إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

للتصرّف في أحدهما بأحد الوجهين ، بل المتعيّن هو الوجه الثالث من إبقائهما على كونهما تكليفين إلزاميين يطلب كلّواحد امتثالاً مستقلاً.

الصورة الثانية : إذا كانا نافيين

إذا كان الدليلان نافيين ، كما إذا قال : لا تشرب الخمر الذي هو بمنزلة « لا تشرب المسكر المأخوذ من العنب » ، ثمّ قال : لا تشرب المسكر ، فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد ، لعدم التنافي بين الدليلين ، غاية الأمر يحمل النهي عن شرب الخمر على الحرمة المؤكّدة.

الصورة الثالثة : أن يكون أحدهما مثبتاً والآخر نافياً

ولها شقّان :

الأوّل : أن يكون المطلق نافياً والمقيّد مثبتاً ، كما إذا قال : لا تعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، فالتنافي بين الدليلين واضح ، إذ لا يمكن تحريم عتق مطلق الرقبة مع إيجاب عتق الرقبة المؤمنة ، كما لا يمكن كراهة عتق مطلق الرقبة ورجحان عتق الرقبة المؤمنة ، فلا محيص في رفع التنافي من حمل المطلق على المقيّد من غير فـرق بين حمل الأمر على الإيجاب أو الاستحباب أو حمل النهي على التحريم أو الكراهة.

الثاني : ما إذا كان المطلق مثبتاً والنافي مقيّداً ، كما إذا قال : أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، فهنا شقوق :

أ. إذا أحرز أنّ النهي تحريمي.

ب. إذا أحرز أنّ النهي تنزيهيّ.

٧٢١

ج : إذا تردّد بين الاحتمالين.

أمّا الأوّل فالتنافي محرز ، إذ لا يصحّ إيجاب عتق مطلق الرقبة الذي يشمل الكافر مع تحريم عتق خصوص الرقبة الكافرة ، لأنّ الخاص الحرام قسم من العام الواجب ، فلا يرتفع التنافي إلا بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا الثاني ، أعني : إذا كان النهي تنزيهياً ، كما إذا قال : صلّ ولا تصلّ في الحمّام ، فلا مجال للحمل ، إذ لا تنافي بين إيجاب الصلاة في مطلق الأمكنة والنهي عن الصلاة في الحمّـام إذا كان النهي إرشاداً إلى أقليّة الثواب ، كما هو معنى الكراهة في العبادات. نعم لو كان النهي بمعنى المرجوحية الذاتية يعود التنافي بين الأمر بالصلاة في كلّ مكان الذي هو بمعنى رجحان الصلاة في كلّ مكان والزجر عن الصلاة في الحمام بمعنى خصاصة الصلاة فيه.

وأمّا الثالث ، أعني : إذا لم يحرز أنّ النهي تحريمي أو تنزيهي كالنهي عن الصلاة في مواضع التهمة ، إذ على الأوّل لابدّ من الحمل وعلى الثاني لا وجه له ، والحقّ أنّ هنا ظهورين متعارضين :

الأوّل : ظهور الإطلاق في جواز الصلاة في تمام الأمكنة حتّـى مواضـع التهم.

الثاني : ظهور النهي عن الصلاة في موضع التهمة ، في التحريم ، فكلّ من الظهورين يصلح للتصرف في الآخر ، فإطلاق الدليل الأوّل يقتضي حمل النهي على الكراهة بمعنى أقلّية الثواب لا مرجوحية الفعل ، كما أنّ ظهور النهي في الحرمة يقتضي تقييد إطلاق المطلق ، وبما أنّ الرائج فصل المقيّد عن المطلق وهذا يقتضي رفع التنافي بهذا الطريق.

وينبغي التنبيه على أمرين :

٧٢٢

الأوّل : حكم الأحكام الوضعية

لا فرق بين الأحكام التكليفية والوضعية في أنّ مدار الحمل هو وجود التنافي بين حكمي المطلق والمقيّد ، أي التنافي الذي هو لازم وحدة الحكم ، فلو كان هذا الشرط موجوداً في الأحكام الوضعية ، يحمل الوضعي المطلق على الوضعيّ المقيّد ، كما إذا قال : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » ثمّ قال : « صلّ في جلد السنجاب ».

نعم لو انتفى التنافي يبقى الحكمان على حالهما ، كما إذا قال : لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، ثمّ قال في دليل آخر : « لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه » ، إذ لا مانع من أن تكون الصلاة في مطلق ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، وفي خصوص وبره أيضاً كذلك ، وإنّما خصّ الوبر لسبب خاص.

الثاني : في حكم المستحبّات

قد اشتهر على الألسن أنّ القيود في المستحبّات ليست مقوّمة للعمل فلا يجب حمل المطلق على المقيّد ، فلو قال : زر الإمام الطاهر سيد الشهداء عليه‌السلام تحت السماء ، ثمّ قال في دليل آخر : زر الإمام الطاهر سيد الشهداء عليه‌السلام ، فلا يحمل المطلق على المقيّد ، بل يحمل المقيّد على كونه أفضل الأفراد.

هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وإنّما الكلام في وجه هذا الحكم ، فقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة :

١. « الغالب في باب المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية » (١) ، فتكون تلك الغلبة قرينة على إرادة الأفضلية من القيد الوارد في

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٩٣.

٧٢٣

المستحبّات ، وانّ العمل معه من أفضل الأفراد.

يلاحظ عليه : ماذا يراد من الغلبة؟ وهل المراد ، هو الغلبة في الوجود وأنّ القيود في المستحبّات حسب التتبّع قيود لمراتب الفضيلة وتأكّد الاستحباب ، فيكون ذلك دليلاً على حمل الأمر بالمقيّد على مورد الغلبة ، ومن المعلوم أنّ كثرة الوجود لا يوجب الانصراف؟

أو المراد كثرة استعمال المقيّد في المستحبّات في أفضل الأفراد لكن الكلام في إحراز هذه الكثرة بمعنى أنّ الفقيه تتبع موارد الاستعمالات فوقف على أنّ المتكلّم استعمل الأمر بالمقيّد في المستحبات في ذات المرتبة العليا؟ وأنّى لنا إثبات ذلك.

٢. إنّه مقتضى أدلّة التسامح في أدلّة المستحبات ، وقد روى صفوان عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام أنّه قال : « من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ». (١)

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان القيد متصلاً بالمطلق فالحكم على إطلاقه لم يصل فلا يكون مورداً للرواية ، وإن كان القيد منفصلاً ، فالحكم على إطلاقه وإن وصل لكنّ أدلّة التسامح في السنن مختصّة بجبر السند لا جبر الدلالة ، والمشكلة في المقام ليست في السند ، وإنّما هي في الدلالة ، بشهادة قوله في رواية صفوان : « وإن كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ».

٣. ما أفاده المحقّق النائيني بقوله : إنّه إذا لم يكن الأمر إلزامياً فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد منهما ، والوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيد غير إلزامي جازت مخالفته ، فلا تكون منافاة حينئذ بينه وبين

__________________

١. وسائل الشيعة : ١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث ١.

٧٢٤

إطلاق متعلّق الحكم الآخر ، المستلزم لجواز تطبيقه على كلّ فرد أراد المكلّف تطبيقه عليه في الخارج ، ومن الواضح أنّه مع عدم المنافاة بينهما لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد ، ضرورة أنّ المنافاة إنّما ترتفع بعدم الإلزام وبالترخيص في ترك امتثال الحكم المتعلّق به فلا يكون هناك مانع من التمسّك بإطلاق متعلّق الحكم الآخر ، سواء كان إلزامياً أم كان غير إلزامي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ مجرّد كون الأمر بالمقيد غير إلزامي لا يكون سبباً للأخذ بالمطلق وإلغاء القيد بحجّة أنّ العمل بالمقيّد غير واجب ، بل الحقّ هو التفصيل بين كون القيد إرشاداً إلى الشرطيّة أو الجزئية أو المانعيّة وغيره ، ففي الصورة الأُولى لا محيص عن حمل المطلق على المقيّد إذ في هذه الصورة يكون القيد مقوّماً للعبادة.

ولأجل ذلك لا تصحّ صلاة الليل بلا طهور ولا قبلة ، وما ذلك إلا لأنّ أصل الصلاة وإن كان غير واجب لكن حقيقة الصلاة الليلية تنتفي بانتفاء أحدهما.

ثمّ إذا تردّد القيد بين كونه إرشاداً إلى الشرطية أو الجزئية أو المانعيّة أو كونه ناظراً لبيان الدرجة العليا من المستحب ، فيتوقّف عن العمل فلا يصحّ الاكتفاء بالمطلق بإلغاء القيد.

تمّ الكلام في القسم الأوّل ، أعني : ما إذا لم يذكر السبب في كلّ من المطلق والمقيّد ولنشرع لبيان أحكام القسم الثاني.

القسم الثاني : ما إذا كان السبب مذكوراً

إذا كان السبب مذكوراً فله صور :

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٩.

٧٢٥

الأُولى : أن يكون السبب في أحدهما غيره في الآخر نوعاً ، كما إذا قال : إذا أفطرت أعتق رقبة ، ثمّ قال : إذا ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، فلا وجه للحمل ، لعدم التنافي بين الحكمين ، وبالتالي عدم وحدة الحكم.

الثانية : إذا كان السبب مذكوراً فيهما ، ويكونان متّحدين نوعاً ، كما إذا قال : إذا أفطرت أعتق رقبة ، وإذا أفطرت أعتق رقبة مؤمنة ، فالجمع بين الدليلين وإن كان يمكن بحمل المقيّد على أفضل الأفراد ، لكن الرائج في طرف التشريع هو حمل المقيّد على المطلق.

الثالثة : إذا كان السبب مذكوراً في واحد منهما

إذا كان السبب مذكوراً في أحدهما ، كما إذا قال : أعتق رقبة ، وقال : إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، فلو كان السبب مذكوراً في كليهما نستكشف من وحدة السبب وحدة الحكم ، وأمّا إذا كان السبب مذكوراً في واحد دون الآخر ، فبما أنّ وحدة الحكم ليست بمحرزة فنحتمل أن يكون هنا غرضان تامّان ، أحدهما يتحقّق بعتق مطلق الرقبة ، والآخر بعتق الرقبة المؤمنة ، فلا وجه للجمع كما لا وجه للاقتصار على خصوص عتق الرقبة المؤمنة ، لما عرفت من أنّ مرجع الشكّ في حصول الامتثال وسقوط التكليف.

٧٢٦

الفصل الخامس

في المجمل والمبيّن

و

المحكم والمتشابه

قد أردف الأُصوليّون البحثَ في المطلق والمقيّد بالبحث في المجمل والمبيّن ، وكان الأنسبُ عطفَ المحكم والمتشابه عليهما ليبحث عن الجميع في مقام واحد ، ولعلّ تركهم البحث عن الأخيرين لأجل أنّ آيات الأحكام كلّها محكمة وليس فيها آية متشابهة بخلاف المجمل والمبيّن ، وعلى كلّ تقدير فنحن نطرح الجميع لما بينها من الصلة ، ويقع الكلام في أُمور :

١. المجمل والمبيّن لغة واصطلاحاً

الإجمال في اللغة هو الجمع بلا تفصيل ، يقال أجملتُ الشيء إجمالاً : جمعتَه من غير تفصيل. (١)

قال سبحانه : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَة ) (٢) ،

__________________

١. الفيومي : المصباح المنير ، مادة « جمل ».

٢. الفرقان : ٣٢.

٧٢٧

أي دفعة واحدة بلا فاصل زماني كنزول التوراة على الكليم في الميقات. ويقابله المبيّن فمادته تحكي عن الوضوح. يقال : بأن الأمر يبين ، فهو بيّن ، وأبان واستبان : كلّها للوضوح والانكشاف. (١)

وأمّا اصطلاحاً ، فكلّ كلام يكون قالباً للمعنى فهو مبيّن ، وخلافه مجمل ، فكأنّ المبيّن فيه تفصيل ، بخلاف المجمل فيه جمع.

٢. الإجمال والبيان وصفان نفسيان

إنّ الإجمال والبيان وصفان نفسيّان للكلام ، يجمعهما كون اللفظ قالباً للمعنى وعدمه ، وهذا شيء يوصف به الكلام بما هو هو من دون إضافة إلى شخص.

لكن الظاهر من المحقّق الخراساني « أنّهما وصفان إضافيّان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع ، أو لتصادم ظهوره بما حَفَّ به لديه ، ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره ».

يلاحظ عليه : إذا كان الملاك كونَ اللفظ على قَدَر المعنى وخلافه ، يكون الإجمال والبيان وصفان نفسيّان للكلام سواء أكان هناك مخاطب أو لا ، أو كان المخاطب عالماً باللغة أو لا.

أضف إلى ذلك انّه لو كان ملاك الإجمال جهل المخاطب باللغة ، يلزم أن يكون القرآن كلّه مجملاً عند من لا يعرف لغته ، ومبيّناً عند من يعرف ، ومن المقطوع عدم إرادة هذا منهما.

نعم يمكن وصف الإجمال والبيان بالنسبيّة لكن لا بهذا المعنى بل بمعنى آخر هو أن يكون الكلام مبيّناً من جهة ومجملاً من جهة أُخرى ، فقوله سبحانه :

__________________

١. المصباح المنير ، مادة بين.

٧٢٨

( والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (١) مبين من حيث الفعل ( القطع ) ، مجمل من حيث المتعلّق ، فإنّ اليد يطلق على أُصول الأصابع والزند والمرفق والمنكب.

٣. ما هو منشأ الإجمال؟

إنّ منشأ الإجمال غالباً أحد الأمرين التاليين :

أ. إجمال المفردات.

ب. إجمال الهيئة التركيبية.

فالأوّل كاليد في آية السرقة كما مرّت ، وآية التيمم ، أعني قوله : ( فَامْسَحُوا بِوُجوهِكُمْ وَأَيديكُمْ مِنْه ). (٢)

وأمّا الثاني كقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » أو « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » لتردّد الهيئة بين نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال.

٤. ذكر نماذج من المجملات

أ. قال سبحانه : ( وَإِنْ طَلَّقْتُموهنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرْضتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاح ). (٣)

فإنّ الإجمال في قوله : ( الَّذي بيده عقدة النكاح ) حيث إنّه مردّد بين كون المراد منه وليّ الزوجة أو نفس الزوج ، فلو أُريد الأوّل فمعنى ذلك أنّ الزوجة المطلّقة ووليّها يعفوان نصفَ المهر الواجب بالطلاق قبل المسّ ، فيُفرضُ الكلام فيما إذا لم يدفع المهر لا كلاً ولا جزءاً.

__________________

١. المائدة : ٣٨.

٢. المائدة : ٦.

٣. البقرة : ٢٣٧.

٧٢٩

ولو أُريد الثاني يكون المعنى أنّ الزوج لا يطلب النصف الباقي ، فيفرض الكلام فيما إذا دفع جميع المهر وطلّق قبل المس فيعفو عن النصف الباقي ولا يأخذ شيئاً.

ب : ( حُرِّمت عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِير ). (١)

ج : ( حُرِّمتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخواتُكُمْ ). (٢)

د. ( إِنّما الخَمْرُ وَالْمَيْسِر وَالأَنْصاب وَالأَزْلام رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطان فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ). (٣)

وإنّما عدّت هذه الآيات من المجمل لأجل أنّ التحريم فيها أسند إلى الأعيان مع أنّه من عوارض فعل المكلّف لا المتعلّق ولذلك طرأ الإجمال عليها.

لكن الأظهر بمناسبة مقتضى الحكم والموضوع هو أنّ المحرّم في هذه الآيات هو الأثر البارز المقصود من الشيء ، وهو الأكل في المأكولات ، والشرب في المشروبات ، واللعب في آلات القمار ، والعبادة في مظاهر الأُلوهية ، والنكاح في النساء ، وعند ذلك يرتفع الإجمال.

نعم يبقى الكلام في قوله سبحانه : ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صِيْدُ البَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّه الَّذي إِليهِ تُحشَرُون ). (٤)

فهل المراد من الصيد هو فعل المكلّف فيكون هو حراماً لا الأكل من المصيد أو المراد نفس المصيد فيكون أكله أيضاً حراماً وإن صاده المحلّ فالمحرِم لا يأكل صيد البرّ مطلقاً. صاده المحرم أو المحلّ. (٥)

__________________

١. المائدة : ٣.

٢. النساء : ٢٣.

٣. المائدة : ٩٠.

٤. المائدة : ٩٦.

٥. مجمع البيان : ٢ / ٢٤٦.

٧٣٠

المحكم والمتشابه

الأصل في تقسيم الآيات إلى قسمين : محكم ومتشابه هو قوله سبحانه في سورة آل عمران : ( هُوَ الَّذي أُنزلَ عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا وَما يَذَّكّرُ إِلاّ أُولوا الأَلْباب ). (١)

واستقصاء الكلام في الآية يقتضي البحث في أُمور :

١.ما هو المراد من المحكم والمتشابه.

٢. ما هو المراد من التأويل؟

٣. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟

٤. هل الراسخون في العلم يعلمون التأويل أو لا؟

وإليك الكلام في الجميع واحداً بعد الآخر :

١. المحكم والمتشابه لغة وقرآناً

١. المحكم من الحُكْم وهو بمعنى المنع ومنها الحِكْمة لأنّها تمنع صاحبها من فضول الكلام ورذائل الأخلاق ، ويطلق على اللجام « الحكيمة » لأنّها تمنع

__________________

١. آل عمران : ٧.

٧٣١

الدابّة من الجموح والحركة ، ولو وصف البناء أو المصنوع بالاستحكام لأنّه يمنع عن تسرّب الخراب إليه.

٢. المتشابه هو الشيء غير الواضح يشتبه بشيء آخر يقول سبحانه : ( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ). (١)

والمعنى إنّ أهل الجنّة كلّما رزقوا من رزق ، يقولون : ( هذا الَّذي رُزقنا مِنْ قَبل ) (٢) ، ولكنّه ليس منه وإنّما أوقعهم في هذا ، التشابه بين الثمرتين في اللون والحجم مع الاختلاف في الطعم والجودة.

يقول سبحانه : ( إِنّ الْبَقَر تَشابَهَ عَلَيْنا ). (٣) أي لم يتميز ما هو الواجب لغاية الذبح ، عن غيره.

ويقال للشبهة شبهة لأنّها تُشبه الحقّ.

إنّه سبحانه يصف الأعناب والزيتون والرمان بالمشتبه وغير المتشابه ، ويقول :

( وَجَنّات مِنْ أَعْناب وَالزَّيْتُون وَالرُّمّان مُشْتَبِهاً وَغَيْر مُتَشابِه انظُروا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثمَرَ وَيَنْعهِ ). (٤)

وفي آية أُخرى يصف خصوص الزيتون والرّمّان متشابهاً ويقول :

( وَالزَّيتونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابهاً وَغَيْرَ مُتَشابِه ). (٥)

فالمراد إمّا تشابه أحدهما بالآخر من حيث الظاهر واختلافهما من حيث الطعم أو تشابه أصناف كلّ نوع بصنف آخر والاختلاف في أمر آخر.

__________________

١ و ٢. البقرة : ٢٥.

٣. البقرة : ٧٠.

٤. الأنعام : ٩٩.

٥. الأنعام : ١٤١.

٧٣٢

وينتزع من المجموع أنّ التشابه هو كون الشيء على نحو يشتبه لغيره ولا يتميز عنه بسهولة.

إلى هنا تمّ الكلام في معنى المحكم والمتشابه لغة ، وأمّا قرآناً فالميزان في وصف الآية بالإحكام والتشابه هو الدلالة ، فإذا كان الكلام واضح الدلالة ، فهو في الإتقان والرصانة بمكان تمنع عن الاحتمال الآخر ، وهذا بخلاف المتشابه ، فبما أنّ دلالتها ليست على حدّ تمنع عن تشابه المقصود بغيره ، ففي بادئ النظر يرد إلى الذهن وجوه واحتمالات يحتملها لفظ الآية في بادئ النظر. أحدها هو المقصود والباقي ليس بمقصود.

فإن قلت : إنّه سبحانه قسّم في الآية السابقة ، الآيات القرآنية إلى قسم محكم وقسم متشابه مع أنّ بعض الآيات يصف الجميع بالإحكام كما أنّ البعض الآخر يصف الجميع بالمتشابه.

أمّا الأوّل فهو قوله سبحانه : ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيم خَبِير ). (١)

وأمّا الثاني فهو قوله سبحانه : ( اللّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعر مِنْهُ جُلود الَّذينَ يَخْشون ربّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ). (٢)

قلت : إنّ تقسيم الآيات إلى محكم ومتشابه بملاك ووصف جميع الآيات بالاستحكام بملاك آخر.

فالملاك في تقسيم الآية إلى المحكم والمتشابه دلالة الآية ، فالآية إذا كانت

__________________

١. هود : ١.

٢. الزمر : ٢٣.

٧٣٣

محكمة الدلالة ومبيّن المراد يوصف بالمحكم ، وإذا كانت غير واضحة الدلالة ومتزلزلها توصف بالمتشابه.

وأمّا وصف جميع الآيات بالإحكام فبملاك آخر إمّا المضمون وهو أنّ مضامين القرآن مضامين متقنة لا يتطرق إليه الباطل ، فلا يبلى ولا يخلق بل يكون طريّاً في كلّ عصر أو النظم حيث نظمت نظماً رصيناً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف. (١)

ويقول العلاّمة الطباطبائي : إنّ الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها وتشتّت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط ، وغرض فارد أصلي لا تكثّر فيه ولا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد ولا ترمي إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته وتفرّق أبعاضه إلا غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينياً وفي آخر أمراً خلقياً وفي ثالث حكماً شرعياً ، وهكذا كلّما تنزّل من الأُصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ ، ولا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال ، وهي بتحليلها وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد. (٢)

هذا كلّه حول الأحكام ، وأمّا التشابه فقد علمت أنّ التقسيم بملاك

__________________

١. الكشاف : ٢ / ٨٩.

٢. الميزان : ١١ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٧٣٤

الدلالة ، وأمّا وصف الكلّ بالمتشابه ، فالمراد التشابه والتماثل من حيث المضمون حيث إنّ مضمون بعضه يشابه الآخر ويؤكّده ، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه يقول : ( مَثاني ) أي متكرّراً يشبه بعضه بعضاً ، فكم تكرّرت قصة آدم وموسى في القرآن الكريم ، وكم تكررت الآيات المندّدة بالشرك وعبادة الأصنام ، وغير ذلك.

ما هو المراد من الآية المتشابهة؟

اختلفت أنظار المفسّرين في مصاديق المتشابه في الآية الكريمة إلى أقوال ربما يناهض ستة عشر قولاً (١) ، ونحن نذكر منها ما هو المهمّ :

١. المتشابه هو الخارج عن اطار العقل والحسّ

المتشابه عبارة عن الموضوعات الواردة في القرآن الكريم الخارجة عن اطار الحس والعقل والّتي لا يقدر الإنسان على درك حقيقته وكنهه كذاته سبحانه وحقيقة صفاته والعوالم الغيبية كالملك والجنّ والروح والبرزخ والميزان وغير ذلك من الأُمور التي لا يمكن للإنسان الدنيوي درك حقائقها ، بل يُطلب منه الإيمان بها ، لقوله سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ). (٢)

يلاحظ عليه : أنّ النظرية لا تنسجم مع الخصوصيات المذكورة للمتشابه في الآية الكريمة وذلك :

أوّلاً : إنّ المتشابه عبارة عن شيء يشبه الشيء الآخر ، ويصعب للإنسان تمييزهما كالتوأمين والثمار المتشابهة ، وهذا غير كون الشيء مجهول الحقيقة مبهم الماهية لا يدخل في إطار أدوات المعرفة كما مثّل ، فما ذكر من العوالم الغيبيّة

____________

١. مفاتيح الغيب : ٢ / ٤١٧ ؛ المنار : ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٥ ؛ الميزان : ٣ / ٣٢ ـ ٣٩.

٢. تفسير المنار : ٢ / ١٦٧ ؛ ولاحظ الإتقان : ٣ / ١ ، وهذه النظرية خيرة ابن تيمية ومن تبعه.

٧٣٥

مبهمات لا متشابهات ، مجهولات لا متماثلات.

وثانياً : إنّ وصف المحكمات بكونها أُمّ الكتاب لبيان أنّ رفع التشابه من الآيات المتشابهة يتحقّق بإرجاعها إلى المحكمات ، وأمّا العوالم الغيبية فهي حقائق مغمورة لا توضح بالرجوع إلى أيّ آية من الآيات.

وثالثاً : إنّ الآية تصرّح بأنّ أصحاب الأهواء يتبعون الآيات المتشابهة مكان الاتباع للمحكمات ، وهذا فرع أن يكون للآية المتشابهة ظهور ما ، وأمّا العوالم الغيبية فليس هناك أيّ ظهور لها حتّى يتّبع.

ورابعاً : إنّ المتشابه ، آية متشابهة من أوّلها إلى آخرها يشتبه المراد منها بغيره ، وأمّا العوالم الغيبية فهي مفردات لا آيات ، فقوله سبحانه : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّ لِيَعْبُدُون ) (١) آية محكمة واضحة الدلالة ، مبيّنة المقصد ، وإجمال حقيقة الجن لا يوجد في الآية أي تشابه.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار هذا الرأي هو أنّ ابن تيميّة ممّن يحمل الصفات الخبرية كالاستواء على العرش ، والبناء بالأيدي وغيرهما على معانيها اللغويّة فهي عندها من المحكمات وإن استلزمت التشبيه والتجسيم والجهة للّه سبحانه مع أنّها عند المشهور ، متشابهات تُفسر في ضوء المحكمات ولأجل ذلك اضطرّ إلى تفسير المتشابه بالعوالم الغيبيّة الّتي هي مجهولات مبهمات لا متشابهات.

وخامساً : انّ الآية تحكي عن أنّ أصحاب الأهواء يثيرون الفتنة بالآيات المتشابهة ، ولم تكن العوالم الغيبية كالروح والجنّ والملك سبباً لإثارة الفتنة ، بخلاف ما نذكره من الصفات الخبرية ، فإنّها لم تزل وما زالت سبباً لإثارة الفتنة وقد فرّقت كلمة الأُمّة وجعلتها طائفتين أو طوائف.

____________

١. الذاريات : ٥٦.

٧٣٦

إنّك ترى أنّ الوهّابية التابعة لمنهج ابن تيمية لم تزل تنشر رسائل حول الصفات الخبرية وتصرّ على أنّها محمولة على اللّه بنفس معانيها اللغوية ، غاية الأمر يردفها أسيادهم بقولهم « بلا كيف » ويقولون له سبحانه أيد لا كأيدينا وعرش لا كعرشنا ، إلى غير ذلك.

٢. المتشابه والحروف المتقطّعة

هذه هي النظرية الثانية ، ذكرها الطبري في ضمن رواية حاصلها أنّ ياسر بن أخطب مرّ برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : ( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) فاخبر به أخاه « حُيَيّ بن أخطب » فتمشى هو مع رجال من اليهود إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا يا محمّد ألم تذكر لنا أنّك تتلو فيما أنزل عليك : ( الم * ذلِكَ الْكِتابُ ) فقال نعم فقال : حيي : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون وهذا مدّة نبوّتك ثمّ أقبل على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد هل مع هذا غيره؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم. قال : ماذا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المص » فقال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ولم يزل يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقرأ الحروف المقطّعة ويحاسب على حساب الحروف الهجائية فلمّـا وصلوا إلى سبعمائة سنة وأربع وثلاثون فقالوا لقد تشابه علينا أمره فنزل : ( هُوَ الّذي أَنْزَلَ الْكِتاب ) الخ. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث ضعيف سنداً لأنّه مرويّ عن سلمة بن فضل الذي جرحه علماء الرجال ، حيث قال أبو حاتم الرازي في كتابه الجرح والتعديل : « في حديثه إنكار ، ليس بقويّ ، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا ». (٢)

__________________

١. الطبري : التفسير : ١ / ٧١ وج ٣ / ١١٨.

٢. الجرح والتعديل : ١٦٩ ، ط الهند.

٧٣٧

كما انّه مطرود دلالة ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية أنّ حُييّ اليهودي كان يتلاعب بالحروف المقطعة ويحدّد مدّة نبوّة النبي وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساكت في مقابل تلاعبه بها ، وهذا لا يناسب شأن النبي الأعظم في حقّ اللاعبين بآيات اللّه.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الآية أنّ أصحاب الفتنة يؤمنون بمجموع القرآن ولكن يتبعون خصوص المتشابه ، وهذا لا ينطبق على شأن النزول ، فإنّ اليهود كانوا يرفضون القرآن كله.

بل الظاهر من الرواية أنّهم لم يتبعوا المتشابه ، بل قاموا قائلين : لقد تشابه علينا أمره.

٣. النظرية المعروفة

إنّ الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم واضح الدلالة ، مبيّن المقاصد ، ومتشابه يشتبه مدلوله الواقعي بغير الواقعي ، ويرتفع التشابه إذا لوحظت مع سائر الآيات.

وإنّما يعرض التشابه للآية لا لقصور في اللفظ أو في الهيئة التركيبية ، بل لأجل أنّ المعارف الإلهيّة إذا نزلت إلى سطوح الأفهام العادية ، وأُريد بيانها بالألفاظ الدارجة التي وضعت لبيان المعاني الحسّية الملموسة ، عرض لها التشابه في المقاصد ، فإنّ الألفاظ الدارجة إنّما وضعت للاستعانة بها في إلقاء المقاصد العرفية الحسّيّة ، فإلقاء المعارف العقلية العليا بهذه الوسيلة ، لا تنفك عن عروض التشابه لها.

وهناك سبب آخر للتشابه وهو استخدام المجاز والاستعارة والكناية في حلبة البلاغة فتصير الآية متشابهة المراد ، لا بحسب المعنى المستعمل فيه ، بل

٧٣٨

حسب المعنى الجدّي فيؤخذ بالمستعمل فيه ، ويترك المقصد الجدّي الذي سيق لأجله الكلام لابتغاء الفتنة ، كما قال سبحانه.

وها نحن نذكر فهرساً إجمالياً من الآيات الظاهرة في التجسيم والتشبيه والجبر والحركة والجهة للّه سبحانه ، ومن المعلوم أنّ ظواهر هذه الآيات المتزلزلة الدلالة ، لا تنسجم مع المحكمات ، وما ذلك إلا لأنّ ظهورها ظهور بدوي لا استقراري ، إفرادي لا جملي ، تصوّري لا تصديقي ، ولا قيمة لهذه الظهورات ما لم تنتهِ إلى الظهور الاستقراري ، الجملي ، التصديقي.

١. العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ). (١)

٢. اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِه ). (٢)

٣. الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ). (٣)

٤. النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ). (٤)

٥. الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ). (٥)

٦. الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق ). (٦)

٧. الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ). (٧)

٨. القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ ). (٨)

٩. المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ رَبُّكَ ). (٩)

__________________

١. طه : ٣٩.

٢. الزمر : ٦٧.

٣. طه : ٥.

٤. المائدة : ١١٦.

٥. البقرة : ١١٥.

٦. القلم : ٤٢.

٧. الزمر : ٥٦.

٨. البقرة : ١٨٦.

٩. الفجر : ٢٢.

٧٣٩

١٠. الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (١)

١١. الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم ). (٢)

١٢. الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم ). (٣)

ونظير ذلك الآيات الدالّة على الجبر نحو قوله : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدي مَنْ يَشاء ).

نعم إنّ كلتا الطائفتين يؤوّلون المتشابهات ، فأصحاب الزيغ يأخذون بالظاهر المتزلزل ذريعة لنشر البدع والضلالات ، وأمّا الآخرون فيؤوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هنّ أُمّ الكتاب.

٢. ما هو المراد من التأويل؟

إلى هنا تعرفّنا على الآيات المتشابهة ، وحان حين البحث عن تأويلها ، سواء أكان من أصحاب الزيغ أو من غيرهم ، فنقول : إنّ التأويل في مصطلح العلماء صرف الظاهر المستقرّ عن ظاهره ، وهذا التفسير للتأويل مصطلح للعلماء ولا صلة له بالتأويل في القرآن الكريم ، وأمّا تأويل المتشابه ، فهو تحقيق ظهوره ، والسعي وراء مراده وإرجاع ظهوره البدوي ، إلى الظهور الاستقراريّ ، وإليك بيانه :

التأويل مأخوذ من « آل يؤول » بمعنى رجع ، قال الراغب الاصفهاني : التأويل من الأوْل ، أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً. (٤)

____________

١. الأنعام : ١٥٨.

٢. الفتح : ٦.

٣. المائدة : ١١٩.

٤. المفردات ، مادّة أول.

٧٤٠