الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

تشهد بشيوع إطلاق المسمى فيها على ما يعم ما ثبت في حق غير الشخص المذكور ، على نحو إطلاقه على ما ثبت في حقه.

والذي ينبغي أن يقال : الترديد إنما يمتنع في الماهيات الحقيقية ، لأنها أمور واقعية تتقوم بذاتياتها ، فلا يعقل دخل شيء فيها بالإضافة إلى فرد دون آخر ، فضلا عن مانعيته في الآخر.

أما الماهيات الاعتبارية المخترعة فلا مانع من الترديد فيها ، لتقوّمها بالاعتبار ، فيمكن لحاظها بالإضافة لبعض الخصوصيات بنحو الترديد ، فتختلف فيها باختلاف الأفراد ، سواء كانت من سنخ ما به الاشتراك بين الأفراد ـ كعدد الركعات في الصلاة ـ أم من سنخ آخر ـ كسياق الهدي الذي يختص به حج القران ـ فهي في ذلك نظير الماهية المشككة بالإضافة إلى مراتب وجود الحقيقة الواحدة.

فمفهوم الدار مثلا يتوقف على المكان المسور المشتمل على غرفة ، وقد أخذ فيه بنحو الترديد زيادة الغرف ، وبعض الكماليات ، مثل الحمام والسرداب ، فهي في ظرف عدمها في الفرد لا تخل بصدق الدار التامة عليه ، وفي ظرف وجودها لا تكون زائدة عليها خارجة عنها ، فليست هي كالمحل التجاري الذي لو اتصل بالدار خرج عنها ، وكان المجموع أكثر من دار. وكذا الحال في مثل السيارة التي تختلف التامة منها في الأجزاء والشرائط باختلاف الأفراد اختلافا فاحشا ، حتى ربما يكون بعض الآلات مقوما لفرد منها ومضرا بآخر.

ومن هنا لا يمنع اختلاف أفراد الصحيح في الأجزاء والشرائط سنخا وكمّا من فرض جامع اعتباري بينها ، قد أخذت فيه خصوصيات الأجزاء والشرائط بنحو الترديد تبعا لاختلاف الأفراد فيها.

١٠١

نعم ، لا بد فيه من لحاظ جهة تجمع شتات الأفراد المختلفة وتقصر عن غيرها تكون معيارا في تحديد المسمى. والإشكال إنما هو في تعيين تلك الجهة بعد ما سبق من الإشكال في الجامع البسيط والمركب الذي لأجله منع غير واحد من وجود الجامع الصحيحي.

لكن الإشكال مختص بما إذا كان الوضع تعيينيا من قبل الشارع الأقدس مع قطع النظر عن التشريع ، حيث لا جهة تصلح للتعيين حينئذ ، وقد سبق في مبحث الحقيقة الشرعية أنه لا مجال للبناء عليه ، بل الوضع في العرف الشرعي تعيني مستند للاستعمالات المتكثرة من الشارع وأتباعه للألفاظ الخاصة في الوظائف الخاصة بعد الابتلاء بها بسبب التشريع.

إذ عليه يمكن كون التشريع معيارا عندهم في التسمية ، لا بمعنى أخذ التشريع بمفهومه قيدا في المسمى ، ليرجع للجامع البسيط ، بل بمعنى أن العرف الخاص بعد الالتفات لأفراد المشروع من كل وظيفة من هذه الوظائف ، وإدراك نحو من السنخية بينها ينتزع منها جامعا اعتباريا صالحا للانطباق عليها ، ويكون الوضع التعيني له ، ولا مانع من شمول الجامع المذكور لما شرع بعد الوضع ، لتحقق معياره فيه ، فيدخل في المسمى.

فالتشريع يكون معيارا لضبط العرف الشرعي للأفراد التي ينتزع الجامع منها بعد إدراك نحو من السنخية بينها ، مع مطابقة الجامع لكل فرد بما له من أجزاء وشرائط ـ اقتضاها التشريع ـ بعناوينها الذاتية ، وليست خصوصياتها ملحوظة إلا بنحو الترديد تبعا لواقع الأفراد. وعليه يكون الجامع مركبا بالنحو المذكور ، ومعياره التشريع. وهذا الجامع يمكن الوضع له ثبوتا ، وإن كان إحراز ذلك موقوفا على النظر في حجة القول بالصحيح.

هذا ، ولا يخفى أنه لا مجال لاستعمال الشارع في الجامع المذكور في

١٠٢

مقام تشريع الماهية أو تشريع فرد منها ـ كصلاة العيد ـ لتأخر صدق الجامع عن التشريع رتبة ، بل لا بد في بيان ما هو المشروع من الاستعمال بوجه آخر ولو باستعمال الألفاظ مجازا في الذوات بأنفسها مع قطع النظر عن التشريع ، أو بالاستعمال في المعنى اللغوي مع تقييده ببعض القيود بنحو تعدد الدال والمدلول.

وحينئذ لو شك في اعتبار شيء فيه فلا موضوع للثمرة المتقدمة ، وهي إجمال الخطاب بسبب إجمال العنوان الصحيحي من حيثية الأمر المشكوك ، لفرض عدم الاستعمال في الجامع المذكور ، بل يتعين الرجوع لدليل التشريع ، فإن نهض ببيان اعتباره ، أو عدمه ، وإلا كان المرجع الأصل.

نعم ، يمكن الاستعمال فيه في مقام بيان أمر آخر بعد الفراغ عن التشريع ، مثل تأكد مطلوبيته في بعض الأحوال كاستحباب الصلاة لدخول المسجد ، والصوم يوم الغدير. وحينئذ لا بأس بالتمسك بإطلاقه لإحراز عموم المراد لتمام أفراد المشروع ، لا لإحراز سعة الأمر المشروع ودفع احتمال اعتبار شيء فيه.

المقام الثاني : في الجامع الأعمي. ومما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي يتضح تقريب الجامع الأعمي ، لأنه بعد ابتلاء أهل العرف الشرعي بالماهيات المخترعة فكما يمكنهم انتزاع الجامع الاعتباري بين أفرادها المشروعة بنحو الترديد بين الخصوصيات المتعددة في أفرادها المختلفة ، كذلك يمكنهم انتزاع الجامع بينها وبين ما يشبهها عرفا مما كان مسانخا لها في الأجزاء ـ وإن خالفها في خصوصياتها ـ على نحو الترديد بين الخصوصيات المتبادلة في الأفراد المختلفة ، بحيث ينطبق على قليل الأجزاء بعين انطباقه على كثيرها ، من دون أن يكون في الكثير زيادة على المسمى ، ولا في القليل نقص عنه.

١٠٣

وعليه في الجملة يبتني تقسيم العمل إلى التام والناقص والصحيح والفاسد ، لأن التقسيم فرع ملاحظة جامع بين القسمين يكون مقسما لهما ، وينطبق على كل منهما ، وإن وقع الكلام في أن هذا الجامع هو الموضوع له أو لا.

ولعله إلى هذا يرجع تقريبه بأنه عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا ، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى ، وعدمه عن عدمه.

وفي التقريرات أنه نسب إلى جماعة من القائلين بالأعم ، بل قيل : إنه المعروف.

حيث لا يبعد عدم إرادتهم الوضع لمفهوم المعظم ، بل لواقع الأجزاء التي يتحقق بها في الخارج ، وعدم إرادتهم أجزاء معينة ، بل كل ما يتحقق به المعظم في الخارج بنحو البدلية ، وعدم إرادتهم خصوص المعظم ، بحيث يكون في التام أو الزائد عليه زيادة على المسمى ، بل مرادهم الأعم من المعظم والزائد وما بينهما من المراتب بأخذ الأجزاء بنحو الترديد من حيثية النوع والكم. وبذلك يندفع ما أورد عليه في كلام غير واحد.

ولعل هذا أحسن الوجوه وأبعدها عن الإشكال ، كما يظهر من مراجعتها في كلماتهم. ومن ثم نقتصر عليه في المقام.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام في حجج كل من القولين ، وهو في مقامين :

المقام الأول : في حجة القول بالصحيح. وقد استدل عليه بوجوه.

الأول : التبادر. لكن قد يدفع بعدم وضوح استناده لحاقّ اللفظ ، بل قد يكون منشؤه اختصاص الآثار والأغراض بالصحيح ، فإن ذلك كالقرينة العامة التي يمكن استناد التبادر إليها في المقام. وقد يناسب ذلك أن المتبادر من

١٠٤

الكلام في مقام الحث على العمل هو خصوص المأمور به ، وفي مقام الإخبار عن الأداء مطلق المجزي وإن لم يكن مطابقا للمأمور به.

الثاني : صحة السلب عن الفاسد. فقد أصرّ عليها المحقق الخراساني قدس‌سره ، وذكر أن إطلاق الأسماء على الفاسد وإن صح تسامحا وبالعناية ، إلا أن السلب يصح أيضا بالمداقة ، التي هي المعيار في الدلالة على قصور المعنى الموضوع له عن مورد السلب. لكن سبق عند الكلام في علامات الحقيقة الإشكال في الاستدلال بصحة السلب. مضافا إلى أن المتيقن صحة السلب بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم. وأما صحته بلحاظ المعنى الحقيقي للفظ فهي لا تخلو عن إشكال.

الثالث : ما تضمن إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصلاة عماد دينكم» (٢) ، وقوله عليه‌السلام : «الصوم جنة من النار» (٣) ، بدعوى : أن مقتضى إثباتها للماهية ثبوتها لجميع أفرادها ، وحيث لا تثبت للفاسد لزم عدم كونه من أفرادها. وكذا ما تضمن أخذ بعض الأجزاء والشرائط في الماهية ، كقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بطهور» (٤) ، وقوله عليه‌السلام في من لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته : «لا صلاة له إلا أن يقرأ بها ...» (٥) ، وقوله عليه‌السلام : «فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن أصحاب الأراك لا حج لهم ، يعني الذين يقفون عند الأراك» (٦) ، وغيرها. لظهوره في

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية : ٤٥.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ١ من أبواب الاستحاضة حديث : ٥.

(٣) الكافي ج : ٢ ص : ١٩. كتاب الإيمان والكفر ، باب دعائم الإسلام حديث : ٥.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٥) الوسائل ج : ٤ باب : ١ من أبواب القراءة في الصلاة حديث : ١.

(٦) الوسائل ج : ١٠ باب : ١٩ من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث : ١١.

١٠٥

عدم صدق مفاهيم هذه الألفاظ حقيقة في الموارد المذكورة.

لكن سبق عند الكلام في استكشاف الجامع الصحيحي من طريق الأثر الإشكال في اختصاص الآثار بالأفراد الصحيحة ، وفي عمومها لجميعها. على أن ذلك لو تم واستفيد من هذه الأدلة فلعله بقرينة ورودها في مقام الحث على العمل تأكيدا لداعوية التشريع ، فتختص بالمشروع ، لا لاختصاص المسمى بالصحيح.

وأما ما دل على نفي الماهية عند انتفاء بعض الأجزاء أو الشرائط فالاستدلال به موقوف على كون النفي حقيقيا ، لا ادعائيا بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم ، ولا تنهض أصالة الحقيقة بذلك ، لأن المتيقن من بناء العقلاء عليها ما لو شك في المراد وعلم بالوضع ، دون العكس ، كما أشرنا إليه عند الكلام في كون التبادر علامة على الحقيقة. ومن الظاهر أن ما سيقت له هذه الأدلة ليس هو بيان سعة المفهوم وتحديده ـ نظير كلام اللغويين ـ ليرجع الشك في كون النفي حقيقيا أو ادعائيا إلى الشك في المراد ، بل بيان بطلان العمل وعدم الاعتداد به في مقام الامتثال ، لأن ذلك هو وظيفة الشارع ، ولذا لو دل دليل على الاجتزاء بفاقد الجزء أو الشرط الذي تضمنته هذه الأدلة كان معارضا لها ، ولو كانت مسوقة لتحديد المفهوم لم يكن معارضا لها ، لأن عدم تحقق المسمى بالفاقد لا ينافي الاجتزاء به بدلا عنه.

الرابع : ما اعتمده شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ كما في التقريرات ـ وهو أن طريقة الواضعين وديدنهم في الوضع للماهيات المخترعة هو الوضع لخصوص التام منها ، لأنه الذي تقتضيه حكمة الوضع ، وهي مساس الحاجة للتعبير عنها كثيرا والحكم عليها بما هو من لوازمها وآثارها. وأما استعماله في الناقص الذي قد تدعو الحاجة إليه فليس إلا تسامحيا تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود.

١٠٦

وقد أورد عليه سيدنا الأعظم قدس‌سره بأن التمام والنقصان كالصحة والعيب تطرءان على الماهيات المسماة ، فيقال : سرير ناقص وسرير تام ، وبيت ناقص وبيت تام ، كما يقال : هو صحيح ومعيب ، بلا تصرف ولا عناية ، فلا بد من الالتزام بأن المسميات في الماهيات المخترعة ـ ومنها المقام ـ الأعم من التام والناقص ، وهو الذي يطرأ عليه النقصان والتمام.

ويندفع بأن فرض التمامية والنقص شاهد بكون المسمى هو التام ، إذ لو عم الناقص كان الجزء مأخوذا بنحو الترديد ـ نظير الماهية المشككة ـ فلا يفرق في صدق المسمى وتماميته بين القليل والكثير ، ولا يكون النقص إلا بفوت بعض المسمى المستلزم لاختصاص التسمية بالتام. ومن ثم كان التوصيف بالنقص من سنخ الاستدراك والاستثناء عرفا ، والتوصيف بالتمامية من سنخ التأكيد الذي لا يختلف مفاده عن المؤكد. كما لا إشكال ظاهرا في انصراف الإطلاق للتام.

ولا مجال لقياس المقام بالصحة والعيب اللذين هما من الحالات الطارئة على الأفراد من دون إخلال بشيء من مقومات الماهية الدخيلة في التسمية ، لعدم كون المعيار فيهما تمامية الأجزاء وعدمها ، بل عروض أمور خارجة تمنع من ترتب الغرض النوعي من الماهية على الفرد.

ومن هنا لا بد من ابتناء التقسيم إلى التام والناقص على نحو من التسامح والخروج بلفظ المقسم عن معناه ، واستعماله في الجامع بينه وبين الناقص ، نظير تقسيم الماء إلى المطلق والمضاف. وبلحاظه قد يطلق المسمى على الناقص من دون أن يكون استعماله حقيقيا. ولذا لا إشكال في صحة الاستعمال في الناقص فيما يعلم اختصاصه بالتام ، كالكتب التي يسميها أصحابها حيث لا إشكال في كون المسمى هو التام منها.

١٠٧

نعم ، حيث يشترك القسمان في الصورة كان انتزاع الجامع المذكور ارتكازيا ولم يحتج إلى عناية زائدة ، بل قد يغفل عن العناية فيه ، بخلاف التقسيم المذكور في أسماء المقادير من الأعداد والأوزان والمكاييل والمساحات ، فإنه يبتني على عناية ظاهرة ، لتقومها بمحض الكمّ من دون أخذ صورة فيها يسهل بملاحظتها انتزاع الجامع بين التام والناقص.

ومن هنا قد يجعل التوصيف بالتمامية والنقص والتقسيم للتام والناقص دليلا آخر على الوضع لخصوص الصحيح. إلا أن يمنع القائل بالأعم من التوصيف والتقسيم المذكورين حقيقة بلحاظ نقص بعض الأجزاء أو الشرائط وتماميتها ، بدعوى أنهما إنما يصحان تسامحا بلحاظ ترتب الغرض وعدمه.

وكيف كان فقد ظهر عدم نهوض ما سبق بدفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من الاستدلال على الصحيح بطريقة الواضعين.

فالعمدة في الإشكال فيه : أنه يبتني على استناد التسمية لوضع تعييني من قبل الشارع الأقدس ، وقد سبق في مبحث الحقيقة الشرعية المنع منه ، وأن الوضع تعيني مستند للاستعمالات المتكثرة من أهل العرف الشرعي في المعنى الجديد بعد الابتلاء به ، وحينئذ كما يمكن اختصاصه بالصحيح الذي هو مورد الغرض والأثر ، يمكن عمومه للجامع المنتزع منه ومن الفاسد ـ بلحاظ السنخية المشار إليها آنفا ـ بسبب الابتلاء به ، وحيث لا إشكال في وقوع الاستعمال منهم في الصحيح بخصوصيته ، لأنه مورد الغرض والأثر ، وفي الجامع المنتزع بينه وبين الفاسد ، لشيوع الحاجة إليه ، فلا بد من إثبات أن أي الاستعمالين غلب حتى تحقق الوضع على طبقه وبقي الآخر محتاجا للقرينة.

المقام الثاني : في حجة القول بالأعم. وقد استدل عليه بوجوه ..

الأول : التبادر. وفيه أنه لا ريب في التبادر لخصوص الصحيح ، وإن

١٠٨

سبق الإشكال في استناده لحاقّ اللفظ.

الثاني : عدم صحة السلب عن الفاسد لكن سبق في علامات الحقيقة الإشكال في الاستدلال بذلك. مضافا إلى أنه لم يتضح عدم صحة السلب بلحاظ المسمى بما له من حدود مفهومية ، بل قد يكون بلحاظ الجامع المنتزع ارتكازا بين الصحيح والفاسد ، فإنه كالجامع المنتزع بين التام والناقص الذي سبق أنه لا يحتاج إلى مزيد عناية ، بل قد تخفى العناية فيه لكونه ارتكازيا وإن كان الوضع لخصوص الصحيح. ويأتي في بيان المختار ما يشهد بابتناء عدم صحة السلب على ذلك.

الثالث : صحة التقسيم إلى الصحيح والفاسد فإنها تستلزم انطباق المسمى المقسم على كل منهما وعمومه لهما. وما سبق في الوجه الرابع للاستدلال على الصحيح من منع الاستدلال على الأعم بصحة التقسيم للتام والناقص ، لا يجري في المقام ، لأن فرض التمامية والنقص مستلزم لدخل الأجزاء التي تتوقف عليها التمامية في الحدود المفهومية للمسمى ، بخلاف الصحة والفساد ، فإنهما ـ كالصحة والعيب ـ إنما ينتزعان من ترتب الغرض النوعي وعدمه ، ولو مع تحقق الماهية المسماة في الحالين.

وفيه : أن صحة التقسيم إنما تستلزم عموم المراد من المقسم في مقام التقسيم ، ولا تكشف عن عموم المعنى الموضوع له إلا إذا ثبت أن المراد بالمقسم في مقام التقسيم هو المعنى الموضوع له بما له من الحدود المفهومية ، ولا مجال لذلك في المقام بعد ما أشرنا إليه في الوجه المذكور من ارتكازية الجامع بين الصحيح والفاسد بلحاظ اشتراكهما في الصورة بنحو قد يغفل عن العناية فيه.

الرابع : جملة من النصوص الظاهرة في إرادة الفاسد كموثق فضيل أو

١٠٩

صحيحه عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : بنى الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه» (١) ، وفي صحيح زرارة عنه عليه‌السلام : «أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ...» (٢) ، فإن الأخذ بالأربع لا يكون إلا بإرادة الفاسد منها ، بناء على اعتبار الولاية في صحة العبادة. ومثله ما تضمن نهي الحائض ونحوها عن الصلاة مما هو كثير جدا ، لتعذر الصحيح منها في حقها فيمتنع النهي عنها إلا بإرادة الفاسد.

وفيه ـ مع أن الاستعمال أعم من الحقيقة ـ : أن المراد من الأربع التي بني الإسلام عليها في الحديث الأول هي الصحيحة ، وهي التي أخذ الناس بها بمقتضى السياق ، غايته أن أخذ الناس بها ادعائي ولو لاعتقادهم صحتها. ومن القريب حمل الحديث على ذلك ، بالتسامح في إطلاق هذه العناوين على ما وقع منهم ، لاعتقادهم تماميته.

كما أن ما تضمن نهي المحدث عن الصلاة إن كان إرشاديا فكما يمكن أن يكون إرشادا إلى بطلان العمل مع تحقق المسمى كما هو مقتضى الوضع للأعم ، يمكن أن يكون إرشادا إلى عدم تحقق المسمى كما هو مقتضى الوضع للصحيح. وإن كان مولويا راجعا إلى تحريم الفعل ـ الذي عليه يبتني وجه الاستدلال ـ فمن المعلوم أن المحرم ليس مطلق ما يصدق عليه الاسم عرفا ، ليناسب إرادة الأعم ، بل خصوص ما هو الصحيح لو لا الحدث ، فيناسب إرادة الصحيح ـ ولو كان إضافيا ـ في المقام.

__________________

(١) الكافي ج : ٢ ص : ١٨. كتاب الإيمان والكفر ، باب دعائم الإسلام حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ٢٩ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٢.

١١٠

وبعبارة أخرى : لا بد من ابتناء الاستعمالات المذكورة على نحو من التصرف والعناية ، إذ على الأعم يراد به بعض أفراد المسمى لا جميعها ، كما هو مقتضى الإطلاق ، وعلى الصحيح يراد به ما تحقق به المسمى لو لا الجهة الموجبة للنهي ، ويحتاج تعيين أحد الأمرين إلى دليل.

ومنه يظهر حال الاستدلال بإمكان نذر مثل ترك الصلاة في الحمام ، مع عدم إرادة خصوص الصحيح منها ، لتعذره بسبب النهي الحاصل من النذر.

لاندفاعه بلزوم ابتناء الاستعمال على التصرف بأحد الوجهين المتقدمين ، ولا يمكن حمله على ما يناسب الظهورات الأولية على كل حال.

هذه عمدة الوجوه المستدل بها للقولين ، وهناك وجوه أخر يضيق الوقت عن ذكرها لظهور ضعفها. ومن هنا لا ينهض ما ذكروه بإثبات أحد الوجهين.

والذي ينبغي أن يقال : الأدلة التي استفيد منها أجزاء العبادات ذات العناوين الشرعية الخاصة بأنواعها ـ كالوضوء والصلاة والحج ـ وبأصنافها ـ كصلاة الآيات والعيدين وحج الإفراد ـ على قسمين :

الأول : ما كان مسوقا لشرح الماهية المسماة وبيان أجزائها كقوله عليه‌السلام في بيان حدّ الوضوء : «تغسل وجهك ويديك وتمسح رأسك ورجليك» (١) ، وصحيح عمر بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنه وصف التيمم فضرب بيديه على الأرض ثم رفعهما فنفضهما ثم مسح على جبينيه وكفيه مرة واحدة» (٢). وقوله في الصلاة : «ويفتتح بالتكبير ويختم بالتسليم» (٣) ونحوها غيرها مما ورد في شرح الوضوء والغسل والحج وغيرها.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١٥ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ١١ من أبواب التيمم حديث : ٦.

(٣) الوسائل ج : ٤ باب : ١ من أبواب التسليم حديث : ٢.

١١١

ومقتضى هذا توقف صدق المسمى على تمام الأجزاء الذي تضمنه بنحو المجموع لا بنحو الترديد بحيث يكفي فيه المعظم. والظاهر جري العرف الشرعي على ذلك ، لما هو المتعارف من أخذ الماهيات المخترعة من مخترعها ، والجري على ما أسسه فيها ، ولا سيما في عرفه وعرف أتباعه.

الثاني : ما كان مسوقا لبيان ما يجب في الماهية بحيث يتوقف عليه امتثال أمرها ، كآيتي الوضوء والغسل والتيمم ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» (١). وقوله عليه‌السلام : «الوقوف بالمشعر فريضة ...» (٢).

وهذا القسم وإن لم يصرح فيه بأن ما تضمنه جزء للمسمى إلا أن المتشرعة جروا على جزئيته منه ، إما للمفروغية عن أن ما يجب في العمل المسمى ليس إلا أجزاؤه المقومة له ، فيصلح ما يدل على وجوب شيء فيه لبيان جزئيته منه وإما لأن المسمى عندهم هو المطلوب في العمل ، نظير ما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي من كون التشريع عندهم معيارا في التسمية.

وحيث كان مفاد هذا القسم لزوم تمام ما تضمنه بنحو المجموع أيضا لا بنحو الترديد ـ بحيث يكفي المعظم ـ تعين اختصاص المسمى بالواجد لتمام تلك الأجزاء ، كما هو الحال في القسم الأول.

وبعبارة أخرى : حيث لا طريق لمعرفة أجزاء الماهية المعتبرة في المسمى بمجموعها ـ كما هو مقتضى القول بالصحيح ـ أو بنحو الترديد والاكتفاء بالمعظم ـ كما هو مقتضى القول بالأعم ـ إلا اشتمال الأدلة ـ بقسميها المتقدمين ـ عليها كان اللازم الرجوع لها في كيفية أخذ تلك الأجزاء في المسمى ، وحيث كان مقتضاها لزوم تلك الأجزاء بمجموعها ، وعدم الاكتفاء بالمعظم منها ، تعين كون دخلها في المسمى بهذا النحو ، كما هو المناسب

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١ من أبواب القراءة في الصلاة حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج : ١٠ باب : ٤ من أبواب الوقوف بالمشعر حديث : ٢.

١١٢

للقول بالصحيح.

وأما احتمال خروج العرف الشرعي في التسمية عن مقتضى الأدلة المذكورة إلى الأعم بسبب كثرة الابتلاء بالناقص والحاجة لتفهيمه. فهو بعيد جدا ، بل لا يعتد به عرفا ، سواء أريد به حصول التسمية عندهم للأعم ابتداء ، بحيث لم يبلغ ما تقتضيه الأدلة حدّ الوضع ، أم تجدد التسمية له بعد الوضع للتام بنحو النقل أو الاشتراك. إذ الأول لا يناسب ما تقدم. والثاني إنما يتجه لو فقد الصحيح خصوصيته المقتضية للاهتمام بتفهيمه وصار كالفاسد في ذلك ، ومن المعلوم عدم فقده الخصوصية المذكورة ، حيث لم يزل مورد الغرض والأثر الموجب لاختراع الماهية المسماة ، وليس الابتلاء بالفاسد إلا بتبعه. ولا سيما مع عدم احتياج تفهيم الأعم لمزيد عناية بعد ما تقدم من ارتكازية الجامع ومألوفيته عرفا ، حيث لا تمس الحاجة مع ذلك للوضع له.

بل الرجوع للمتشرعة في بيان أجزاء المسميات وشرحها ـ بأنواعها وأصنافها ـ شاهد بمتابعتهم لمقتضى الأدلة المذكورة ، حيث يستوفون أجزاءها المعتبرة فيها على أنها بتمامها أجزاؤها المقومة لها والتي تنقص بدونها ، لا أنه يكفي في صدقها وجودها في الجملة بحيث يتم المسمى مع نقص شيء منها وإن لم يجزئ إلا بتماميتها.

وبذلك يظهر أن إطلاق الأسماء على الفاسد أو الأعم منه ومن الصحيح مبني على التسامح والخروج عن المعنى بلحاظ الجامع الارتكازي الذي أشرنا إليه عند الكلام في الاستدلال على الأعم بعدم صحة السلب.

نعم ، الظاهر أن الماهية الواحدة إذا اختلفت أصنافها كان المعيار في صدقها عرفا هو الأجزاء المعتبرة في جميع الأصناف مع الترديد فيها بالإضافة إلى الخصوصيات الأخر حسب اختلاف تشريعها ، ولا تكون الخصوصيات الزائدة على ذلك معتبرة فيها ، بل في الأصناف ، لأن ذلك هو الأنسب بشرح

١١٣

الماهية وبيان أجزائها من قبل الشارع ، فالصلاة مثلا عبارة عن التكبير وقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين ـ بأذكارها ـ والتشهد والتسليم ، لأنها المعتبرة في كل الصلوات ، مع الترديد من حيثية أنحاء الركوع والسجود ـ من قيام وجلوس أو غيرهما ـ وكمية القراءة وعدد الركعات والركوعات والفاتحة والتسبيحات في الأخيرتين وغير ذلك مما تختلف فيه أصنافها ، فإن تمت هذه الأمور تمت ماهية الصلاة وإن لم تكن مشروعة. والإخلال بالخصوصيات إنما يوجب الإخلال بالأصناف المشروعة منها بخصوصياتها ـ كالظهر والعصر ـ لا بصدق الماهية المشتركة بين الأصناف ، بل لا يخل بها إلا نقص الأجزاء المقومة أو فقدها ، فإذا خلت الصلاة عن الركوع مثلا كانت صلاة ناقصة ، أما إذا كانت ركعة واحدة واجدة للأجزاء المذكورة فهي صلاة تامة مشروعة ـ كالوتر ـ أو غير مشروعة.

والظاهر أن تشريع بعض الصلوات الخالية عن بعض هذه الأجزاء يبتني إما على البدلية عن الصلاة ـ كصلاة المطاردة ، كما يناسبه التعبير في بعض نصوصها بفوت الصلاة ـ أو على الاكتفاء بالصلاة الناقصة ـ كصلاة الأخرس وجميع موارد قاعدة الميسور ـ وإطلاق الاسم عليها توسع بلحاظ تحقق الغرض به ، كما أن ما تضمن الاكتفاء بالناقص في مورد حديث : «لا تعاد ...» ، ونحوها لا يستلزم كونها صلاة تامة بل مقتضى الجمع بين الأدلة أنها ناقصة مجزية عن التامة.

ويجري ذلك في جميع الماهيات المركبة ، كالطهارات الثلاث والصوم والحج والعمرة وغيرها.

هذا ، وأما الشروط فهي مختلفة ، إذ لا إشكال في دخل قصد عناوين الأفعال ـ من وضوء وصلاة وصوم ونحوها ـ ولو إجمالا ، فإن العرف لو اطلعوا على خلوّ العمل عنه لحكموا بأنه صورة العمل المسمى لا من أفراده. وفي

١١٤

دخل الترتيب والموالاة ـ في مثل الصلاة ـ إشكال.

وأما بقية الشروط فالظاهر عدم دخلها وإن اعتبرت في تمام أفراد الماهية ـ كالخلوص من الرياء في جميع العبادات ، والطهارة في الصلاة ـ كما هو الحال في جميع الشروط الدخيلة في فعلية ترتب الأثر في الماهيات المخترعة عند العرف ، لصحة الحمل على الفاقد لها ارتكازا ، ولو كانت دخيلة في التسمية لم يصح الحمل إلا بعناية المشابهة في الصورة ، نظير الحمل على صورة العمل الخالية عن قصد عنوانه ، مع أنه ليس كذلك قطعا. وليس هو كالفاقد للجزء مما يصح فيه الحمل بلحاظ الجامع الارتكازي بين التام والناقص الذي تقدم التعرض له ، لأن الناقص بعض العمل المسمى ، وفاقد الشرط مباين لواجده رأسا.

هذا ، وأما ما ذكره بعض مشايخنا من دوران التسمية مدار الأركان ـ بمعنى توقف صدق الاسم عليها مع

لحاظ بقية الأجزاء والشروط بنحو الترديد ـ لأن مقتضى أدلتها كونها مقومة للمفاهيم المذكورة.

فيندفع بأن عنوان الأركان لم يؤخذ في الأدلة الشرعية لينظر في مفهومه ، وإنما هو مصطلح أطلقه جماعة من الفقهاء على بعض أجزاء الصلاة وشروطها ، لامتيازها عن غيرها ببطلان الصلاة بالإخلال بها ولو سهوا ، وبصحتها مع المحافظة عليها ولو مع الإخلال بغيرها سهوا. والأول أعم من توقف المسمى عليها ، لإمكان تحقق المسمى وعدم إجزائه ، للإخلال بالقيد المأخوذ في المطلوب منه ، والثاني أعم من تحقق المسمى لإمكان الاجتزاء بالناقص ، بل بالمباين للواجب ، لكونه سببا في سقوط الملاك ، على ما يذكر في مبحث الإجزاء ، وفيما عدا ذلك لا امتياز للأركان عن غيرها في البيانات الشرعية.

١١٥

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا الذي هو نحو من التفصيل بين الصحيح والأعم. ويترتب عليه أمران :

الأول : إمكان التمسك بإطلاق عناوين الماهيات المذكورة لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في الخصوصية الصنفية حتى لو كان واردا في مقام التشريع ، لإحراز صدق العناوين بدونه وعدم إجمالها ، كما لو ورد : لا تدع المسجد من غير صلاة ، ثم شك في اعتبار سور خاصة فيها أو عدد خاص من الركعات.

الثاني : تعذر التمسك به لنفي ما يشك في اعتباره في أصل الماهية ، لعدم إحراز صدق العناوين بدونه وإجمالها بالإضافة إليه.

مع أنه لا مجال للأول على الصحيح ، ولا للثاني على الأعم. وهذه ثمرة مهمة ، وهي قريبة للمرتكزات الفقهية في مقام الاستدلال ، بل لعل سيرتهم الارتكازية عليها.

تتميم :

سبق في المقدمة الثانية اختصاص الكلام بالعبادات التي ثبت استعمالها عند المتشرعة في الخصوصيات الزائدة على معانيها اللغوية ، دون غيرها من العبادات الباقية على معانيها الأصلية ـ كالركوع والسجود ـ فضلا عن غير العبادات ـ كالإنفاق على الزوجة ـ حيث يكون المرجع في تحديده العرف واللغة. بل غالب ذلك لا يتصف بالصحة والفساد عرفا ، لما ذكرناه آنفا من انتزاعهما من التمامية وعدمها بلحاظ الأثر المهم ، المطلوب نوعا من الماهية ، والأمور المذكورة وإن كانت موردا للأحكام الشرعية التي قد تدعو لفعلها ، فيؤتى بها بداعي امتثالها وحصول الإجزاء بها ، إلا أن ذلك أمر طارئ عليها خارج عن مقتضى طبعها بما لها من المعاني العرفية ، فلا يكون منشأ لانتزاع الصحة والفساد عندهم ، غاية الأمر أن يشك في وقوعها واجدة للقيد المطلوب

١١٦

فتجزئ ، أو فاقدة له فلا تجزئ ، بخلاف الماهيات المخترعة للشارع التي كان منشأ اختراعها وقوعها موردا للأحكام المذكورة ، حيث يكون الأثر المذكور ـ وهو الامتثال والإجزاء ـ هو المطلوب نوعا منها والثابت لها بطبعها.

نعم ، لما كان الأثر المرغوب فيه نوعا للمعاملات ـ من العقود والإيقاعات ـ حتى عند العرف هو نفوذها وترتب مضامينها ، لترتيب آثارها ، كانت موردا للصحة والفساد عرفا بلحاظ ترتب الأثر المذكور وعدمه. ومن هنا ناسب الكلام فيها ـ تبعا للكلام في العبادات ـ وإن كانت باقية على مفاهيمها العرفية ولم تكن من الماهيات المخترعة للشارع.

إذا عرفت هذا ، فقد وقع الكلام منهم :

تارة : في أنها موضوعة للأسباب ـ وهي العقود والإيقاعات ـ أو للمسببات الحاصلة بها.

وأخرى : في أنها تختص بالصحيح أو تعم الفاسد.

وثالثة : في ترتب الثمرة المتقدمة ، وهي التمسك بالإطلاقات لنفي اعتبار ما شك في نفوذها بدونه. وقد أطالوا في تحقيق هذه الجهات بما لا مجال لتعقيب كلماتهم فيه ، فلنقتصر على ما عندنا ، وإن كان قد يظهر به حال بعض ما ذكروه.

وحينئذ يقع الكلام : تارة : في تحديد مفاهيمها. وبه يتضح الحال من الجهتين الأوليين. وأخرى : في إمكان التمسك بإطلاقاتها.

فهنا مقامان :

المقام الأول : في تحديد مفاهيمها

ولا ينبغي التأمل في أن مسمياتها هي المضامين الاعتبارية التي سبق في

١١٧

المقدمة الكلام في حقيقتها ، وذكرنا أن لها نحوا من التقرر عند العرف أو الشرع ، وأن وجودها في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار من عرف أو شرع أو سلطان ، وليست العقود والإيقاعات اللفظية وغيرها المتضمنة لإنشائها إلا أسبابا لها وموضوعات لاعتبار من بيده اعتبارها ، كسائر موضوعات الأحكام ، ولذا كان مفاد أدلة جعلها من الحاكم إمضاء الالتزام المذكور ونفوذه ، مع وضوح أن الإمضاء للشيء لا يكون إلا مع تطابق موضوعيهما مفهوما ، ولا مجال مع ذلك لتوهم أنها عين العقود والإيقاعات ، لوضوح أن العقود والإيقاعات أمور حقيقية لها ما بإزاء في الخارج ولا تقبل الإنشاء ولا الإمضاء.

نعم ، للمضامين المذكورة نحوان من الوجود :

الأول : الوجود المتقوم بالالتزام بها المبرز بالإنشاء اللفظي أو بغيره ـ مما يصلح للإبراز كالمعاطاة ـ من طرف واحد في الإيقاعات ، ومن أكثر في العقود. وهو في الحقيقة نحو من الوجود الاعتباري الضيق الخاص بطرف الالتزام أو أطرافه.

الثاني : الوجود الاعتباري التابع لاعتبار من بيده الاعتبار ـ من شرع أو عرف أو سلطان ـ تبعا لالتزام من له السلطنة عليها بنظره الراجع لإمضاء التزامه.

وبذلك تختلف مضامين المعاملات عن بقية الأمور الاعتبارية التي يكون الحكم بها ممن هي بيده تبعا لتحقق موضوعاتها ، من دون أن يكون بلسان الإمضاء ، كالضمان بسبب الإتلاف ، والانعتاق بسبب التنكيل ، ووجوب النفقة بسبب الزوجية ، فإنه لا يكون لها إلا النحو الثاني من الوجود من دون أن يتفرع على التزام أحد بها ويكون إمضاء له.

وحيث كان الوجود الأول موضوعا للوجود الثاني صح إطلاق السبب عليه عرفا ، كسائر الموضوعات بالإضافة إلى أحكامها. ولا يصح إطلاقه على

١١٨

العقد اللفظي مثلا إلا بلحاظ إبرازه للالتزام بالمضمون الذي هو النحو الأول من الوجود له.

هذا ، ولا يخفى أن غالب أسماء المعاملات حاك عن إيجاد مضامينها وإيقاعها على متعلقاتها ، كالبيع والإجارة والمزارعة والتزويج والطلاق والوقف وغيرها ، فإنها مصادر لأفعال متعدية فاعلها موقع تلك المضامين على متعلقاتها ، وليست مصادر لأفعال لازمة فاعلها نفس المتعلقات.

والظاهر أن مصحح النسبة للفاعل ليس هو حكمه بها ، وإلا صح نسبتها للشارع الأقدس أيضا بلحاظ إمضائه للعقد ، بل هو فعله لأسبابها التكوينية ، كما هو الحال في جميع الأمور الاعتبارية الوضعية ، كالتطهير والتنجيس والتذكية.

ومن هنا يتعين نسبة هذه الأفعال لموقع المعاملة والحكاية بها عن السبب المبرز لالتزامه ـ من عقد أو إيقاع ـ إما بلحاظ كونه سببا بالمباشرة لتحقق المعاملة في التزامه واعتباره الخاص ، أو لكونه سببا بالواسطة لحكم من بيده الاعتبار بها إمضاء لالتزامه المذكور ، وإن كان الظاهر هو الأول.

لكن ذلك لخصوصيته في الهيئة ، وهي هيئة الفعل. وأما المادة ـ وهي القدر المشترك الصالح لهيئتي الفعل والانفعال ـ فهي صالحة للوجهين ، وبلحاظها كان دليل الثاني إمضاء للأول ، لما سبق من أن إمضاء الشيء لا يكون إلا مع تطابق موضوعيهما مفهوما.

ويظهر الفرق المذكور في العناوين المنتزعة من المفادين. فمثل المبيع والمستأجر والمزوّج حيث كانت منتزعة من مفاد الفعل ، كان المنظور فيها وقوعها طرفا للعقد من دون نظر لإمضائه. ومثل الزوج والزوجة والملك ، حيث كانت منتزعة من مفاد الانفعال أمكن أن يكون الملحوظ فيها وقوعها طرفا للعقد ، وأن يكون الملحوظ فيها حصول مضمون المعاملة اعتبارا. بل

١١٩

الثاني هو الأظهر ، لأن مفاد المادة لما كان من الاعتباريات كان الظاهر من إطلاقه الوجود الاعتباري ، دون الالتزامي ـ الذي هو الموضوع والسبب له ـ لأنه نحو من الاعتبار الشخصي ، الذي لا يعتد به عرفا.

هذا ، وحيث ظهر أن غالب أسماء المعاملات تحكي عن الوجود الالتزامي الإنشائي المستند لموقعها ، وهو الموضوع للوجود الاعتباري والسبب له بمعنى ، وكان الوجود الاعتباري هو الداعي لفعلها والأثر المرغوب فيه نوعا لها ، ظهر إمكان اتصافها بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الأثر المذكور وعدمه.

وحينئذ يقع الكلام في وضعها لمطلق الوجود الإنشائي المذكور ، أو لخصوص الصحيح منه ، وهو الذي يترتب عليه الأثر المرغوب فيه نوعا وهو الوجود الاعتباري المذكور.

ودعوى : أن الوضع للصحيح مستلزم لتصرف الشارع في معاني هذه الألفاظ ، لإناطة الصحة شرعا بقيود لا دخل لها عرفا في ترتب الأثر على المعاملة ، فلا يمكن دعوى أخذها في الموضوع له عرفا ، مع بعد التصرف المذكور جدا ، لعدم حاجة الشارع له بعد مسانخة المعنى العرفي لموضوع الأثر عنده ، بل يكتفي بتقييده عند أخذه موضوعا لأحكامه ، كسائر المفاهيم العرفية المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية.

مدفوعة بإمكان ابتناء وضعها للصحيح على وضعها له عرفا ابتداء من دون حاجة إلى تصرف شرعي. لكن لا بمعنى وضعها للصحيح الشرعي ، لعدم إدراك العرف له. ولا للصحيح الواقعي ـ وإن اختلف العرف والشرع في تشخيصه ـ لعدم كون الأثر الذي تنتزع منه الصحة والفساد أمرا واقعيا متقررا في نفسه قد يختلف الشارع والعرف في تشخيصه ، كالنفع والضرر.

١٢٠