إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

فالجمع بين هذه الأُمور :

أ : كون الأمر بالمهم مشروطاً.

ب : كون الأمر بالمهم فعلياً.

ج : كون الأمر بالأهم غير ساقط بعد.

أمر دقيق يحتاج إلى مزيد من النظر.

فالذي يمكن أن يجمع بين هذه الأُمور هو عبارة عن جعل الشرط ( العصيان ) بالنحو التالي :

جعل العصيان شرطاً للأمر بالمهم لكن على نحو الشرط المتأخر لا المتقدم.

والمراد من الشرط المتأخر للتكاليف هو ما يكون الشرط متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً ، وفي المقام انّ المولى يتصور عصيان العبد بالنسبة إلى الأمر بالأهم في المستقبل ، ففي ذاك الظرف الذي يكون العصيان متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً يأمر بالمهم ويقول : وإن عصيت فصلِّ.

فالشرائط الثلاثة الآنفة الذكر محقّقة :

١. انّ الأمر بالمهم مشروط بالعصيان بنحو الشرط المتأخر.

٢. كون الأمر بالمهم فعلياً لوجود شرطه وهو العصيان لكن بنحو الشرط المتأخر بمعنى تحقّقه لحاظاً لا خارجاً ، وإلا فلو تحقق خارجاً لسقط الأمر بالإزالة ولا يوجد في ظرف التكليف إلا الأمر بالمهم.

٣. والأمر بالأهم غير ساقط ، لأنّه إنّما يسقط بالطاعة أو بالعصيان الخارجي المتقدّم على الأمر بالصلاة والمفروض انتفاؤهما.

أمّا الامتثال فظاهر ، وأمّا العصيان فالمفروض انّه لم يتحقّق بعدُ كما هو

٤١

مقتضى أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخر وجوده ، وبذلك يعلم سرّ أخذ الشرط على نحو الشرط المتأخر لا المتقدّم بوجوده ولا المقارن ، لأنّ العصيان المتقدم بوجوده يوجب سقوط الأمر بالإزالة وانحصار التكليف بامتثال الأمر المهم.

وأمّا العصيان المقارن فلأنّ الكلام في الأُمور التدريجية ولا يتصوّر فيها العصيان التدريجي ، بل في الأُمور الدفعية كعصيان الأمر بإنقاذ الولد شرطاً مقارنها للأمر بإنقاذ الأجنبي.

فكما يمكن أن يكون العصيان الخارجي شرطاً للأمر بالمهم لكن بنحو الشرط المتأخر يمكن أن يكون الشرط المأخوذ في المهم هو عزم المكلّف بالعصيان ، والفرق بين الأمرين واضح.

ففي الأوّل يكون الشرط هو العصيان الخارجي بوجوده المتأخر ومرجعه إلى لحاظ المولى العصيان شرطاً.

وأمّا الثاني فالشرط هو نية المكلّف وعزمه على العصيان ، ومن المعلوم أنّ التكليف بالأهم لا يسقط بالعزم والنية فيكون الأمران فعليين متجانسين.

وبذلك تختلف مسألة عزم العصيان مع العصيان المتقدم حيث إنّ الأوّل لا يوجب سقوط التكليف بالأهم بخلاف الثاني.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تقرير الترتّب. وقد ذكر له تقريبات مختلفة نأتي بها واحد بعد الآخر.

٤٢

التقريب الأوّل للترتّب

قد قرر صاحب الكفاية دليل جواز الترتّب بالنحو التالي :

إنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً والأمر بغيره معلقاً على عصيان ذلك الأمر ( على نحو الشرط المتأخر ) أو البناء والعزم عليه بل هو واقع كثيراً عرفاً. (١)

نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب

إنّ المحقّق الخراساني نقد الدليل المذكور بما هذا بيانه :

إنّ ملاك الامتناع في الأمرين المطلقين متوفر في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، فانّ ملاك امتناع الأمريـن العرضيين عبـارة عن استـلزامهما طلب الضدين ، فإذا قال : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ ، فمعنى ذلك طلب الضدّين مع عدم تمكين المكلّف من صرف القدرة إلا في امتثال أحد الأمرين.

فإذا كان هذا ( طلب الضدين ) هو الملاك في امتناع الأمرين العرضيين المطلقين ، فهو أيضاً موجود في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، وذلك لأنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢١٣.

٤٣

في رتبة الأمر بالمهم ، فانّ المفروض انّ الأمر بالأهم لم يسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان فيكون في رتبة الأمر بالمهم ، فيجتمع أمران فعليان في رتبة الأمر بالمهمّ وإن لم يكونا كذلك في رتبة الأمر بالأهمّ.

وبعبارة أُخرى : في المرتبة التي للأمر بالأهم دعوة إلى نفسه ليس للأمر بالمهم دعوة إلى امتثال نفسه ولكن في المرتبة التي للأمر بالمهم دعوة إلى متعلّقه فللأمر بالأهم أيضاً دعوة وطلب ، لافتراض انّه بعدُ لم يسقط ، لأنّ الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر.

هذا هو الإشكال الذي اعتمد عليه المحقّق الخراساني في نفي الترتّب ، والذي عاقه عن تصويبه هو اجتماع الأمرين في مرتبة الأمر بالمهم وإن لم يكن اجتماع في مرتبة الأمر بالأهم.

تحليل نظرية المحقّق الخراساني

إنّ الملاك في استحالة توجه أمرين مطلقين إلى المكلّف ليس هو طلب الضدّين ، بل طلب الجمع بين الضدّين ، فانّ طلب الضدّين إذا لم يكن هناك طلبُ جمع بينهما فلا مانع منه كما في الأمر بالسكون في ظرف والأمر بالحركة في ظرف آخر ، وإنّما الملاك في الاستحالة هو أن تكون نتيجة الأمرين هو طلب الجمع بينهما في زمان واحد ، وهذا الملاك موجود في الأمرين المطلقين دون المطلق والمشروط ، فهاهنا دعويان :

الأُولى : انّ نتيجة الأمرين المطلقين هي طلب الجمع بين الضدّين حيث يقول : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ صلاة الظهر ، فهو يطلب في زمان واحد صدور أمرين متضادين وهما بمعنى الجمع بين الضدين ، لأنّه جعَل ظرف امتثال

٤٤

الأمر الأوّل ، نفس ظرف امتثال الأمر الثاني بشهادة انّه قال : وفي الوقت نفسه صلِّ.

الثانية : انّ نتيجة الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط هو طلب الضدين لا طلب الجمع بين الضدين ، وذلك لأنّه يطلب الإزالة بلا قيد وشرط كما هو مقتضى الإطلاق.

ولكن يطلب الصلاة في ظرف انصراف المكلّف عن امتثال الأمر بالإزالة ، فتكون النتيجة طلب الضدين لا طلب الجمع بينهما ، وإنّما يلزم طلب الجمع بين الضدّين لو طلب الأمر بالمهم حتّى في ظرف إرادته لامتثال الأمر بالأهم والمفروض خلافه.

وبعبارة أُخرى : انّ المولى يلاحظ انّ للمكلّف حالتين :

تارة يريد صرف قدرته في الأمر بالأهمّ ، وهذا هو الذي يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله.

وأُخرى لا يريد صرف قدرته فيه فلا يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله لبعض الملابسات ولكن يوجد في نفسه داع إلى امتثال الأمر بالمهم ، ولأجل رعاية كلتا الحالتين يأمر بالأهم وفي ظرف العصيان على نحو الشرط المتأخر يأمر بالمهم.

وبذلك يظهر انّ شيئاً من الأُمور التالية ليس مانعاً من توجيه أمرين إلى المكلّف على نحو الترتب.

١. اجتماع أمرين فعليين.

٢. كون الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم.

٣. استلزام اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم طلب الضدين.

٤٥

فليس شيء من هذه الأُمور مانعة عن إنشاء أمرين أحدهما مطلق والآخر مشروط ما لم يكن هناك طلب الجمع بين الضدين ، وإنّما المانع هو الأمر الرابع أعني :

٤. استلزام توجه الأمرين طلب الجمع بين الضدين ، وهذا موجود في الأمرين العرضيين لا في الأمرين الطوليين.

ونزيد بياناً انّ مفتاح الترتّب كلمة واحدة ، وهي استلزام اجتماع الأمرين الفعليين هل هو طلب الضدين أو طلب الجمع بين الضدّين؟ فمن أحال فاعتمد على الأوّل مع أنّه ليس بمحال ، ومن جوزه فقد اعتمد على الثاني وانّ الترتب لا ينتهي إلى طلب الجمع بين الضدّين.

بذلك تقف انّ أكثر ما تداولته الألسن والرسائل والكتب حول الترتّب بحوث جانبية لا صلة لها بما هو مفتاح المسألة وحل معضلتها.

اعتراضات وأجوبتها

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما تبنَّى امتناعَ الترتّب وزعم أنّ لازمه طلب الضدّين ، أثار أسئلة أربعة وأجاب عنها على النحو الرائج في الكتب العلمية ، ونحن نذكر الأسئلة والأجوبة مع القضاء بين المعترض والمجيب.

الاعتراض الأوّل

لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلا الطلب بالأهمّ ولا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار.

٤٦

إجابة المحقّق الخراساني

أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ استحالة طلب الضدّين إنّما هي لأجل كون صدور نفس التكليف بهذا النحو من الحكيم الملتفت إلى امتناعه ، محالاً ، بمعنى أنّه لا تنقدح في نفس الحكيم إرادتان متضادتان متعلّقتان بأمرين لا يتمكن المكلّف من جمعهما ، وما هذا شأنه لا يفرَّق فيه بين سوء الاختيار أو حسن الاختيار ، فلا فرق بين قولنا : أزل النجاسة وإن عصيت فصلّ ، وقولنا : أزل النجاسة وإن سلمت على زيد فصلِّ ، وقد حقّق في محله انّ مرجع التكليف بالمحال إلى كون نفس التكليف محالاً ، فلا ينقدح في ذهن المولى إرادة جديّة متعلّقة بطيران زيد إذا كان فاقداً لأسبابه.

تحليل السؤال والجواب

إنّ المعترض يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال غير أنّ المكلّف لما كان مقصّراً في المقام ، وسبباً لهذا النوع من التكليف فلا مانع من تكليفه أخذاً بقولهم : الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار.

كما أنّ المجيب يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال ولكن يردّ على تجويز التكليف بغير المقدور حتّى ولو كان السبب هو المكلّف.

ونحن نقول : الحقّ مع المجيب فإنّ التكليف بغير المقدور تكليف محال ، وهو غير جائز في منطق العقل ، سواء أكان المكلّف مقصّراً أم لا ، غير أنّ الكلام في مقام آخر وهو فقدان الموضوع ( المحال ) في مبحث الترتب ، إذ غاية ما يترتب عليه هو طلب الضدّين وهو ليس بمحال وما هو محال أي طلب الجمع بين الضدّين فليس بلازم في المقام.

٤٧

فالسائل والمجيب يبحثان عن أمر لا وجود له في المقام كما عرفت.

الاعتراض الثاني

إنّ قياس المقام بالأمرين العرضيين قياس مع الفارق ، فانّ كلاً من الأمرين العرضيين يطارد الآخر ، فإذا قال : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ ، فكلّ يدعو إلى بذل القدرة في متعلّقه ، وعندئذ تظهر المطاردة لوحدة القدرة وكثرة المقدور ، بخلاف الأمرين الطوليين ، أي إذا كان الأمر الثاني مقيداً بعصيان الأمر الأوّل ، فانّ الأمر المتعلّق بالمهم لا يطرد الأمر المتعلق بالأهم ، وذلك لأنّ دعوة الأمر المتعلّق بالمهم إلى امتثاله في ظرف عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غير الأهم على تقدير إتيانه وإطاعة أمره.

وبعبارة أُخرى لو كانت دعوة الآمر المتعلق بالمهم شاملة لصورة إطاعة الأمر بالأهم يلزم المطاردة ، وأمّا لو اختصت دعوته بصورة عدم امتثاله فلا يكون هناك مطاردة.

إجابة المحقّق الخراساني

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

الأوّل : انّ طرد الأمر المتعلّق بالمهم لا يختصّ بصورة إتيان الأمر بالأهم حتّى يقال : لا مطاردة عندئذ بين الأمرين ، بل يعمّ حتّى صورة عدم إتيانه.

الثاني : انّ المطاردة من جانب واحد وهو طرد الأمر المتعلّق بالأهمّ كاف في إبطال الترتّب.

أمّا الأوّل فانّ الأمر المتعلّق بالمهم يطارد الأمر الآخر حتّى في صورة عصيان

٤٨

الأمر بالأهم وعدم الإتيان به ، وذلك لأنّ المطاردة لازم فعلية الأمر بالمهم ، وكلّ أمر فعلي يدعو إلى متعلّقه ولو في ظرف عدم الإتيان بالأهم والمفروض انّ الأمر المتعلّق بالأهم لم يسقط بعدُ ، وهو أيضاً فعلي فيلزم اجتماع أمرين فعليين كل يدعو إلى متعلّقه ، وهو نفس مطاردة الأمر بالمهم ، الأمرَ بالأهم.

والحاصل : انّ المعترض يركِّز في إنكار المطاردة على صورة إطاعة الأمر المتعلّق بالأهم ، ومن المعلوم أنّه ليس في هذه الصورة أيّة مطاردة ، ولكن المجيب يركز في إثبات المطاردة على صورة أُخرى ، وهي صورة عصيان الأمر المتعلّق بالأهم ووجه المطاردة فعلية كلّ من الحكمين لحصول شرط الفعلية وداعوية كلّ إلى متعلّقه.

أقول : هذا ، هو الإشكال المهم في الترتّب وهنا تُكْمنُ روح الترتب أو إنكاره ، ولابدّ من علاجه على وجه يقلع الشبهة عن الأذهان ، فنقول :

إنّ للأمر المتعلّق بالمهم في الصورة التي أشار إليها المحقّق الخراساني ( صورة عدم الإتيان بالأهم ) مفهومين :

الأوّل : بما انّه أمر فعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه لحصول شرط الفعلية ، وعندئذ يتبادر إلى الذهن وجود المطاردة بينه وبين الأمر بالأهم غير الساقط بعدُ ، وبما انّ الأمر بالأهم غير ساقط بعد يُستظهر منه وجود المطاردة ، وهذا هو الذي جرّ المحقّق الخراساني إلى القول بوجود المطاردة حتّى من جانب الأمر بالمهم ، ولكنّه غفل عن المفهوم الثاني للأمر بالمهم وهو :

الثاني : انّ الأمر بالمهم مع كونه فعلياً لا يأبى عن ترك امتثاله والاشتغال بالأهم حتّى في نفس هذه الحالة ، وهذا هو الذي يزيل المطاردة المتوهمة ، فالمحقّق الخراساني أخذ بالمفهوم الأوّل وغفل عن المفهوم الثاني.

٤٩

وبعبارة أُخرى : انّ الأمر بالمهم وإن كان يدعو إلى إنجاز متعلّقه ولكنّه في حدّ نفسه يرخِّص ترك امتثاله والاشتغال بالأهم وبذلك تنثلم المطاردة المتوهمة.

هذا كلّه حول الجواب الأوّل.

وأمّا الجواب الثاني فهو انّ المحقّق الخراساني اكتفى في إبطال الترتّب بوجود الطرد من جانب واحد وهو الأمر بالأهم ، وأساسه ما مرّ من أنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم فيجتمع أمران فعليان كما مرّ.

يلاحظ عليه بما مرّ من أنّ اجتماع أمرين فعليين كلّ يدعو إلى إنجاز متعلّقه إنّما يستلزم الامتناع بما إذا لم يكن لواحد من الأمرين مرونة وليونة وأمّا المقام فانّ الأمر بالأهم وإن لم يكن فيه مرونة وليونة لكنّ اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم ، لا يضرّ مادام الأمر الثاني يحتضن المرونة حيث إنّه في كلّ زمان ينسحب عن الساحة إذا أراد المكلّف امتثال الأمر المتعلّق بالأهم.

ونزيد إيضاحاً ونقول : إنّ مركز المطاردة الذي يعتمد عليه المحقّق الخراساني أحد المواضع الثلاثة :

أ. مقام الجعل والتشريع.

ب. مقام الفعلية.

ج. مقام الامتثال.

أمّا الأوّل فقد عرفت أنّ المورد من قبيل المتزاحمين ، والمتزاحمان متلائمان في مقام الجعل ولا تكاذب بينهما في تلك المرتبة ، فلا إشكال في جعل الإيجاب على إزالة النجاسة والصلاة وغيرهما من عشرات الموضوعات.

٥٠

وأمّا الثاني : أي المطاردة في مرحلة الفعلية فلا شكّ انّ كلاً من الحكمين فعلي يدعو إلى إنجاز متعلّقه ، لأنّ الأوّل مطلق والثاني مشروط قد تحقّق شرطه.

لكن كلّ أمر يدعو إلى متعلّقه ولا ينظر إلى الأمر الآخر حتّى تكون النتيجة طلب الجمع ، وعلى فرض تسليمه في سائر الموارد ليس للأمر بالمهم إطلاق بالنسبة إلى صورة امتثال الأمر بالأهم.

وأمّا الثالث أي الامتثال ، ومن حسن الحظ عدم المطاردة فيه ، وذلك انّه لم يكن هناك صارف فالتأثير للأمر الأوّل ، وإن كان صارف فالتأثير للأمر الثاني.

فتبيّن انّه لا مطاردة في البين في أية مرحلة من المراحل الثلاث :

الاعتراض الثالث

كيف تنكرون الترتب مع أنّه واقع في العرف كثيراً؟

إجابة المحقّق الخراساني

يمكن الجواب عمّا يتراءى انّه من باب الترتّب بوجهين :

أ. أن يكون الأمر بالمهم بعد التجاوز عن الأمر بالأهم.

ب. أن يكون الأمر بالمهم إرشاداً إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض.

يلاحظ على الجواب الأوّل ـ أعني التجاوز عن الأمر بالأهم ـ : أنّه ماذا يريد من التجاوز؟ فهل يريد كونه منسوخاً والمفروض خلافه ، ولأجل ذلك كلّما رجع إلى امتثال الأمر بالأهم لكان مطيعاً.

٥١

أو يريد انّه عند الخيبة عن تأثير الأمر الأوّل دون سقوطه ، يأمر بالمهم ، فهو نفس الترتّب.

إلى هنا تمّت الاعتراضات التي طرحها المحقّق الخراساني وأجاب عنها ، وقد عرفت مدى صحّة الأجوبة.

الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الأن

وقد استدلّ المحقّق الخراساني على بطلان الترتّب من طريق الأن وقال : لو صحّ الترتّب للزم تعدّد التكليف ، ولو تعدد التكليف وعصى المكلّف كلا الأمرين يلزم أن يعاقب بعقابين ، ولكن التالي باطل لامتناع تعدّد العقوبة مع وحدة القدرة ، فكذا المقدم أي تعدد التكليف.

يلاحظ عليه : أنّ في تعدّد العقاب ووحدته قولين :

١. انّ تعدّد العقاب ووحدته تابع لتعدّد القدرة ووحدتها ، لا وحدة التكليف وتعدّده ، فلو كانت القدرة واحدة والتكليف متعدداً ، كما إذا تعدد الغريق وهو ترك نجاة الجميع لما كان عليه إلا عقاب واحد ، لاستقلال العقل بقبح تعدّده مع عدم تعدّد القدرة.

ولذلك أفتوا بتعدّد العقاب في التكاليف العرضية كالصلاة والصوم ، فلو تركهما ، يعاقب عقابين لتعدّد القدرة المستلزمة كون المخالفة لا عن عذر.

وهذا بخلاف التكاليف الطولية فلا يوجب تعدد التكليف فيها تعدد العقاب مع وحدة القدرة.

وعلى ضوء ذلك فالتكليف في الترتب متعدد وبما انّ القدرة واحدة فليس هنا إلا عقاب واحد.

٥٢

٢. انّ تعدد العقاب ووحدته تابع لتعدد التكليف ووحدته عند المعصية ، فلو كان هناك غريقان وترك نجاة الكلّ ، يعاقب بعقابين وإن لم يكن له إلا قدرة واحدة ، ولا ينافي ذلك عدله سبحانه ، لأنّه كان في وسع العبد ـ مع تعدد التكليف ووحدة القدرة ـ الاجتناب عن مخالفة التكليفين عن عذر ، وذلك ببذل قدرته في إنقاذ واحد ، والاعتذار عن ترك الأمر الآخر بالعجز ، ومع أنّ هذا الباب كان مفتوحاً أمامه ، فقد ترك إنقاذ الغريقين بلا عذر ، فللمولى أن يؤاخذه ويقول :

لِمَ تركت إنقاذ زيد بلا عذر؟

لم تركت إنقاذ أخيه كذلك؟

فصار العبد التارك لكلا الأمرين مصدراً لمخالفة أمرين بلا عذر ، فيستحقّ عقابين.

وبعبارة أُخرى : انّه يجب على العبد إمّا الامتثال وإمّا الاعتذار ، فلو بذل قدرته في واحد يصحّ له الاعتذار عن عدم امتثال الآخر ، وأمّا إذا ترك الجميع فليس له ما يصرف عنه العقاب ، إذ لا امتثال ولا اعتذار.

إلى هنا تمّ التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني للترتّب كما تمّت مناقشاته وتحليلاته.

وهناك وجوه أُخرى لتقريب الترتب نذكرها تباعاً.

بيان للمحقّق الحائري في امتناع الترتّب

إنّ لشيخ مشايخنا المحقّق الحائري قدس‌سره تقريباً للقول بامتناع الترتّب ونقداً عليه ، ونحن نذكر إجمال التقريب ثمّ نذكر نظرنا فيه.

إنّ هنا مقدّمتين :

٥٣

١. انّ الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلاً ، وهذه المقدّمة تعود إلى المكلَّف.

٢. لا يصحّ للمكلِّف أن يطلب الضدّين في زمان واحد على وجه الإطلاق ، وهذه المقدمة راجعة للآمر.

وعلى ضوء ذلك فإمّا أن يكون الأمران المتعلّقان بإيجاد الضدّين مطلقين ، أو يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً.

والأوّل لا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق.

وأمّا الثاني ـ أي كون التكليف الثاني مشروطاً ـ فالشرط إمّا هو الترك الخارجي للأهم ، وبتعبير آخر العصيان الخارجي المتقدّم أو تصور المولى عصيان العبد ، بمعنى انّه يترك في علم اللّه.

والأوّل أي كون الشرط هو العصيان الخارجي خارج عن الترتّب ، لأنّ الأمر الأوّل يسقط بالعصيان الخارجي كما لو غرق الأهم دون المهمّ فلا يكون هناك أمران ولو طوليان ، فبقي كون الشرط هو العزم على العصيان أو العصيان على نحو الشرط المتأخر ، فعندئذ يسأل هل الشرط متحقّق أو لا؟ فعلى الثاني لا يكون الأمر بالمشروط فعلياً ، وعلى الأوّل ينقلب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق فتقع هذه الصورة في عداد الصورة الأُولى ، أي الأمرين العرضيين المطلقين.

يلاحظ عليه : نحن نختار الشقّ الأخير ، وانّ الشرط هو تصوّر العصيان من جانب المولى أو علمه سبحانه بعصيان العبد ، أو قول المولى : « إن كنت معرضاً عن امتثال الأمر الأوّل » ، أو : « كان في نفسك صارف عنه ». وعلى كلّ تقدير فالشرط

٥٤

متحقق ، وانّ القضية الشرطية بعد حصول شرطها تنقلب إلى قضية مطلقة ، ومع ذلك كلّه فالأمر بالمهم على نحو لو انصرف من صرف القدرة في المهم وحاول أن يمتثل الأمر بالأهم لما منعه الأمر بالمهم ، فهذا النوع من التكليف وإن كان مطلقاً لكن لا يزاحم الأمر بالإزالة على وجه الإطلاق.

وقد تقدّم منّا انّ السبب لكون المطاردة من طرف واحد لا من طرفين ، هو اشتمال الأمر الثاني على شرط يوجد فيه مرونة بالنسبة إلى امتثال الأمر بالأهم.

على أنّ انقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق ، ممنوع جدّاً كما بيّن في محله.

٥٥

التقريب الثاني (١) لتصحيح الترتّب

نقل المحقّق الاصفهاني تقريباً عن بعض الأُصوليين ما هذا حاصله :

إنّ اقتضاء كلّ أمر لإطاعة نفسه ، في رتبة سابقة على إطاعته ، كيف لا وهي مرتبة تأثيره وأثره ، ومن البديهي أنّ كلّ علّة منعزلة في مرتبة أثرها عن التأثير وإنّما اقتضاؤها ، في مرتبة ذاتها المقدّمة على تأثيرها وأثرها ، ولازم ذلك كون عصيان المكلّف ـ وهو نقيض طاعته ـ أيضاً في مرتبة متأخّرة عن الأمر واقتضائه.

وعليه فإذا أُنيط أمر بعصيان مثل هذا الأمر ، فلا شبهة انّ هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير ، إذ في رتبة الأمر بالأهم ، لا وجود للأمر بالمهم ، وفي رتبة وجود الأمر بالمهم لا يكون اقتضاء للأمر الأهم. فلا مطاردة بين الأمرين ، بل كلّ يؤثر في رتبة نفسه على وجه لا يوجب تحيّر المكلّف في امتثال كلّ منها ولا يقتضي كلّ من الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق ، بل كلّ يقتضي موضوعاً لا يقتضي غيره. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ التأخر الرتبي يحتاج إلى وجود الملاك في نفس الشيء وإلا فبمجرّد كونه مقارناً لما هو متأخر رتبة عن شيء لا يوجب اتّصافه بالتأخّر الرتبي والمقام من هذا القبيل ، لأنّ تأخّر الطاعة عن الأمر لا يوجب تأخّر العصيان عن الأمر ، إذ ملاك التأخّر موجود في الطاعة دون العصيان ، لأنّ الطاعة

__________________

١. مرّ التقريب الأوّل في كلام المحقّق الخراساني.

٢. نهاية الدراية : ١ / ٢٣٣.

٥٦

أثر الأمر ومعلوله ، والمعلول متأخّر رتبة عن العلّة ، بخلاف العصيان ، فإنّه ليس أثرَ الأمر لأنّ أثر الأمر هو البعث والتحريك.

وقد سبق منّا انّ قانون المساواة إنّما يحتجّ به في المسائل الهندسية ، كمساواة الزوايا مثلاً وفي الزمانيات ، فلو كان زيد متأخراً عن عمرو تأخراً زمانياً ، وكان زيد وبكر من حيث الزمان متقارنين ، فيكون بكر أيضاً متأخراً عن عمرو.

وأمّا التأخّر العقلي الذي يعبر عنه بالتأخّر الرتبي فلا يكفي فيه المقارنة ، بل يجب أن يكون في المتأخر ملاك التأخر الرتبي ، ولذلك لا يكون ملازم المعلول متأخراً عن العلة تأخّراً رتبياً مع أنّ ملازم المعلول متّحد معه رتبة.

وثانياً : أنّ التزاحم والتضاد ليس في المعية العقلية حتّى يرتفعا بالتأخر الرتبي للأمر بالمهم ، بل موردهما هو المعية الزمانية ، إذ الزمان الذي يكون الأمر بالأهم فيه فعلياً يكون الأمر بالمهم فيه أيضاً فعلياً باعثاً ، فاللازم رفع التضاد في ذلك الظرف لا رفعه باختلاف الرتب.

والحاصل : انّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة العقلية مع المعية في الاقتضاء بحسب الزمان لا يدفع المطاردة ، إذ مناط الاستحالة هي المعية الكونية في المتزاحمات والمتضادات لا في الرتب العقلية من المراتب الوجودية.

وهذا الإشكال يرد على أكثر من يحاول تصحيح الترتّب من طريق الاختلاف في الرتبة العقلية مع أنّه لا ينجع في رفع التضاد في زمان الامتثال.

٥٧

التقريب الثالث لتصحيح الترتّب

ما نقله المحقّق الاصفهاني أيضاً وحاصله : انّ مرجع إطلاق الأمر بالأهم إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتّى العدم الآتي من قبل الأمر بالمهم فهو بإطلاقه يدعو إلى حفظه مطلقاً.

وأمّا الأمر بالمهم فلما كان مترتّباً على عدم الأهم وتركه ، فإطلاقه يقتضي سدّ باب عدمه من كل الجهات إلا في ناحية الإتيان بالأهم.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالمهم يقتضي سدّ باب عدمه في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ولا منافاة بين قيام المولى بسدّ باب عدم الأهم مطلقاً ، وسدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ، فالأمر بالمهم وإن كان فعليّاً لكنّه حيث تعلّق بسدِّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق ، فلا محالة لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق. (١)

توضيحه : انّ لكلّ شيء اعداماً من جانب فقد المقتضي وفقد الشرط ووجود المانع وهو الضدّ هنا ، والأمر بالأهم يقتضي سدّ كلّ عدم يتطرق إليه من أية جهة كان حتّى من جانب وجود المانع.

وأمّا الأمر بالمهم فهو يقتضي سدّ باب عدمه من جانب المقتضي ، ومن

__________________

١. نهاية الدراية : ١ / ٢٣٥.

٥٨

جانب الشرط ، وأمّا من ناحية المانع ـ أعني : الأهم ـ فانّه يقتضي سدّ باب عدم المهم ، إلا فيما إذا كان سبب عدمه هو وجود الأهم فلا يقتضي عند ذلك سدّ عدمه ، فحينئذ لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم نفسه ، إلا إذا تطرق العدم إلى الأهم من باب الصدفة.

يلاحظ عليه : أنّ التزاحم بعد باق فنحن نفترض انّه تطرق العدم على الأهم من باب الاتفاق ، وعندئذ فهل الأمر بالأهم عندئذ ساقط أو لا؟ والأوّل خلاف المفروض والثاني يستلزم المطاردة حيث إنّ الأمر بالأهم يطلب قلب عدمه إلى الوجود مع التحفظ على عدم المهم لكون وجوده مانعاً مع أنّ الأمر بالمهم في هذه الحالة أي عند تطرق العدم إلى الأهم فعلي يطلب طرد عدمه إلى الوجود فتقع المطاردة بين الاقتضاءين.

ولعمري الحقّ انّ الترتّب أمر عرفي لا يتوقف على هذه الدقائق العقلية ، فالمهم ألاّ يكون نتيجته طلب الجمع بين الضدّين وإن كان نتيجته طلب الضدّين.

٥٩

التقريب الرابع لتصحيح الترتّب

وهناك تقريب رابع ذكره المحقّق البروجردي ، وقد ركز على خلاف التقريبين السابقين على عدم التزاحم في المواضع الثلاثة : مقام الجعل والتشريع ، ومقام الفعلية ، ومقام الامتثال. وقد قرره تارة في هذا المبحث وأُخرى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وإليك إجمال ما أفاد :

إنّه لا إشكال في أنّ التكليف بالمحال ، بنفسه محال ، فإنّ التكليف الحقيقي إنّما يصدر من المولى بداعي انبعاث المكلّف وتحرّكه نحو العمل ، فإذا كان نفس المكلّف به محالاً ، كالجمع بين السواد والبياض ، أو الصعود إلى السماء بلا وسيلة ، فلا محالة لا تنقدح الإرادة في نفسه جدّاً ، وإن تكلّم به فإنّما يتكلّم به لدواع أُخر.

ومثله إذا كان هناك تكليف وكان كلّ واحد منهما أمراً ممكناً ، والزمان لا يتّسع إلاّ لواحد منهما. فهذا أيضاً لا يصدر من المولى ، لا لأنّ المكلّف به أمر محال ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما أمر ممكن ، وليس الجمع هو المأمور به حتّى يكون الامتناع لأجل طلب الجمع ، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير وإيجاد الداعي ، فإنّ كلّ واحد من الضدّين ، وإن كان ـ بحياله ـ أمراً ممكناً ، لكن لمّا كان قيامه بهذا الواجب وذاك الواجب في زمان لا يسع إلا واحداً منهما ، أمراً غير ممكن ، كان صدور الطلب من المولى بهذا النحو ، أمراً محالاً بعد التفاته إلى الحال.

٦٠