الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الأول

فيما يتعلق بمادة الأمر والنهي

ذكروا لمادة الأمر معاني كثيرة ، كالطلب والشأن والحادث والفعل العجيب وغيرها. والظاهر أنه مشترك لفظا بين معنيين : الطلب أو ما يرجع إليه ـ وهو المهم في المقام ، والذي يأتي الكلام في بعض الخصوصيات المأخوذة فيه ـ والشأن أو ما يرجع إليه ، وهو الجامع بين بقية المعاني المذكورة ، وإرادة خصوصياتها في مقام الاستعمال مستفادة من قرائن الأحوال ، فذكر تلك المعاني له مبني على اشتباه المفهوم بالمصداق ، لبعد استقلال كل منها بالوضع مع تقاربها ذهنا بنحو يدرك العرف بسببه رجوعها لجامع واحد. وصعوبة تحديده تفصيلا لا ينافي إدراكه ارتكازا.

نعم ، صدق هذا المعنى على الأمر الطلبي بما أنه حادث من الحوادث ـ كصدقه على النهي والاستفهام ـ لا ينافي اختصاصه بوضع آخر ، بحيث يكون لفظ الأمر مشتركا لفظيا بينهما ، لتعدد الجهة ، كما يشهد به أن الأمر الطلبي مشتق يجمع على أوامر ، والأمر الشأني جامد يجمع على أمور.

هذا وأما مادة النهي فهي مقابلة لمادة الأمر بالمعنى الأول ، الذي هو الأمر الطلبي ، ويشتركان في أكثر الجهات المبحوث عنها هنا أو في جميعها.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام ..

تارة : في اتحادهما مع الإرادة والكراهة النفسيتين أو مباينتهما لهما ، لتقومهما بالإنشاء.

١٤١

وأخرى : في أخذ علوّ الآمر والناهي أو استعلائه في مفهومهما.

وثالثة : في ظهورهما ـ وضعا أو إطلاقا ـ في الإلزام.

والذي ينبغي أن يقال : لا إشكال بعد النظر في المرتكزات العرفية في مباينة الأمر والنهي للإرادة والكراهة النفسيتين ، وتقومهما بالخطاب الذي قد يكون مسببا عن الإرادة والكراهة ، وقد يكون مسببا عن أمر آخر ، كالامتحان ، نظير ما سبق في حقيقة الأحكام الاقتضائية في مقدمة علم الأصول. فليس الأمر والنهي إلا عبارة عن الخطاب بالحث نحو الشيء أو بالزجر عنه وإن لم يكن مسببا عن الإرادة أو الكراهة النفسيتين ، فهو غير ملازم لهما ، فضلا عن أن يتحد معهما.

نعم ، الظاهر عدم الاكتفاء فيهما بمطلق الحث والزجر ، بل يختصان بما يبتني منهما على اعتماد الآمر والناهي على قوته ونحوها مما يوجب متابعته وتنفيذ أمره على المأمور والمنهي ، إما لسلطان غالب أو لحق لازم. غايته أنه لا يعتبر كون وجود أحد هذين الأمرين حقيقيا ، بل يكفي كونه وهميا أو ادعائيا من قبل الآمر والناهي ، بل لا يكفي الوجود الحقيقي إذا لم يبتن الخطاب عليه.

ومرجع ذلك إلى اعتبار الاستعلاء ، دون العلوّ. خلافا لما ذكره غير واحد من العكس.

ومن هنا كان الظاهر توقف مفهوم الأمر والنهي على الإلزام ، كما هو المتبادر من إطلاقهما ، بل الظاهر صحة السلب عن غيره ، وإن صح إطلاقه على ما يعمه باستعماله في مطلق الطلب أو الزجر بنحو من العناية ، كما هو الحال في مقام التقسيم للإلزامي وغيره.

وقد يشهد بما ذكرنا جملة من الآيات والروايات المتضمنة ترتب العقاب أو الذم على المخالفة والتحذير منها ، كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ

١٤٢

عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ...)(١) ، وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة» (٣) ، أو «مع كل صلاة» (٤) ، وما في حديث بريرة : «فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : راجعيه فإنه أبو ولدك ، فقالت : يا رسول الله أتأمرني؟ قال : لا ، إنما أنا شفيع ، فقالت : لا حاجة لي فيه» (٥) ، فإن الاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة ، إلا أن ابتناء الاستعمالات المذكورة ونحوها في الخصوصية على القرينة بعيد جدا ، ولا سيما في النبويات. ولا أقل من كونها مؤيدة للمدعى. وهي وإن وردت في الأمر إلا أن الظاهر مشاركة النهي له ، للتقابل بينهما عرفا.

هذا ولو فرض عدم ثبوت المدعى كان ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة بالإطلاق ونحوه جاريا في المقام.

__________________

(١) سورة النور الآية : ٦٣.

(٢) سورة الرعد الآية : ٢٥.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٣ من أبواب السواك حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ٥ من أبواب السواك حديث : ٣.

(٥) مستدرك الوسائل باب : ٣٦ من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث : ٣.

١٤٣

الفصل الثاني

فيما يتعلق بمادة الطلب

الطلب لغة هو السعي نحو الشيء لمحاولة تحصيله والوصول إليه ، وهو المناسب لموارد إطلاقه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة واستعمالات أهل العرف. والظاهر عدم خروجه عن المعنى المذكور عند إطلاقه في مورد الحث على الشيء ، لأن الحث على الشيء نحو من السعي لتحصيله. ومن هنا كان الظاهر اتحاده خارجا مع الحث المذكور ، وليس هو متحدا مع الإرادة النفسية ، لا مفهوما ولا مصداقا ، خلافا للمحقق الخراساني قدس‌سره. بل غايته أن يكون ملازما لها.

على أنه لا يبعد عدم ملازمته لها وصدقه على الحث على الشيء وإن لم يكن بداعي تحصيله ـ لعدم إرادته ـ بل بداعي الامتحان. ودعوى : أنه حينئذ طلب صوري لا حقيقي. غير ظاهرة ، وإنما يكون الخطاب طلبا صوريا إذا لم يكن بداعي الحث ، بل لإيهامه ، كما في موارد التقية.

ومثله في الضعف ما ينسب للأشاعرة من أنه أمر قائم بالنفس غير الإرادة ، وهو المسمى عندهم بالكلام النفسي ، والمدلول للكلام اللفظي ، وقد ذكروا أنه هو المعيار في التكليف دون الإرادة. وبذلك وجهوا تخلف الامتثال عن التكليف الشرعي مع امتناع تخلف مراده تعالى عن إرادته.

إذ فيه : أنه لا واقع للكلام النفسي ، فضلا عن أن يكون هو الطلب والمعيار في التكليف. وتخلف الامتثال عن التكليف ناشئ عن أن منشأ التكليف هو الإرادة التشريعية ، دون الإرادة التكوينية الحقيقية ، على ما تقدم

١٤٤

توضيحه عند الكلام في حقيقة الأحكام من مقدمة علم الأصول.

ثم إن الظاهر أن مادة الطلب لا تقتضي العلوّ من الطالب ولا الاستعلاء ، فكما يصدق على الأمر يصدق على الدعاء والرجاء وغيرهما.

كما أنها ليست مختصة بالإلزام. ومن ثم كان الطلب أعم من الأمر. نعم ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من صيغة الأمر ـ مع عدم اختصاصها به وضعا ـ جار هنا.

١٤٥

الفصل الثالث

فيما يتعلق بصيغة الأمر والنهي

والمراد بصيغة الأمر في كلماتهم هي هيئة فعل الأمر ، وألحق بها لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع. أما النهي فلا هيئة تخصه ، وإنما يستفاد من (لا) الناهية.

وقد ذكروا لصيغة الأمر معاني متعددة.

منها : الطلب الذي هو شايع من موارد استعمالها.

ومنها : الإباحة ، كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١).

ومنها : التمني ، كقول الشاعر :

ليلة العاشر طولي

والبسي ثوب الظلام

ومنها : التعجيز ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢).

ومنها : التهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(٣).

ومنها : الاحتقار ، كقوله تعالى : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)(٤) ... إلى غير ذلك. كما يجري نظيرها في لام الأمر. بل في (لا)

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٢.

(٢) سورة البقرة الآية : ٢٣.

(٣) سورة هود الآية : ١٢١ ، ١٢٢.

(٤) سورة طه الآية : ٧٢.

١٤٦

الناهية ، حيث تصلح للاستعمال في تلك المعاني عدا الطلب الذي يخلفه فيها النهي.

وقد وقع الكلام بينهم في اشتراكها بين هذه المعاني أو اختصاصها ببعضها مع كونها مجازا في الباقي. لكن الظاهر ـ تبعا لجمع من المحققين ـ أنها موضوعة لنحو نسبة خاصة لا تخرج عنها إلى غيرها لا حقيقة ولا مجازا ، واختلاف المعاني المذكورة لها راجع لاختلاف دواعي الاستعمال ، فكما أن القضية الحملية تستعمل : تارة : بداعي الإخبار والحكاية. وأخرى : بداعي الاستهزاء والسخرية ، مع عدم خروج هيئتها عن معناها ، كذلك الحال في المقام ، كما يشهد بذلك التدبر في المرتكزات الاستعمالية.

والنسبة المذكورة حيث كانت من المعاني الحرفية التي سبق اختلافها عن المعاني الاسمية سنخا فلا يكون شرحها بالاسم ـ كالطلب والبعث ونحوهما ـ إلا لفظيا ، لضيق التعبير ، على ما سبق في مبحث المعنى الحرفي.

ولعل الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها هيئة الأمر واللام بالنسبة البعثية ، دون الطلبية ، لأنها أقرب ارتكازا إلى البعث الصادر من الباعث والقائم بين المبعوث والمبعوث إليه منها إلى الطلب القائم بالطالب والأمر المطلوب ، ولا يكون المطلوب منه ـ في المقام ـ إلّا آلة له ، من دون أن يكون طرفا له.

وبهذا كانت مقابلة ل (لا) الناهية التي كان الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها بالنسبة الزجرية ، لعين ذلك.

نعم ، الخطاب بالنسبة المذكورة والحث بها يصدق عليه الطلب بلحاظ ما سبق من معنى الطلب ، لأن الحث المذكور سعي نحو المطلوب. كما قد يصدق على الخطاب بالنسبة الزجرية الطلب ، بلحاظ كونه سعيا نحو المطلوب ، وهو الترك.

١٤٧

على أنه لا يهم تحقيق ذلك ـ وإن أطالوا الكلام فيه ـ لعدم الأثر له فيما هو المهم من العمل ، إذ لا ريب ظاهرا في أن الأصل حمل هيئة الأمر وأداته على كونها بداعي الحث على الفعل ، وحمل أداة النهي على أنها بداعي الزجر عنه ، دون بقية المعاني أو الدواعي المتقدمة من إباحة أو تهديد أو غيرها.

وإنما المهم استفادة الإلزام منها بالوضع أو الإطلاق أو نحوهما ، بحيث يكون هو الأصل الذي يحمل عليه الكلام مع عدم القرينة على غيره ، لأهمية ذلك في مقام العمل جدا. ومن ثم كان ذلك حقيقا بالكلام في المقام.

والظاهر أن النزاع في ذلك لا ينحصر بالإلزام المستلزم لاستحقاق العقاب لكون المخاطب واجب الطاعة عقلا ـ كالشارع الأقدس ـ بحيث لا موضوع له في خطاب غيره ـ كما قد يظهر من بعض الوجوه الآتية ـ بل يجري في مطلق الإلزام ولو من الموالي العرفيين ، بل ولو من غير الموالي ، كالداعي والملتمس والشافع.

وتوضيح ذلك : أن الطلب .. تارة : يبتني على نسبة المطلوب للطالب بحيث يصح إضافته إليه ، فيؤتى به لأجله ويحسب عليه ، ويستحق الممتثل الشكر منه.

وأخرى : لا يبتني على ذلك ، بل على محض الكشف عن واقع لا دخل له به. والثاني هو الطلب الإرشادي.

أما الأول فهو المولوي إن صدر من المولى. بل قد يطلق على كل طلب صادر ممن يهتم بطاعته بنظر العقلاء ، ولو لخوف عقابه ورجاء ثوابه وإن لم يكن مستحقا للطاعة. بل من كل من كان مستعليا وإن لم يكن عاليا في نفسه.

وإن صدر من السافل للعالي كان دعاء واستعطافا ، وإن صدر من النظير للنظير كان التماسا أو نحوه.

١٤٨

وحينئذ فالإلزام في الطلب الإرشادي تابع ثبوتا للواقع الذي يرشد إليه الطالب ، حيث يكون موقوفا على أهميته وعدم المزاحم المانع من الإلزام به.

وأما في المولوي وأخويه فهو تابع لنحو الطلب الصادر من الطالب ، حيث يتوقف ـ زائدا على إضافة المطلوب للطالب وجعله في حسابه ـ على نحو من الإصرار على المطلوب ، بحيث يكون عدم امتثاله مخالفة للطالب وردا عليه ، وإن لم يكن موجبا لاستحقاق العقاب عقلا أو عرفا ، لعدم كون الطالب لازم الطاعة. ولذا يكون الإخلال به خروجا عن مقتضى المولوية التي يبتني عليها الطلب المولوي ، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية. وأما خصوصية الملاك فهي علة غائية للإلزام ـ نظير علية أصل الملاك لمطلق الطلب ـ لا معيارا مقوما له ، كما في الطلب الإرشادي. هذا كله في منشأ الإلزام ثبوتا.

وأما في مقام الإثبات فقد وقع الكلام في دلالة صيغة الأمر على الإلزام وضعا أو إطلاقا أو عدم دلالتها عليه. ونظير ذلك يجري في صيغة النهي ، وإنما خصصنا الكلام بصيغة الأمر تبعا لهم.

قال في الكفاية : «في أن الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما وجوه ، بل أقوال».

ولا ينبغي التأمل في عدم اختصاصها بالطلب غير الإلزامي ، بعد عدم تبادره منها ، وعدم العناية في استعمالها في الإلزام. كما أن الظاهر عدم اشتراكها لفظا بين الطلب الإلزامي وغيره ، بعد وجود القدر المشترك بينهما عرفا ، وهو مطلق الطلب الحاصل من النسبة البعثية. ولا سيما مع بعد الاشتراك في نفسه.

فالمهم في المقام قولان :

الأول : اختصاصها بالطلب الإلزامي ، بمعنى : أنها موضوعة لنحو من النسبة البعثية لا تلائم غيره.

الثاني : أنها حقيقة في مطلق الطلب الصالح للأمرين ، لوضعها للنسبة

١٤٩

البعثية الملاءمة لكل منهما.

وقد ذهب جماعة من الأصوليين إلى الأول. ومرجع أدلتهم وجهان :

أولهما : التبادر مع عدم القرينة الحالية والمقالية ، ولذا يصح إطلاق الأمر على مفاد الصيغة ـ الذي سبق عدم صدقه إلا مع الإلزام ـ ويصح الذم على مخالفته ، كما ورد في قضية امتناع ابليس من السجود لآدم ، مع كون الخطاب به بالصيغة. كما أنه لا يصح عرفا الاعتذار باحتمال الندب في فرض عدم القرينة الصارفة عن الوجوب.

وثانيهما : استعمالها في كثير من الآيات والروايات ولسان أهل العرف في مقام بيان الإلزام من دون حاجة إلى ضم القرينة بالوجدان.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى أن الاستعمال أعم من الحقيقة ، إذ هي إنما تتجه مع احتمال القرينة ، لا مع القطع بعدمها. كما لا مجال لمعارضة ذلك باستعمالها في الندب ، بعد عدم الإشكال ظاهرا في بناء العرف والمتشرعة على احتياجه للقرينة.

نعم ، إنما ينهض هذان الوجهان بإثبات أن الوضع لخصوص الطلب الإلزامي إذا لم يكن الطلب الإلزامي مقتضى الأصل في مفاد الصيغة أو القرينة العامة التي يلزم الحمل عليها مع عدم المخرج عنها ، حيث ينحصر منشؤهما بالوضع حينئذ. أما إذا احتمل ذلك أو ثبت فلا ينهضان بإثبات الوضع ، لإمكان استنادهما حينئذ للأصل أو القرينة المذكورة دون الوضع. ويأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا ، والمعروف بين محققي المتأخرين الثاني. والعمدة في وجهه : أن الطلب غير الإلزامي وإن احتاج للقرينة ، إلا أن إرادته من الصيغة لا تبتني ارتكازا على العناية والخروج بها عن معناها ، بل هي لا تدل ارتكازا إلا على محض البعث القابل للأمرين.

١٥٠

ولذا كان ديدنهم فيما لو خوطب بجملة أمور قام الدليل على عدم الإلزام ببعضها البناء على الإلزام في الباقي ، كما لو قيل : أكرم زيدا وعمرا وبكرا ، وقام الدليل على عدم وجوب إكرام بكر ، مع أنه لو ابتنت إرادة الطلب غير الإلزامي من الصيغة على الخروج بها عما وضعت له من الإلزام لم يكن وجه لاستفادة الإلزام في الباقي ، كما لعله ظاهر. ومن ثم كان الظاهر وضع الصيغة لمطلق البعث.

وحينئذ يتعين النظر في وجه الحمل على الإلزام مع عدم القرينة الصارفة عنه.

ولهم في ذلك طرق ..

الأول : الانصراف لخصوص الإلزام ، لكثرة الاستعمال في الطلب الإلزامي ، أو لغلبة وجوده ، أو لأكمليته. وفيه ـ مع أنه ليس شيئا مما ذكر معيارا للانصراف ، بل معياره المناسبات الارتكازية المعينة لبعض الأفراد ـ : أن الاستعمال في غير الإلزامي وكذا وجوده ليس بأقل ، بل هما في خطابات الشارع الأقدس أكثر ، فإن المندوبات والمكروهات أضعاف الواجبات والمحرمات ، وأما الأكملية فهي مبنية على كون المعيار في الإلزام شدة الإرادة والكراهة وتأكدهما ، وقد سبق المنع منه عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ، وأن المعيار أمر آخر ذكرناه هنا وهناك.

الثاني : أنه مقتضى الإطلاق. لما في الكفاية من أن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، حيث لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد. وفيه : أن عدم المنع من الترك في الاستحباب ليس من سنخ التقييد للطلب لينفى بالإطلاق ، بل هو أمر مقارن له خارج عنه مطابق للأصل ، فلا وجه لنفي الإطلاق له.

١٥١

وهناك وجوه أخر لتقريب الإطلاق لا مجال لإطالة الكلام فيها.

الثالث : حكم العقل ، فقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن الوجوب هو الثبوت ، وهو يكون في التشريعيات عقليا ، تبعا لصدق عنوان الإطاعة على الفعل ، فإذا صدر بعث من المولى لشيء ولم تقم قرينة على كون المصلحة غير لزومية انطبق عنوان الإطاعة على الانبعاث عن بعثه ، فيجب عقلا. نعم لو قامت قرينة على كون المصلحة غير لزومية لم يكن الانبعاث إطاعة فلا يجب عقلا.

وفيه : أن محل الكلام ليس هو الوجوب العقلي التابع لوجوب إطاعة الآمر ، بل ما يساوق الإلزام التابع ثبوتا لخصوصية في الخطاب ، والذي لا يختص بخطاب من تجب طاعته عقلا كما سبق ، والوجوب العقلي تابع للإلزام المذكور ثبوتا ، لا لعدم وصول الترخيص في الترك.

ولو فرض حكم العقل بوجوب الانبعاث مع الشك في الإلزام وعدم وصول الترخيص ، فهو حكم آخر طريقي ظاهري في طول الحكم بوجوب الإطاعة وقبح المعصية واقعا ، نظير الحكم بوجوب الاحتياط مع الشك في الفراغ ، ومن المعلوم من مذهبه عدم بنائه عليه ، بل على البراءة ، كما لو تردد الأمر بين الوجوب والاستحباب ، لعدم الدليل ، أو لإجماله ، أو لتردده بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب. وقد تقدم في التنبيه الأول في ذيل الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ما يتعلق بالمقام.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد هيئة الأمر إبراز جعل المادة في عهدة المكلف واعتبارها في ذمته ، فيجب عليه عقلا السعي لتحقيقه والخروج عما انشغلت به ذمته ما لم يرخص المولى نفسه في الترك. فالوجوب مستفاد من حكم العقل ، لا من الصيغة ، بل هي مطلقا للإبراز المذكور ، وليس الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتا إلا في لزوم المصلحة وعدمه ، وإثباتا إلا في

١٥٢

الترخيص وعدمه.

إذ فيه : أولا : أن لازم ذلك البناء على الوجوب مع إجمال الدليل لاحتفاف الهيئة بما يصلح للقرينية على الاستحباب من دون أن يبلغ مرتبة الظهور فيه ، وكذا مع تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب.

وثانيا : أنه لا مجال لتفسير مفاد الهيئة بذلك مع وضوح عدم الفرق في مفادها بين أن تصدر من الشارع وغيره ممن لا تجب طاعته عقلا بل ولا عرفا ، بل وإن وقعت في مقام الإرشاد. بل المفاد المذكور من سنخ الوضع الذي لا يناسب مفاد هيئة الأمر جدا.

ولعل الأولى أن يقال : المعيار في الظهور لما كان هو طريقة أهل اللسان تبعا لمرتكزاتهم في مقام التفاهم لم يهم معرفة منشئه بعد استيضاح طريقتهم ، ومن الظاهر أن سيرتهم في المقام على الاكتفاء في بيان الطلب الإلزامي والحمل عليه بإطلاق ما يدل على الطلب والبعث من دون حاجة للتنبيه على الإلزام ، بل هو لو بين من سنخ التأكيد المستغنى عنه ، وليس المحتاج للبيان إلا عدم الإلزام ، وقد سبق في بيان حجة الوضع لخصوص الإلزام التسليم بذلك مع دعوى إمكان جمعه مع الوضع للأعم.

ولعل الوجه في بنائهم على ذلك : أن عدم الإلزام ناشئ عما هو من سنخ المانع عن تأثير الملاك في الإلزام ، فلا يعتنى باحتماله مع إحراز المقتضي بنفس البعث ، أو أن البعث والطلب لما كان مقتضيا للانبعاث كان اقتصار المتكلم عليه من دون تنبيه على الترخيص الذي قد يمنع من فعلية الانبعاث ظاهرا في إرادة الإلزام ، وكان الترخيص عرفا من سنخ الاستدراك على خلاف مقتضى البعث والطلب ، فلا يعتنى باحتماله معه. فالمورد من صغريات قاعدة

١٥٣

المقتضي التي قد يجري عليها العقلاء في بعض الموارد.

لكن لا بنحو تكون بنفسها دليلا ، بل بنحو تكون من القرائن العامة المحتفة بالكلام الظاهر في البعث والطلب ، فتوجب ظهوره في الإلزام ، مع كون الحجة هو الظهور المنعقد للإطلاق على طبقها. ولذا لو لم ينعقد الظهور ـ لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ـ أو لم يحرز ـ لتردد الدليل بين ما هو ظاهر في الإلزام وما هو ظاهر في عدم الإلزام ـ لم تنهض قاعدة المقتضي بنفسها لإحراز الإلزام.

كما أن ذلك لا يرجع إلى كون قاعدة المقتضي قرينة على استعمال الصيغة في الإلزام زائدا على البعث والطلب ـ الذي سبق وضعها له ـ بل هو موجب لانعقاد الظهور الإطلاقي للكلام في الإلزام ، مع كونه خارجا عن مفاد الصيغة.

ويظهر أثر ذلك فيما لو تضمنت الصيغة البعث نحو جملة من الأمور وعلم من الخارج عدم الإلزام ببعضها ، حيث لا مجال للبناء على الإلزام في الباقي لو كان مقتضى القرينة العامة المذكورة استعمال الصيغة في الإلزام ، للعلم بالخروج عنها حينئذ ، بخلاف ما لو كان مقتضاها انعقاد الظهور الإطلاقي فيه ، حيث يتعين الاقتصار في الخروج عن مقتضى الإطلاق على المتيقن ، كما عليه سيرتهم في المقام وفي سائر موارد الخروج عن مقتضى الإطلاق في بعض مدلول الكلام.

نعم ، لو استفيد عدم الإلزام في البعض من قرينة متصلة مانعة من انعقاد الإطلاق تعين التوقف وعدم البناء على الإلزام في الباقي.

ولعل هذا هو الوجه في أن كثرة استعمال الصيغة في موارد الاستحباب في كلام الشارع وأتباعه لا تمنع من ظهورها مع عدم القرينة في الوجوب ، فإن

١٥٤

كثرة الخروج عن مقتضى الإطلاق بالقرينة لا يمنع من العمل بمقتضاه مع عدمها ، بخلاف كثرة الخروج عن المعنى الموضوع له بالقرينة ، فإنه قد يوجب صيرورة المجاز مشهورا ، فيمتنع الحمل على المعنى الموضوع له مع عدم القرينة. ومن ثم استشكل في المعالم في حمل الصيغة في عرف الشارع على الوجوب وإن كان هو الموضوع له عنده.

ثم إن ما تقدم منهم ومنا في صيغة الأمر يجري في لام الأمر وفي أداة النهي ، كما يظهر بأدنى تأمل. بل يجري في كل ما يدل على الطلب أو الزجر ، كمادة الطلب ومادتي الأمر والنهي ـ لو قيل بعدم ظهورها وضعا في الإلزام ـ وغيرها ، كما أشرنا إليه آنفا.

تنبيه :

الظاهر أن وقوع هيئة الأمر أو لام الأمر عقيب النهي أو في مورد توهمه مانع من ظهورهما في الحث على الفعل وطلبه ، فضلا عن الإلزام به ، كما أن وقوع أداة النهي عقيب الأمر أو في مقام توهمه مانع من ظهورها في الزجر ، لأنها وإن لم تخرج عن الاستعمال في النسبة البعثية أو الزجرية ، إلا أن ما سبق من أصالة كون الداعي للاستعمال هو الحث والزجر لا يجري في الموردين المذكورين ، لقصور بناء أهل اللسان عنه ، والمتيقن منه البناء على كون الداعي لاستعمال صيغة الأمر ولام الأمر حينئذ بيان عدم النهي ، والداعي لاستعمال أداة النهي حينئذ بيان عدم الأمر.

ولعل هذا هو المراد مما عن المشهور من دلالتها في الموردين المذكورين على الإباحة. أما لو كان مرادهم الإباحة بالمعنى الأخص ـ التي هي أحد الأحكام الخمسة ـ فهو خال عن المنشأ.

هذا ، وعن بعضهم أن الأمر إن علق بزوال علة النهي كان ظاهرا في رجوع

١٥٥

الحكم الثابت قبل النهي ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) ، وقوله سبحانه : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)(٢).

وهو قد يتجه فيما لو كان موضوع النهي المرتفع من سنخ العنوان الثانوي الطارئ على العنوان الأولي والمانع من تأثير مقتضيه ـ كما في الآيتين المتقدمتين ـ حيث يكون الكلام الدال على انتهاء أثر العنوان الثانوي بارتفاعه ظاهرا في فعلية حكم العنوان الأولي ، لارتفاع المانع منه. وهو في الحقيقة تأكيد لمقتضى إطلاق حكم العنوان الأولي ، الذي هو الدليل في المقام على رجوع حكمه بعد ارتفاع المانع منه ، كما يكون دليلا على ذلك في سائر الموارد.

ولا مجال له في غير ذلك ، بأن يكون موضوع النهي المرتفع عنوانا يخلف العنوان الأول ، لا طارئا عليه مجتمعا معه ، كما لو كان السلام على الصبية مستحبا ، وورد النهي عن السلام على الشابة ، ثم ورد : إذا شابت المرأة فسلم عليها ، حيث لا مجال لدعوى ظهوره في عود استحباب السلام عليها الثابت قبل أن تصير شابة.

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٢.

(٢) سورة البقرة الآية : ٢٢٢.

١٥٦

الفصل الرابع

في الجمل الخبرية

لا إشكال في استعمال الجمل الخبرية في مقام بيان الحث على المادة في الجمل الإثباتية ، والزجر عنها في الجمل السلبية. وقد وقع الكلام في ظهورها في اللزوم وعدمه ، فذهب بعضهم إلى عدم ظهورها فيه ، بل المتيقن منها مطلق الطلب ، لدعوى : أنه بعد الخروج بها عن معناها الحقيقي ـ وهو الإخبار ـ فلا مرجح للوجوب ، بل هو كغيره من المجازات ، فيتعين حملها على مطلق البعث والطلب. لا بمعنى كونها مستعملة أو ظاهرة فيه ـ ليتجه ما تقدم في تقريب استفادة الإلزام من هيئة الأمر ، من أنه مقتضى إطلاق كل ما سيق لبيان البعث أو الزجر ـ بل بمعنى ترددها بين الاستعمال في خصوص الوجوب ، وفي خصوص الاستحباب ، وفي مطلق الطلب ، فيلزم مع عدم القرينة إجمالها.

ومعه لا مجال للوجه المتقدم ، لأنه فرع الظهور في مطلق الطلب.

لكن ترددها بدوا بين الوجوه الثلاثة لو تم بدوي ، والتامل في الاستعمالات المذكورة قاض باستعمالها في الثالث ، وهو مطلق الطلب ، لعين ما سبق في هيئة الأمر وأداته وأداة النهي من صلوحها للإلزام منهما وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة له ارتكازا. وحينئذ يجري ما سبق في وجه الحمل على الإلزام.

على أن هذا الوجه يبتني على الخروج بالجمل الخبرية عن معناها الحقيقي. وقد اشتهر المنع عنه في العصور المتأخرة. وقد ذكروا في توجيه بقائها على معناها الحقيقي ، وتوجيه الدلالة على الإلزام معه ، وجوها كثيرة

١٥٧

يضيق المقام عن استيعابها وتعقيبها.

ولعل الأولى أن يقال : تقدم في التنبيه الثاني من لواحق الكلام في المعنى الحرفي أن الظاهر اختصاص الجمل المذكورة بإيقاع النسب التي تضمنتها بداعي الإخبار والحكاية عن وقوع مضامينها في ظرفها ، فلو خرجت عن ذلك كانت مجازات. إلا أنه لا يبعد عدم خروجها في المقام عن الخبرية ، وإن كانت مسوقة بداعي بيان مطلوبية مضمونها ، لأنها مستعملة في مقام الحكاية والإخبار عن حال المأمور والمنهي بلحاظ ما ينبغي وقوعه منه بسبب مطلوبية الشيء أو النهي عنه ، فكأن استعداده للامتثال قد لحظ مفروض الوجود ، والإخبار بوقوع الفعل أو عدمه منه إما أن يبتني على المفروغية عن تحقق الاستعداد المذكور ، لاعتقاد ذلك فيه ، أو لادعائه بسبب ظهور حاله فيه ، أو تشجيعا ، أو ترغيبا ، أو تخويفا ، وإما أن يبتني على كون الإخبار معلقا لبا ومنوطا بكونه في مقام الامتثال وعدم الخروج عما يراد منه.

وبذلك ينهض الاستعمال المذكور بإثبات الطلب أو النهي ، ويصلح لبيان أحدهما ، لكونهما ملزومين للمدلول اللفظي لها ، وهو الإخبار عما يحصل من المكلف من حيثية كونه مطيعا.

وبهذا يمكن توجيه دلالة الجملة الاسمية على الطلب ، كما في مثل قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١). فيحمل على الإخبار بعدم وقوع هذه الأمور ممن فرض عليه الحج للمفروغية عن كونه في مقام القيام بوظائف الحج ، أو معلقا على ذلك.

هذا والظاهر من المرتكزات الاستعمالية سوقها لبيان أصل الطلب أو الزجر ، لا خصوص الإلزامي أو غير الإلزامي منهما ، ولا بنحو تكون مرددة

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٩٧.

١٥٨

بينهما فقط أو مع مطلق الطلب أو الزجر ، لعين ما سبق في هيئة الأمر وأداته وأداة النهي من صلوحها للإلزامي منهما وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة لبيانه ارتكازا. وحينئذ يتجه حمل إطلاقها على خصوص الإلزامي منهما للوجه المتقدم.

كما يتجه حمل الجمل الإثباتية منها الواردة عقيب النهي أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الفعل ، وحمل الجمل السلبية منها الواردة عقيب الأمر أو في مقام توهمه على مجرد الترخيص في الترك ، لاستعمالها في الإخبار عنه للمفروغية عن كون المكلف في مقام العمل على السعة الثابتة في حقه أو معلقا على ذلك بالوجه المتقدم ، لأن المتيقن حينئذ سوقها لأحد الأمرين ، لا لبيان الطلب أو الزجر.

١٥٩

الفصل الخامس

في سعة كل من الأمر والنهي موضوعا وحكما

تقدم أن ورود الأمر على الماهية يرجع إلى نحو نسبة بينها وبين الآمر والمأمور ، وورود النهي عليها يرجع إلى نحو نسبة بينها وبين الناهي والمنهي ، وبهاتين النسبتين قوام الحكم الشرعي. ومن الظاهر أن الآمر والناهي شخصي لا سعة فيه لينطبق على كثيرين ، وكذا المأمور والمنهي إلا في الواجب الكفائي على كلام يأتي في محله إن شاء الله تعالى. والذي لا إشكال في أن له نحوا من السعة ويقبل الإطلاق التقييد هو المأمور به والمنهي عنه ، لأنهما كليان. وكذا النسبة التي بها قوام الحكم الشرعي ، فإنها ـ وإن كانت جزئية ـ تقبل نحوا من السعة والتضييق بالإطلاق والتقييد بشرط أو غاية أو غيرهما ، على ما سبق في التنبيه الأول من تنبيهات الكلام في المعنى الحرفي. والمتبع في تحديد سعة كل من الأمرين في مقام الإثبات ظاهر الدليل. وبعد تحديد سعة كل منهما إطلاقا أو تقييدا فالظاهر المصرح به في كلام جماعة اختلاف الأمر والنهي في جهتين :

الأولى : أنه يكفي في موافقة الأمر والجري على مقتضاه تحقيق صرف الوجود من الماهية المأمور بها مطلقة كانت أو مقيدة ، بخلاف النهي حيث لا بد في موافقته والجري على مقتضاه من استيعاب تمام أفراد الماهية المنهي عنها بالترك ، ولا يكفي ترك بعض أفرادها مع فعل غيره.

الثانية : أن مقتضى الأمر الجري عليه وموافقته ـ بتحقيق صرف الوجود ـ في بعض أزمنة وجوده ، تبعا لوجود موضوعه. أما النهي فلا يكفي فيه ذلك ،

١٦٠