الحكم بوجوده الخارجي ، والمدعى أخذه فيه ليس هو داعويته ، لتكون من شئونه المتوقفة عليه والمتأخرة عنه رتبة ، بل داعوية صورته الذهنية ـ غير المتوقفة عليه ـ لأن الداعي هو الحكم بوجوده العلمي. ففيه : أن الداعي ليس هو الصورة الذهنية للأمر بنفسها ، بل بما هي عبرة لوجوده الخارجي ، فلا بد في أخذ داعوية الأمر في المتعلق من تصور الآمر للأمر مفروض التقرر ، وهو ممتنع في مقام إنشائه ، لعدم تقرره إلا في رتبة متأخرة عن الإنشاء ، كما

٢١٧

يظهر بأدنى تأمل.

فالأولى دفع الإشكال المذكور بأن ذلك حيث لا يرجع إلى امتناع اختصاص متعلق الأمر بالواجد لقصد الامتثال ، بل إلى امتناع لحاظ القصد المذكور قيدا في المتعلق حين الأمر ، فالمتعين مع تعلق الغرض بخصوص الواجد للقصد المذكور عدم التكليف بالمطلق ، بل بخصوص الحصة الواجدة له ، لتبعية التكليف للغرض سعة وضيقا ، وذلك إما بالتقييد بقيد يلازمه ـ كالتقييد بالإتيان بالمأمور به بوجه قربي ـ أو بالإطلاق لفظا مع إرادة المقيد لبا بنتيجة التقييد ، مع بيان ذلك بطريق آخر ـ لفظي أو لبي ـ يكشف عن حال المتعلق. وكأن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره في التخلص عن هذا الإشكال راجع إلى ذلك.

الثاني : أن الأمر لما كان يدعو إلى متعلقه فلو كانت داعويته مأخوذة في متعلقه لزم كونه داعيا إلى داعوية نفسه ، وهو كعليته لعلية نفسه محال.

ويندفع : بأن داعوية الأمر لمتعلقه التي هي من لوازمه الذاتية ليست هي داعويته الفعلية ، فإنها من شئون المكلف ، بل بمعنى اقتضاء حصول المتعلق ، والداعوية المأخوذة في المأمور به ليست بهذا المعنى ، بل بمعنى فعلية داعويته في نفس المكلف ، ولا مانع من اقتضاء الأمر لها لخصوصيته في متعلقه خارجة عن ذات الأمر.

وهناك بعض الوجوه الأخر في الإشكال على ذلك لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها بالتأمل أو بملاحظة ما ذكرنا. ولا سيما مع عدم الموضوع لوجوه الإشكال المذكورة بناء على ما تقدم منا من أن التقرب يكون بقصد موافقة الغرض البالغ مرتبة الفعلية الذي هو سابق على الأمر رتبة ، فيمكن أخذ قصد التقرب به في موضوع المأمور به بلا إشكال.

٢١٨

ومن ذلك يظهر أنه لا حاجة لما تكلفه غير واحد ـ بعد البناء على امتناع تقييد المأمور به بالوجه القربي ـ من توجيه التعبدي تارة : بحكم العقل بلزوم التقرب بالعمل وعدم الإجتزاء بالامتثال بدونه في مورد يتوقف تمامية الغرض عليه وإن لم يؤخذ فيه شرعا لمانع من التقييد به.

وأخرى : بتعدد الأمر ، بأن يتعلق الأمر أولا بذات العبادة ، ثم يؤمر ثانيا بالإتيان بها بداعي الأمر الأول ، ولا يسقط الأمران إلا معا ، لوحدة الغرض الداعي لهما وعدم حصوله إلا بامتثالهما معا.

وثالثة : باختلاف سنخ الأمر في التعبدي عنه في التوصلي ، فالثاني لا يقتضي التقرب ، والأول يقتضيه ولو مع إطلاق المتعلق فيهما معا.

على أن الأول يشكل بأن العقل وإن كان يحكم بلزوم متابعة الغرض ـ على ما تقدم في الأمر الأول وفي ذيل مبحث الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ـ ولا يجتزئ بامتثال التكليف إذا أحرز عدم وفائه بالغرض ، إلا أن مخالفة الحكم المجعول للغرض سعة وضيقا إنما يمكن مع غفلة المولى ، أما مع التفاته وعلمه بما يطابق غرضه ـ كما هو الحال في الشارع الأقدس ـ فيمتنع جعله الحكم بنحو لا يطابقه ، ليستقل العقل بعدم الاجتزاء بالامتثال بالوجه الذي لا يحصل معه الغرض.

والثاني إن ابتنى على إطلاق الأمر الأول بنحو لا يطابق الغرض أشكل بما سبق من امتناع مخالفة الحكم المجعول للغرض مع التفات الحاكم.

وإن ابتنى على إهماله من حيثية القيد الذي يمتنع التقييد به أشكل بامتناع الإهمال في حكم الحاكم. وتمام الكلام في ذلك عند الكلام في مقدمات الإطلاق من مباحث المطلق والمقيد ، حيث يأتي هناك إن شاء الله التعرض لما ذكره بعض الأعاظم من الالتزام بتعدد الجعل مع قصور الجعل الأول عن استيفاء

٢١٩

الغرض في موارد امتناع التقييد.

وأما الثالث فيشكل بعدم تعقل اختلاف سنخ الأمر ، بل الظاهر أن الأمر لا يقتضي إلا الموافقة بتحقيق متعلقه مطلقا كان أو مقيدا ، وليس اختلاف أنحاء الامتثال إلا للاختلاف في المتعلق. ومن هنا لا مجال للتعويل على شيء من الوجوه المذكورة ، فضلا عن وجود الملزم بها بعد ما سبق.

المقام الثاني : في مقتضى الوظيفة العملية في مقام الاثبات

وذلك عند تردد المأمور به بين كونه تعبديا وكونه توصليا.

والكلام هنا .. تارة : في مفاد الأمر بنفسه بمادته وهيئته. وأخرى : في مقتضى الدليل الخارجي. وثالثة : في مقتضى الأصل العملي. فهنا جهات ثلاث ..

الجهة الأولى : في مفاد الأمر بنفسه.

ولا ينبغي التأمل في أن مقتضى إطلاق المأمور به هو التوصلية ، بناء على ما ذكرنا من أن القصد القربي يكون بقصد ملاك المحبوبية وموافقة الغرض ، لإمكان التقييد به صريحا ، لأن شأن الإطلاق نفي احتمال التقييد. بل وكذا بناء على أن القصد القربي هو قصد امتثال الأمر ، لأنه وإن امتنع التقييد به صريحا إلا أن إمكان بيان اختصاص الغرض بخصوص الحصة الواجدة له من الماهية إما بالتقييد بما يلازمه أو بنتيجة التقييد موجب لظهور الإطلاق في العموم.

خلافا لما ذكره جماعة على ما يأتي الكلام فيه في المقدمة الأولى من مقدمات الإطلاق من مباحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

هذا ، ولو فرض امتناع التمسك بإطلاق المأمور به فقد ذكر بعضهم ظهور الأمر في التوصلية ، منهم شيخنا الأعظم قدس‌سره على ما في التقريرات ، قال فيها :

٢٢٠