الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

بل لا بد من الجري عليه ـ بترك تمام أفراد الطبيعة ـ في تمام أزمنة وجوده.

وقد ذكروا في منشأ الفرق المذكور وجوها كثيرة لا يخلو بعضها عن الإشكال في نفسه ، وبعضها وإن كان تاما في نفسه إلا أنه ليس منشأ للفرق ارتكازا ، ولا بد في القرينة من أن تلحظ ـ ولو ارتكازا ـ في مقام الإفادة والاستفادة. ومن هنا لا مجال لإطالة الكلام فيما ذكروه.

الأولى أن يقال : الطبيعة التي يتعلق بها الأمر والنهي لما لم تكن مقيدة بنحو خاص من الوجود تعين حملها على الماهية الخارجية ـ بما لها من حدود مفهومية صالحة للانطباق على أفرادها ـ لا خصوص المقيدة بالسريان أو البدلية ، لأن السريان ـ المتقوم باجتماع الأفراد ـ والبدلية ـ المتقومة بالاكتفاء ببعضها ـ قيدان زائدان على الماهية خارجان عن مفهومها ، لا قرينة على كل منهما ، ولا مرجح لأحدهما ، بل مقتضى الإطلاق عدم أخذهما في متعلق الأمر ولا النهي ، والاكتفاء بالماهية الخارجية بما لها من وجود صالح للانطباق على الفرد والأفراد بنحو واحد.

نعم ، حيث كان مقتضى الأمر إيجاد متعلقه ، ومقتضى النهي تركه ، فسعة انطباق الماهية الخارجية مستلزمة للاكتفاء في امتثال الأمر بصرف الوجود الحاصل بالفرد والأفراد وعدم الاكتفاء في امتثال النهي إلا بترك جميع الأفراد لأن إيجاد أي فرد منها لا يجتمع مع ترك الماهية المذكورة ، بل هو إيجاد لها.

فالفرق بين الأمر والنهي في البدلية ـ في الجملة ـ والسريان ليس لاختلاف متعلقهما ، كي يطالب بوجه الفرق بينهما ، بل قد لا يناسب ما سبق في أول هذا المقصد من وحدة متعلقهما ، بل لاختلاف مقتضاهما. ولذا كان التحقيق امتثال الأمر بصرف الوجود الصادق على القليل والكثير ، ولا يكون ما زاد على الفرد الواحد خارجا عن الامتثال ، كما هو لازم كون متعلق الأمر هو

١٦١

الماهية البدلية.

لكن هذا الوجه ـ كأكثر الوجوه المذكورة في كلماتهم ـ إنما ينهض ببيان الفرق بين الأمر والنهي من الجهة الأولى ، دون الثانية ، لوضوح أن توقف ترك الماهية على ترك تمام أفرادها الطولية والعرضية لا ينافي الاكتفاء بتحقق الترك المذكور في بعض أزمنة النهي ، كما هو الحال في الأمر ، ويحتاج إثبات لزوم استمرار الترك المذكور في تمام الأزمنة إلى وجه آخر.

ولعل الوجه في الفرق بينهما ما يستفاد من سيدنا الأعظم قدس‌سره وتوضيحه : أن مقتضى الأمر والنهي ليس هو الفعل والترك بمعناهما الاسمي ، كي يكون مقتضى إطلاق النهي الاكتفاء بتحقق الترك ـ لتمام الأفراد ـ ولو في بعض الأزمنة ، كما يكفي نظيره في الأمر ، لما هو الظاهر من عدم أخذ الفعل والترك بمعناهما الاسمي في متعلق الأمر والنهي ، بل ليس متعلقهما إلا الماهية مع اختلاف نحو النسبة إليها فيهما بالنحو المقتضي ارتكازا للفعل والترك بمعناهما الحرفي المطابق للنسبة في القضية الحملية الموجبة والسالبة. ولذا صح قيام الجملة الخبرية الحملية الموجبة والسالبة مقام الجملة المفيدة للأمر والنهي ، ولم يكن الفرق ارتكازا بين إرادة النفي والنهي إلا في سوق الأولى في مقام الحكاية ، والثانية في مقام الزجر ، مع التطابق بينهما في سعة المفاد.

وحينئذ يتجه الفرق المذكور بين الأمر والنهي ، لما هو المعلوم من أنه يكفي في صدق القضية الموجبة تحقق النسبة ولو في بعض الأزمنة ، ولا يكفي في صدق القضية السالبة إلا استمرار السلب في تمام الأزمنة ، ولذا كان التناقض ارتكازيا بين قولنا : ضرب زيد ، ولم يضرب. وكذا بين قولنا : يضرب زيد ، ولا يضرب ، بخلاف قولنا : فعل الضرب وتركه ، وكذا قولنا : يفعل الضرب ويتركه ، لأن الترك في الأخيرين مأخوذ بمعناه الاسمي الذي هو مفاد القضية المعدولة المحمول ، والذي يكفي فيه الترك في بعض الأزمنة.

١٦٢

ولعل ذلك هو الوجه في تبادر إرادة استمرار الترك من عنوان التحريم ومن مادة النهي ونحوهما مما يقتضي ترك الفعل ، لظهور أن المراد بهما ما يراد بأداة النهي. بل لعله هو الوجه في انسباق ذلك من الأمر بالترك ، مع أن الجمود على مدلوله الحقيقي لا يقتضيه ، كما سبق ، فإن المستفاد منه تحريم الفعل لا وجوب تركه.

إذا عرفت هذا فينبغي الكلام فيما يتعلق بذلك ويترتب عليه مما صار موردا للبحث في كلامهم ويتعلق بالأوامر والنواهي ، واستيفاؤه يكون في ضمن مسائل ..

المسألة الأولى : في المرة والتكرار

فقد وقع الكلام بينهم في أن الأمر هل يقتضي المرة أو التكرار أو لا يقتضي شيئا منهما؟. والظاهر ـ تبعا لظاهر كلماتهم ومساق حججهم ـ أن البحث فيها راجع إلى مقام الجعل وتشخيص المطلوب ، فيتفرع عليه مقام الامتثال ، لا إلى مقام الامتثال بعد الفراغ عن عدم اقتضاء الجعل لأحدهما ليكون من مباحث مسألة الإجزاء.

هذا وفي الفصول أن الأكثر حرروا النزاع في هيئة الأمر ، بل نص جماعة على اختصاصها بها. ولذا عدها من مباحث هيئة الأمر. لكن مساق حججهم لا يناسب الاختصاص بها ، ولذلك ألحقناها بهذا الفصل.

إذا عرفت هذا فالمرة والتكرار .. تارة : يجعلان من شئون المكلف به المستفاد من المادة ونحوها.

وأخرى : يجعلان من شئون التكليف المستفاد من هيئة الأمر ونحوها.

أما على الأول ـ الذي هو ظاهرهم ـ فالحق ـ المصرح به في كلام جماعة ـ عدم اقتضاء التكليف بنفسه المرة ولا التكرار. إذ ما دل على التكليف ـ كالهيئة

١٦٣

ونحوها ـ لا يتعرض للمكلف به ، وما دل على المكلف به ـ كالمادة ونحوها ـ إنما يدل بإطلاقه على الماهية من حيث هي ، والمرة والتكرار خارجان عنها ، فينهض الإطلاق بنفي اعتبار التكرار ، كما ينهض بنفي اعتبار المرة لو أريد بها مانعية التكرار. وكذا لو أريد بها خروج ما زاد عن المرة عن المكلف به وإن لم يكن مانعا منه ، لاحتياج إرادتها بهذا المعنى للتقييد ، لأنها أمر زائد على الماهية بما لها من حدود مفهومية.

نعم ، لو لم يكن للمكلف به إطلاق لفظي تعين الرجوع للأصل.

ومقتضاه عدم وجوب التكرار ، وعدم مانعيته ، من دون أن يتعرض لخروج ما زاد على المرة عن المكلف به أو دخوله فيه في ظرف وجوده ، لعدم اقتضاء كل منهما زيادة كلفة في مقام العمل.

وأما على الثاني فلا إشكال في المرة بمعنى وحدة التكليف المجعول بعد ما سبق من كون المكلف به هو الماهية من حيث هي ، لاستحالة اجتماع المثلين. ولا بد في تعدده من تعدد متعلقه ، وذلك بقيام القرينة على أن المكلف به ليس هو الطبيعة من حيث هي ، بل كل فرد منها بنحو الاستغراق ، حيث يتعين حينئذ تعدد التكليف تبعا لتعدد الأفراد ، كما يتعين وحدته لو كان متعلقا بالأفراد بنحو المجموعية.

وكذا يتعين تعدده لو ابتنى التكليف على الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة ، كما في القضايا الحقيقية ، مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(١) ، حيث كان ظاهره تعدد الموضوع بتعدد أفراد الدلوك ، فيتجدد التكليف بتجدده في كل يوم.

ولعل ذلك هو منشأ القول بالتكرار ، لا بتناء الخطاب بالأحكام الشرعية

__________________

(١) سورة الإسراء الآية : ٧٨.

١٦٤

على القضايا الحقيقية ، مع الغفلة عن أن منشأ ذلك ليس هو إفادة الأمر التكرار ، بل ظهور الخطاب في القضية الحقيقية المنحلة إلى قضايا متعددة تبعا لتعدد الموضوع. وإلا فمن البعيد جدا البناء على لزوم التكرار من دون أن يتجدد موضوع التكليف ، مع وضوح خروجه عن طريقة العقلاء في مقام الامتثال ، بنحو يلحق بالبديهيات.

هذا ، وقد أطالوا في حجج القولين بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.

نعم ، قد يستدل على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر ..

تارة : بما في مجمع البيان (١) ، وعن عوالي اللآلي مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وأخرى : باستصحاب وجوب الطبيعة بعد الإتيان بها مرة.

ويندفع الأول : بأن الحديث محمول على الاستحباب ، كما ذكرناه عند الكلام في الاستدلال به على قاعدة الميسور في التنبيه الثالث من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأما الثاني فهو ـ مع أنه لا يقتضي لزوم التكرار ، إذ هو لا يمنع من الاكتفاء بالمرة في آخر الوقت ـ مندفع : بأن فرض تعلق الوجوب بالطبيعة على إطلاقها مستلزم لفرض العلم بسقوطه بالمرة ، كما يأتي ، ومعه لا مجال للاستصحاب. واحتمال بقاء الوجوب إنما يكون لاحتمال تعلقه بالطبيعة بقيد التكرار الذي هو مخالف للإطلاق والأصل.

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الثاني ص : ٢٥٠.

١٦٥

تنبيهان

الأول : بناء على ما ذكرنا من تعلق الأمر بالماهية من حيث هي من دون تقييد بمرة أو تكرار ـ سواء أحرز ذلك بالإطلاق أم بالأصل ـ فلا إشكال في تحقق الامتثال بالإتيان بفرد واحد ، لصدق الماهية به. وكذا بالاتيان بأفراد متعددة إذا كان دفعة واحدة ، بحيث يفرغ منها في زمان واحد ، لصدق الماهية عليها بعين صدقها على الفرد الواحد.

وأما الفرد أو الأفراد التي يتأخر الفراغ منها عن الفراغ من الفرد أو الأفراد الأولى ، فالماهية المذكورة وإن كانت تصدق عليها ، لأنها تصدق على الأفراد المتعاقبة كما تصدق على الأفراد المتقارنة ، إلا أنه لا مجال لدخلها في الامتثال بعد تحقق الامتثال وسقوط الأمر بالفرد أو الأفراد الأولى ، لأن سقوط الأمر وخروج المكلف عن عهدته أمر غير قابل للتعدد ولا للتأكد ثبوتا ، فمع استناده للسبب السابق يلغو السبب اللاحق كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العلل على المعلول الواحد.

وأما التخيير بين الأقل والأكثر فهو وإن أمكن حتى في التدريجيات ، إلا أنه لا يناسب الإطلاق بل يتوقف على تقييد المأمور به في مقام الجعل بنحو يمنع من انطباقه على الفرد الواحد في ظرف وجود غيره ولو بعده ، على ما يأتي في محله ، وهو خلاف المفروض في المقام من تمامية الإطلاق.

وبذلك يكون المتحصل : أن الحق هو المرة بمعنى الفرد بلحاظ نفس التكليف ، وأما بلحاظ المكلف به فلا مجال للبناء على المرة ولا التكرار في مقام الجعل ، وإنما يتعين البناء على المرة بمعنى الدفعة ـ مع وحدة الفرد أو تعدده ـ في مقام الامتثال بحكم العقل ، مع كون المعيار فيها مع تعدد الأفراد هو التقارن في الفراغ ولو مع الترتب في الشروع.

١٦٦

التنبيه الثاني : مبنى الأصحاب في جملة من الموارد على حمل الأوامر الندبية على السريان والاستغراق ، فيسري الحكم إلى جميع الأفراد الطولية والعرضية ، بنحو يقتضي التكرار في مقام الجعل ، ولا تسقط بصرف الوجود ، كما في الأمر بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والبر والإحسان وغيرها ، مع أن ما سبق في الأوامر الوجوبية جار فيها. وقد حاول بعضهم توجيه الفرق بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

والتحقيق : أن ما سبق من الوجه كما يجري في الأوامر الوجوبية يجري في الأوامر الندبية ، والخروج عنه في الأوامر الندبية المتقدمة ونحوها إنما هو للمناسبات الارتكازية والقرائن الحالية والمقالية القاضية برجحان الماهيات المأمور بها بنحو السريان والاستغراق ، لا بنحو البدلية. ولذا لا مجال للحمل على الاستغراق في الأوامر بالماهيات المذكورة في خصوص مورد ، كاستحباب قراءة القرآن بعد الصلاة واستحباب الصدقة عند الخروج من المنزل أو عند السفر ونحو ذلك ، حيث يتعين البناء على وفاء الدفعة الأولى بالخصوصية ، وعدم استحباب ما بعدها من حيثية تلك الخصوصية ، وإن كان مستحبا بلحاظ مطلوبية أصل الماهية بنحو السريان والاستغراق.

المسألة الثانية : في الفور والتراخي

وقع الكلام في أن الأمر هل يقتضي الفور ـ بمعنى المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب ، أو في أول أزمنة الإمكان ـ كما عن الشيخ وجماعة ، أو يقتضي التراخي بمعنى جواز التأخير. وأما بمعنى لزومه فلم أعثر عاجلا على قائل به ، وإنما يظهر من الفصول وجود متوقف فيه يرى أن التأخير هو المتيقن من الامتثال.

والذي يظهر من ملاحظة كلماتهم وحججهم أن النزاع لا يختص

١٦٧

باستفادة أحدهما من الهيئة ـ وإن صرح باختصاصه بها في الفصول ، وقد يظهر من تحرير بعضهم للنزاع فيها ـ بل يعم استفادته من دليل خارجي شرعي أو عقلي يقتضي أحدهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده ، بل قد يدعى عمومه للزوم الفور عقلا في مقام الامتثال ، وإن لم يؤخذ في مقام الجعل ، على ما يأتي الكلام فيه في آخر المسألة.

إذا عرفت هذا ، فالحق ما ذكره جماعة من عدم لزوم الفور ولا التراخي شرعا في مقام الجعل. لخروجهما عن مفاد المادة والهيئة ، لما سبق من عدم دلالة المادة إلا على الماهية من حيث هي ، فهي تصدق على جميع الأفراد الطولية بنحو واحد ، ولتمحض الهيئة في الدلالة على البعث نحو المادة على ما هي عليه من السعة ، فلا مرجح لبعض أفرادها. وكذا الحال في غير الهيئة مما يدل على التكليف. ولذا لا اشكال ظاهرا في عدم اقتضاء الأمر بنفسه البدار أو التراخي لو كان الواجب موقتا بوقت واسع ، مع وضوح إمكان كل منهما بالإضافة للطبيعة المقيدة بالوقت المذكور.

ودعوى : أن البعث الاعتباري يستتبع الانبعاث حين تحققه ، للتلازم بينهما ، كالتلازم بين البعث والانبعاث الخارجيين حقيقة.

ممنوعة ؛ لأن البعث والانبعاث الخارجيين متلازمان تلازم المتضايفين فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر عقلا.

أما البعث الاعتباري بالخطاب بالتكليف فهو غير ملازم للانبعاث ـ بمعنى فعلية الطاعة ـ لا عقلا ولا عرفا ، وإنما يقتضي إحداث الموضوع للطاعة بالنحو الصالح للداعوية للعمل. أما نحو العمل المدعو إليه فهو تابع سعة وضيقا للمأمور به ، فمع اقتضاء إطلاقه إرادة الطبيعة على سعتها لا وجه لكون البعث سببا لإحداث الداعي نحو خصوص بعض افراده.

١٦٨

ثم إنه قد يستدل لوجوب الفور بقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(١) ، وقوله سبحانه : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(٢) ، وقوله تعالى :

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٣) ، بدعوى : أنه ليس المراد من المغفرة والجنة إلا سببهما ، ومنه فعل الواجبات التي هي من الخيرات أيضا.

وفيه : أولا : أن سببية فعل الواجبات للمغفرة والجنة وكونه من الخيرات ـ بناء على أن المراد بها الأخروية ، كما هو الظاهر ، وعليه يبتني الاستدلال ـ في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر ، فلا يصلح الأمر بالمسارعة والاستباق إليها لتقييد موضوع الأمر شرعا ، بنحو يكون عدم المسارعة وعدم الاستباق مخرجين لها عن كونها سببا للمغفرة والجنة ومن الخيرات ، لخروجها عن المأمور به.

وثانيا : أنه لو حملت على الإلزام المولوي لزم تخصيص الأكثر بلحاظ الواجبات الموسعة والمستحبات ، وهو آب عن التخصيص. ودعوى : أن خروجها تخصص لا تخصيص ، لاستحالة وجوب ما يجوز تركه ، فلا يهم كثرته. ممنوعة ، لأن استحالة شمول الحكم لبعض أفراد العام لا يقتضي خروجه تخصصا ، بل هو تخصيص عقلي قد يستبشع إذا كثر ، أو كان العام آبيا عن التخصيص ، فيكون قرينة على إرادة ما لا يلزم منه ذلك.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لحملها على وجوب الفور بنحو تعدد المطلوب من دون أن يرجع إلى تقييد المأمور به ، وإن لم ينهض بمنعه الوجه الأول. بل يتعين حملها على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن البدار للطاعات مطلقا وإن لم تكن واجبات.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية : ١٣٣.

(٢) سورة الحديد الآية : ٢١.

(٣) سورة البقرة الآية : ١٤٨.

١٦٩

هذا ، وأما التراخي فقد سبق أنه لم يعرف القول بوجوبه ، بل غاية الأمر وجود متوقف فيه.

وقد يستدل للزومه بأن الواجب غالبا يحتاج إلى مقدمات مستلزمة للتراخي في امتثاله قهرا.

لكنه يندفع : بأن الاضطرار للتأخير غالبا لا يستلزم مطلوبيته ، بنحو يلزم التأخير حتى مع عدم احتياج الواجب لمقدمات تقتضي صرف الوقت أو مع تحققها قبله. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من عدم دلالة الأمر بنفسه على الفور ولا على التراخي ، بل على الطبيعة المطلقة الحاصلة مع كل منهما ، وهو راجع إلى جواز التراخي.

بقي في المقام أمور ..

الأول : أنه قد يستفاد الفور العرفي من شاهد الحال ، كما يكثر في الخطابات الشخصية غير المبنية على التقنين العام ، حيث يغلب صدورها عند الحاجة للأمر المطلوب ، لا لمحض بيان تحقق موضوع التكليف به ، سواء كانت الخطابات تنجيزية ، كما لو قيل : ناولني ماء أو أغلق الباب ، أم تعليقية ، كما لو قيل : إن أظلم الليل فأغلق الباب ، وإن طرقت الباب فافتحها. كما ربما يحتف بالخطاب ما يصرفه لوقت آخر.

وهذا بخلاف القوانين العامة ، كما في موارد القضايا الحقيقية ونحوها ، فإن المراد بها محض بيان تحقق موضوع التكليف ، من دون أن تكون ظاهرة في بيان وقت العمل به ، فلا يخرج فيها عن مقتضى الإطلاق المتقدم إلا بقرينة.

الثاني : لو لم يكن للخطاب إطلاق فلا إشكال في أن مقتضى أصل البراءة عدم وجوب الفور ولا التراخي بنحو تعدد المطلوب ، بل ولا بنحو وحدة المطلوب قيدا في المأمور به ، بناء على المشهور المنصور من أن المرجع مع الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين البراءة.

١٧٠

الثالث : ما تقدم إنما هو بلحاظ مقام جعل التكليف ، وأما في مقام امتثاله والفراغ عنه فقد يدعى وجوب الفور عقلا وإن لم يجب في مقام الجعل شرعا لأن الإطاعة من حقوق المولى ، ويجب أداء الحق في أول أزمنة القدرة على أدائه ، وتحرم المماطلة به ، لأنها نحو من الحبس له المنافي لسلطنة صاحبه عليه.

ويشكل بأن وجوب المبادرة بأداء الحق ليس عقليا ، بل شرعي مستفاد من دليل السلطنة بالتقريب المذكور ، وهو مختص بالاستحقاق المساوق للملكية الشرعية ، كاستحقاق منفعة العين المستأجرة ، ولا يشمل مثل استحقاق المولى للطاعة الذي هو عقلي. بل هو تابع سعة وضيقا بنظر العقل لداعوية التكليف في مقام الجعل ، فمع فرض عدم اقتضائه الفور لا وجه لوجوب المبادرة. ولذا لا ريب ـ كما تقدم ـ في عدم وجوب الفور في الواجبات الموقتة الموسعة ، مع عدم الفرق بينها وبين محل الكلام إلا في استفادة السعة فيها من صريح الكلام ، وفي محل الكلام من الإطلاق أو الأصل ، وهو غير فارق بنظر العقل.

نعم ، لو علم بالعجز عن الامتثال مع عدم المبادرة فلا إشكال في وجوب المبادرة عقلا في الموردين. لكنه بمقتضى وجوب الطاعة لا بمقتضى وجوب المبادرة إليها.

بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ والامتثال لزوم المبادرة مع احتمال تجدد العجز ، لو لا أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء في سائر الموارد ، إلا مع ظهور أمارات العجز مع عدم المبادرة. وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة وفتاوى الأصحاب بلزوم المبادرة لتفريغ الذمة مع ظهور أمارات الموت. لكنه لا يرجع إلى وجوب المبادرة واقعا في مقام الفراغ والامتثال ـ كما هو محل الكلام ـ بل ظاهرا بملاك الاحتياط.

١٧١

المسألة الثالثة : فيما يتعلق بالنهي ، الأمر

حيث سبق أن امتثال النهي إنما يكون بترك تمام أفراد الطبيعة المنهي عنها في تمام أزمنة النهي كان مناسبا للفور والتكرار على خلاف ما سبق في الأمر ، وليس هو موردا للإشكال عندهم ، وإنما وقع الكلام في أمرين ..

الامر الأول : في أنه هل يكتفى في امتثال النهي وموافقته بمحض الترك ولو مع الغفلة عن المنهي عنه أو مع وجود الصارف عنه ، أو لا بد فيه من كف النفس عن الماهية الموقوف على الالتفات إليها ثم الإعراض عنها؟.

وقد يظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى حاق اللفظ هو الاكتفاء بمحض الترك. وكأنه لما ذكرنا آنفا من أن مقتضى النهي عرفا مفاد القضية الحملية السالبة.

ولا وجه لاعتبار الكف زائدا على الترك إلا دعوى : أن الترك لما كان عدميا كان أزليا سابقا على وجود المكلف ، فلا يكون مقدورا له ولا يمكن صرف التكليف له ، بل لا بد من صرفه لما هو المقدور له وهو الكف. لكنها مندفعة بما ذكره غير واحد من أن عدم قدرة المكلف على الترك الأزلي لا ينافي قدرته على الترك ببقائه واستمراره ، وهو كاف في إمكان التكليف به.

نعم ، بناء على أن الأصل في الأمر أن يكون تعبديا فمقتضى بعض الوجوه المذكورة له العموم للنهي ، ومقتضاه عدم الاكتفاء بالترك ، بل لا بد من كونه بداعي امتثال النهي ، وهو أخص من الكف. لكن الوجه المذكور غير تام على ما يأتي في مبحث التعبدي والتوصلي ، إن شاء الله تعالى. مع أنه مختص بتحديد مقتضى الإطلاق ، ولا يجري فيما إذا دل الدليل على كون النهي توصليا ، حيث لا إشكال في كثرة ذلك في النهي.

١٧٢

الأمر الثاني :حيث أنه كان مقتضى النهي ترك الطبيعة بتمام أفرادها العرضية والطولية ، فهل يسقط النهي بالمخالفة في بعض الأفراد أو لا ، بل يلزم ترك بقية الأفراد؟ صرح المحقق الخراساني قدس‌سره بعدم دلالته على أحد الأمرين بنفسه ، قال : «بل لا بد في تعيين ذلك من دلالة ، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ... ، ولم يتعرض لبيان مقتضى الإطلاق الذي ذكره.

والذي ينبغي أن يقال : بعد أن كان النهي متعلقا بالماهية الخارجية بما لها من حدود مفهومية فإن ابتنى على ملاحظة الأفراد بنحو الارتباطية والمجموعية كان النهي واحدا لا يطاع إلا بترك تمام الأفراد ، ومع فعل بعضها يسقط بالمخالفة ، وإن ابتنى على ملاحظتها بنحو الانحلال كان النهي منحلا إلى نواهي متعددة بعدد الأفراد لكل منها طاعته ومعصيته ، وحينئذ فسقوط النهي في كل فرد بمخالفته لا يقتضي سقوطه في بقية الأفراد.

والظاهر أن المفهوم عرفا هو الثاني ، ولذا يعدّ التارك في الآن الأول مطيعا عرفا ، لا أن إطاعته مراعاة باستمراره على الترك ، كما تكون إطاعة من يشرع في امتثال الواجب الارتباطي ـ كالصوم ـ مراعاة بإكماله.

وكأنه لا بتناء الارتباطية على نحو من العناية الموجب لاحتياجها لمزيد بيان ، وبدونه ينهض الإطلاق بدفع احتمالها. من دون فرق في ذلك بين الأفراد الطولية والعرضية. ويترتب على ذلك زيادة المعصية بزيادة الأفراد المأتي بها دفعة ، فمن نظر لامرأتين في زمان واحد كان أكثر معصية ممن ينظر لامرأة واحدة. ويكفي في استيضاح ذلك أدنى تأمل في المرتكزات العرفية. وإن أطال بعضهم في المقام بما لا يسعنا ذكره وتعقيبه.

١٧٣

الفصل السادس

في تقسيمات المأمور به والمنهي عنه

والتقسيمات المذكورة هنا وإن جعلت في كلماتهم تقسيمات للواجب ، إلا أن الظاهر المفروغية عن جريانها في المستحب ، وليس ذكرها للواجب إلا لأهميته. بل جملة منها تجري في المنهي عنه ، وإنما ذكرت في كلماتهم للواجب لتقديم الكلام عندهم في الأوامر فاستغنوا بذكرها فيه عن ذكرها في المنهي عنه. ومن ثم كان الأولى في عنوان هذا الفصل ما ذكرنا. بل قد ينفع الكلام في بعض تلك الأقسام في غير التكليفيات ، كما يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في ضمن مباحث ..

المبحث الأول

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه

إلى مطلق ومشروط

لا إشكال في أنه كما يمكن ثبوتا إطلاق متعلق الأمر والنهي بنحو يشمل تمام أفراد الماهية يمكن تقييده بنحو يقصر عن بعض أفرادها ، وفي أن المرجع في تعيين أحد الأمرين إثباتا ظاهر الدليل ، ومع عدمه فالمرجع الأصل. وليس هو محل الكلام في المقام ، وإن أوهمه كل من ظاهر العنوان المتقدم وظاهر تعبيرهم عن محل الكلام بالواجب المشروط.

كما لا إشكال في إطلاق الخطاب بالأمر والنهي بنحو يكون فعليا صالحا للداعوية من دون حاجة إلى تحقق أمر مفقود ، كما هو الحال في القضايا

١٧٤

الخارجية المطلقة.

وإنما الإشكال في تقييد الخطاب المذكور واشتراطه بنحو لا يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود القيد والشرط من دون أن يؤخذ القيد في المتعلق. فإن أمكن ذلك ثبوتا تعين الرجوع في تعيين إطلاق الخطاب وتقييده إثباتا لظاهر الدليل ، وإن امتنع التقييد والاشتراط تعين رفع اليد عن ظهور الدليل فيه وتنزيله على تقييد المتعلق ـ وهو المأمور به والمنهي عنه ـ مع إطلاق الخطاب بالأمر والنهي. فمحل الكلام في الحقيقة ما إذا كان ظاهر الدليل اشتراط نفس الخطاب بالأمر والنهي وتقييده ، وأنه هل يمكن العمل بالظهور المذكور أو لا بل لا بد من تنزيله على تقييد المتعلق؟. أما إذا كان ظاهر الدليل هو تقييد متعلق الأمر والنهي فهو خارج عن محل الكلام ، حيث لا إشكال في العمل بالظهور المذكور بعد إمكان مؤداه.

ومن هنا كان مورد كلامهم وأمثلتهم الخطاب بالتكليف في القضية الشرطية ، لأن مفاد أداة الشرط بمقتضى القواعد العربية نحو نسبة بين نسبة جملة الشرط ـ التي مطابقها في الخارج وجود الشرط ـ ونسبة جملة الجزاء ـ التي مطابقها في الخارج الحكم الفعلي الصالح للبعث والزجر ـ تقتضي إناطة الثانية بالأولى ، وهي بطبعها تستلزم عدم فعلية الحكم إلا بفعلية الشرط.

وأظهر من ذلك القضية الحملية الحقيقية الراجعة إلى جعل الحكم على ما يعم الأفراد المقدرة للموضوع ، كما في قولنا : يجب على الزوج الإنفاق على زوجته ، لوضوح أن عنوان الموضوع ـ كالزوج في المثال ـ مأخوذ في الحكم ومقوم له ، وليس زائدا عليه كالشرط ، كما أنه ليس كالإنفاق مأخوذا في المتعلق. ورجوعها للقضية الشرطية لبا لا ينافي كونها أظهر منها في دخل العنوان في الحكم.

١٧٥

وكيف كان ، فالمشهور رجوع الشرط في الشرطية للتكليف المستفاد من هيئة الأمر والنهي أخذا منهم بظاهر الأدلة ، بل ظاهر من سبق على شيخنا الأعظم قدس‌سره المفروغية عن ذلك. كما جرى عليه جملة ممن تأخر عنه.

وخالفهم في ذلك شيخنا الأعظم قدس‌سره ، حيث حكي عنه دعوى رجوع الشرط للمكلف به الذي هو مفاد مادة الفعل بنحو يقتضي تقييد الماهية التي هي مورد التكليف مع إطلاق التكليف وفعليته بنحو يصلح للداعوية والبعث حتى قبل وجود الشرط ، مع الاعتراف بأن مقتضى القواعد العربية ما عليه المشهور ، لما سبق توضيحه.

والمستفاد مما حكي عنه في التقريرات أن الملزم لما ذكره وجهان :

الأول : أنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الأمر الذي هو مفاد الهيئة ليقبل التقييد بالشرط ، لما اختاره قدس‌سره من أن المعاني الحرفية جزئية ، بخلاف الواجب الذي هو مفاد المادة ، فإنه مفهوم كلي قابل للإطلاق والتقييد ، فيتعين رجوع الشرط إليه وتقييده له ومثله ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من امتناع تقييد المعنى الحرفي ، لكونه آليا.

لكن سبق في التنبيه الأول من مبحث المعنى الحرفي أن جزئية المعنى الحرفي وآليته لا تمنعان من تقييده بمثل الشرط ، بل يتعين البناء عليه بعد الاعتراف بأنه مقتضى القواعد العربية ، على ما سبق توضيحه.

على أن الوجه المذكور لو تم يختص بما إذا كان التكليف مستفادا من الشرطية ونحوها مما يتضمن النسبة المتضمنة للحكم ، دون ما إذا كان مستفادا من القضية الحملية الحقيقية الراجعة إلى جعل الحكم على ما يعم الأفراد المقدرة للموضوع ، لوضوح أن عنوان الموضوع طرف للنسبة المتضمنة للحكم لا قيد زائد عليها ، لتتجه دعوى امتناع تقييدها مع جزئيتها وآليتها.

١٧٦

ولعله لذا احتمل قدس‌سره عدم فعلية التكليف في مثل ذلك قبل تحقق العنوان المأخوذ في موضوع التكليف. لكنه لا يناسب الوجه الثاني الآتي منه قدس‌سره حيث يكون مقتضاه عدم الفرق في امتناع عدم فعلية التكليف المجعول شرعا بين طرق بيانه.

الثاني : أن اختلاف ما يدل على الطلب إثباتا وظهوره .. تارة : في رجوع الشرط للتكليف.

وأخرى : في رجوعه للمكلف به لا أثر له بعد كون الطلب المنكشف به على نحو واحد ثبوتا ولا يختلف وجدانا.

فإن العاقل إذا توجه إلى شيء فإما أن لا يتعلق به طلبه أصلا ، وإما أن يتعلق به طلبه. لا كلام على الأول. وعلى الثاني فإما أن يكون ذلك الشيء لطلبه على جميع وجوهه وأحواله ، فيكون مطلقا ، وإما أن يتعلق به طلبه على تقدير خاص اختياري للمكلف ـ كالطهارة والصلاة والسفر والقصر ـ أو غير اختياري له ـ كالزمان ـ فإن كان اختياريا .. فتارة : يتعلق الغرض بالتكليف به مطلقا بنحو تكون الخصوصية موردا للتكليف ، فيجب تحصيلها مقدمة له ، فيكون واجبا مطلقا كالأول ، وإن افترق عنه بأخذ الخصوصية فيه.

وأخرى : يتعلق الغرض بالتكليف به بنحو لا يجب تحصيل خصوصيته ، بل يكتفى بحصولها من باب الاتفاق ، فيجب تحصيله على تقدير حصول تلك الخصوصية ، كما في القصر مع السفر ، وهو الواجب المشروط. وكذا الحال لو كانت الخصوصية غير اختيارية ـ كالوقت ـ لاستحالة التكليف بها حينئذ.

فالفرق بين الواجب المشروط والمطلق في فرض اعتبار الخصوصية فيه ليس بكون الخصوصية قيدا للتكليف في الأول والمكلف به في الثاني ، بل في

١٧٧

كونها موردا للتكليف في الثاني دون الأول مع كونها قيدا في المكلف به في كليهما ، سواء كان دليل الطلب ظاهرا في رجوع الخصوصية للتكليف أم للمكلف به ، إذ ليس الموجود وجدانا إلا ما ذكرنا ، وليس هناك صور أخرى يكون الطلب فيها مشروطا ، ليمكن العمل بظاهر الدليل الدال عليه.

ويشكل .. أولا : بأن فرض أخذ الخصوصية المقدورة في المكلف به مع كون التكليف به بنحو لا يقتضي التكليف بها ، بل يكتفى بحصولها من باب الاتفاق ، غير ظاهر ، وإن أقره عليه غيره ، لأنه مع فرض تعلق الغرض بالمقيد وإمكان تحصيله بتحصيل قيده يتعين مطلوبية القيد بتبعه. وعدم تعلق الغرض بتحصيل الخصوصية مع القدرة عليها ملازم لعدم تعلق الغرض بتحصيل المقيد بها الذي يكون حصوله مشروطا بها. ولذا كان لزوم تحصيل مقدمة الواجب عقليا. ولو أمكن أخذ الخصوصية في الواجب بنحو لا يقتضي لزوم تحصيلها كان الوجوب شرعيا محتاجا لدليل خاص.

ودعوى : أن عدم التكليف بالخصوصية إنما هو لعدم كون الخصوصية على إطلاقها دخيلة في المكلف به ، بل الدخيل فيه هو خصوص ما يؤتى به منها لا بداعي التوصل للمكلف به ، فعدم التكليف به غيريا ، لعدم الأثر للتكليف المذكور ، بعد عدم صلوحه للداعوية.

مدفوعة : بأن لازم ذلك هو التكليف غيريا بتحصيل الخصوصية لا بداعي التوصل بها للمكلف به ، لا عدم التكليف بها أصلا. بل لازمه عدم ترتب الأثر على الخصوصية لو جيء بها بداعي تحصيل المكلف به ، ولا يظن منهم البناء على ذلك.

ومن هنا كان الظاهر أن الشروط التي لا يجب تحصيلها مع القدرة عليها شروط للتكليف ، لا للمكلف به ، فلا يصلح التكليف للداعوية إليها ، لعدم

١٧٨

فعليته قبلها ، ولأنه إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه. ولذا كان عدم وجوب تحصيل الشرط تابعا إثباتا لظهور الدليل في كونه قيدا لنفس التكليف ، لأخذه عنوانا لموضوعه أو شرطا فيه في ضمن قضية شرطية أو نحوها ، مع وضوح أنه لو بني على تنزيل ما ظاهره رجوع الشرط للتكليف على رجوعه للمكلف به لم يكن وجه لاستفادة عدم وجوب تحصيل الشرط منه ، ولزم توقف البناء عليه أو على وجوب تحصيله على دليل خاص ، وليس بناؤهم على ذلك.

وثانيا : بأن ما ذكره يبتني على الخلط ثبوتا بين شروط التكليف وشروط المكلف به ، مع وضوح الفرق بين القسمين بالتأمل في المرتكزات والأمثلة العرفية ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره فإن الخصوصية ..

تارة : تكون دخيلة في تعلق الغرض بالماهية ذات الأثر الخاص والفائدة الخاصة وفي تحقق الحاجة لها ، فبدونها لا يحتاج إليها ولا يرغب في فائدتها.

كالمرض بالإضافة إلى شرب الدواء والجوع والعطش بالإضافة إلى الطعام والماء.

وأخرى : تكون دخيلة في ترتب أثرها الخاص وفائدتها المهمة مع فعلية تعلق الغرض بها وحصول الحاجة إليها وإلى أثرها وفائدتها ، كالغليان للدواء والطهى للطعام والتبريد للماء.

فالأولى تكون قيدا للتكليف وشرطا له ، لتبعية التكليف للغرض ، والمفروض عدم تعلق الغرض بالماهية بدونها ، ولذا لا يجب تحصيلها ، لعدم فعلية التكليف بدونها ، ولأن التكليف إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه. بل قد تكون مبغوضة للمولى ، كالمحرمات التي تكون موضوعا لبعض التكاليف ، كوجوب الكفارة. والثانية تكون قيدا للمكلف به ، لتبعية المكلف به سعة وضيقا للفائدة والأثر المرغوب فيه ، فيجب تحصيلها تبعا للواجب المقيد بها

١٧٩

في فرض فعلية التكليف به ، لتمامية موضوعه. إلا أن تكون خارجة عن الاختيار ، كالخصوصية الزمانية ، حيث يأتي إن شاء الله تعالى في المبحث الثاني الكلام في فعلية التكليف بالقيد قبل حصولها.

وحيث اتضح الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلف به يتضح حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن العاقل إذا توجه لشيء فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلا أو يتعلق به غرضه فيطلبه فعلا. إذ يظهر بذلك أن هناك صورة ثالثة يكون فيها الشيء الملتفت إليه موردا لغرض تعليقي منوط بأمر غير حاصل يتعين إناطة التكليف به تبعا للغرض ، ولا يكون التكليف بدونه فعليا. وعليه ينزل جميع ما كان ظاهرا أو صريحا في اشتراط نفس التكليف ، كالشرط في القضية الشرطية وعنوان الموضوع في القضية الحقيقية ، ولا ملزم بالخروج عن ظاهره.

المبحث الثاني

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه

إلى منجز ومعلق وفيه مقامين

قسم صاحب الفصول الواجب إلى منجز ومعلق ، فالأول ما يكون زمانه متحدا مع زمان وجوبه ، والثاني ما يكون زمانه متأخرا عن زمان وجوبه ، فيكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا. وقد ذكر قدس‌سره هذا التقسيم لبيان الفرق بين المعلق والمشروط بأن التكليف في المشروط قبل تحقق شرطه غير فعلي ، وفي المعلق فعلي حتى قبل مجيء وقته.

وغرضه بذلك التمهيد لما يأتي في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى من ظهور الثمرة بين القسمين في المقدمات المفوتة ـ وهي التي يتعذر

١٨٠