الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

حصول الواجب في وقته إلا مع حصولها قبل الوقت ، كالغسل من الحدث الأكبر قبل الفجر مقدمة للصوم في النهار ـ حيث لا إشكال في لزوم تحصيلها قبل الوقت تبعا لوجوب ذيها لو كان من المعلق ، وإنما ينحصر الإشكال في لزومه لو كان الواجب مشروطا بالوقت ، لعدم فعلية وجوبه حينئذ.

وبذلك يظهر اندفاع ما أورده عليه المحقق الخراساني قدس‌سره من عدم الثمرة لهذا التقسيم ، لعدم الفرق بين المعلق والمنجز في الغرض المهم بعد كون التكليف في كليهما حاليا ، لأن الثمرة المذكورة مترتبة على إطلاق التكليف الذي هو مشترك بين القسمين ، ولا بد في صحة التقسيم من كونه بلحاظ ترتب الثمرة بين القسمين وإلا لكثرت التقسيمات.

وجه الاندفاع : أنه يكفي في صحة هذا التقسيم بيان الفرق بين المعلق والمشروط ، وظهور الثمرة بلحاظه بعد خفائها.

نعم ، كان المناسب لصاحب الفصول أن يجعل هذا التقسيم من لواحق تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط ، لأنه تقسيم لأحد قسميه ، وهو المطلق ، لا في مقابله. والأمر سهل.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام .. تارة : في إمكان المعلق ثبوتا. وأخرى :

في كيفية استفادته إثباتا. فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في إمكان المعلق

حيث سبق ـ في الوجه الثاني لمناقشة شيخنا الأعظم قدس‌سره في إنكاره رجوع الشرط للتكليف ـ تقريب الفرق الارتكازي بين شروط الوجوب وشروط الواجب يظهر أن الخصوصية الاستقبالية إذا كانت دخيلة في تعلق الغرض بالواجب بحيث لا حاجة إليه قبلها فهي خارجة عن محل الكلام ، حيث تكون دخيلة في التكليف ويكون الواجب مشروطا بالمعنى المتقدم.

١٨١

وإنما الكلام فيما إذا لم تكن الخصوصية الاستقبالية دخيلة في تعلق الغرض بالواجب لو توقف تحقق الواجب عليها ، إما لكونها من قيوده الشرعية الدخيلة في ترتب الغرض عليه وحصول أثره ـ كالطهارة من الحيض التي يتوقف عليها الصوم الواجب بكفارة قد تحقق سببها حال الحيض ـ وإما لكونها ظرفا للقدرة عليه ، لتوقفه على أمر استقبالي خارج عن الاختيار ـ كدخول شهر شوال الذي هو ظرف لصوم القضاء الذي يجب بالإفطار في شهر رمضان ـ وإما لتوقفه على مقدمات اختيارية تحتاج إلى زمن.

هذا وصريح الفصول تعميم المعلق للصورة الأخيرة ، وظاهر غير واحد ـ ممن وافقه في إمكان المعلق وممن خالفه فيه ـ خروجها عنه ، مع اتفاق الكل ، بل مفروغيتهم عن إمكانها ووقوعها. بل كثير من التكاليف منها ، لوضوح أنه بسبب فعلية التكليف بذي المقدمة ينبعث المكلف لمقدماته ، فتعيين دخولها في المعلق محض اصطلاح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

والعمدة الكلام في الصورتين الأوليين اللتين تشتركان في توقف المكلف به على أمر غير اختياري ، مع فرض تجدد القدرة عليه بعد ذلك ، لتحقق ما يتوقف عليه في الزمن المستقبل ، حيث يقع الكلام في أن ذلك هل يمنع من فعلية التكليف أولا؟ ومرجعه إلى أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف ـ زائدا على فعلية الملاك والغرض ـ هل هي القدرة على المكلف به في وقته ولو كان مستقبلا أو خصوص القدرة الفعلية حين فعلية التكليف؟

هذا ولا إشكال في أن البعث نحو الأمر الاستقبالي الموقوف على أمر غير اختياري لا يصح على الإطلاق وبلحاظ جميع المقدمات بنحو يقتضي الداعوية للانبعاث إليه حتى من حيثية المقدمة الخارجة عن الاختيار ، لاستحالة ذلك ، والقائل بإمكان المعلق إنما يلتزم بإمكان البعث للأمر الاستقبالي من غير حيثية المقدمة المذكورة ، بل بنحو يقتضي الانبعاث إليه بفعل مقدماته الاختيارية ،

١٨٢

وبفعله بنفسه في وقته بعد تحققها ، لا مطلقا ، ولو قبله.

ومنه يظهر أنه لا مجال للمنع من المعلق .. تارة : لقبح التكليف بما لا يطاق.

وأخرى : لأن الغرض من التكليف جعل الداعي لموافقته ، فمع تعذر موافقته يمتنع تحقق الداعي إليها ، فيلغو جعل التكليف والخطاب به ، لتخلف غرضه.

إذ فيه : أن الوجهين المذكورين إنما يتوجهان لو كان المدعى فعلية التكليف في المقام بالنحو المقتضي للداعوية له على الإطلاق بالانبعاث نحو المكلف به فعلا ، حيث يقبح ويلغو مع فرض تعذر الانبعاث المذكور ، أما بلحاظ ما سبق من كيفية داعويته فلا مجال للوجهين المذكورين.

ومثله دعوى : أن داعوية التكليف لتمام مقدماته ارتباطية فلا يمكن التفكيك بينها في داعوية التكليف بذيها لها ، فمع تعذر بعضها وامتناع الداعوية له يتعين عدم الداعوية للباقي ، بل سقوط التكليف بذي المقدمة.

لاندفاعها بأن الارتباطية بين المقدمات إنما هي بسبب داعوية التكليف للمكلف به المقتضية للسعي لتحصيله بفعل تمام مقدماته ، وهو إنما يقتضي فعلية الداعوية للمقدمة مع القدرة عليها ، ولذا سبق المنع مما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من إمكان كون الخصوصية الدخيلة في الواجب بنحو يكتفى بحصولها من باب الاتفاق ، ولا ينافي عدم الداعوية للمقدمة مع تعذرها ، فإنه ناشئ عن قصور المقدمة عن مقام الداعوية ، لا عن قصور في داعوية التكليف نفسها.

وأما سقوط التكليف رأسا بتعذر بعض مقدمات الواجب فهو ناشئ من أن تعذر المقدمة مستلزم لتعذر ذيها ، فيمتنع التكليف به ، وذلك لا يجري في

١٨٣

المقام بعد فرض تحقق المقدمة غير الاختيارية أو القدرة عليها في المستقبل الموجب للقدرة على المكلف به حينئذ ، فيمكن التكليف به فعلا ، ويكون ذلك التكليف صالحا للداعوية لما تيسر من المقدمات في طول الداعوية لذيها.

ومن هنا لا يتضح الوجه في امتناع المعلق. بل لو كان لزوم تحصيل المقدمات المفوتة موقوفا على فعلية التكليف قبل زمن الواجب لكان وضوح لزوم تحصيلها كافيا في استيضاح فعليته وإمكان الواجب المعلق ووقوعه. إلا أنه حيث يأتي ـ في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى ـ عدم توقفه على ذلك افتقر استيضاح إمكان فعلية التكليف بالمعلق وعدم لغويته للرجوع للوجدان فيهما بنفسهما.

ولا يبعد قضاء الوجدان بهما ، كما يناسبه قياس التعذر قبل الوقت بالتعذر الموقت الطارئ بعده ، كما لو تعذرت بعض مقدمات الصلاة بعد دخول وقتها ، بنحو يقتضي تأخيرها عن بعض أجزاء الوقت ، أو تعذر قضاء الصلاة أو الصوم أو نحوهما في وقت خاص لطارئ من حيض أو نحوه ، فإن الالتزام بعدم فعلية التكليف في ذلك وسقوطه في مدة التعذر بعيد عن المرتكزات. والفرق بين المقامين أبعد عنها. ومن هنا كان البناء على إمكان المعلق قريبا جدا.

هذا ، وبالتأمل يظهر عدم اختصاص أكثر ما سبق بالواجب ، بل يجري في المستحب ، بل في المحرم والمكروه أيضا ، ومن ثم عممنا موضوع الكلام للمأمور به والمنهي عنه ، ولم نخصه بالواجب ، وإن اقتصروا في موضوع كلامهم عليه.

١٨٤

المقام الثاني : في إحراز كون الواجب معلقا في مقام الإثبات

وحيث كان المعيار فيه فعلية التكليف فلا بد من إحرازها ولو بإطلاق دليل الخطاب به ، لتمامية موضوعه قبل الوقت.

هذا ، ولو علم إجمالا برجوع القيد إما للتكليف أو للواجب فقد قرب شيخنا الأعظم قدس‌سره رجوعه للواجب. أولا : لأن إطلاق الواجب بدلي وإطلاق التكليف شمولي.

وثانيا : لاستلزام تقييد التكليف عدم الأثر لإطلاق الواجب ، إذ لا بد من الاقتصار عملا على الحصة المقارنة لفعلية التكليف ، فلا تجري أصالة الإطلاق فيه على كل حال ، إما لرجوع القيد إليه ، وإما لعدم الأثر لإطلاقه ، فلا معارض لأصالة الإطلاق في التكليف.

لكن الأول ـ مع اختصاصه بالواجب ، الذي هو محل كلامهم والمستحب ، دون المحرم والمكروه ـ مبني على عموم مرجحية كون الإطلاق شموليا ، وهو ممنوع ، خصوصا إذا لم يكن الإطلاق الشمولي إفراديا مستفادا من إطلاق الماهية ، بل أحواليا مستفادا من إطلاق الخطاب ، كما في المقام ، على ما يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.

والثاني يختص بما إذا انعقد للكلام ظهور في الإطلاق ، بأن كان التقييد منفصلا ، أما إذا كان متصلا فهو يكون مانعا من انعقاد الظهور في الإطلاق ، كما هو الحال في سائر موارد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، فيلزم التوقف والرجوع للأصل المقتضي لعدم فعلية التكليف.

نعم ، ذكر في الفصول : أن مقتضى القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمادة دون الهيئة ـ المستلزم لكون الواجب معلقا ـ قياسا على ظرف المكان ، فكما أنه إذا قيل : صل في المسجد ، أو فوق السطح ، كان الظاهر رجوع القيد للواجب مع إطلاق الوجوب ، فيجب تحصيله مقدمة للامتثال ، كذلك إذا قيل :

١٨٥

سافر غدا ، أو في يوم الجمعة ، كان ظاهره إطلاق الوجوب وفعليته قبل الزمان المذكور ، ورجوع القيد للواجب ، وان لم يجب تحصيله لتعذره. وكأنه لاتحاد هيئة ظرفي الزمان والمكان ارتكازا ، الملزم باتحاد مفادهما ومتعلقهما.

وبهذا فرق قدس‌سره بين ما إذا كانت الخصوصية الاستقبالية مأخوذة بلسان الظرف فتكون قيدا للواجب وما إذا كانت مأخوذة بلسان الشرط في جملة شرطية ، حيث يتعين في الثاني كونها قيدا للتكليف بمقتضى القواعد العربية ، على ما سبق توضيحه في مبحث الواجب المشروط.

ولكنه يشكل بالفرق بين ظرفي الزمان والمكان ، لا من جهة اختلاف مفاد هيئتهما وضعا ، بل لأنه لا معنى لظرفية المكان للحكم ، إلا بتأويل القضية الظرفية بقضية شرطية يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف ، بأن يرجع قولنا : صل في المسجد ، مثلا إلى قولنا : صل إن كنت في المسجد ، وهو تكلف مستبعد ، فكان الأولى صرف الظرفية للمكلف به المصرح به في الخطاب ، فيرجع ذلك إلى قولنا : صل صلاة واقعة في المسجد.

أما ظرفية الزمان فكما يمكن تعلقها بالمكلف به يمكن تعلقها بالحكم ، وحينئذ لا مانع من رجوعها للحكم لو كان هو مقتضى الظهور الأولي ، كما هو الظاهر. ولذا كان هو ظاهر التركيب الكلامي لو كانت الخصوصية الزمانية اختيارية ، كما لو قيل : صل حين سفرك أو حين دخولك المسجد ، فلا يكون التكليف فعليا قبل تحقق الخصوصية ، ولا يجب تحصيلها مقدمة لامتثاله. ومن هنا لا يبعد ظهور هيئة الظرفية بحسب التركيب الكلامي في الرجوع للحكم وإن لزم الخروج عن ذلك في الظرفية المكانية ، لما سبق.

١٨٦

المبحث الثالث

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه

إلى نفسي وغيري

فقد قسم الأصوليون الواجب إلى القسمين المذكورين ، لتعرضهم لأمثال ذلك في مباحث الأوامر واهتمامهم بخصوص الوجوب منها ، مع عدم الإشكال في جريانه في المستحب ، بل الظاهر جريانه في الجملة في المنهي عنه بقسميه ، على ما يتضح في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.

وقد اختلفوا في تعريف كل من القسمين ، إلا أن خلافهم ـ فيما يبدو ـ ليس للخلاف في مصاديق كل منهما ، بل في التعريف الجامع لتلك المصاديق المانع من غيرها.

ولعل الأولى أن يقال : الأمر بالشيء إن كان لمقدميته لمأمور به فهو غيري ، وإلا فهو نفسي ، سواء كان بداعي حسن الماهية ذاتا ، أو عرضا بلحاظ المصالح والمفاسد المترتبة عليها التي لم تكن بنفسها موردا للتكليف ، أم بداعي حسن التكليف لا غير. وكذا الحال في النهي ، فإنه إن تعلق بالشيء لمقدميته للمنهي عنه كان غيريا ، وإلا فهو نفسي.

هذا ، وثبوت التكليف الغيري المولوي بمقدمة المكلف به النفسي يبتني على الملازمة بين التكليف بالشيء والتكليف بمقدمته. ويأتي إن شاء الله تعالى في مباحث الملازمات العقلية إنكار الملازمة المذكورة ، وأن التكليف بالمقدمة عقلي لا شرعي مولوي.

١٨٧

وأما أمر المولى بمقدمة المأمور به ، ونهيه عن مقدمة المنهي عنه ، فهو لو صدر لا يكون بداعي التكليف المولوي ، بل بداعي الإرشاد للطاعة ، أو بداعي بيان المقدمية.

بقي شيء

وهو أنه إذا ورد الأمر بشيء ، وتردد بين كونه مطلوبا نفسيا وكونه مطلوبا لمقدميته لغيره ، فلا يبعد ظهور الأمر في الأول ، وأن المأمور به مورد للغرض بنفسه وعنوانه ، لا في طول داعوية غيره.

بل لو كان الغير الذي يحتمل مقدميته له مشروطا بشرط كان احتمال مقدميته له ملازما لاحتمال كون أمره مشروطا بذلك الشرط ، لتبعية أمر المقدمة لأمر ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط. وحينئذ ينهض الإطلاق بدفع ذلك.

مثلا إذا ورد الأمر بالوضوء وتردد بين كونه مطلوبا لنفسه وكونه مطلوبا لأجل الصلاة ، فحيث كان الأمر بالصلاة مشروطا بالوقت ، فإطلاق الأمر بالوضوء قاض بعدم اشتراطه بالوقت ، الملازم لعدم كونه غيريا من أجل الصلاة.

هذا ، ولو لم يكن للأمر إطلاق ولا ظهور في كون المأمور به نفسيا كان المرجع الأصل. ولا ريب في أنه إذا علم بوجوب شيء في الجملة وشك أن وجوبه نفسي أو غيري تبعا لوجوب شيء آخر ، فمع عدم وجوب ذلك الآخر فعلا حيث يشك في فعلية وجوب ذلك الأمر المردد بين الوجوب النفسي والغيري فمقتضى الأصل البراءة من وجوبه. وكذا الحال مع الشك في وجوب ذلك الآخر.

أما مع العلم بوجوب الآخر فيختلف الحال باختلاف فروض المسألة وصورها بما يضيق المقام عن استقصائه ، وقد يظهر بالتأمل.

١٨٨

المبحث الرابع

في تقسيم الأمر إلى تعييني وتخييري

وتخصيصهم هذا التقسيم بالواجب ناشئ عن اهتمامهم به ، نظير ما سبق.

نعم ، الظاهر عدم جريانه في المنهي عنه وإن جرى نظيره فيه ، على ما يأتي في ذيل الكلام في هذا التقسيم إن شاء الله تعالى.

هذا ، والمراد بالأمر التعييني ما يتعلق بالشيء على نحو يدعو إليه بعينه ، كأكثر الأوامر الشرعية ، وبالتخييري ما يتعلق بالشيئين أو الأشياء بنحو يقتضي الاكتفاء ببعضها ولا يجوز ترك كل منها إلا إلى بدل منها ، كما في خصال الكفارة.

نعم ، حيث كان متعلق التكليف مطلقا ـ حتى القسم الأول منه ـ هو الماهية ذات الأفراد الكثيرة ، ويكفي في امتثاله تحقيق فرد منها من دون مرجح لبعضها ، كان التكليف مطلقا مبنيا على التخيير. لكن التخيير المذكور عقلي ، ومحل الكلام هو التخيير الشرعي.

ومحصل الفرق بينهما ثبوتا : أن الغرض الداعي للتكليف إن كان قائما بما به الاشتراك بين الأطراف ، بحيث يكون وافيا به من دون دخل لما به الامتياز بينها فيه ، كان التكليف متعلقا بما به الاشتراك بينها ـ وهو الجامع ـ بعينه ، دون ما به الامتياز ، وكان التخيير بين الاطراف عقليا بملاك تحقق الإطاعة بكل منها مع قبح الترجيح من غير مرجح ، من دون أن يستند للمولى ، لأنه ليس من شئون تكليفه.

١٨٩

وإن كان قائما بكل منها ـ ولو لتعدد الغرض وعدم وجوب استيفاء أكثر من غرض واحد ـ بحيث يكون لما به الامتياز بينها على البدل دخل فيه ، ويستند لكل منها بخصوصيته حين تحققه ، لزم تعلق التكليف بينها على نحو وفائها بالغرض ، ويكون التخيير بينها تابعا لكيفية تعلق التكليف بها من قبل المولى ، فيكون شرعيا ، وهو محل الكلام في المقام.

هذا ، وأما في مقام الإثبات فظاهر الأمر بالجامع بين أمرين أو أكثر كون التخيير عقليا بين أفراده وأصنافه ، لا شرعيا. كما أن ظاهر الأمر تخييرا بين أمرين أو أكثر كون التخيير بينها شرعيا.

نعم ، قد تقتضي المناسبات الارتكازية والقرائن الحالية أو المقالية رجوع الأمر المذكور للأمر بالجامع بينها تعيينا وكون التخيير عقليا.

كما قد يستفاد أحد الأمرين من الأمر بكل منها ـ الظاهر في وجوب الكل تعيينا ـ مع قيام القرينة الخارجية على عدم وجوب الجمع بينها. ولا ضابط لذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه في كل مسألة مسألة.

بل لو فرض تعذر الأمر بالجامع مع تعلق الغرض به ، لعدم إدراك العرف له وإن أدركه المولى ، فإنه وإن تعين حينئذ الأمر بالأفراد أو الأصناف تخييرا ، ويكون التخيير شرعيا في ظاهر الكلام ، إلا أن التخيير عقلي لبّا ، لتبعية الأمر للغرض ، والمفروض تعلقه بالجامع ، المستلزم للأمر شرعا به تعيينا ، ويكون الخطاب بالأفراد أو الأصناف عرضيا للوصول بها للجامع ، مع كون التخيير عقليا.

إذا عرفت هذا ، فقد وقع الكلام بينهم في حقيقة الوجوب التخييري على أقوال وهي تجري في الاستحباب التخييري أيضا.

١٩٠

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من أن الوجوب التخييري سنخ خاص من الوجوب مباين للوجوب التعييني ثابت لكل طرف من أفراد التخيير ، فكل منها واجب بوجوب تخييري يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر ، وترتب فعل الثواب على فعل الواحد منها ، والعقاب بتركها بتمامها.

وإليه قد يرجع ما قيل من أنه طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة لمتعلقه تقتضي وجوده في ظرف عدم الآخر لا مطلقا ، بخلاف الوجوب التعييني.

ويشكل بأن التأمل في المرتكزات يشهد ..

أولا : بوحدة الوجوب التخييري ، وعدم تعدده بتعدد أطراف التخيير ، كما هو ظاهر الأدلة أيضا ، لأن العطف ب (أو) ونحوه يناسب تعدد المتعلق مع وحدة النسبة.

وثانيا : باتحاد الوجوب التخييري مع الوجوب التعييني سنخا. كما أنا لا نتعقل الوجوب والإرادة الناقصتين.

الثاني : أن الوجوب التخييري راجع إلى وجوب كل طرف تعيينا ، مع كون كل منها مغيّا بعدم فعل متعلق الآخر ، إما لكون بقائه مقيدا بذلك شرعا ، أو لكون فعل متعلق كل منها مسقط للآخر من دون أن يؤخذ قيدا فيه ، نظير سقوطه بارتفاع الموضوع.

ويشكل بما سبق من قضاء المرتكزات بوحدة التكليف في مورد الوجوب التخييري.

مع أن لازم تعدده بالوجه المذكور تعدد الامتثال في فرض الجمع بين الأطراف دفعة ، وتعدد المعصية في ظرف ترك الكل.

١٩١

الثالث : أن الوجوب التخيري راجع إلى وجوب واحد معين في علم الله تعالى ، إما مع البناء على أنه يعلم عندنا بفعل المكلف ويتعين به ، أو على أنه لا يعلم ولا يتعين حتى بفعله ، بل لو صادف أن فعل غير ما هو المعين عند الله كان مسقطا للتكليف من دون أن يكون امتثالا له ، نظير التخيير بين الإنفاق على الزوجة وطلاقها.

لكن ظهور وهن هذا الوجه مغن عن إطالة الكلام في دفعه.

ومن هنا كان الظاهر بعد التأمل في المرتكزات العقلائية أن الوجوب التخييري تكليف واحد متحد مع التكليف التعييني سنخا ، ولا يختلف عنه إلا في المتعلق وكيفية التعلق ، فالتعييني يتعلق بالماهية المعنية بنحو يدعو إلى تحقيقها بعينها ، والتخييري يتعلق بإحدى الماهيتين أو الأكثر بخصوصيتها بنحو يدعو إلى تحقيق إحداها بدلا من دون أن يتعلق بقدر مشترك بينها يدعو إلى تحقيقه بعينه ، كما لا يصح نسبته لواحد منها إلا بضم الآخر إليه بنحو التخيير ، بخلاف التعييني.

ودعوى : أنه يكفي في وحدة متعلقه تعلقه بعنوان أحد الأمرين ، حيث يدعو له بعينه ، ويقتضي تحقيقه بفعل أحد فرديه.

مدفوعة : بأن عنوان أحد الأمرين منتزع من كل منهما بخصوصيته ، ويحكي عنهما كذلك ، من دون أن يحكي عن جهة مشتركة بينهما حقيقية ـ كالعلم ـ أو اعتبارية ـ كالزوجية ـ أو انتزاعية ـ كالفوقية ـ ولذا يطابق مفاد العطف ب (أو) الذي هو معنى حرفي قائم بالأطراف ذات الغرض والأثر ، من دون أن يكون بنفسه موضوعا لهما ، ومع عدم وجود منشأ لانتزاع العنوان زائد على الخصوصيتين يكون منشأ للغرض والأثر لا مجال لكون العنوان متعلقا للتكليف ، بل لا بد من كون متعلقه الخصوصيتين بأنفسهما بنحو يقتضي التخيير

١٩٢

بينهما ، كما ذكرنا. وعلى هذا يكون متعلق التكليف التخييري مصداق أحد الأمرين أو الأكثر ، لا مفهومه المشترك بينها.

ودعوى : امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين تخييرا ، لأنه ناشئ عن الإرادة التشريعية ، وهي لا تتعلق إلا بالمعين ، قياسا على الإرادة التكوينية.

مدفوعة ـ مضافا إلى ما تقدم من اختلاف الإرادة التشريعية عن التكوينية سنخا ـ بأنه لا مانع من تعلق الإرادة التكوينية بالمردد تخييرا في مرتبة تعلق الغرض ، تبعا لوفاء كل طرف من أطراف التخيير به. بل حتى في مرتبة السعي نحو المراد ، إذا كان هناك مقدمات مشتركة بين الأطراف ، حيث يمكن الإتيان بها بداعي التوصل لأحد الأطراف على ما هو عليه من الترديد. نعم قد يمتنع تعلقها به في مرتبة تحقيق المراد ، لامتناع وجود المردد تخييرا في الخارج ، بل لا بد حينئذ من الترجيح بين الأطراف واختيار بعضها معنيا لو توقف عليه تحقيق المراد.

لكن ذلك ليس تابعا للإرادة الناشئة عن الغرض الأصلي ، بل لإرادة أخرى ناشئة عن امتناع تحقيق الغرض المذكور بالمردد ، لامتناع وجوده في الخارج المستلزم للترجيح بمرجحات خارجية زائدة عن ذلك الغرض. والفرق بينهما هو الفرق بين الإرادة المتعلقة بالماهية تبعا لتعلق الغرض بها ، والإرادة المتعلقة بالخصوصية في مقام تحقيق الغرض وفعل المراد.

ولذا لو لم يتوقف تحقيق المراد على الترجيح لم تتحقق إرادة المعين ، بأن كان هناك سبب توليدي صالح لتحقيق كل من الطرفين ، كما لو أراد قتل أحد شخصين فرمى سهما صالحا لأن يصيب كلا منهما. ومن الظاهر أن الإرادة التشريعية إنما يصح قياسها على الإرادة التكوينية في مرتبة تعلق الغرض ، لا في مرتبة تحقيق المراد ، بل الذي هو نظير الإرادة التكوينية في مرتبة تحقيق المراد

١٩٣

هو إرادة المكلف في مقام الامتثال. كما يظهر بأدنى تأمل. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا بعد مطابقته للمرتكزات ، وظاهر الأدلة.

بقي في المقام أمور

الأول : مقتضى إطلاق الأمر بالشيء البناء على كونه تعيينيا ، لما أشرنا إليه من أن تعلق الأمر التخييري بمتعلقه يقتضي عدم نسبته للطرف الواحد ، بل لتمام الأطراف بنحو التخيير ، فالاقتصار على نسبته للواحد ظاهر في كونه مأمورا به تعيينا ، وفي عدم الاجتزاء عنه بفعل غيره.

نعم ، يصح الأمر بأحد أطراف التخيير لو تعين غيره بالعرض بسبب تعذر غيره ، كما يصح الاقتصار في نسبة الوجوب إليه. إلا أن الخطاب حينئذ يكون بنحو القضية الخارجية الواردة لبيان الحكم الشخصي ، لا بنحو القضية الحقيقة لبيان الحكم الكلي بحسب أصل الجعل ، التي هي مقتضى الظهور النوعي في القضايا الشرعية.

هذا ولو لم يكن لدليل الوجوب إطلاق ووصلت النوبة للأصل فالكلام في أن مقتضى الأصل التعيين أو التخيير موكول لمسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لمناسبته لهما ، ولا مجال مع ذلك لإطالة الكلام فيه هنا.

الثاني : قد وقع الكلام بينهم في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر. ولا ينبغي التأمل في إمكانه لو كان الإتيان بالزيادة التي بها يمتاز الأكثر قبل تمامية الأقل ، إما في أثنائه ـ كالتخيير بين القصر والتمام ـ أو مقارنا له ـ كالتخيير بين قراءة القرآن وحدها وقراءته مع النظر في المصحف ـ حيث لا مانع من استناد الامتثال للأقل في ظرف انفراده ، لاستقلاله حينئذ في تحقيق الغرض ، وللمجموع في ظرف وجوده ، لدخله بتمامه في الغرض وعدم وفاء الأقل حينئذ به.

١٩٤

بل الظاهر إمكانه أيضا مع الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل الصالح لأن يستقل بالغرض ، كالتخيير بين صوم يوم واحد وصوم يومين.

ودعوى : أنه بعد صلوح الأقل لأن يستقل بالغرض لا مجال لدخل الزيادة فيه ، ليكون الأكثر طرفا للتخيير. مدفوعة بأن الملاك الداعي للتكليف بالعمل لا يلزم أن يكون أثرا تسبيبيا مترتبا عليه بالمباشرة ، كانكسار الإناء الداعي للأمر برمي الحجر عليه ، بل قد يكون أمرا مترتبا عليه بوسائط بعد مدة من الزمن ـ كالشفاء المترتب على استعمال الدواء ـ وحينئذ يمكن استقلال الأقل بترتبه مشروطا بعدم انضمام الزيادة إليه وإلحاقها به ، أما مع انضمامها إليه فيستند الأثر للمجموع ولا يستقل به الأقل. ولا وجه مع ذلك للتكليف بالأقل تعيينا بحيث لا دخل للزيادة ـ إن حصلت ـ في الامتثال ، بل يتعين التخيير بين الأقل والأكثر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم كون ذلك تخييرا بين الأقل والأكثر ، بل هو في الحقيقة تخيير بين المتباينين ، لأن الأقل حينئذ مقيد بعدم كونه في ضمن الأكثر ، فيباين الأكثر. ففيه : أن مرادهم بالتخيير بين الأقل والأكثر هو ذلك بلحاظ زيادة الأجزاء الخارجية ، وإلا فلو أخذ الأقل لا بشرط ـ بمعنى أن الغرض يترتب عليه وحده سواء انضمت الزيادة له أم لا ـ كان التخيير بينه وبين الأكثر من التخيير بين المطلق والمقيد الذي لا إشكال في امتناعه ، لتحقق المطلق في ضمن المقيد ، فمع وفائه بالغرض وتحقق الامتثال به يكون دخل المقيد في الغرض والامتثال خلفا.

نعم ، لما كان التخيير بين الأقل والأكثر على خلاف المتعارف كان الحمل عليه محتاجا إلى عناية ، وكان الأظهر عرفا حمل التخيير بين الأقل والأكثر على أفضلية الزيادة ، من دون أن تكون دخيلة في امتثال الواجب.

وأظهر من ذلك ما لو لم يكن البيان بلسان التخيير ، بل كان الأمر بكل من

١٩٥

الطرفين بلسان ظاهر في التعيين واستفيد عدم وجوب الزيادة من الخارج.

الثالث : إذا علم بوجوب شيء تعيينا وعلم بوجود المسقط له ـ كالانفاق على الزوجة الذي يسقط بطلاقها ـ فهل يجب عقلا مع تعذر الواجب فعل المسقط المذكور ، كما يجب شرعا فعل أحد أطراف الواجب التخييري عند تعذر الباقي أو لا؟.

قد يدعى الأول بتقريب : أن رفع موضوع الملاك بفعل المسقط أولى عقلا من فوته بالتعذر مع فعليته وتحقق موضوعه.

وفيه : أن فوت امتثال التكليف بالتعذر حيث لم يكن باختيار المكلف فلا موضوع معه للأولوية المذكورة ، لسقوط التكليف المانع من تحقق المخالفة. ولا منشأ لوجوب الفرار بفعل المسقط عن فوت الملاك بعد عدم وجوب تحصيله على المكلف لتعذره.

نعم ، لو لم يسقط التكليف رأسا ، لعدم تعذره ، وإنما المتعذر موافقته القطعية ، للدوران بين المحذورين ونحوه ، لم يبعد وجوب فعل المسقط عقلا فرارا من المخالفة الاحتمالية ، كما في موارد الاحتياط الوجوبي في النكاح وموارد العلم الإجمالي بزوجية إحدى امرأتين ، حيث لا يبعد وجوب الطلاق فرارا عن المخالفة الاحتمالية ، بالإضافة إلى الأحكام الإلزامية للزوجية التي يتعذر فيها الاحتياط ، كوجوب الوطء في كل أربعة أشهر ـ كما أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدس‌سره في المسألة الثانية عشرة من فصل العقد وأحكامه من كتاب النكاح من مستمسكه ـ لأن المخالفة الاحتمالية اختيارية للمكلف ، ومن القريب جدا عدم ترخيص العقل فيها مع إمكان تجنبها بفعل المسقط.

وأظهر من ذلك ما لو كان التعذر مستندا لاختيار المكلف ، كما لو عجز الجنب نفسه عن الغسل ليلا في شهر رمضان واستطاع السفر قبل الفجر ، حيث

١٩٦

لا ينبغي الريب في وجوبه عقلا ، دفعا لضرر العقاب.

الرابع : من الظاهر أنه كما يمكن كون الملاك الموجب للأمر بنحو يقتضي الاكتفاء بأحد الأمرين أو الأمور ، فيكون الأمر تخييريا ، كذلك يمكن كون الملاك الموجب للنهي مقتضيا للاكتفاء بترك أحد الأمرين أو الأمور.

لكنه لا يوجب النهي التخييري ، لعدم مناسبة التخيير للنهي عرفا ، بل إما أن يوجب النهي عن الجمع بين الأمرين كتزويج الأختين ، أو الترخيص التخييري ، كالتخيير بين القصاص وأخذ الدية.

المبحث الخامس

في تقسيم المأمور به إلى عيني وكفائي

وهو لا يختص بالوجوب ، وإن اختصت به بعض كلماتهم ، ولا يجري في النهي ، بل يجري نظيره ، نظير ما تقدم في التقسيم السابق.

والمراد بالعيني ما يطلب فعله من جميع المكلفين الواجدين لموضوع التكليف ، بحيث يمكن من كل منهم امتثاله ومعصيته ، كالصلاة والصوم.

وبالكفائي ما يكتفى فيه بفعل البعض ، لكن لو تركه الكل عوقبوا كلهم عليه ، كالصلاة على الميت.

وقد اختلفوا في حقيقة الوجوب الكفائي على أقوال ..

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره من أنه سنخ خاص من الوجوب يعرف بآثاره ، نظير ما سبق منه في الوجوب التخييري.

ويشكل بعدم وضوح الفرق بين العيني والكفائي سنخا ، نظير ما سبق هناك.

١٩٧

الثاني : أنه عبارة عن وجوبات عينية بعدد أفراد المكلفين يكون بقاء كل منها في حق كل شخص مشروطا بعدم امتثال غيره لتكليفه.

ويشكل : بأن الذي يكلف به كل مكلف إن كان هو الماهية على إطلاقها في مقابل العدم المحض والتي يكفي في تحققها فعل أحدهم فلا مجال لإرجاعه للتكاليف العينية في حق جميع المكلفين ، لوضوح ابتناء التكاليف العينية في حق كل منهم إلى تكليفه بفعله المباين لفعل غيره والمقابل لعدم فعله هو ، لا للعدم المحض. كما لا يحتاج معه سقوط تكاليف الباقين بفعل الواحد إلى تقييدها بعدمه ، لعدم بقاء موضوعها معه.

وإن كان هو خصوص الماهية الصادرة منه في مقابل عدم فعله هو لها ، بحيث يكون كل منهم مكلفا بفرد من الماهية غير ما يكلف به الآخر ـ نظير التكاليف العينية ـ فمن الظاهر عدم تعلق الغرض الفعلي في مرتبة سابقة على التكليف بفعل الكل ، ليستتبع تكليف كل أحد بفعله ، بل لا غرض من أول الأمر إلا بفعل واحد ، إما لامتناع تعدد الفعل ـ كتطهير المسجد وحفظ المال ـ أو لعدم تعلق الغرض إلا بفعل واحد ، أو لتعذر استيفاء الغرض من فعل الكل المستلزم للاكتفاء بأحدها بدلا.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الوجوب الكفائي لما كان ناشئا عن غرض واحد تعين كونه وجوبا واحدا متعلقا بطبيعة المكلف بنحو صرف الوجود ، فبامتثال أحد المكلفين يتحقق الفعل من صرف الوجود ، فيسقط الأمر تبعا لتحقق الغرض ، ولا يبقى مجال لامتثال الباقين. كما أنه بامتثالهم دفعة يثابون جميعا ، لانطباق صرف الوجود عليهم جميعا.

وفيه : أنه لا يتعقل تكليف صرف الوجود ، لأن التكليف إضافة خارجية لا تتعلق لا بالمكلف والمكلّف الخارجيين المعينين. وإنما أمكن تعلقه

١٩٨

بالمكلّف به على إطلاقه بنحو ينطبق على الكثير والقليل ، ويكتفى فيه بصرف الوجود ، لأنه لا يتعلق به في ظرف وجوده ، بل وجوده ظرف سقوط التكليف بالامتثال ، لا ظرف ثبوته ، وإنما يتعلق به في ظرف عدمه بنحو يقتضي وجوده ، فلا يلحظ إلا بعنوانه الكلي الصالح للانطباق على الكثير والقليل.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وجوب واحد يتعلق بأحد المكلفين على تردده ، نظير تعلق الوجوب التخييري بأطرافه.

إذ فيه : أن مرجع الترديد في الوجوب التخييري إلى التخيير ، وهو إنما يتعقل في المكلف به دون المكلف ، لنحو ما تقدم. على أن استحقاق العقاب والثواب فرع التكليف ، فإذا كان المكلف هو الواحد المردد لزم كون العقاب والثواب واحدا ثابتا لأحدهم كذلك حتى مع عصيانهم أو إطاعتهم جميعا ، نظير ترك تمام الأطراف أو فعله في الواجب التخييري ، وهو كما ترى لا معنى له.

هذا ، مضافا إلى الإشكال في جميع الوجوه المتقدمة بأن لازمها أنه لو عجز المكلف عن امتثال التكليف الكفائي بفعله لم يجب عليه السعي لامتثال غيره له ، لسقوط التكليف عنه بالعجز ، وعدم وجوب السعي لامتثال الآخرين لتكاليفهم إلا من باب وجوب الإعلام بالحكم الشرعي أو الأمر بالمعروف اللذين قد لا يتم موضوعهما في المقام.

مع أنه لا إشكال ظاهرا في أن تعذر امتثال الواجب الكفائي من بعض المكلفين لا يسقطه عنه رأسا مع إمكان سعيه له بفعل غيره بأي وجه كان ، إلا بدليل مخرج عن ذلك. كما لا إشكال ظاهرا في وجوب التعاون بين المكلفين على امتثال الواجب الكفائي مع تعذر استقلال كل منهم فيه ، مع أن مقتضى الوجوه المتقدمة عدم وجوبه.

نعم ، قد لا يرد ذلك على ما تقدم من بعض الأعاظم لو أمكن في نفسه.

١٩٩

ومن هنا كان الظاهر أن التكليف الكفائي تكليف كل فرد من المكلفين بالماهية ، لا بنحو يقتضي تكليفه بفرد منها غير ما يكلف به غيره ، بل بنحو يقتضي وجودها في مقابل عدمها المطلق ، لوفاء ذلك بالغرض الداعي للتكليف.

فالفرق بينه وبين التكليف العيني في المكلف به لا غير ، فهو في العيني فرد من الماهية يخص كل مكلف ـ سواء اعتبرت فيه مباشرته فيه أم اكتفي بقيام غيره مقامه ـ وفي الكفائي الوجود المطلق للماهية الحاصل بفعل أحدهم أو بمشاركة أكثر من واحد منهم ، في مقابل العدم المطلق.

ودعوى : امتناع تعدد التكليف مع وحدة المكلف به.

ممنوعة ؛ لأن التكليف إضافة قائمة بالمكلّف والمكلّف والمكلف به يكفي في تعددها تعدد بعض أطرافها ولو مع اتحاد بعضها الآخر ، كما هو الحال في سائر الإضافات.

ومثلها دعوى : امتناع تكليف الإنسان بالقدر الجامع بين فعله وفعل غيره ، لعجزه عن فعل غيره ، بل لا بد من تقييد المأمور به بخصوص الفعل المقدور له.

لاندفاعها بأنه لا يعتبر في القدرة على الماهية المكلف بها القدرة على تمام أفرادها ، بل يكفي في القدرة عليها القدرة على بعض أفرادها.

على أن فعل الغير قد يكون مقدورا للمكلف ، وذلك إذا كان قادرا على إحداث الداعي للغير مع قدرته على الفعل ، أو على إقداره عليه مع تحقق الداعي له ، أو عليهما معا مع عدمهما. ولذا قد يكلف عينا بالفعل من دون اعتبار المباشرة ، أو بما لا يقدر على فعله بالمباشرة إذا كان قادرا على الاستنابة فيه.

وبهذا يتجه لزوم سعي المكلف لحصول الواجب الكفائي مع عجزه عن

٢٠٠