الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

بل حيث كانا منتزعين من ترتب الأثر وعدمه التابعين لاعتبار من بيده الاعتبار كانا من الأمور الإضافية التي يكون اختلاف طرف الإضافة فيها موجبا للاختلاف في صدقها ، من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم ، ولا إلى التخطئة في المصداق ، فهو نظير الاختلاف في المصطلحات والأذواق.

نعم ، يصعب إقامة الدليل على ذلك ، حيث لا موجب لدعواه ظاهرا إلا تبادر الصحيح من الإطلاق ، وهو لا يصلح دليلا في المقام ، لأنه قد يكون مسببا عن اختصاص الغرض به ، الذي هو قرينة عامة صالحة لأن تكون منشأ لانصراف الإطلاق ، نظير ما تقدم في الاستدلال بالتبادر على الصحيح في العبادات.

بل لما كان الظاهر ـ كما تقدم ـ أن التسمية بلحاظ كون المسمى هو الوجود الإنشائي الالتزامي للمفهوم وهو الذي يتحقق من موقع المعاملة بالمباشرة ، فمن الظاهر أن المنشأ هو المفهوم المجرد ، وليس ترتب الأثر إلا من لواحقه. فيبعد جدا أخذه في المسمى. بل يبعد جدا صحة السلب عن الفاسد.

هذا كله في أسماء المعاملات التي هي عبارة عن مصادر الأفعال المتعدية وما ينتزع بلحاظها من عناوين ، وأما العناوين المنتزعة من نتائجها ـ كالزوج والزوجة والملك ـ فقد سبق أن الظاهر انتزاعها بلحاظ الوجود الاعتباري ، وحينئذ لا تصدق إلا بترتب الأثر.

المقام الثاني : في التمسك بالإطلاقات مع الشك في اعتبار بعض القيود في صحة المعاملة

والكلام .. تارة : في إطلاقات نفوذ المعاملات ، كقوله عليه‌السلام : «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» (١).

__________________

(١) الوسائل ج : ١٣ باب : ٢ من أبواب كتاب الوقوف والصدقات حديث : ٢.

١٢١

وأخرى : في إطلاقات أحكامها الأخر ، كوجوب الإنفاق على الزوجة.

أما الأولى فلا إشكال في إمكان التمسك بها بناء على ما سبق من وضع أسماء المعاملات للأعم. وكذا لو قيل بوضعها للصحيح العرفي ، غايته أنه لا بد حينئذ من إحراز صحة المعاملة عرفا.

بل وكذا لو قيل بوضعها للصحيح شرعا أو للصحيح بما له من مفهوم إضافي صالح للانطباق على الصحيح الشرعي ، لما هو المعلوم من أن الصحيح الشرعي لا يقبل الإمضاء الشرعي ، فلا بد من تنزيل دليل الإمضاء على الاستعمال في الأعم أو في الصحيح العرفي ، فيلحقه ما سبق.

وأظهر من ذلك إطلاق نفوذ العقود ، لأن العقد منتزع من نفس الإيجاب والقبول ، وليس عبارة عن المضمون المعاملي المنشأ بهما ، فلا مجال لاحتمال اختصاصه بالصحيح.

وأما الثانية فما كان منها قد أخذ فيه عنوان منتزع من إيقاع المعاملة ـ كالمبيع والمستأجر والمزارع ـ يصدق بمجرد إيقاع المعاملة ، فيكون مقتضى الإطلاق عدم توقف الحكم الذي تضمنه على أمر زائد على ذلك ، ولازمه نفوذ المعاملة مطلقا ، لما هو المعلوم من عدم ترتب الأحكام مع بطلانها.

اللهم إلا أن يرجع ذلك إلى تقييد موضوع الأحكام لبّا بالصحيح ، للاستغناء عن التصريح به بالقرينة العامة القاضية بأن موضوع الأغراض والأحكام هو الصحيح. وحينئذ لا ينهض الإطلاق بإثبات ترتب الحكم مع الشك في صحة المعاملة فضلا عن أن ينهض بإثبات صحتها مع الشك فيها.

وأظهر من ذلك ما لو كان العنوان المأخوذ منتزعا من نتيجة المعاملة ـ كعنوان الزوج والزوجة ـ لما سبق من عدم صدقها إلا بترتب الأثر.

نعم ، قد يكون مقتضى الإطلاقات المقامية للأحكام المذكورة الاكتفاء

١٢٢

بما عند العرف ، على تأمل وتفصيل لا يسعه المقام.

هذا تمام ما تيسر لنا من الكلام في المسألة. وبه ينتهي الكلام في مقدمة مباحث الظهورات.

ولندخل فيما هو المقصود بالأصل من المباحث المذكورة. والمراد به تشخيص الظهورات العامة ، سواء كانت مستندة للوضع أم لقرائن عامة منضبطة. أما ما يستند للقرائن الشخصية غير المنضبطة فلا مجال للبحث عنه هنا ، لعدم تيسر استقصائه ، بل يوكل للفقه عند الابتلاء به في الأدلة المتفرقة. والبحث في ذلك يتم في ضمن مقاصد.

١٢٣
١٢٤

المقصد الأول في بحث المشتق

وقد وقع الكلام في أن المشتق هل يكون حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال؟ أو فيما يعمه وما انقضى عنه؟ مع الاتفاق ـ كما قيل ـ على كونه مجازا فيما لا تلبس له به إلا في الاستقبال. فمرجع النزاع إلى النزاع في سعة مفهوم المشتق وضيقه.

وأما ما ربما يدعى من رجوعه إلى النزاع في حال صدقه ، وأن صدقه على ما انقضى عنه التلبس هل هو لكونه من أفراده الحقيقية ، أو لكونه من أفراده الادعائية مع الاتفاق على مفهومه. فهو كما ترى ، لأن صدق العنوان على الفرد وعدمه فرع سعة مفهومه له وضيقه عنه ، فلا يعقل صدقه عليه حقيقة مع ضيقه عنه ، ولا عدمه مع سعته له ، فلا بد من رجوع النزاع في أحد الأمرين للنزاع في الآخر.

ثم إنه حيث كان مورد البحث تشخيص ظهور المشتق كان داخلا في المقاصد الأصلية من مباحث الألفاظ ، ولا وجه مع ذلك لذكره في مقدمات علم الأصول ـ كما جرى عليه جماعة ـ أو في مقدمات خصوص مباحث الألفاظ.

وينبغي تقديم أمور لها دخل في توضيح محل النزاع ، أو نافعة في مقام الاستدلال.

الأمر الأول : المشتق في مصطلح النحويين ما شارك غيره في مادة واحدة مع مخالفته له في الهيئة ، كالفعل واسمي الفاعل والمفعول وغيرها.

١٢٥

ولكن محل النزاع فعلا هو العنوان المنتزع من الذات والحاكي عنها بلحاظ نحو نسبة بينها وبين جهة خارجة عنها.

وبينه وبين المشتق بالمعنى الأول عموم من وجه ، فإنه يعم بعض الجوامد باصطلاح النحويين ، كالأب والأخ والزوج والزوجة ، حيث يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عموم النزاع لها ، كما أنه يقصر عن مثل الفعل والمصدر مما لا ينتزع من الذات ولا يكون عنوانا لها.

لكن ينبغي أن يكون النزاع في المشتقات في تحديد ما وضعت له هيآتها نوعيا ، أما في الجوامد المذكورة ـ كالأب والزوج ـ فهو في تحديد ما وضعت له شخصيا ، إذ لا هيئة تجمعها. نعم لا يبعد مشابهتها للمشتقات ارتكازا في محل الكلام ، فالكلام في المشتقات يغني عن الكلام فيها.

هذا ، وقد يستشكل في عموم النزاع لاسم الزمان ، لأن تصرم الزمان مستلزم لعدم بقاء الذات بعد ارتفاع الحدث ، ليدخل في موضوع النزاع.

وهو مبني : أولا : على وضع الهيئة له بخصوصه بنحو الاشتراك اللفظي بينه وبين المكان ، وهو لا يخلو عن إشكال ، بل لعل الأقرب وضعه بوضع واحد للجامع بينهما ، وهو الظرفية ، كما هو المناسب لاطراد اتفاقهما في هيئة واحدة وارتكازية الجامع بينهما. إذ لا موضوع مع ذلك للإشكال المذكور ، إذ لا اسم للزمان حينئذ ، وإنما الاسم للظرف ، والظرفية قابلة للارتفاع عن الذات ولو في المكان.

وثانيا : على كون المحكي باسم الزمان خصوص ما يقارن الحدث من الأمد الموهوم ، أما لو أمكن إطلاقه على ما هو أوسع منه مما يقع بين حدين اعتباريين ، كالساعة واليوم والشهر ـ كما يظهر من غير واحد ـ فيتجه فرض البقاء له بعد ارتفاع الحدث.

١٢٦

الأمر الثاني :حيث سبق أن محل الكلام هو العنوان المنتزع من الذات بلحاظ جهة خارجة عنها فالمصحح لانتزاع العنوان :

تارة : يكون فعلية اتصاف الذات بتلك الجهة كالمريض المنتزع من فعلية الاتصاف بالمرض.

وأخرى : يكون أمرا آخر ، كثبوت الملكة أو القابلية أو الحرفة أو الصنعة أو المنصب ، كما في المجتهد اصطلاحا المنتزع من تحقق ملكة الاجتهاد في الشخص ، والكاتب المنتزع من كون حرفة الشخص أو وظيفته الكتابة ، والصائغ المنتزع من كون صنعته الصياغة ، وأسماء الآلة المنتزعة من قابلية الشيء لأن يتحقق به الحدث بحيث لا يحتاج صدوره به إلا إلى إعماله فيه ، كالفتح للمفتاح والسمر للمسمار.

والاكتفاء بما عدا الفعلية في الثاني إما أن يستند إلى التوسع والتصرف في المادة ، بأن لا يراد منها الفعلية ، كالاجتهاد الذي يراد به اصطلاحا الملكة ولو من دون مزاولة عملية الاستنباط ، والكتابة التي يراد بها الحرفة أو الوظيفة ، ولذا تدل المادة على ذلك في غير الهيئة المذكورة.

وإما أن يستند لخصوص الهيئة ، كما في أسماء الآلة حيث لا إشكال في كون المراد بموادها نفس الفعل الخارجي ، وليس الاكتفاء فيها بالقابلية إلا مقتضى الهيئة الخاصة. ومثل ذلك ما أفاد الصنعة مما بني على فعّال ، كالصراف والنجار والوزان ، ولذا تدل هيئتها على ذلك فيما ينتزع من الجوامد كالحداد والبزاز والجمال ، مع وضوح عدم التصرف في موادها. فهي نظير هيئة النسبة التي قد يراد بها ذلك ، كما في الجوهري.

هذا ، ولا إشكال في دخول القسم الثاني ـ كالقسم الأول ـ بجميع صوره في محل النزاع ، وإنه هل يختص بحال التلبس ، أو يعم حال الانقضاء. لكن لا

١٢٧

يراد به التلبس بفعلية العمل ، بل التلبس بالملكة أو الصنعة أو القابلية أو نحوها مما تقدم ، سواء كان الحمل على هذه الأمور للتوسع في المادة والخروج بها عن معناها الأصلي ، أم لأنها مستفادة من نفس الهيئة.

ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال على عموم المشتق لحال الانقضاء بصحة إطلاق هذا القسم مع انقضاء التلبس بالحدث ، كإطلاق الصائغ على الشخص حال نومه ـ مثلا ـ وعدم انشغاله بعمل الصياغة. فإن ذلك خروج عن محل الكلام ، إما لعدم كون المراد بالمادة الحدث ، بل الصنعة أو نحوها ، أو لعدم دلالة الهيئة على التلبس بالفعلية ، بل بالقابلية.

كيف؟ ولازمه عدم اعتبار الملابسة حتى في الماضي ، لصدق بعض هذا القسم بلحاظ القابلية من دون تلبس أصلا ، كما في موارد الاستعمال في الملكة والوظيفة ، وكما في أسماء الآلة. نعم لو صدق مثل ذلك بعد انقضاء ما يراد بالهيئة والمادة اتجه الاستدلال به.

الأمر الثالث : لا يخفى أن إطلاق العنوان على الذات ـ حاكيا عنها ، أو وصفا لها ، أو محمولا عليها ـ إنما هو بلحاظ اتحاده معها ـ بما له من مفهوم ـ وانطباقه عليها ، وظرف الاتحاد المذكور هو المعبر عنه في بعض كلماتهم بزمان الجري. وهو يكون.

تارة : زمان النطق ، كما في قولنا : زيد عادل الآن ، أو أكرم من هو الآن عادل.

وأخرى : زمانا آخر ، كما في قولنا : زيد مريض أمس أو مسافر غدا ، وأنفقت على عائلة من هو أمس مسافر ، وسأسافر اليوم لاستقبال القادم غدا.

ومقتضى الإطلاق عرفا هو تنزيل حال الجري على حال النطق ، ولا يحمل على خلافه إلا بقرينة خاصة ـ كالأمثلة المتقدمة ـ أو عامة ، كما إذا وقع

١٢٨

المشتق طرفا لنسبة ، حيث يحمل حال الجري على حال تلك النسبة ، فإن قيل : تصدق على فقير ، كان ظاهره إرادة من هو فقير حال التصدق ، وإن قيل : إن جاء زيد دعا الأغنياء ، كان ظاهره إرادة من هو غني حال الدعوة ، وغير ذلك مما تقتضيه المناسبات العامة والخاصة.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أنه لا يعتبر في صدق المشتق التلبس بالمبدإ ـ أو ملكته أو قابليته أو غير ذلك مما تقدم في الأمر السابق ـ في خصوص حال النطق ، بل يكتفى به فيما قبله أو بعده ، لعدم العناية في الاستعمالات السابقة.

وحينئذ لا بد من كون النزاع في اختصاص المشتق بالحال أو عمومه لحال الانقضاء إنما هو بلحاظ حال الجري الذي هو ظرف الاتحاد الملحوظ بين الذات والعنوان ، بمعنى أنه هل يعتبر في اتحاد الذات والعنوان وجريه عليها في زمان تحقق التلبس في ذلك الزمان أو يكفي فيه التلبس قبله ، وإن لم يحصل التلبس فيه؟ ولعل لالتباس حال الجري بحال النطق ـ بسبب كون التطابق بينهما مقتضى الإطلاق ـ دخلا في اشتباه حال المشتق ، ولوقوع النزاع فيه ، على ما قد يتضح عند بيان المختار والاستدلال له.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت ، إلا أن الحق منها هو القول باختصاص المشتق بحال التلبس ، من دون فرق بين أقسامه وحالاته. لأنه المتبادر في الجميع ، ولصحة السلب عما انقضى عنه التلبس بلا ريب. ولذا كان المرتكز تضاد العناوين الاشتقاقية إذا كانت مباديها متضادة ـ كالحاضر والمسافر ، والأسود والأبيض ، والغني والفقير ، والقائم والقاعد ، والمجتهد والعامي ـ مع وضوح إمكان اجتماعها في زمان واحد بناء على عموم المشتق لحال الانقضاء ، وذلك بلحاظ اختلاف زمان التلبس. وأدنى سبر لموارد صدق المشتق موجب لوضوح ما ذكرنا ، بعد ملاحظة ما سبق في الأمر الثاني والثالث.

١٢٩

وكأن التوقف من بعضهم في ذلك ناشئ من أحد أمرين :

الأول : دلالة مادة المشتق أو هيئته في بعض الموارد على أمر غير الفعلية ـ من ملكة أو شأنية أو حرفة أو غيرها ، على ما سبق التنبيه له في الأمر الثاني ـ كما يظهر من بعض استدلالاتهم.

الثاني : اشتباه حال الجري في بعض الموارد ، وتخيل كونه في زمان خاص ، مع الغفلة عن القرينة الصارفة له إلى زمان آخر ، حيث قد يوجب ذلك تخيل كون منشأ الصدق عموم مفهوم المشتق لحال الانقضاء مطلقا أو في بعض الموارد التي ذكرها القائلون بالتفصيل.

كما هو الحال في المشتقات المأخوذة من المبادئ التي لا بقاء معتد به لها ، ليتعارف الإخبار بها أو ترتيب أحكامها حين حصولها ، بل لا يخبر بها ولا يراد ترتيب أحكامها غالبا إلا بعد انقضائها ، كالضارب في قولنا : زيد ضارب ، أو : اقتص من الضارب ، حيث لا إشكال في أنه لا يفهم منه الإخبار بالضرب حال وقوعه أو طلب الاقتصاص منه حين ضربه ، بل بعده. إلا أن ذلك ليس لعموم المشتق لحال الانقضاء ، بل لعدم كون حال الجري هو حال النطق ، بل هو سابق عليه مطابق لحال التلبس ، فيراد زيد ضارب سابقا ، واقتص من الضارب سابقا ، لأجل القرينة المذكورة المخرجة عن مقتضى الإطلاق المذكور في الأمر الثالث.

وكذا فيما إذا قضت المناسبات الارتكازية بكون حدوث المبدأ ـ وإن لم يستمر ـ علة لحدوث الحكم وبقائه ، كما في قولنا : يضمن المتلف ويجلد الزاني ويقطع السارق ويجزى المحسن بإحسانه ، حيث لا إشكال في ثبوت هذه الأحكام لهم حتى بعد انقضاء المبدأ عنهم ، إلا أن ذلك ليس لصدق العناوين عليهم حين ثبوت الأحكام وترتبها المستلزم لعموم المشتق لحال

١٣٠

الانقضاء ، كما قد يتوهم ، بل لعدم إرادة خصوص الجري حال ثبوت الأحكام والعمل بمقتضاها ، بل ما يعم الجري فيما سبق ، للقرينة المذكورة المخرجة عما تقدم في الأمر الثالث من أن مقتضى القرينة العامة حمل الجري على حال النسبة والعمل على الحكم.

ومثله ما ينتزع من المبادئ المبنية على التجدد والحركة ، كالبناء والحرث والنوح والكلام ، حيث لا يتعارف التعبير عنه حال التلبس باسم الفاعل ، بل بالفعل المضارع ، فيقال : زيد يبني الآن ويحرث وينوح ويتكلم ، ولا يقال : بان وحارث ونائح ومتكلم إلا بعد الفراغ من العمل غالبا ، فإن الظاهر عدم ابتناء الجميع على عموم المشتق لحال الانقضاء ، بل على إرادة الجري في غير حال النطق .. إلى غير ذلك من القرائن الخاصة التي بملاحظتها يتضح عدم كون حال الجري هو حال النطق أو نحوه مما يقتضيه الإطلاق أو القرينة المتقدمة ، بل ما يطابق حال التلبس.

ولذا لا يظن بأحد التوقف في تبادر حال التلبس في المشتقات المذكورة وغيرها مع تعيين ما أريد بالمادة والهيئة وتعيين حال الجري بالنص ، فلو قيل :

زيد زان أو ضارب أو بان أو صائغ أو نجار يوم الجمعة ، لا يتوهم صدق القضية مع انقضاء ما أريد من المبادئ المذكورة عنه قبل الجمعة. وكذا لو قيل : يجلد غدا الزاني اليوم ، أو يقتص غدا من الضارب اليوم ، أو عامل غدا النجار اليوم ، حيث لا يتوهم شموله لمن انقضت عنه المبادئ المذكورة قبل اليوم.

ومنه يظهر الحال فيما لا بقاء له بنفسه ، بل البقاء لأثره ، كالجرح والقتل والتسخين في الماء والتنظيف للثوب وغيرها. فإنه إن أريد من المبدأ فيه المعنى الحدثي المصدري الذي لا بقاء له كان مما سبق ، وابتنى الاستعمال فيه على أن الجري ليس بلحاظ حال النطق أو حال العمل بالحكم وترتيب الأثر ، بل بلحاظ ما سبق ذلك مما يطابق حال التلبس ، ولازم ذلك

١٣١

العموم لما لو ارتفع الأثر.

وإن أريد من المبدأ فيه تسامحا ما يساوق الأثر ويبقى ببقائه ـ كما هو الغالب في اسم المفعول ـ خرج عما سبق ، وحينئذ لا ملزم بالخروج في حال الجري فيه عن مقتضى الإطلاق أو القرينة العامة ، بل يبقى على مقتضاهما ، ويختص بحال التلبس ، وهو حال وجود الأثر.

هذا ، وأما ما في الفصول من التفصيل بين المشتق المأخوذ من المبادئ المتعدية ـ كالضارب والمكرم ـ فيعم حال الانقضاء ، والمأخوذ من المبادئ اللازمة ـ كالعالم والنائم ـ فيختص بحال التلبس ، مستدلا بالتبادر في المقامين.

فكأن منشأه أن الغالب في المتعدي عدم البقاء بالنحو المعتد به ، وفي اللازم البقاء بالنحو المذكور ، فمنشأ تفصيله الشبهة السابقة. ولذا ينصرف لخصوص حال التلبس من المتعديات اللابس للثوب والساكن في الدار ونحوهما ، ويتبادر لما يعم حال الانقضاء من اللوازم الزاني والجاني والمذنب وغيرها. ولعله لذا غفل قدس‌سره فعدّ المالك من اللازم ، مع أنه متعد. وإلا فمن البعيد جدا اختلاف مفاد الهيئة لغة باختلاف المواد. فلا مخرج عما سبق.

بقي الكلام في حجج القائلين بالعموم. وقد استدلوا بعلامتي الوضع ، وهما التبادر ، وعدم صحة السلب. ويظهر المنع منهما مما سبق في تقريب حجة الاختصاص بحال التلبس.

كما احتجوا بجملة من الاستعمالات في حال الانقضاء ، كآيتي السرقة والزنى وغيرهما. بل ربما ادعي كثرة ذلك بنحو لا يناسب كونه مجازا.

وفيه ـ مع أن الاستعمال أعم من الحقيقة ـ : أنه لم يتضح كون الاستعمالات المذكورة بلحاظ ارتفاع التلبس ، بل الظاهر كونها بلحاظ حال

١٣٢

التلبس ، مع كون الجري في غير حال النطق ، ولا حال العمل بالحكم ، بل بلحاظ ما سبقهما مما يطابق حال التلبس ، كما يظهر بملاحظة ما تقدم ، حيث يغني عن إطالة الكلام في ذلك.

نعم ، يحسن بسط الكلام في استدلالهم بما رواه الخاصة والعامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١).

ففي صحيح هشام بن سالم : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات : فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ، ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام ، مثل ما كان إبراهيم على لوط ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس ... وعليه إمام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة ، وهو إمام ، مثل أولي العزم. وقد كان إبراهيم عليه‌السلام نبيا وليس بإمام ، حتى قال الله : إني جاعلك للناس إماما.

قال : ومن ذريتي؟ فقال الله : لا ينال عهدي الظالمين. من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما» (٢).

وعن ابن المغازلي بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا دعوة أبي إبراهيم. قلت : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال : أوحى الله عزوجل إلى إبراهيم : إني جاعلك للناس إماما ، فاستخف إبراهيم الفرح ، قال : ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عزوجل إليه

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٢٤.

(٢) الكافي ج : ١ ص : ١٧٤. باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة من كتاب الحجة حديث : ١.

١٣٣

أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهدا لا أفي لك به. قال : يا رب ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال : لا أعطيك لظالم من ذريتك عهدا. قال إبراهيم عندها : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانتهت الدعوة إلى وإلى علي ، فاتخذني نبيا ، واتخذ عليا وصيا» (١). وقريب منهما غيرهما (٢).

فقد ذكروا أن الاستدلال بالآية الشريفة الذي تضمنته النصوص المذكورة إنما يتم بناء على عموم المشتق لحال انقضاء التلبس ، إذ لازمه كون المراد بعدم إمامة الظالم الذي تضمنته الآية الشريفة عدم إمامته حتى بعد ارتفاع ظلمه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه :

الأول : ما ذكره الشيخ الطوسي والطبرسي قدس‌سرهما ، ويظهر من غيرهما ، وتوضيحه : أن الآية لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عن من انقضى عنه الظلم حين صدورها ، بل بنحو القضية الحقيقية ، كانت شاملة للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم ، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبدا ، لأن تسليط النفي على الفعل المضارع من دون توقيت يقتضي التأييد.

وفيه : أن مقتضى الإطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه ، لا عدم ارتفاعه بارتفاع موضوعه ، وحيث أخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم بقاؤه ببقائه ، لا بقاؤه للذات بعد ارتفاعه ، نظير ما لو قيل : لا يصلى خلف الفاسق.

__________________

(١) غاية المرام في حجة الخصام للبحراني ص : ٢٧٠. وقريب منه في أمالي الشيخ الطوسي ص : ٣٨٨ طبع النجف الأشرف.

(٢) راجع الكافي ج : ١ ص : ١٧٥ ، الباب السابق ، وغاية المرام في حجة الخصام ص : ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

١٣٤

نعم ، لو كان العنوان مسوقا لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام الموضوع اتجه ما ذكروه. لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان في القضايا الحقيقية جدا.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من احتمال كون الظلم بحدوثه مانعا من الإمامة إلى الأبد ، فيكفي في امتناع إمامة الشخص صدق الظالم عليه بلحاظ حال التلبس ، بل هو المناسب لجلالة قدر الإمامة وعظم خطرها.

وفيه : أن الاحتمال المذكور مخالف لظاهر جعل العنوان ، لما سبق من أن حمل حال الجري على حال النسبة ـ وهي في المقام عدم نيل العهد ـ مقتضى القرينة العامة. ومجرد كون عموم المانعية لحال عدم صدق العنوان أنسب بجلالة قدر الإمامة لا تقتضي تعيينه بعد كون تبعيتها لصدقه ممكنا ، لأن رفعة المنصب بالمقدار الزائد على ذلك عين الدعوى.

الثالث : أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل الآية الشريفة عليه ، لاستهجان بيانه ، بل لا بد أن تحمل على ما يحتاج للبيان مما فيه نحو من الخفاء ، وهو مانعية الظلم آناً ما من قابلية الإمامة ، فيكفي صدق العنوان سابقا بلحاظ حال التلبس.

وفيه : أن وضوح منافرة المنصب للظلم بحسب المرتكزات العقلية والضروريات الفطرية الأولية لا يمنع من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملا بسبب جور الظالمين ، بل اعتقاد كثير من أهل الأديان بخلافه ، لشبهات روجها الطواغيت ، فقد اشتهر عند المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة ، وجرى بعض فرق المسلمين على ذلك ، بل عليه عامتهم في الإمامة الدنيوية.

ولو لا ما منّ الله تعالى به من وضوح الحجة ببقاء القرآن المجيد وجهود أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم المخلصين في التأكيد على ذلك وكشف حال

١٣٥

الظالمين وسلب الثقة منهم لاتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة في الدين يتبعونهم في الأحكام ويأخذون منهم الحلال والحرام ، كما تبعوا بعض الأوائل في كثير من فروع الدين وأصوله مع وضوح ظلمهم حين ادعاء المنصب. وإن حاول بعض الأتباع التلبيس والدفاع عن أئمتهم وتنزيه ساحتهم عن الظلم ، وسننهم في الدين عن الابتداع ، بعد أن اتضحت مانعية التلبس بالظلم من الإمامة. فكيف يستهجن مع ذلك إتمام الحجة ببيان صريح في القرآن المجيد الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار ، و (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(١).

إن قلت : إن تم هذا في عامة الناس فلا مجال لتوهمه في إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو المخاطب بالآية الشريفة ، حيث لا إشكال في استيضاحه منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم حينها.

قلت : لعل خطاب إبراهيم عليه‌السلام بذلك بلحاظ رسالته ، من أجل إعلام الناس به. نظير قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢).

وهناك وجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق.

والذي ينبغي أن يقال : الاستدلال بهذه النصوص على عموم المشتق موقوف ..

أولا : على ورودها في مقام الاحتجاج بالآية الشريفة على عدم إمامة من عبد صنما أو وثنا ، كي يتعين كون استفادة ذلك منها بمقتضى الوضع أو الظهور العام ، ليتسنى إلزام الخصم به في مقام الاحتجاج.

__________________

(١) سورة فصلت الآية : ٤٢.

(٢) سورة الزمر الآية : ٦٥.

١٣٦

وثانيا : على أن المراد بالعهد في الآية الإمامة التي لا تثبت فعلا للشخص إلا بوجوده واجتماع الشروط فيه ، ومنها عدم كونه ظالما ، كي يدعى أن ظاهرها لزوم عدم كونه ظالما حين انعقاد الإمامة له ، فلا يشمل من خرج عن التلبس بالظلم إلا بناء على عموم المشتق.

ولا طريق لإثبات أحد الأمرين فضلا عن كليهما ، لو لم يكن الظاهر خلافهما.

أما الأول فلعدم ظهور النصوص في الاحتجاج بالآية الشريفة والإلزام بمفادها في مقابل خصم منكر ، بل في مجرد بيان المراد منها ، ولا مانع من ابتناء إرادة ما تضمنته النصوص منها على خلاف ظهورها البدوي لقرائن اطلع عليها من أوتي علم الكتاب ، تشهد باستعمال المشتق ـ ولو مجازا ـ في حال انقضاء التلبس ، أو بأن حال الجري ليس هو حال ثبوت الحكم.

وأما الثاني فلاحتمال أن يكون المراد بالعهد في الآية هو عهده تعالى لإبراهيم عليه‌السلام بجعل الإمامة في ذريته بعد طلبه ذلك واستفهامه عنه ، بل لا يبعد ظهورها في ذلك بحمل العهد على الفعلي الشخصي ، لا الكلي المنحل إلى أفراد تقديرية لا تكون فعلية إلا بنصب الإمام في وقته.

على أن إطلاق العهد على ذلك لا يخلو عن تكلف ، فإن العهد عرفا مساوق للوعد الجازم ، الذي يكون موضوعه أمرا استقباليا ، فنصب الإمام ليس عهدا ، بل تنفيذ للعهد المذكور. بل ذلك كالصريح من النبوي. وعليه يكون مفاد الآية أن العهد الذي أعطاه الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام بجعل الأئمة من ذريته لا يتناول الظالم منهم.

وحينئذ لا بد أن لا يراد به الظالم منهم حين قطع العهد ، لعدم وجودهم أو عدم وجود أكثرهم حينه ، بل يتعين حمله على من يكون ظالما حين وجوده

١٣٧

ولو بلحاظ خصوص حال التلبس بالظلم ، فيعم بإطلاقه من يبقى عليه ومن يفارقه. وذلك كما يقتضي عدم مقارنة الإمامة للتلبس بالظلم يقتضي عدم تأخرها عنه وعدم سبقها عليه. وهو المناسب لما عليه الإمامية أعز الله دعوتهم وأظهر حجتهم من وجوب عصمة الإمام.

كما أن الآية الكريمة تناسب مذهبهم في الإمامة وأنها مجعولة منه تعالى لشخص الإمام ابتداء ، لعلمه السابق بأهليته لها ، لا إمضاء لبيعة الناس له بها الذي هو مذهب العامة ، لعدم صحة النسبة له تعالى في الإمضائيات عرفا ـ على ما سبق عند الكلام في المعاملات من مبحث الصحيح والأعم ـ وللعلم بعدم ابتناء إمامة إبراهيم عليه‌السلام على ذلك. وبذلك تصلح الآية الشريفة للحكومة على أدلة أحكام الإمامة ـ كالنبوي المتسالم عليه بين الفريقين المتضمن أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (١) ـ لنهوضها ببيان كيفية نصب الإمام.

ومن الغريب ما أجهد به الرازي نفسه في محاولة لحمل الآية على إمامة النبوة دون إمامة الخلافة بوجوه سطرها لا ترجع إلى طائل ، غافلا أو متغافلا عن أن الإمامة تباين النبوة مفهوما وإن اجتمعتا في بعض الأشخاص ـ كما تضمنه صحيح هشام بن سالم المتقدم ـ وعن أن إمامة إبراهيم عليه‌السلام كانت بعد نبوته ، وبعد أن أتم الكلمات التي ابتلاه الله تعالى بها ووفى بها.

والحمد لله تعالى على هدايته لدينه والتوفيق لما دعا إليه من سبيله. ونسأله الثبات على الهدى والصلاح. ومنه نستمد العون والتوفيق والتسديد والتأييد ، وإليه يرجع الأمر كله ، ولا حول ولا قوة إلا به ، عليه توكلت وإليه أنيب.

__________________

(١) الكافي ج : ١ ص : ٣٧٦. باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى من كتاب الحجة.

والبحار ج : ٢٣ ص : ٧٦ باب وجوب معرفة الإمام ... من كتاب الإمامة.

١٣٨

المقصد الثاني

في الأوامر والنواهي

وقد جرى الأصوليون على التفريق بين الأوامر والنواهي وتخصيص كل منهما بمقصد يخصه ، مع أن النواهي تشارك الأوامر في جلّ المباحث المذكورة في مقصدها أو تقابلها فيها ، ولذا لم يذكروا أكثر تلك المباحث في مقصد النواهي اكتفاء بما ذكروه في مقصد الأوامر. ومن هنا كان الأنسب ما جرينا عليه من جمعهما في مقصد واحد ، مع تعميم موضوع البحث لهما في مورد الاشتراك ، وتخصيصه بأحدهما في

مورد الانفراد.

مقدمة

الظاهر أن الأمر والنهي متقابلان مفهوما واقتضاء ، فالأمر نحو نسبة وإضافة بين الآمر والمأمور والماهية المأمور بها تقتضي تحقيق المأمور للماهية المأمور بها وإيجادها في الخارج ، والنهي نحو نسبة وإضافة بين الناهي والمنهي والماهية المنهي عنها تقتضي ترك المنهي للماهية المنهي عنها. فتقابلهما بلحاظ سنخهما وأثرهما ، نظير تقابل الإرادة والكراهة في حقيقتهما ونحو اقتضائهما للمراد والمكروه.

وقد يظهر من بعض عباراتهم اتحاد نحو النسبة فيهما وأن التقابل بينهما إنما هو في المتعلق ، فقد ذكروا في بيان مفاد النهي أنه لا فرق بينه وبين الأمر إلا

١٣٩

في أن المطلوب في الأمر الوجود وفي النهي العدم ، بل يظهر من بعض عباراتهم رجوع أحدهما للآخر ، حيث حكي عن بعضهم في مسألة الضد أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام وهو الترك.

لكن ذلك مناف للمرتكزات العرفية في معنى النسبتين ، ومبني على نحو من التسامح أو اشتباه حقيقة النسبة بلازم مقتضاها في مقام الامتثال والعمل.

إذا عرفت هذا فالكلام في الأوامر والنواهي يقع في ضمن فصول ..

١٤٠