إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

شيوع وسريان ، وعندئذ ترتفع المضاعفات الثلاث.

١. لا تلزم المجازية من تقييد المطلق.

٢. ولا يلزم خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة من مصاديق المطلق.

٣. لا يلزم عدم الفرق بين المطلق والعام ، فإنّ الشمول مدلول لفظي للعام بخلاف المطلق فانّ الشيوع فيه مستفاد من العقل ببركة مقدّمات الحكمة.

وليعلم أنّ سلطان العلماء وإن أوجد ثورة عارمة في باب المطلق حيث نفى دلالة المطلق على السريان والشيوع بالدلالة اللفظية ، لكنّه التزم به عقلاً وزعم أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هو سريان الحكم إلى كلّ واحد واحد من أفراده ، فالدلالة على إجزاء كلّ فرد دلالة لفظية عند القدماء وعقلية عند سلطان العلماء.

هذا هو المستفاد من كلمات القوم لا سيّما سلطان العلماء.

أقول : نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

١. إنّ تقييد المطلق لا يستلزم المجازية حتّى على القول بدلالة المطلق على الشيوع دلالة لفظية ، وذلك لأنّ المطلق بهذا المعنى يكون من أقسام العام ، وقد تقدّم أنّ العام بعد التخصيص حقيقة لا مجاز ، وأوضحنا هناك ما هذا خلاصته :

انّ المتكلّم يستعمل العام في المعنى الموضوع له بالدلالة الاستعمالية فإن كانت الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية سكت عن التخصيص والتقييد ، وإن كانت مخالفة لها يُخرج ما لم تتعلّق به الإرادة الجديّة بالتخصيص والتقييد فيقول : أكرم العلماء العدول ، أو اعتق رقبة مؤمنة ، فالتخصيص والتقييد لا يوجبان استعمالهما في غير ما وضع له ولا يوجدان ضيقاً في المعنى المستعمل فيه وإنّما يحدثان ضيقاً في متعلّق الإرادة الجديّة ، ومناط الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعمالية والمفروض انّ اللفظ ـ حسب تلك الإرادة ـ مستعمل في المعنى

٧٠١

الشائع.

هذا من غير فرق بين العام ، كما إذا قال : أكرم العلماء العدول ؛ أو المطلق أعتق رقبة مؤمنة ، فلا يلزم من القول بكون المطلق موضوعاً للسريان والشيوع كون التقييد مجازاً.

نعم لو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشيوع يبقى الإشكالان الآخران على حالهما وهما خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة عن تعريف المطلق أوّلاً ، والخلط بين العام والمطلق ثانياً.

وما ذهب إليه سلطان العلماء من عدم دلالة المطلق على السريان وإن كان حقاً لكن ما توهم من استلزام نقيضه مجازية المطلق ليس في محله.

٢. انّ سلطان العلماء وإن أتى بقول بديع في باب المطلق ولكنّه شارك القوم في استفادة الشيوع والسريان من المطلق بالدلالة العقلية ، وانّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي الشيوع والسريان ، ولكنّه غير صحيح ؛ إذ غاية ما تثبته مقدّمات الحكمة كون ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع ، سواء أمكن فيه الشيوع كما في قول : اعتق رقبة ، أو لم يمكن كما إذا قال : أكرم زيداً.

فكان على سلطان العلماء أن ينكر السريان والشيوع في الدلالة الإطلاقية مطلقاً ، سواء أكان مستفاداً من اللفظ أم العقل ، وأمّا على المختار فالحديث عن الشيوع والسريان باطل من رأسه ، وأمّا لزوم جريان مقدّمات الحكمة فهو وإن كان صحيحاً لكنّه لا لغاية إثبات الشيوع ، بل لغاية كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع كما سيوافيك في الفصل التالي.

٧٠٢

الفصل الثالث

مقدّمات الحكمة

قد عرفت أنّ التمسّك بالإطلاق فرع جريان مقدّمات الحكمة ، إمّا لغاية إثبات الشيوع والسريان في الموضوع ، أو لغاية إثبات أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع فلا محيص عنه.

إنّما الكلام في تبيين ما هي مقدّمات الحكمة.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّها مؤلّفة من مقدّمات ثلاث :

١. كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.

٢. انتفاء ما يوجب التعيين ( القرينة ).

٣. انتفاء القدر المخاطب في مقام التخاطب.

وربما يُزاد عليها عدم وجود الانصراف إلى صنف وهو ليس بمقدّمة رابعة ، لأنّه داخل في المقدّمة الثانية ، أي انتفاء ما يوجب التعيين.

واقتصر المحقّق النائيني على الأوليين.

ثمّ إنّ بعض المقدّمات مقوّم للإطلاق على نحو لولاه لما انعقد الإطلاق وبعضها الآخر شرط للتمسّك به.

فمن القسم الأوّل « تمكّن المولى من البيان » ، فخرج القيد الذي لا يتمكن

٧٠٣

المولى من بيانه كقصد الأمر على القول بامتناع أخذه في المتعلق كما عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني على ما مرّ في مبحث التوصلي والتعبدي وإن كان المختار عندنا خلافه.

ومثله عدم القرينة فإنّ وجود القرينة يمنع من انعقاد الإطلاق ، وأمّا القسم الثاني ، أي كونه شرطاً للتمسّك ككونه في مقام البيان أو عدم القدر المتيقّن على القول بشرطيته ، فعلى الباحث أن يميز المقوّم عمّا هو شرط للتمسّك ، فلنرجع إلى توضيح المقدّمات الثلاث :

المقدّمة الأُولى : إحراز كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو دخيل في متعلّق حكمه بحيث يكون الإخلال ببيان الأجزاء والشرائط منافياً للحكمة لافتراض انّه في مقام بيان تمام ما هو الموضوع للحكم.

توضيحه : انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل المقصود لا في مقام بيان خصوصياته ، فلنفرض طبيباً رأى صديقه في الشارع فانتقل من صفرة وجهه إلى انّه مريض وبحاجة إلى تناول الدواء ، فيقول له : لابدّ لك من تعاطي الدواء ، ففي هذا المقام لا يصحّ للمريض التمسّك بإطلاق كلام الطبيب ويتناول كلّ دواء وقع بين يديه ، وقد يكون في مقام بيان خصوصيات المقصود ، كما إذا دخل المريض المذكور إلى عيادة الطبيب ، فأجرى الطبيب عليه الفحوصات اللازمة وبعد ذلك كتب له وصفة ، ففي هذا المقام يصحّ التمسّك بإطلاق ما كتب.

نعم انّ كثيراً من المشايخ يتمسّكون في نفي بعض الاجزاء والشرائط للبيع بقوله سبحانه : ( وأَحلَّ اللّهُ البيعَ وحرّمَ الرّبا ) (١) ولكن التأمل في سياق الآية يثبت انّها ليست في مقام بيان شرائط أجزاء البيع وشرائطه ، بل هو في مقام بيان

__________________

١. البقرة : ٢٧٥.

٧٠٤

ردّ التسوية التي كان المشركون يتبنّونها. وكانوا يقولون : ( إِنّما البيع مثل الربا ) ويسوّون بين البيع والربا ، بل كانوا يجعلون الربا أصلاً والبيع فرعاً ، ولذلك شبهوا البيع بالربا ، فردّ اللّه سبحانه هذه التسوية وقال : ( وأَحلّ اللّهُ البيعَ وحرّم الرّبا ) فالتسوية غير صحيحة ، فالآية عند الإمعان ليست في مقام بيان أجزاء البيع وشرائطه ، فلو شككنا في شرطية العربية للصيغة لا يصحّ لنا التمسّك بإطلاقها ، بل الآية في مقام نفي التسوية وأمّا انّ للبيع شرائط أو لا فالآية ساكتة عنه.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري أنكر هذه المقدّمة ، وقال :

إنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ، ولا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة بالمقيّد أصالة وإنّما تُنسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد ، مع أنّ ظاهر قولنا : « جئني برجل » انّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة ، لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد ، ومع تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان المتكلّم في مقام بيان ما هو دخيل في موضوع الحكم يصحّ لنا الأخذ بهذا الظهور دونما إذا كان في مقام الإهمال والإجمال فلا يصحّ أن يؤخذ بهذا الظهور ، مثلاً إذا قال : الغنم حلال ، والكلب حرام ، فهل يمكن لنا الأخذ بإطلاق القضية الأُولى والحكم بأنّ الغنم الموطوء أو الجلاّل حلال كلا ولا. وما ذلك إلا لأنّ الظهور عندئذ بدوي يزول بالتأمل إذا أحرزنا انّ المتكلّم في مقام الإجمال والاهمال.

والحاصل : أنّ قوله : « انّ ظاهر قولنا : جئني برجل ، إنّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ١٠٢.

٧٠٥

الاتحاد » ظهور بدوي غير مستقر إذا أحرز انّ المتكلّم في مقام الاهمال ، إذ يكون الإهمال في البيان مبرراً لنسبة الحكم إلى المطلق مع كونه للمقيد ، كما إذا قال : الغنم حلال مع أنّ الحلال هو الغنم غير الموطوء وغير الجلال. وبالجملة لا محيص عن الأخذ بهذه المقدّمة.

كون المتكلّم في مقام البيان لجهة دون جهة

قد يكون المتكلّم في مقام بيان جهة دون جهة ، فلا يصحّ الإطلاق إلا في الجهة التي صار بصدد بيانها.

فإذا قال سبحانه : ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَريعُ الْحِساب ) (١) ، تكون الآية ظاهرة في بيان انّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكى إذا ذكر اسم اللّه عليه وليس بميتة ، فهي في المقام بيان حلية أكْلِ ما يصيد الصيود مطلقاً وإن مات قبل دركه ، لأنّّ إمساكه تذكية للصيد ، ولكن لا يصحّ التمسّك بإطلاقها من جهة ريق فم الكلب حتّى يحكم بطهارته من خلال جواز أكله ، فما نقل عن شيخ الطائفة في طهارة موضع العض أخذاً بإطلاق الآية موضع تأمّل.

ما هو الأصل في كلام المتكلّم؟

إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال والإجمال ، فالأصل العقلائي المعتمد عليه بين العقلاء كونه في مقام البيان لا الإجمال والإهمال ، وذلك لأنّ الأصل حمل كلّ فعل صادر من الإنسان على غايته الطبيعية. والتكلّم بما انّه من فعل الإنسان يحمل على غايته الطبيعية وهي الإفادة وبيان المقصود لا

__________________

١. المائدة : ٤.

٧٠٦

الإجمال والإهمال.

وبالجملة : هنا أُمور ثلاثة يطلب كلّ غايته الطبيعية :

١. التكلّم بما هو فعل صادر من الفاعل العاقل يطلب غاية عقلائية.

٢. التكلّم بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار يطلب غاية اختيارية.

٣. التكلّم بما أنّه فعل خاص يطلب غاية مناسبة لسنخ الفعل.

والغاية المتناسبة لفعل التكلّم بما هو هو ، إفهام المراد الجدي في مقام التخاطب لا إفهام بعضه دون بعض فيحمل على أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

وعلى ضوء ذلك فلو عثرنا على المقيد يعد معارضاً للمطلق كما هو الحال في المحاورات الشخصية.

نعم في المحاورات التي تدور حول التقنين والتشريع يؤخذ بكلا الدليلين لجريان السيرة على فصل الخاص عن العام والمقيد عن المطلق.

العثور على القيد لا يبطل الإطلاق

العثور على القيد على قسمين :

تارة يعثر الإنسان على القيد في المحاورات العرفية فيستدلّ به على حصول البداء له ، فأعرض عن المطلق إلى جانب المقيد.

وأُخرى في كلام المقنّن والمشرّع من غير فرق بين العرفي والإلهي ، فالعثور على القيد يكشف عن كون الإطلاق حكماً قانونياً لأجل ضرب القاعدة ، ولذلك يجب على المكلّف أن لايحكم بكون المطلق تمام المراد إلا بعد الفحص عن القيد واليأس منه ، وأمّا بعده فيحكم به من غير فرق بين مقنن ومقنن ، لوجود الأصل العقلائي وهو تطابق الإرادتين في جميع الموارد إلا ما قام الدليل على خلافه.

٧٠٧

المقدّمة الثانية : انتفاء القرينة

هذه هي المقدّمة الثانية ، وربّما يعبّر عنها بانتفاء ما يوجب التعيين. وعلى أيّ تقدير فالقرينة المتّصلة تمنع عن انعقاد الإطلاق ، والمنفصلة تمنع عن حجّيته ، بعد انعقاده ، وهذا نظير المخصِّص المتصّل والمنفصل للعام ، فالأوّل منهما يمنع عن انعقاد العموم ، والثاني يمنع عن حجّيته كما مرّ تفصيله في مبحث العام والخاص.

وأمّا عدم الانصراف إلى فرد أو صنف فهو داخل تحت هذه المقدّمة ، وذلك لأنّ الانصراف ينقسم إلى بَدئيّ ، وغير بَدئيّ.

أمّا الأوّل : فهو الذي يزول بالتأمّل كالقول بأنّ الأكل والشرب من المفطِّرات فهو ينصرف في بدء الأمر إلى ما هو المأكول والمشروب عادة ، ولكنّه بَدئيّ يزول بالتأمّل ، بل المبطل مطلق الأكل والشرب وإن كان غير متعارف كأكل ورق الشجر وشرب بول ما يؤكل لحمه ، فهو لا يمنع عن حجّية الإطلاق ، فضلاً عن انعقاده ، إذ لا يصحّ أن يُعتمد على مثل ذلك الانصراف البدئي المتزلزل غير المستقرّ.

وأمّا الثاني : أي غير البدئيّ فهو على قسمين :

تارة يكون الانصراف على حدّ يوجب مهجورية المعنى الأوّل ( المطلق ) ومتروكيته ، وأُخرى لا يكون على هذا الحدّ.

أمّا الأوّل ، فيمنع عن انعقاد الإطلاق كما هو الحال في ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ في عصر الصادقين عليهما‌السلام.

وأمّا الثاني ، فيكون من قبيل القرينة المنفصلة فهو يمنع عن حجّية الإطلاق لا عن انعقاده ، وهذا كلفظ « حرام الأكل » فانّه وإن كان يشمل الإنسان لغة ،

٧٠٨

لكنّه منصرف إلى خصوص الحيوان ، فإذا قيل الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره ، وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسد. (١) فهو ينصرف إلى الحيوان المصطلح لا إلى الحيوان اللغوي الذي يشمل الإنسان أيضاً.

المقدّمة الثالثة : انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب

وقد عدّ انتفاء القدر المتيقّن من مقدمات الحكمة ، واستدلّ المحقّق الخراساني على لزوم انتفائه بأنّه لو كان المتيقّن تمام مراده ـ فان الفرض انّه بصدد بيان تمامه ـ وقد بيّنه لا بصدد بيان انّه تمامه كي أخلّ ببيانه.

توضيحه : أنّه لو كان الفرد المتيقّن تمامَ مراده ، لم يلزم إخلال بالغرض ، لأنّه بيّنه بواسطة كونه متيقناً ، ولو كان مراده الأعم منه ومن الفرد المشكوك فقد أخلّ بغرضه حيث لا بيان له ، وإنّما البيان للفرد المتيقّن.

وبعبارة أُخرى : أنّه قد بيّن تمام المراد بالحمل الشائع ، وإن لم يبيّنه بوصف انّه تمام المراد وإنّما يتعلّق الغرض بالأوّل وقد بيّنه ولا يتعلّق بالثاني فلا يضرّ عدم بيان وصفه بأنّه تمام المراد.

يلاحظ عليه : أوّلاً : ماذا يراد من القدر المتيقّن الذي يُعد وجوده مانعاً عن التمسّك بالإطلاق ، فإن أُريد به انصراف المطلق إليه عند الإطلاق في ذهن المخاطب فلا كلام في أنّه مانع عن التمسّك به ، إذ هو يُصبح كالقرينة المنفصلة المانعة من حجيّة الإطلاق ، الوارد في الكلام.

وإن أُريد به غير صورة الانصراف ، فلا يضرّ بالإطلاق لا انعقاداً ولا تمسّكاً ، لأنّ المانع هو بيان تمام المقصود مع التفات المكلّف إلى أنّه بيّن تمام المراد ،

__________________

١. الوسائل : الجزء٤ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي.

٧٠٩

إذ عندئذ يصدق بأنّه لم يخل بغرضه ، وأمّا بيان تمام المراد من دون وقوف المخاطب على أنّ المتكلّم بيّن تمام المراد ، بل احتمل أنّ تمامه هو الجامع بين المورد المتيقّن والمشكوك ، ففي مثله يصدق أنّه أخلّ ببيان تمام المراد عند المخاطب ، لأنّ المدار في صدق عدم الإخلال والإخلال ، هو التفات المخاطب بأنّه بيّن تمام المراد ، وعدم التفاته ، لا بيانه واقعاً وإن لم يلتفت إليه المخاطب ، فلو اعتمد في مقام بيان المراد ، على وجود القدر المتيقّن في ذهن المخاطب حين الخطاب ، مع وجود الشكّ في ذهن المخاطب في أنّه تمامه أو بعضه ، فقد أخلّ بالغرض ، إذ لم يصدر منه بيان ، يوقف المخاطب على أنّه تمام المراد فقط ، بل صار متحيّراً في أنّه تمام المقصود أو بعضه ، فلا يصحّ في منطق العقل الاكتفاء بهذا البيان الذي لم يلتفت إليه المخاطب.

ولذلك ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري إلى عدم اعتبار هذه المقدّمة وقال : إنّ اللازم أن يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفاً عن تمام مراده ، وهذا ملازم لصحّة حكم المخاطب أنّ هذا تمام مراده ، والمفروض عدم صحّة حكم المخاطب بكون القدر المتيقّن تمام مراده ، فيقال : لو كان مراده مقصوراً على المتيقّن لبيّنه لكونه في مقام البيان. (١)

وثانياً : إذا كان القدر المتيقّن في زمان التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق بحجّة أنّ المولى بيّن ـ اعتماداً عليه ـ تمام المراد وإن لم يصرّح بأنّه تمامه. فليكن كذلك إذا كان هناك قدر متيقّن ـ ولو بعد التأمّل ـ خارج التخاطب فإنّه أيضاً ممّا يمكن أن يقال إنّ المولى بيّن المراد اعتماداً على تلك القرينة المنفصلة وإن لم يصرّح بأنّه تمام المراد ، فإذا قال : أكرم العلماء فالقدر المتيقّن هو العالم الهاشمي

__________________

١. درر الأُصول : ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٧١٠

التقي ، بعد التأمّل خارج الخطاب كما أنّ المتيقّن في قوله : ( أحلّ اللّه البيع ) ، هو البيع المنشأ بالصيغة العربية الماضية التي يتقدّم الإيجاب فيها على القبول بلا تعليق ، مع أنّ مانعية ذلك القدر المتيقّن بمعزل من الكلام ، وإلاّ لما صحّ التمسّك في مورد بإطلاق الكتاب والسنّة ، إذ ما من إطلاق إلا وله قدر متيقّن ، إذا تأمّل فيه المخاطب خارج مجلس التخاطب.

ولذا اشتهر بأنّ المورد غير مخصّص لا في الآيات ولا في الروايات.

٧١١

الفصل الرابع

في حمل المطلق على المقيّد

إنّ هذا الفصل هو بيت القصيد في المقصد الخامس ويعدّ كالنتيجة لما سبق من المباحث ، ولنقدّم أُموراً :

الأوّل : إنّ محطّ الكلام في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان القيد منفصلاً عن المطلق ، وأمّا إذا كان متّصلاً به فهو خارج عن محلّ البحث ، لما عرفت من أنّ وجود القيد المتصل يلازم عدم انعقاد الإطلاق فلا يكون هنا إطلاق حتّى يحمل على المقيّد ، بخلاف القيد المنفصل ، إذ الإطلاق ينعقد ـ عند وجود مقدّمات الحكمة ـ ويكون المقيّد مزاحماً لحجيّة الإطلاق لكون ظهوره في مدخلية القيد في المطلوب أقوى من ظهور المطلق.

الثاني : انّ تقدّم ظهور القرينة على ظهور ذيها أشبه بالورود ، لما عرفت من أنّ الإطلاق ليس من المداليل اللفظية ، بل من المداليل العقليّة ، يُعتمد فيها على كون المتكلّم حكيماً غير مناقض لمراده ، فلو أمر بالمطلق ، كشف عن كونه تمام الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية ، ومن المعلوم أنّ هذا الأصل حجّة إذا لم يكن دليل على المخالفة ، فإذا ورد المقيّد كشف عن عدم التطابق في هذا المورد الخاص

٧١٢

فيرتفع موضوع الأصل ، وإن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان كما مرّ ، وهذا أشبه بتقدّم الدليل الاجتهاديّ على الدليل الفقاهي ، نظير تقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي كالبراءة.

نعم يظهر من المحقّق النائيني أنّ التقديم من باب الحكومة كتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، ببيان أنّ الشكّ في إرادة ما يكون ذو القرينة ظاهراً فيه وعدمها ( كالأسد ) ، يكون مسبّباً عن الشكّ في إرادة ما تكون القرينة ظاهرة فيه وعدمها ، بداهة أنّ الأخذ بظاهر القرينة يوجب رفع الشكّ فيما أُريد بذي القرينة ولزوم حمله على غير ما يكون ظاهراً فيه لولا القرينة. (١)

أقول : الظاهر وجود الفرق بين المقيس ( المقام ) والمقيس عليه ( الأصل السببي والمسببي ) لأنّ موضوع الأصلين أي الشكّ محفوظ ، لكن يقدّم أحد الأصلين على الآخر ، بحجّة انّ التعبّد بمضمون الأصل السببي ، يلازم رفع اليد عن التعبّد بمضمون الأصل المسببيّ بخلاف المقام فإنّ موضوع أصالة التطابق الذي هو عدم ورود البيان على خلافها ، يرتفع بالمقيّد ، ومعه لا يبقى للأصل موضوع.

وبعبارة أُخرى : قوام الإطلاق بأمرين :

١. كونه في مقام البيان حسب الإرادة الاستعمالية.

٢. الأصل الحاكم على تطابق الإرادتين.

والعثور على القرينة وإن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان ، لكنّه يكشف عن عدم الموضوع لأصالة التطابق.

الثالث : يظهر من المحقّق الخراساني أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة تختلف حسب اختلاف المقامات ، قال : إنّ نتيجتها تارة يكون حملها على العموم البدلي ،

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٥.

٧١٣

وأُخرى على العموم الاستيعابي ، وثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحكام كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام ، فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوصَ الوجوب التعييني العيني النفسي فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان ولا معنى لإرادة الشياع فيه فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان ، كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في ( أَحلّ اللّه البيع وَحَرّم الرِّبا ) ، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ، وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف أيّ بيع كان مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق ، ولا يصحّ قياسه على ما إذا أخذ في متعلّق الأمر ( جئني برجل ) ، فإنّ العموم الاستيعابي لا يمكن إرادته ، فيحمل على العموم البدلي. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ظاهر عبارته أنّ هذه النتائج ، من ثمرات مقدّمات الحكمة ولكنّ الحقّ انّه ليس لمقدّمات الحكمة إلا ثمرة واحدة ، وهي كون ما وقع تحت دائرة التشريع تمام الموضوع للحكم فقط ، وأمّا غير ذلك من كون الأمر تعيينيّاً ، لا تخييرياً ، شموليّاً لا بدليّاً أو بالعكس فإنّما هي من مقتضيات اختلاف طبيعة الأحكام.

مثلاً إذا وقعت الطبيعة تحت دائرة الطلب تكون النتيجة هي البدلية لسقوط الأمر بالامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد.

وأمّا إذا وقعت الطبيعة في مقام التشريع تحت دائرة الامضاء ، كقوله سبحانه : ( أَحلّ اللّه البيع ) تكون النتيجة هي الشمول ، إذ لا معنى لإمضاء بيع

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

٧١٤

خاص مجملاً أو مهملاً.

وإذا وقعت الطبيعة مورداً للطلب دون أن يذكر له العدل تكون النتيجة هي التعيين ، لأنّ التخيير يحتاج إلى البيان دون التعيين ، والحاصل أنّ النتائج المختلفة وليدة اختلاف المقامات لا مقدّمات الحكمة.

ومنه يظهر أنّ تقسيم الإطلاق إلى بدليّ وشمولي ومجموعي ليس صحيحاً ، إذ ليس للإطلاق إلا قسم واحد وهو كون ما وقع تحت دائرة الحكم تمام الموضوع ، وأمّا الخصوصيات فإنّما تستفاد من القرائن وحسب اقتضاء الحكم.

الرابع : إنّ البحث في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا اتّحد الحكم واختلف الموضوع بالإطلاق والتقييد مثل قولنا : أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، وأمّا إذا اختلفا حكماً وموضوعاً فهو أجنبي عن الإطلاق والتقييد ، كما إذا قال : أعتق رقبة مؤمنة وسلّم على رجل.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحكمين إمّا يكونان مثبتين أو نافيين أو مختلفين ، وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكون السبب غير مذكور أو يكون مذكوراً ، فتكون الأقسام حسب الظاهر ستّة ، وإن كانت عند الدّقة أكثر فلنذكر القسم الأوّل بشقوقه الثلاثة :

القسم الأوّل : فيما إذا لم يذكر السبب

وفيه صور ثلاث :

الأُولى : إذا كانا مثبتين

إذا قال : أعتق رقبة ثمّ قال : أعتق رقبة مؤمنة ، فهل يحمل المطلق على المقيّد

٧١٥

أو لا؟ لقد تكلّم فيه المحقّق الخراساني بنحو مفصّل نأتي بخلاصته ، وهي : انّه يمكن الجمع بين المطلق والمقيّد بأحد الوجهين :

١. حمل المطلق على المقيّد ، لأنّ فيه جمعاً بين الدليلين.

٢. حمل المطلق على أفضل الأفراد ، وفيه أيضاً جمعاً بين الدليلين.

ويؤيَّد الوجهُ الأوّل بأنّ حمل المطلق على المقيد لا يحدث تصرّفاً في المطلق لكشف المقيّد عن عدم وجود الإطلاق وأنّه كان تخيّليّاً بخلاف حمل المقيّد على الاستحباب فإنّه تصرّف في دلالة الأمر.

وقد ردّ هذا التأييد بما يلي :

إنّ حمل المطلق على المقيّد أيضاً تصرّف ، وذلك لما عرفت من أنّ العثور على المقيّد وإن كان لا يكشف عن عدم كون المطلق وارداً في مقام البيان كما هو ظاهر كلام المؤيّد ، لكن يكون كاشفاً عن عدم كون الإطلاق بمراد جدّاً وانّ الإرادتين ليستا بمتطابقتين ، وهذا أيضاً نوع تصرّف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد نقل هذه الوجوه رجّح الوجه الأوّل ، أعني : حمل المطلق على المقيّد بوجه آخر ، وحاصله : انّ إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، وذلك لأنّ الأمر دائر بين الأخذ بالمطلق ورفع اليد عن الوجوب التعييني في مورد المقيّد ، وبين أن يكون المكلّف مخيّراً بين عتق المؤمنة والكافرة والأخذ بالظهور التعييني في جانب المقيّد ، وتكون النتيجة لزوم الإتيان بالقيد ، ولكن الظهور الثاني أقوى من الظهور الأوّل فيتصرّف فيه ببركة الظهور الثاني.

يلاحظ عليه : بأنّه لم يظهر وجه الأقوائيّة.

وذلك لأنّ هنا أمرين :

٧١٦

١. الظهور التعييني في جانب المقيّد ولزوم الإتيان بالقيد.

٢. تساوي الأفراد في مقام الامتثال لإطلاق الدليل.

وكلا الأمرين من نتائج الإطلاق فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر بعد كون الجميع من نتائج شيء واحد.

إذا علمت ذلك : فاعلم أنّه يجب أن تحلّ العقدة من طريق آخر ، وهو أنّه إذا كانا مثبتين ، ومجرّدين عن ذكر السبب ، تكون هنا صورتان :

الأُولى : إذا أحرزت وحدة الحكم وأنّ هنا وجوباً واحداً لا وجوبين.

الثانية : إذا لم تحرز وحدة الحكم واحتملنا تعدّده وتعدّد الامتثال.

أمّا الأُولى فما ذكر من أنّ هنا وجهين للجمع بين الدليلين ، وإن كان صحيحاً لكن الجمع الأوّل ( حمل المطلق على المقيّد ) أظهر من الجمع الثاني ، أي حمل المقيد على أفضل الأفراد ، وذلك لجريان السيرة المستمرّة في مجالس التقنين على فصل المخصّص عن العام والمقيّد عن المطلق ، والداعي إليه في التقنين البشري هو عدم إحاطة علم أصحاب التشريع بالمفاسد والمصالح فيشرّعون حكماً مطلقاً ثمّ يعثرون على أنّ المصلحة في المقيد.

وأمّا التشريع السماوي فالوجه فيه هو وجود المصلحة الملزمة في تدريجية التشريع يقول سبحانه : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عليهِ القُرآنُ جُملةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرتِيلاً ). (١)

فهذه السيرة كالقرينة على تعيّن الجمع الأوّل.

__________________

١. الفرقان : ٣٢.

٧١٧

وأمّا الثانية : أعني إذا لم تحرز وحدة التكليف ، والامتثال ، فضلاً عمّا إذا أحرز تعدّدهما كما إذا قال : اسقني بالماء ، ثمّ قال بعد زمن : جئ بالماء واحتملنا أنّ هناك غرضين : أحدهما رفع العطش والثاني غسل الثياب ، غير أنّ الأوّل يشترط فيه كون الماء خالياً عن الأملاح ، قابلاً للشرب بخلاف الثاني فإنّه يكفي فيه كون الماء مطلقاً ، سواء أكان قـابلاً للشرب أم لا ، فالجمع بين الـدليلين يتحقـّق بأُمور ثلاثة :

١. حمل المطلق على المقيّد ولزوم امتثالهما بعتق الرقبة المؤمنة.

٢. حمل المقيّد على أفضل الأفراد والتخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة والكافرة وإن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

٣. التحفّظ على الوجوبين والقول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين ، ومقتضى ذلك لزوم القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة بخلاف الثاني ولا موجب للعدول عن الثالث إلى الوجهين الأوّلين ، وبما أنّ الشكّ في المقام ـ بعد عتق المؤمنة ـ يرجع إلى الشكّ في سقوط التكليف المعلوم ، وحصول الامتثال بالعمل بالمقيّد وحده ، يتعيّن العمل بالوجه الثالث.

فإن قلت : إنّ المقام أشبه بالأقل والأكثر الاستقلاليّين ، حيث إنّ الأمر يدور بين التكليف الواحد والأكثر ، والأوّل متيقّن والزائد مشكوك ، كدوران الدين بين الأقل والأكثر فالحكم في الجميع واحد.

قلت : الفرق بين المقامين واضح ، فإنّ الوجوب في مورد الدين واحد فهو مخاطب بقوله : « أدّ دينك » ، نعم المتعلّق ( الدين ) مردّد بين الأقل والأكثر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الخطاب متعدّد قطعاً ، حيث قال : « أعتق رقبة » ثمّ قال : « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإذا أعتق رقبة مؤمنة ، يشك حصول الامتثال بعتق الرقبة

٧١٨

المؤمنة ، وذلك إذ لو كان الغرض واحداً لحصل الامتثال ولو كان الغرض متعدداً لما حصل ، فيكون مرجع الشكّ إلى سقوط التكليف ، وحصول الامتثال والمرجع في الجميع هو الاشتغال.

فاتّضح من ذلك أنّ مفتاح الحلّ هو إحراز وحدة الحكم وعدمه ، ففي الصورة الأُولى يحمل المطلق على المقيّد ، وفي الصورة الثانية يعمل بالاحتياط ، فيكون أحد التكليفين مقيّداً بالإيمان والتكليف الثاني غير مقيّد به ويحصل الغرض بعتق أيّ رقبة من المؤمنة والكافرة.

تقريب للمحقّق النائيني لإحراز وحدة الحكم

لمّا وقف المحقّق النائيني على أنّ مفتاح الحل في المقام هو إحراز وحدة الحكم صار بصدد تقريبه في موارد الشكّ بالبيان التالي ، وحاصله : امتناع تكليفين مستقلّين ناشئين من ملاكين إلزاميّين ، وذلك لأنّ لهذا الغرض صورتين :

١. أن يكون الإتيان بالمقيّد وافياً بكلا الملاكين.

٢. أن يكون وافياً بخصوص أحدهما دون الآخر ، أي وافياً بملاك القيد وحده أو المطلق كذلك.

لا سبيل إلى الثاني ، لأنّه خلاف ظاهر الأمر المتعلّق بصـرف الوجـود ( الأمر بالمطلق ) المنطبق على المقيّد أيضاً. فلا وجه لوفائه بملاك المقيّد دون المطلق.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه يستلزم كون الأمر المتعلّق بكلّ من المطلق والمقيّد تخييرياً من باب التخيير بين الأقل والأكثر بأن يُخيّر المكلّف بين الإتيان بالمقيّد أوّلاً فيكون مجزياً عن كلا التكليفين ، وبين الإتيان بغير المقيّد من أفراد

٧١٩

المطلق أوّلاً ، ثمّ الإتيان بالمقيّد بعده ثانياً ، إذ بعد فرض لزوم الإتيان بالمقيّد بعينه ووفائه بكلا الملاكين لا يبقى موجب للأمر بالمطلق إلا بعد تقييده بالإتيان به أوّلاً في غير ضمن المقيّد مع الترخيص في تركه بالإتيان بالمقيّد ابتداء ، ومن الواضح أنّ هذا تكلّف زائد لا سبيل إلى الالتزام به مع عدم القرينة عليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشق الثاني ولكن لا بمعنى وفاقه بملاك المقيّد دون ملاك المطلق حتّى يقال بأنّه غير معقول ، لأنّ المطلق موجود في ضمن المقيّد فكيف يكون وافياً بملاك المقيد دون المطلق؟!

بل بمعنى أنّ الإتيان بالمقيّد يلازم حصول أحد الغرضين لا بعينه ، دون الغرضين معاً ، مثلاً لو قال : اسقني ، ثمّ قال : جئني بالماء ، فأحضر الماء القابل للشرب ، فقد حصل أحد الغرضين وهو التمكن من الشرب والغسل ، ولكنّه لا يفي إلا بأحدهما إمّا الشرب أو الغسل ويبقى الغرض الآخر بحاله ، ولا يتحقق إلا بإحضار ماء ثان غير مشروط بكونه قابلاً للشرب ، وإن أحضره يكون أيضاً وافياً به. واحتمال أن يكون المورد من هذا القبيل كاف في الحكم بالاشتغال ولزوم عتق رقبتين.

أضف إلى ذلك : أنّ إثبات وحدة التكليف بهذه الاعتبارات العقلية بعيد عن الأذهان الساذجة التي هي المرجع في تشخيص وحدة التكليف عن تعدّده.

فاتّضح بذلك أنّ الطريق لإحراز وحدة التكليف الملازم لوجود المنافاة بين الكلامين ، الباعث إلى التصرّف بأحد الوجهين من حمل المطلق على المقيّد أو حمل المقيّد على أفضل الأفراد هو دلالة القرائن على أنّ القضيتين ناظرتان إلى حكم واحد ، لا هذا الوجه البعيد عن الأذهان. والمفروض في المقام عدمها فلا وجه

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٥٣٥.

٧٢٠