الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

المقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف النبيين وخاتم المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ..

فإن للكتب الدراسية أهمية كبرى في سير الدراسة في الحوزات العلمية الدينية ونظم أمرها وارتفاع مستواها. وقد شغلت جملة من الكتب القيّمة ـ ذات الأهمية العلمية ـ الساحة مدة طويلة ، وصار عليها مدار الدرس والتدريس في الأصول والفقه وغيرهما من فروع المعرفة منذ أمد بعيد ، وكان لها الأثر المحمود في خدمة الحوزات ورفع مستواها العلمي. واستحق مؤلفوها العظام الشكر الجزيل والثناء الجميل ، قدس الله تعالى أسرارهم ورفع درجاتهم وشكر سعيهم وأعظم أجرهم إنه حميد مجيد.

غير أنه بارتفاع مستوى العلم في الحوزات وتطوره بمرور الزمن تتجدد الحاجة إلى تبديل الكتب الدراسية والارتفاع بمستواها إلى ما يتناسب والتطور الذي حصل ، ليساهم الكتاب في انفتاح الطالب على المعلومات المستجدة وهضمها وتهيئته لتطويرها والارتفاع بالمستوى العلمي لنفسه وللحوزة التي هو فيها.

٥

إلا أن سدّ هذه الحاجة لا يسهل في الوضع الحوزوي القائم ، حيث يغيب في غالب الأوقات القرار المركزي الذي يملك التغيير ، ولو حصل ذلك في بعض الفترات ـ بقيام مرجعية موحدة تقوى على ذلك ـ فإن الكتاب البديل قد لا يتيسر ، لأن التأليف وإن كان مستمرا ، وكثيرا في الحوزات العلمية ، وبمستويات عالية ، سواء كان ابتدائيا مستقلا أم تقريرا لدروس الأساتذة وحفظا لإفاداتهم من الضياع ، إلا أن تلك المؤلفات لم تعدّ لتكون كتبا دراسية في المنهجية والتبويب والمادة المعروضة وأسلوب العرض وقوة البيان والتعبير ، بل هي كتب علمية تتناسب مع مستويات مؤلفيها أو مستويات أساتذتهم الذين أرادوا حفظ إفاداتهم ، عرضت فيها المطالب العلمية بعمقها ومداخلاتها ببيان قد لا يناسب التدريس. على أن كثيرا منها لا يستوعب دورة علمية تامة.

ولو كان فيها ما هو صالح للتدريس فهو مغمور في تلك الكثرة الكاثرة من المؤلفات ، وقد لا يتيسر الاطلاع عليه ليأخذ موقعه المناسب ، حتى على الصعيد الفردي لو أراد بعض طلاب الحوزة الخروج عن الوضع القائم.

ومن ثم لم تأخذ فكرة التبديل موقعها المناسب من الحديث في الحوزات ، لتفرض نفسها على الواقع ، بل بقي الوضع القائم بقوة الاستمرار وبهيمنة الإكبار والإجلال للكتب الحوزوية المعهودة ولمؤلفيها العظام قدس الله أسرارهم الزكية. وبقي الحديث عن التجديد محدودا ضيقا في مناسبات متفرقة كان لنا ومعنا منه نصيب في عهد سابق.

ومن أهم الأدوار الدراسية التي يجري وجرى الحديث عنها معنا هو السطوح العالية في علم الأصول ، حيث يدرس فيها الكتابان الجليلان (الرسائل) تأليف علم التحقيق المجدد والمؤسس للأصول الحديثة الشيخ الأنصاري قدس‌سره وهو الكتاب الذي يتكفل ببحث القسم الثاني من الأصول في القطع ومباحث الحجج والأصول العملية والتعارض ، بتفصيل واستيعاب.

٦

و(كفاية الأصول) تأليف العلم الباني على تلك الأسس المحقق الخراساني قدس‌سره وهو الكتاب الذي يستوعب بجزئيه دورة أصولية كاملة بعمق واختصار.

وقد عالج الكتابان مشاكل علمية سابقة ، وتضمنا مطالب جديدة ، وأرسيا قواعد جليلة ينهض عليها علم الأصول الحديث ، وأديا دورا خطيرا مشكورا في خدمة الحوزة دراسيا وعلميا ، وصارت مطالبهما مدار البحث والتحقيق في مدة تقرب من قرن ونصف للكتاب الأول وقرن للكتاب الثاني.

غير أن تطور العلم في هذه المدة الطويلة بفضل أعلام التحقيق الذين برزوا في الساحة يفرض الحاجة لكتاب يخلفهما يتناسب مع ذلك التطور المشرّف ، ويحاول التخلص من سلبيات الكتابين ، وأهمها عدم تناسبهما في العرض ، وعدم وفاء الكتاب الأول بدورة أصولية كاملة ، والاختصار المشفوع بالتعقيد وغموض البيان في الكتاب الثاني.

وكانت وجهة نظرنا أن نجاح مشروع التجديد بعد غياب القرار المركزي في الحوزات يخضع لعوامل كثيرة وملابسات معقدة لا تتسنى السيطرة عليها ولا الإحاطة بها ، قد يكون أهمها خلوص النية مع الله تعالى الذي منه فيض التوفيق والتسديد ، وليس من السهل صرف الوقت الثمين والطويل وبذل الجهد المضني لتأليف كتاب لو وفق صاحبه فيه وكان صالحا للتدريس فإنه لا يضمن ترتب الغرض المطلوب عليه واقتناع الحوزة بإدخاله في مناهجها ، ليسدّ الحاجة القائمة.

غير أن فكرة وجود هذا الكتاب مع كل ذلك بقيت تراودنا ونتمنى التوفيق للعمل لها ، ليكون الكتاب في متناول الطالب عسى أن يقتنع به من يقتنع وينتفع به من ينتفع ، ونكون قد أدينا ما علينا ، ويبقى ما على الله تعالى الذي بيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.

٧

وشاء الله سبحانه وتعالى بفضله ولطفه أن يوفقنا بعد جهود مضنية لإنجاز كتابنا (المحكم) الذي هو حصيلة تدريس دورة أصولية كاملة موسعة لنخبة من أهل الفضل ، والذي بحثنا فيه بتفصيل أحدث النظريات في علم الأصول في أوج تكامله وتطوره ونضوجه.

وكان لذلك أعظم الأثر في فاعلية فكرة تأليف الكتاب المطلوب ، حيث يتيسر لنا بعد تأليف (المحكم) أن نلتقط منه ما يتناسب وحاجة الطالب في مرحلة السطوح العالية ، ونعرضه عرضا يصلح للتدريس بحسب قناعتنا التي نتمنى أن نوفق فيها. غير أنه قد حالت ظروف عسيرة دون تحقيق هذه الأمنية ، فبقينا نتوقع انفراج الأزمة وتيسر الشروع في تحقيق ذلك الأمل.

وسارعنا في أول فرصة لإنجاز مشروعنا مستغلين فراغا مفروضا علينا ، حتى إذا أنجزنا ما يقارب ربع الكتاب عادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية ، ورجعت إلينا مشاغلنا العلمية والدينية والاجتماعية ، بل زادت بصورة ضاغطة منعتنا من الإسراع في إنجاز الكتاب. وبقي العمل فيه بطيئا حتى تيسر لنا إكماله قبل أيام قليلة بعون الله تعالى وتوفيقه وحسن صنيعه.

وقد جاء هذا الكتاب منتخبا من (المحكم) في مباحثه لا يخرج عنه إلا في القليل النادر ، بل كثيرا ما لا يخرج عن تعبيره وبيانه. وقد زاد على كتاب رسائل الشيخ الأنصاري قدس‌سره بما يقرب من الثلث ، كما زاد عليه ببحث ما لم يتضمنه ، وهو القسم الأول من الأصول في مباحث الظهورات اللفظية والملازمات العقلية. وقد استوعب دورة أصولية كاملة متناسقة في التبويب والعرض والتعبير.

وقد حاولنا فيه تهذيب الأصول من النظريات القديمة والمباحث غير المجدية ، أو التخفيف في بحثها بما يتناسب وأهميتها ، والتركيز على المطالب

٨

المستجدة نتيجة التطور المثمر الذي حصل في هذه المدة الطويلة. ولعل من المناسب من أجل ذلك أن يكون اسمه (الكافي في أصول الفقه) لأنه ـ فيما نعتقد ـ يتناسب وقابلية الطالب الناجح في هذه المرحلة.

وربما يؤخذ على هذا الكتاب ..

أولا : عمق البحث ودقة الملاحظة.

وثانيا : رصانة التعبير وإيجاز البيان ، بنحو قد يحتاج استيعابه إلى تكلف لا يسع الكثيرين.

لكن عمق البحث ودقة الملاحظة هو المفترض في كتاب يصلح للتدريس في مرحلة السطوح العالية ـ التي منها ينتقل الطالب لبحث الخارج ـ خلفا لما سبقه من الكتب الرفيعة المستوى ، ليكون حلقة في سلسلة التكامل العلمي الذي حصل نتيجة البحث والتمحيص في الأجيال العلمية المتعاقبة.

وهو أمر تتميز به الحوزات الشريفة بما لها من حرية علمية ، وأصالة في الفكر ، وإخلاص في البحث من أجل معرفة الحقيقة والوصول إليها. كما أنه من أسباب الفخر والاعتزاز التي تجب المحافظة عليها وتنميتها أداء للواجب في بذل الجهد واستفراغ الوسع لمعرفة الحكم الشرعي ، وقياما بمقتضى الأمانة العلمية ، واحتراما للعقل والفكر.

والحذر ثم الحذر من التفريط بها رغبة في التيسير والتسهيل والإسراع في صعود المراتب الوهمية الذي قد يجر للسطحية وينتهي بالضحالة العلمية ، ويؤدي بالآخرة للتفريط في أداء الوظيفة والوصول للحكم الشرعي ، وضياع المكاسب العظيمة التي غنمناها نتيجة عدّة قرون من الجد والجهد والتعب والنصب. وتفقد الحوزات بذلك مقامها العلمي الرفيع ، ويكون منا ـ لا سمح الله تعالى ـ بدء العدّ التنازلي بدلا من الصعود في طريق التطور والتكامل.

٩

وأما البيان والتعبير فنرجو أن نكون قد بعدنا به عن الإغلاق والاضطراب. غير أن عمق البحث يفرض التعبير العلمي الرصين غير المبتذل.

على أن ألفة الطالب للتعابير العلمية الرصينة تسهّل عليه الانفتاح على الماضي وتيسر له استيعاب الكمّ الهائل من التراث العلمي الذي خلفه لنا علماؤنا الأبرار قدس الله أسرارهم الزكية ، فيستفيد ويفيد منها ، ولا يكون غريبا عليها منفصلا عنها محروما من فوائدها وثمراتها.

هذا ما تيسر لنا القيام به بقدر الوسع والطاقة خدمة للحوزة الشريفة التي نعتز بالانتماء إليها ونرجو أن نوفق للمزيد من خدمتها والعمل من أجلها. كما نرجو أن يحفز ذلك الآخرين للمساهمة في أمثال هذا المشروع ، وسدّ الحاجة في بقية فروع المعرفة.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدّنا وجميع العاملين في الحوزة الشريفة بالتوفيق والتسديد ، مع صلاح النية ، والإخلاص في السعي ، والاستقامة في العلم والعمل ، وتوثق العلاقة معه جلّ شأنه ، لنكون أهلا لرحمته وموضعا للطفه وعطفه.

كما نسأله سبحانه أن يعضد الحوزات الشريفة ، ويأخذ بناصرها لأداء وظيفتها على أتمّ الوجوه وأفضلها ، ويدفع عنها كيد الخائنين وبغي الظالمين. إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

النجف الأشرف

١٢ جمادى الثانية سنة ١٤١٩ ه

محمد سعيد الطباطبائي الحكيم

١٠

وقع في هذا الكتاب الإشارة إلى بعض الأكابر برموز هذا شرحها :

سيدنا الأعظم : الأستاذ الجد السيد محسن الطباطبائي الحكيم قدس‌سره.

شيخنا الأعظم : الشيخ مرتضى الأنصاري قدس‌سره.

بعض الأعاظم : الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني قدس‌سره.

بعض الأعيان المحققين : الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس‌سره.

بعض المحققين : الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس‌سره.

شيخنا الأستاذ : الشيخ حسين الحلي قدس‌سره.

بعض مشايخنا : السيد أبو القاسم الخوئي قدس‌سره.

بعض المعاصرين : الشيخ محمد رضا المظفر قدس‌سره.

١١
١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف النبيين وخاتم المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

تمهيد : فيه أمران :

الأمر الأول : وقع الكلام من جماعة من أهل الفن في لزوم وحدة موضوع العلم ـ وهو الجامع بين موضوعات مسائله ـ وفي معيار وحدة العلم ، وفي تحديد موضوع علم الأصول خاصة ، وتعريف العلم المذكور وتحديد الغرض منه ورتبته وغير ذلك. وأكثر ذلك خال عن الفائدة المصححة لصرف الوقت. ولعل أهم ذلك وأنفعه الكلام في تعريف علم الأصول ، لما فيه من ضبط مسائله وتمييز مقاصده الأصلية عن المباحث الاستطرادية ، فالأنسب الاقتصار على ذلك.

ولا يخفى أن تحديد العلم تابع لسعة الغرض الموجب لتدوينه ، والغرض من تدوين علم الأصول هو تيسير عملية استنباط الأحكام الشرعية ، وتحديد وظيفة المكلف عند الجهل بها مقدمة لامتثالها والخروج عن عهدتها ، ليؤمن العقاب على مخالفتها ، وينال الثواب بموافقتها. وذلك لتعقد عملية

١٣

الاستنباط كلما بعد العهد عن عصور المعصومين (صلوات الله عليهم) بسبب اختلاف الأخبار وظهور الخلاف بين الأصحاب واختفاء كثير من أدلة التشريع.

ومن هنا كان الأنسب تعريف علم الأصول بأنه : (هو القواعد المقررة ليستعان بها على استنباط الأحكام الشرعية والوظائف العملية الشرعية والعقلية في موارد الشبهات الحكمية).

وقولنا : (القواعد) جنس يشمل جميع قواعد العلوم. وبه يخرج علم الرجال ، لأنه وإن كان ينفع في الاستنباط ، بل لعل الغرض المهم من النظر فيه في العصور المتأخرة الاستعانة عليه ، إلا أن موضوعات مسائله لما كانت جزئية ـ وهي أفراد الرواة ـ لم تكن نتائج مسائله قواعد ، لتدخل في هذا التعريف.

وقولنا : (المقررة ليستعان ...) لإخراج مسائل العلوم الأخرى التي لا تنفع في الاستنباط ، أو تنفع فيه من دون أن يكون الغرض من تحريرها ذلك ، بل حررت لأغراض أخرى هي أغراض تلك العلوم ، كجملة من المسائل العقلية والنحوية والصرفية والبيانية ، وكذا ما ينفع في الاستنباط من المسائل غير المحررة في علم أصلا لوضوحها.

وقولنا : (استنباط) يراد به الوصول للمطلوب ، إما بالقطع ، أو بقيام الحجة ، لأن لسان الحجة الحكاية عن الواقع.

وقولنا : (والوظائف العملية) لبيان عموم علم الأصول ، للمسائل التي تنفع في تنقيح الوظيفة العملية عند تعذر استنباط الحكم الشرعي أو عند الشك في امتثاله.

وقولنا : (في موارد الشبهات الحكمية) يراد به موارد الشك في الكبريات الشرعية وجودا وعدما أو سعة وضيقا. وإنما ذكرنا ذلك لإخراج القواعد الفقهية والعقلية الجارية في خصوص الشبهات الموضوعية الناشئة من

١٤

اشتباه الموضوع الخارجي. من دون أن تنفع في الشبهات الحكمية كقاعدتي اليد والفراغ ، وقاعدة الاشتغال عند الشك في الإتيان بالواجب ، حيث لا يرجع إليها الفقيه في مقام استنباط الحكم الشرعي أو تحديد الوظيفة ، وإنما يرجع إليها المكلف في مقام تشخيص الوظيفة الفعلية.

وحيث انتهى الكلام من شرح مفردات التعريف فالمناسب استيفاء الكلام بذكر أمرين :

أولهما : أن الغرض من تأسيس علم الأصول لما كان هو الاستعانة على الاستنباط لم يحتج فيه لتحرير المسائل التي تنفع في الاستنباط إذا كانت محررة في علوم أخرى لأغراض أخرى مع تيسر اطلاع الباحث عليها في تلك العلوم ، ولا سيما إذا كانت تلك العلوم مقدمة رتبة على علم الأصول في البحث ، بحيث ينظر فيها الباحث قبل النظر فيه ، كعلوم النحو والصرف والبيان.

نعم ، لو لم يستوف الكلام في تلك المسألة في العلم الذي حررت فيه بالنحو المناسب لعلم الأصول ، أو لم يتيسر للباحث في علم الأصول الرجوع إليها في ذلك العلم ـ لابتنائها فيه على مقدمات لا غرض في استيعابها ـ اتجه تحريرها في علم الأصول بالوجه المناسب للحاجة إليها فيه. ومن هنا أخذ في التعريف المتقدم كون الغرض من تحريرها الاستعانة على الاستنباط لا مجرد كونها نافعة فيه.

ثانيهما : اقتصر القدماء في التعريف على استنباط الأحكام الشرعية ، ولم يتعرضوا لاستنباط الوظائف العملية ، ولازمه كون البحث في الكبريات الظاهرية الشرعية والعقلية التي يستعان بها على تشخيص الوظيفة العملية في ظرف تعذر معرفة الحكم الشرعي أو الشك في امتثاله استطراديا. وهو لا يناسب أهمية تلك الكبريات بلحاظ الغرض المتقدم لتحرير علم الأصول ،

١٥

ولا سيما مع وضوح كون علم الأصول مقدمة لعلم الفقه ، حتى حرر كذلك في كلام جماعة ، وكثير من مسائل الفقه قد تضمن بيان الوظائف المذكورة دون الحكم الشرعي. ولو أمكن إدخال الوظيفة الشرعية في الحكم الشرعي ، فلا مجال لذلك في الوظيفة العقلية. ومن هنا أضيف في العصور المتأخرة إلى استنباط الحكم الشرعي استنباط الوظيفة العملية على نحو ما تضمنه التعريف المتقدم.

بل اقتصر بعض مشايخنا في تعريف علم الأصول على أنه العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة في مرحلة العمل. ومراده بالوظيفة الأعم من الشرعية والعقلية. وهو وإن كان أخصر فيكون أنسب بالتعريف ، إلا أن ما تقدم أولى ، لما فيه من الإشارة الإجمالية لغرضي العلم ووظيفتي المجتهد. بل المقصود الأصلي هو استنباط الحكم الشرعي ، لأنه المجهول المطلوب ، والاكتفاء بالوظيفة إنما هو عند تعذره ، فلا يحسن إهمال التنصيص في التعريف عليه.

هذا ، وقد اتضح مما سبق أنه لا جامع حقيقي بين المسائل الأصولية ، كما لا جامع بين موضوعاتها ، ليكون هو الموضوع لعلم الأصول ، بل المعيار فيها ما سبق تبعا للغرض المتقدم ، سواء كان البحث فيها عن الحجيّة والدليلية ، أم عن الظهور العرفي ، أم الملازمة العقلية ، أم الوظيفة الظاهرية الشرعية أو العقلية ، أم غير ذلك مما يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى. وقد أطالوا في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه.

الأمر الثاني : حيث كانت نتائج المسائل الأصولية كبريات تنفع في الاستنباط ، فالكبريات المذكورة على قسمين :

أحدهما : ما يكون مضمونه أمرا واقعيا نظريا لا يتضمن العمل بنفسه ، وإنما يترتب عليه العمل في بعض الموارد لخصوصية موضوعه أو بضميمة أمر

١٦

خارج عنه ، وتنحصر بمباحث الألفاظ ـ التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات اللفظية ومداليل المواد والهيئات الإفرادية والتركيبية ـ ومباحث الملازمات العقلية ، كملازمة الأمر بالشيء للأمر بمقدمته ، والنهي عن ضده.

فإن تشخيص الظهور تنقيح لأمر واقعي مدرك للعرف لا يتقوم بالعمل ، وإنما يترتب العمل على مفاد الظاهر إذا كان عمليا ـ كالأحكام التكليفية ـ وبضميمة ثبوت حجية الظهور.

كما أن الملازمات العقلية أمور واقعية مدركة للعقل ، وحكمه بها نظري لا يتقوم بالعمل ، وإنما يترتب العمل عليها بتوسط إدراك اللازم تبعا لثبوت الملزوم.

ثانيهما : ما يكون مضمونه عمليا مبتنيا على التعذير والتنجيز المستتبعين للعمل ، وهي مباحث الحجج والأصول العملية الشرعية والعقلية ، لوضوح تقوّم الحجيّة والوظيفة الظاهرية بالعمل ، ويلغو جعلهما شرعا أو عقلا بدونه.

ومن ثم يقع الكلام في كل من القسمين على حدة. ولنطلق على الأول (الأصول النظرية) لتمحض الكلام فيها في البحث عن إدراك العرف أو العقل.

وعلى الثاني (الأصول المتقومة بالعمل). ولكل من القسمين مقاصد مقومة له تكون مبحوثة بالأصل ، وربما يكون له أو لمقاصده بحوث خارجة مناسبة تبحث مقدمة أو خاتمة لها. على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

كما أنه ينبغي تقديم على الأصول بقسميه بمقدمة يبحث فيها عن حقيقة الحكم الشرعي ، الذي حرر علم الأصول لأجل استنباطه ، فهو من مبادئه المهمة التي لمعرفتها الدخل في بعض مباحثه. وقد بحث غير واحد من الأصوليين ذلك في مواضع متفرقة من مباحثه تبعا للحاجة له ، غير أن بحثه في مقدمة علم الأصول هو الأنسب بعد خروجه عن المقاصد المقومة للعلم

١٧

المذكور ، وكونه نافعا في الكلام في بعض مقاصده.

وينبغي أيضا إلحاق علم الأصول ـ بقسميه ـ بخاتمة في مباحث الاجتهاد والتقليد التي يبحث فيها عن أقسام الاستنباط ولواحقه وأحكامه مما هو خارج عن علم الأصول ـ الذي يبحث فيه عن مقدمات الاستنباط ـ وله نحو تعلق به.

ونسأله تعالى العون على استيفاء هذا المنهج واستيعابه والتسديد في ذلك ، إنه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٨

مقدمة

في حقيقة الحكم الشرعى [ويقع الكلام في مقامين]

الأحكام التي تضمنتها الشريعة المقدسة ويهتم الفقهاء باستنباطها والمكلفون بمعرفتها على قسمين :

الأول : الأحكام التكليفية ، وهي نحو نسبة بين المكلّف والمكلّف والفعل ، تقتضي بنفسها الفعل أو الترك بالإضافة إلى المتعلق أو السعة فيهما بنحو تتقوّم بذلك وتلغو مع تعذر أحدهما.

الثاني : الأحكام الوضعية ، وهي ما عدا ذلك من المحمولات التابعة للجعل الاعتباري ـ بالذات أو بالعرض ـ من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج ، وهي تقوم بمتعلقاتها نظير قيام الأعراض الحقيقية أو الإضافية بموضوعاتها ، سواء كان متعلقها واحدا ، كالطهارة والنجاسة والحرية ، أم أكثر ، كالملكية والزوجية والولاية.

وهي لا تقتضي بنفسها الفعل ولا الترك ولا السعة فيهما ، بل لا بد في ذلك من جعل آخر لحكم تكليفي في طولها ، كحرمة أكل النجس وجواز التصرف في الملك والاستمتاع بالزوجة ووجوب الإنفاق عليها وغير ذلك. ومن ثم لا تتقوم غالبا بالفعل ولا الترك ولا تلغو مع تعذر أحدهما لو كانت مجعولة بنفسها ، حيث يكفي في صحة اعتبارها ورفع لغويته ترتب العمل عليها في

١٩

الجملة.

نعم ، يستثنى من ذلك الحجيّة ، لابتنائها على العمل فتلغو بدونه ، إلا أن العمل الذي تقتضيه ليس بالإضافة إلى متعلقها ـ وهو الحجة ـ بل بالإضافة إلى أمر آخر.

وبذلك اختلفت الأحكام الوضعية عن الأحكام التكليفية سنخا ، وكان المناسب بحث كل من القسمين في مقام يخصه.

نعم ، يشتركان في الكلام في مراتب الحكم ، ومن ثم يأتي التعرض لذلك بعد الفراغ عن حقيقة كل من القسمين تتمة للبحث في هذه المقدمة لمناسبته لمحل الكلام جدا ، ومن ثم يكون الكلام هنا في مقامين وخاتمة.

المقام الأول

في الأحكام التكليفية

وهي ـ حسبما تضمنته الأدلة النقلية وتطابق عليه المتشرعة والعقلاء ـ خمسة ، لأن الحكم إما أن يقتضي الفعل أو الترك ، أو لا ، فالثاني الإباحة ، والأول إما أن يبتني على الإلزام بالفعل أو الترك ، أو لا ، فالأول الوجوب والحرمة ، والثاني الاستحباب والكراهة. ومنه يظهر أن وصفها بالتكليفية يبتني على التغليب ، لأن التكليف مأخوذ من الكلفة الموقوفة على الإلزام.

ومن الظاهر أن الأحكام المذكورة لا تختص بالشارع الأقدس ، بل تكون من غيره من الموالي الشرعيين ونحوهم ممن تجب طاعته شرعا ، بل الموالي العرفيين ممن يعتمد على سلطانه وقدرته ، بل تكون من غير ذوي القدرة ممن له دالّة على غيره تقتضي إطاعته ، كالرحمية والصداقة والإحسان ونحوها مما ينتزع منه نحو حق. غايته أن الطاعة تجب للشارع الأقدس عقلا بملاك

٢٠