إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

١. إنّه لا مانع من عمومية التكاليف الواردة في الخطابات للحاضر والغائب والمعدوم ، بشرط جعل التكليف على نحو القضايا الحقيقية ، أي يكون للعنوان قابلية الانطباق على الافراد طول الزمان.

٢. انّ الحكم في كلّ من القضيتين : الخارجية والحقيقية ، على العنوان ابتداءً ، ( لا على الأفراد الخارجية مباشرة وبلا توسيط عنوان ) ، غاية الأمر يختلف العنوانان في قابلية التطبيق ضيقاً وسعة.

المحقّق النائيني وتفسير القضيتين

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني تفسيراً خاصاً حول القضيتين نذكرهما بنصّ مقرر بحثه المحقق الكاظمي.

أمّا الخارجية فعرّفها بقوله :

إنّ الحكم في القضية الخارجية مترتّب ابتداءً على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فإنّ الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضاً إنّما يكون مترتباً على الافراد الخارجية ابتداءً من دون أن يكون هناك بين الأفراد جامع اقتضى ترتّب الحكم عليها بذلك الجامع كما في القضية الحقيقية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلط بين القضية الشخصية والقضية الخارجية ، فانّ الحكم في القسم الأوّل يتعلق بالخارج دون توسيط عنوان ، فيقال : زيد قائم وخالد جالس ، وبما انّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً ، صارت القضايا الشخصية غير معتبرة في العلوم.

وهذا بخلاف القضايا الخارجية فانّها من القضايا المعتبرة ، وما ذلك إلا لأنّ

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٢.

٥٨١

الحكم متعلّق بالعنوان القابل للتكثّر ، وإلا فلو كان سبيل القضايا الخارجية سبيل الشخصية فلماذا فرقوا بينهما بالاعتبار وعدم الاعتبار؟

ثمّ إنّه قدس‌سره عرف القضية الحقيقية بقوله : بأنّها ما كان الحكم فيها وارداً على العنوان والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع. (١)

هذا ما ذكره في أوائل مبحث العام والخاص وأضاف في المقام قوله : وأمّا القضايا الحقيقية فحيث إنّها متكفّلة لفرض وجود الموضوع ، وكان الخطاب خطاباً لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فتستوي الأفراد الموجودة في زمن الخطاب وغيره. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من تعلّق الحكم في القضايا الحقيقية بالعنوان بلحاظ مرآتيته وإن كان صحيحاً ، لكن تقييد العنوان بفرض وجود الموضوع تكلّف لا يحتاج إليه ، بشهادة انّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء ، وقد عرفت أنّه يكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان الحاكي عن الخارج حسب مرور الزمان وعبر الأجيال والقرون.

وبالجملة تكفي قابلية انطباق العنوان على الأفراد الموجودة تدريجاً في عمود الزمان.

الجهة الثانية : في إمكان خطاب المعدوم

قد كان البحث في الجهة السابقة منصبّاً على تكليف المعدوم وفي هذه الجهة

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٢.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٥٥٠.

٥٨٢

إلى إمكان توجيه خطاب إليه لغاية التفهيم والتفهم ، وقد صرّح المحقّق الخراساني بامتناعه قائلاً : بأنّه لاريب في عدم صحّة خطاب المعدوم ، بل الغائب حقيقة وعدم إمكانه ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة ، إلا إذا كان موجوداً بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ امتناع تكليف المعدوم كامتناع خطابه من باب واحد ، فلو أمكن تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية ، يمكن توجيه الخطاب إليه عن هذا الطريق.

توضيحه : أنّه إن أُريد من امتناع خطاب المعدوم والغائب ، الخطاب الشفهي والخطاب الحدوثي فهو أمر مسلم ، فإنّ الخطاب الشفهي قائم بمخاطِب ومخاطَب والمفروض كون المخاطب معدوماً أو غائباً.

وأمّا لو أُريد من الخطاب هو وجوده الاستمراري ( إذا كان له في نظر العقلاء استمرار وبقاء ) فهو من الإمكان بمكان ، وعندئذ فالمخاطِب له بقاء بملاحظة بقاء خطابه والمخاطَب حاضر لا غائب ولا معدوم ، وعندئذ تكتمل أركان الخطاب.

والحاصل : انّ من قال بالامتناع نظر إلى الخطاب بوجوده الحدوثي الزائل وغضّ النظر عن أنّ للخطاب نوع بقاء عند العقلاء في الصدور والألسن أوّلاً ، والرسائل والكتب ثانياً ، والأشرطة والأقراص المضغوطة ثالثاً ، ولأجل ذلك نرى أنّ الرؤساء يوجهون خطابهم للأجيال الحاضرة والغائبة ، ولا يخطر على بالهم أنّ الخطاب الحقيقي لا يمكن توجيهه إلى الغائب والمعدوم ، وما ذلك إلاّ لأنّهم يرون أنّ لخطاباتهم بقاءً في القلوب والصدور ، والألواح والكتب

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٥٦.

٥٨٣

وأخيراً في أجهزة تسجيل الصوت.

وعلى ذلك فلو كان العنوان المأخوذ في الخطابات من العناوين المنطبقة على الأفراد عبر الزمان وكان للخطاب بقاء وثبات ، فلا مانع من توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائب والمعدوم بهذا الطريق.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يخاطب قاطبة البشر في نسل بني آدم إلى من يأتي إلى يوم القيامة بالآيات التالية :

١. ( يا بَني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيكُمْ لِباساً يُواري سوءاتِكُم وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ). (١)

٢. ( يا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخرجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّة ). (٢)

٣. ( يا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد ). (٣)

٤. ( يا بَني آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَن اتَّقى وَأَصلَحَ فَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ). (٤)

والحاصل : انّ الخطاب الحقيقي يدور على وجود الخطاب بنحو من الأنحاء ووصوله إلى المخاطب وكون المخاطب موجوداً ، والشرطان موجودان في عامة الخطابات الشفاهية.

فظهر ممّا ذكرنا إمكان خطاب المعدوم والغائب كما ثبت صحّة تكليفهما ، كلّ ذلك على نحو القضايا الحقيقية أوّلاً ، وبقاء الخطاب ثانياً.

__________________

١. الأعراف : ٢٦.

٢. الأعراف : ٢٧.

٣. الأعراف : ٣١.

٤. الأعراف : ٣٥.

٥٨٤

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ صحّح تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية ولكنّه لم يُصحّح خطاب الغائب والمعدوم عن تلك الطريقة ، فقال في الفرق بين الموردين ما هذا حاصله :

إنّ الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كلّ مصداق موجود فعلاً أو ما يوجد في القابل ، ومثل ذلك لا يتصور في الخطاب ، إذ لا يمكن أن يتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب والخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم ، ومثل ذلك يتوقّف على حاضر ملتفت ، والمعدوم والغائب ليسا حاضرين ولا ملتفتين.

وبالجملة ما سلكناه من التمسك بالقضية الحقيقية ، في غير الخطابات لا يجري فيها ، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم وجوداً للمخاطَب ، ووجوداً واقعياً للمخاطِب ، والقول بأنّ الخطاب متوجّه إلى العنوان كجعل الحكم عليه ، مغالطة محضة ، لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع يأبى عن التفوه بذلك. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الظاهر عدم الفرق بين التكليف والخطاب وانّ الممتنع ، ممتنع في كلا المقامين والممكن منها ممكن كذلك ، وذلك لأنّ الخطاب وإن كان لا ينفك عن المخاطب ولكن المفروض وجود المخاطَب في كلتا المرحلتين : الحدوث والبقاء.

وليس المدعى شمول الخطاب بوجوده الحدوثي الغائبينَ والمعدومين ، حتّى يتم ما ذكره ، بل المراد شمول الخطاب لا بوجوده الحدوثي ، بل بوجوده الاستمراري ، فكما أنّ الموضوع ينطبق على مصاديقه حسب التدريج ، فهكذا الخطاب يتحقّق شيئاً فشيئاً بوجوده الاستمراري على مصاديقه التدريجية عبر

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٥٠٦.

٥٨٥

الزمان أو غير الحاضرين في زمن الخطاب.

نعم الخطاب بوجوده الحدوثي تكويني ، وبوجوده الاستمراري ( في غير الأشرطة ) اعتباريّ ، وهذا يكفي في الشمول ، وترتّب الثمرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة : عمومية ما وقع بعد أداة الخطاب

ثمّ إنّه يقع الكلام في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة النداء والخطاب للغائبين والمعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة وقد فصّل المحقّق الخراساني في المقام وبناه على ما هو المختار في الجهة الثانية.

فلو قلنا بأنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء ، موضوع للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه ، تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين.

ولو قلنا بأنّها موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، يلازم ذلك عموم ما وقع تلو النداء ، للغائب والمعدوم.

ثمّ إنّه قدس‌سره استقرب الوجه الثاني بأمرين :

١. جعل استعمال ما وقع تلو أداة النداء في العموم من الحاضرين وغيرهم ، قرينة على استعمال حرف النداء في غير الخطاب الحقيقي. (١)

٢. ادّعى انّ أدوات النداء موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي فربّما يخاطب بها ، لا تفيهماً ولا تفهماً ، بل لإبراز الحزن كما في قول القائل :

__________________

١. حيث قال : « كما أنّ قضية إرادة العموم لغير الحاضرين ممّا وقع تلو أداة النداء ، هو استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقي ». وكلامه قدس‌سره مشتمل على ضمائر أوجد التعقيد في كلامه فبدّلنا الضمائر بالمراجع.

٥٨٦

يا كوكباً ما كان أقصر عمره

وكذا تكون كواكب الأسحار

أو لغايات أُخرى ، فلو كان موضوعاً للخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص ما وقع بعده بالحاضرين ، إذ ليست الغاية من الخطاب ، البعث والزجر حتّى يختص بالحاضرين.

نعم لا يبعد انصرافها إلى الحقيقي لولا وجود القرينة على خلاف الانصراف ، وهو عدم اختصاص الحكم بالحاضرين بضرورة من الدين.

والذي يشهد على انّها موضوعة للخطاب الإنشائي ، انّه لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي يجب أن يكون استعمالها في الخطاب الإنشائي مجازاً صادراً عن المتكلّم بعناية بمعنى تنزيل ما ليس له شعور ، مكان ما له شعور مجازاً مع عدم أي أثر من العناية والتنزيل في ذهن المتكلّم.

يلاحظ عليه بأُمور :

الأوّل : منع الملازمة بين كون أداة النداء موضوعة للخطاب الإنشائي ، وعمومية ما وقع بعده لغير الحاضرين ، ضرورة انّ لفظ « الناس » في قوله سبحانه : ( وللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ ) (١) و ( وَالذين آمنوا ) في كثير من الآيات لا يصدق إلا على الموجودين ، فليس المعدوم ناساً ولا مستطيعاً ، ولا مؤمناً ولا مصداقاً لأمر من الأُمور ، فالسعي في جعل الخطاب إنشائياً ، لغاية التعميم ليس ناجحاً.

الثاني : انّ جعل خطابات القرآن خطابات إنشائية جاءت لغايات غير التفهيم والتعلم ، يحطّ من مكانة القرآن الذي يقول فيه سبحانه : ( كتابٌ أَنْزَلْناهُ إِليكَ مُبارَكٌ لِيَدّبَّرُوا آياتِه ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تعرّف الغاية من

__________________

١. آل عمران : ٩٧.

٢. ص : ٢٩.

٥٨٧

خطاباته ، وهذا النوع من الغاية لاينفك عن كون خطاباته حقيقية.

وربما تُتخذ نظرية كون الخطابات إنشائية ذريعة لتصحيح ما نقل عن بعض متكلّمي المسيحيّين من أنّ بعض ما ورد في القرآن من القصص والقضايا تمثيلات وأُمور رمزية ليست لها حقائق وواقعيات سوى تقريب المعارف ، فإبليس وآدم وحواء والجنة رموز لأهداف تربوية في لباس الحكاية.

الثالث : نفترض انّ أداة النداء وضعت للخطاب الحقيقي ولكنّه لا يكون سبباً لاختصاص ما وقع بعده من العنوان ، للحاضرين ، لما عرفت أنّ للخطاب الحقيقي بقاءً في نظر العرف بأحد الأسباب ، ومعه يعمّ الخطاب وما وقع بعده للغائبين والمعدومين جميعاً.

نظرية السيد الأُستاذ

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ عطف الجهة الثالثة على الجهة الثانية وبحث عنهما معاً دون أن يفصل بينهما ، واختار شمول الخطابات القرآنية لعامّة الناس إلى يوم القيامة لكن ببيان آخر ، وحاصله :

إنّ الخطابات القرآنية ليست خطابات شفاهية لفظية حتّى يقابِلُ فيها الشخصُ بالشخص ، بل هي خطابات أشبه بالخطابات الواردة في الكتب والرسائل العلمية ، فإنّ المؤلف مع أنّه يخاطب ، لا يخاطب شخصاً معيناً ، بل يخاطب كلّ من قرأ كتابه ، فهكذا القرآن لا يخاطب شخصاً خاصاً ، بل يخاطب كلّ من سمعه ، ولذلك يأمر نبيه أن يقول : ( وَأُوحِيَ إِليَّ هذا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ ). (١)

__________________

١. الأنعام : ١٩.

٥٨٨

ويقول سبحانه : ( شَهْرُ رَمضانَ الَّذِي أُنْزلَ فِيهِ الْقُرآنُ هُدىً لِلنّاس ). (١)

ويقول سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذا القُرآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَل ). (٢)

إلى غير ذلك من الآيات التي تصفُ القرآن بانّه منذر لكلّ من بلغ إليه وهداية للناس عامة ، وما هذا إلا لأنّ خطاباته ليست خطابات شفوية ، بل أشبه بخطابات تحريرية لا يقصد سوى من ينطبق عليه العنوان التالي لأدوات النداء.

ويؤيد ذلك نزول الوحي وكان ينزل على قلب سيد المرسلين ولم يكن الخطاب مسموعاً لأحد من الأُمّة ، بل يمكن أن يقال بعدم وصول خطاب لفظي إلى الرسول وإنّما يجده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلبه منقوشاً وموجوداً ، لقوله سبحانه : ( نَزَلَ بِِه الرُّوحُ الأَمِينُ * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين ). (٣)

فعلى ضوء ذلك فحساب الخطابات القرآنية غير حساب الخطابات الشفوية الشخصية التي تتبادل بين شخصين ، وعند ذلك لا مانع من أن يعم الجميع وتشمل جميع الأشخاص إلى يوم القيامة.

وإن أردت مزيداً من التوضيح فلاحظ انّ الخطابات التي يوجهها رؤساء الدول إلى شعوبهم ، خطابات حقيقية لغاية التفهيم والتفهم ولكن ليس من قبيل مخاطبة شخص لشخص ، ولذلك يعمّ الحاضر والغائب حتّى غير الموجودين.

ومع إمكان تفسير الخطابات عن هذا الطريق لا حاجة إلى التمسك بأنّ خطابات القرآن خطابات إيقاعية أو إنشائية أو من قبيل القضايا الحقيقية ، أو أنّ

__________________

١. البقرة : ١٨٥.

٢. الكهف : ٥٤.

٣. الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

٥٨٩

خطاباته مختصة بالموجودين ثمّ تعميمه بدليل آخر ، أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حكمي على الأولين ، كحكمي على الآخرين » ، فانّ كلّ ذلك تطرف في الكلام والتزام بما لا يلزم.

حصيلة البحث

إنّ تعميم خطاباته سبحانه إلى الغائبين والمعدومين ، رهن صحّة أحد أُمور :

١. جعل خطاباته بل عامّة تكاليفه وإن لم يكن بصورة الخطاب من قبيل القضايا الحقيقية ، وقد عرفت أنّ للخطاب بقاءً فيعمّ التكليف ( سواء أكانت بصورة الخطاب أو غيره ) عامّة المكلّفين عبر القرون.

٢. جعل خطاباته بل مطلق ما جاء في القرآن ، من الكلام ، من قبيل خطابات المؤلّفين والواقفين والموصين ، فكلّها خطابات رسائلية ، لاشفوية ، يقصد به كلّ من وقف عليها ، سواء أكان موجوداً حين التكلّم ، أو لا لكنّه سيوجد في طول الزمان.

٣. جعل الخطابات القرآنية من قبيل الخطابات الإيقاعية والإنشائية التي ربما يقصد بها غير التفهيم ، بل الرثاء وإظهار الأسف ، فمثل ذا ، لا يتوقّف صحة خطابه على وجود المخاطب ، وقد عرفت بطلان هذا الوجه فلا نعيد إليه.

٤. هناك وجه آخر ، نقل صاحب الفصول عن بعض الحنابلة أنّ القول بوضع أداة الخطاب للحقيقي لا يلازم اختصاص خطاباته بالمشافهين ، وذلك لإحاطته بالموجود في الحال والاستقبال. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين علمه سبحانه بالأُمور وبين فعله المتنزل إلى إطار

__________________

١. الفصول : ١٨٣.

٥٩٠

الزمان فعلمه الذاتي بما انّه فوق المادّة ولا يتطرق إليه الزمان مطلقاً ، يتعلّق بالأشياء دفعة واحدة ، إذ ليس هناك تدريج والعالم كله حاضر لديه أخذاً بالقاعدة الثانية في الفلسفة الإلهية : المتدرجات في وعاء الزمان ، مجتمعات في وعاء الدهر.

لكن الكلام ليس في علمه الذاتي ، بل في فعله المتنزل إلى حد المادة المحدود بحدّ الزمان ، فهو بما انّه محدّد بإطار الزمان ، لا يشمل إلا الموجود حين الخطاب وصار مخاطباً.

ثمرة البحث

ذكر المحقّق الخراساني للبحث ثمرتين :

الأُولى : حجّية خطابات الكتاب لغير المشافهين وعدمها

لو قلنا بأنّ خطابات القرآن تعمّ الطوائف الثلاث ، فتكون خطاباته حجّة على الجميع ، وأمّا لو قلنا بعدم التعميم فلا تكون حجّة إلا على المشافهين ، ويتوقّف تعميم الأحكام إلى غيرهم بدليل كالإجماع على الاشتراك في التكليف.

يلاحظ عليه : أنّ الثمرة مبنية على صغرى وكبرى ممنوعة.

١. الملازمة بين اختصاص الخطاب بالحاضرين ، وكونهم مقصودين بالخطاب ، وهذه هي الصغرى.

٢. اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه ولا يعمّ غيره وهذه الكبرى.

وإن أردت صوغ الاستدلال في قالب الشكل الأوّل تقول :

٥٩١

١. الحاضرون حين الخطاب ، هم المقصودون بالإفهام.

٢. والمقصودون بالإفهام ، هم الذين الظواهر حجّة عليهم ، فينتج : فالحاضرون حين الخطاب ، هم الذين الظواهر حجّة عليهم.

ولكنّ المقدّمتين باطلتان.

أمّا الأُولى ، فلأنّه لا ملازمة بين كون اختصاص الخطاب بهم ، وكونهم ، مقصودين لا غيرهم ، إذ ربما يكون المقصود بالإفهام أوسع من المخاطب ، بشهادة انّ رئيس البلد ربّما يخاطب جماعة خاصة من الشعب ولكن المقصود بالإفهام كلّ من بلغ إليه خطابه ، ولذلك يأمر سبحانه نبيّه بأن يقول : ( وَأُوحِيَ إِليَّ هذا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ ). (١)

ولعلّ المراد ، انّ المخاطب بالوحي أنا أو مع الحاضرين وقت النزول ، لكنّ الغاية هو إنذار كلّ من بلغ إليه القرآن.

وأمّا الثانية : نفترض انّ الحاضرين ، هم المقصودون بالإفهام من الخطاب لكن لا ملازمة بين كون جماعة مقصودين بالإفهام ، واختصاص حجّية الخطاب بهم ، وسيوافيك في مبحث الظواهر ، انّها حجّة على المقصودين بالإفهام وغير المقصودين والجميع أمام الخطابات سواء ، ولذلك لو كتب شخص رسالة أخويّة إلى شخص ، لا يريد إلا إفهام صديقه بما فيه ، فالرسالة تكون حجّة على الغير أيضاً في عامة المحاكم ، ولا يسمع قول الكاتب بأنّ ظواهر كلامه حجّة على من قصد إفهامه لا غير.

الثمرة الثانية : صحّة التمسّك بالإطلاقات على التعميم.

لو قلنا بشمول الإطلاق لغير المشافهين ، يصحّ لهم التمسّك بالإطلاقات

__________________

١. الأنعام : ١٩.

٥٩٢

القرآنية عند الشكّ في مدخلية قيد في الحكم ، ( كحضور الإمام المعصوم أو الحاكم الإسلامي مبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة ) سواء كانوا متّحدين في الصنف أم لا كما في زمان الغيبة ، وهذا بخلاف ما إذا لم نقل بالتعميم فلا تكون الخطابات متكفّلة لبيان أحكام غير المشافهين ، فلابدّ من تعميم الحكم والسراية إلى غير المشافهين في التمسّك بدليل الاشتراك ( اشتراك غير المشافهين معهم في التكاليف ) وهو الإجماع ، الذي هو دليل لبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن وهو كونهما متحدين في الصنف والمفروض اختلافهم.

فظهر انّ هنا صوراً ثلاثاً :

١. القول بالتعميم وفيه يكون الإطلاق حجّة على الكلّ بلا قيد وشرط.

٢. القول بعدم التعميم مع الاتحاد في الصنف ، فيكون الإجماع دليلاً على الاشتراك في التكليف فلا ثمرة بين القولين.

٣. القول بعدم التعميم مع الاختلاف في الصنف كما إذا وجبت صلاة الجمعة وأُقيمت بحكم حاكم عادل مبسوط اليد كالنبي والوصيّ ، وشكّ في وجوبه في زمان الغيبة مع عدم وجود ذاك الحاكم ، فلا يصحّ التمسك بالإجماع لإثبات الاشتراك في التكليف ، لأنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على مقدار المتيقن ، والمقدار المتيقن هو وحدة المشافه وغيره في الصنف والمفروض عدمها.

سقوط الثمرة في القيد المفارق

إنّ المحقّق الخراساني قد ردّ الثمرة في خصوص القيد المفارق وانّه يصحّ التمسّك بالإجماع ـ وإن كان دليلاً لبّياً يقتصر فيه بالقدر المتيقّن ـ وذلك بالبيان التالي :

٥٩٣

إذا كان القيد المفقود في غير المشافهين ، من القيود اللازمة للمشافهين ككونهم عرباً ، ففي هذه الصورة لا يصحّ التمسّك في نفي القيد بالإطلاق في حقّ المشافهين وبالتالي في حقّ غير المشافهين بالإجماع ، كما إذا شككنا في لزوم العربية في العقود ، فبما انّ المشافهين كانوا عرباً فكانوا يعقدون بالعربية ، ففي مثله ، لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله سبحانه : ( أَوفوا بالعُقود ) لنفي شرطية العربية في حقّ المشافه ، وبالتالي بالإجماع لنفي الشرطية في حقّ غير المشافه ، لأنّه سبحانه لو أراد من الآية ، العقود العربية ، لم يكن هناك نقض غرض ، لحصول القيد شاءوا أو لم يشاءوا.

وأمّا إذا كان القيد ، مفارقاً ، كإقامة صلاة الجمعة مع حضور المعصوم وبسط يده ، حيث إنّ الإسلام يوم ذاك لم يضرب بجرانه كلّ المعمورة فربما يسافر بعض المشافهين إلى بلاد ، يحكم فيها الكفر ، فلو شك المشافه في شرطية الحضور ـ عند الخروج عن حيطة المسلمين ـ يصحّ التمسك بإطلاق الآية ، أعني قوله : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّه ). (١)

فإذا صحّ للمشافه التمسك بإطلاق الآية ، يجوز لغير المشافه التمسّك بالإجماع لإثبات اشتراك الحكم ، لأنّ المفروض وحدة الصنف.

وبهذا ظهر سقوط الثمرة الثانية في القيود المفارقة ، وانّه لا يختلف الحال بين المشافه وغيره ، غاية الأمر انّ المشافه يتمسّك بإطلاق الآية وغيره يتمسّك بالإجماع والنتيجة واحدة ، سواء أقلنا بالشمول لغير المشافهين أم لا.

ثمّ إنّه قدس‌سره ذكر انّ المراد بالاتحاد في الصنف لغاية جرّ التكليف من المشافه إلى غيره ، هو القيود التي تعتبر قيداً في الأحكام كالبلوغ والاستطاعة ، والخلو عن

__________________

١. الجمعة : ٩.

٥٩٤

الحيض والنفاس ، والسفر والحضر ممّا يمكن أن يعتبر قيداً في الأحكام ، لا الاتحاد فيما يكثر به الاختلاف بين الناس دون أن يكون مساس بالحكم ، كالأبيض والأسود والشاب والكهل والعراقي والحجازي ، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك حكم للغائبين فضلاً لغير الموجودين ، إذ لا أقل من كون المشافهين واجدين لقيد من القيود لكونهم جالسين في المسجد آن إيجاب الحكم. والغائب وغير الموجود ليس كذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أعاد ما ذكره سابقاً من جريان الإطلاق في حقّ المشافهين في القيود المفارقة وممكنة الزوال ، وجاء في المقام بعبارة لا تخلو عن تعقيد ، توضيحها كالتالي :

ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين من القيود الممكنة الزوال إذا فقدوها بعد الخطاب ، فشك في شمولها لهم ، فيتمسك بالإطلاق ويثبت عدم دخالة ذاك القيد في الحكم ومعه يعم الحكم لغير المشافهين بدليل الإجماع لوحدة الصنف ـ بعد زوال القيد في حقّ المشافه (١) أراد به القيود المفارقة وممكنة الزوال وقوله : « لو لم يكونوا معنونين به » أراد به لو كانوا فاقدين له بعد الخطاب وبوضع العبارة الثانية مكان الأُولى ، يظهر المراد من العبارة بسهولة.

__________________

١. فقوله : فيما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان.

٥٩٥

الفصل الحادي عشر

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا كان هناك عام وله حكم خاص ، يتعقّبه ضمير له حكم آخر يرجع إلى بعض أفراده ، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟

مثاله قوله سبحانه : ( وَالمُطَلّقاتُ يتربَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْن ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرحامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلِكَ إِن أَرادُوا إِصلاحاً ). (١)

ففي الآية عام ، أعني قوله : ( والمطلّقات يتربصنّ بأَنفُسهِنَّ ثَلاثَة قُرُوء ) ، وهو بظاهره يشمل عامة المطلقات رجعية أو بائنة.

وفي ذيل الآية جملة : ( وَبُعُولتهنّ أَحقّ بردّهنّ ) تتضمن حكماً ( أحقّ بردّهن ) وضميراً ( بعولتهن ) يرجع إلى بعض أقسام العام ، فيقع الكلام في أنّ رجوع الضمير في الجملة الثانية إلى بعض أقسام العام هل يصلح قرينة على اختصاص الحكم الوارد في الجملة الأُولى بالرجعيات أيضاً أو لا؟ فيكون

__________________

١. البقرة : ٢٢٨.

٥٩٦

التربّص ، كالرجوع من خصائص الرجعية لا البائنة.

وبعبارة أُخرى : هل رجوع الضمير إلى بعض المرجع في الجملة الثانية يشكّل قرينة على أنّ المراد من المرجع أيضاً هو البعض ، وبالتالي يختص الحكم بالبعض أو لا؟

ما ذكرناه هو المفهوم من كتب القوم ، وظاهر كلامهم انّ عود الضمير إلى بعض المرجع أمر مفروغ عنه مع أنّه ليس كذلك ، بل المسلّم كون الحكم في مورد الضمير يختصّ ببعض الأفراد لا انّ الضمير يرجع إلى بعضها. وسيوافيك انّ الحقّ عود الضمير إلى العام بما هو هو ، وإن كان الحكم مختصاً ببعض أفراده ، فانتظر.

والأولى أن يقال في عنوان البحث « انّ تخصيص الضمير بدليل منفصل هل يوجب تخصيص المرجع العام أو لا؟ ».

تحرير محلّ النزاع

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني جعل محلّ النزاع الصورة الثالثة من الصور التالية :

١. أن تقع الجملتان في كلامين مستقلين بينهما فاصل زماني.

٢. أن يكون العام محكوماً بنفس حكم الضمير ، كما إذا قيل في ذيل الآية : وَالمُطلّقات أَزواجهن أَحقّ بردّهن.

٣. أن يكون العام محكوماً بحكم والضمير محكوماً بحكم آخر وإن وقعا في كلام واحد.

وقال : إنّ محل النزاع هو الثالث.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ليس إلا توضيحاً للواضح ، أمّا القسم الأوّل فلا يعقل فيه استخدام الضمير ، لأنّ المفروض وقوع الجملتين في سياقين بينهما فاصل

٥٩٧

زماني ، وعندئذ يستخدم في الجملة الثانية لفظ الظاهر لا الضمير ، والكلام إنّما هو في الضمير الراجع إلى بعض أفراد المرجع حسب تعبير القوم.

كما أنّ القسم الثاني أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، إذ ليس في البين إلا حكم واحد حتّى يعمّ أحد الحكمين جميع الأفراد والحكم الآخر بعضه.

دوران الأمر بين المحاذير الثلاثة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قال : بأنّ الأمر يدور حول أحد المحاذير الثلاثة :

١. أن يكون رجوع الضمير إلى بعض أفراد المرجع قرينة على التصرف في المرجع باستعماله في الرجعية من المطلقات فيكون التربص أيضاً مختصاً بهذا القسم.

٢. حفظ أصالة العموم في المرجع وارتكاب الاستخدام في الضمير بإرجاعه إلى بعض مصاديق المرجع.

٣. حفظ أصالة العموم في ناحيتي المرجع والضمير والتصرف في الاسناد ، بأن ينسب الحكم المختص بالبعض إلى الكلّ من باب المجازية.

ثمّ إنّه قدس‌سره رجح حفظ أصالة العموم في صدر الآية والتصرف في الجملة الثانية بأحد النحوين : إمّا الاستخدام وإمّا الاسناد المجازي.

ثمّ إنّه قدس‌سره ذكر وجه ذلك بأنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا شكّ في المراد لا في كيفية الإرادة ، والشكّ في الجملة الأُولى إنّما هو في المراد حيث يشكّ في أنّ التربّص لعامّة المطلقات أو لخصوص الرجعيات ، بخلاف الجملة الثانية فإنّ المراد هناك معلوم وانّ الرجوع يختصّ بالرجعيات دون البائنات ، وإنّما الشكّ في كيفية الإرادة ، فهل هو بنحو المجاز في الكلمة ( الاستخدام ) ، أو المجاز في

٥٩٨

الاسناد؟ ( اسناد حكم المختصّ بالبعض إلى الكلّ من باب المجاز في الاسناد ).

ومع أنّه قدس‌سره قدّم أصالة العموم في الجملة الأُولى على أصالة العموم في الضمير أو أصالة الحقيقة في الاسناد ، لكنّه أخيراً احتمل كون الكلام مجملاً والآية خارجة عن نطاق الاستدلال بحجّة انّ الشكّ في المقام في قرينية الضمير على عدم إرادة العموم من المرجع والكلام المحتف باحتمال القرينية يكون مجملاً لا يحتجّ به ويرجع إلى الأُصول العملية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ الشكّ في ناحية العموم شكّ في المراد؟ فيجري الأصل من دون منازع بخلاف الشكّ في ناحية الضمير ، فالشكّ هناك في كيفية الإرادة لا في المراد فتقدّم أصالة العموم على أصالة العموم في الضمير ، أو أصالة الحقيقة في الاسناد ، صحيح لا غبار عليه.

إنّما الكلام في الأمرين اللذين احتملهما في ناحية الضمير حيث إنّ كلاً من التصرفين غير جائز ، أمّا الأوّل وهو القول بالاستخدام ورجوع الضمير إلى بعض أفراد العام فهو غير صحيح ، لأنّ الضمائر كما تقدّم الكلام فيه في مقدّمة علم الأُصول وضعت لنفس الإشارة الخارجية فلابدّ لها من مشار إليه ، وهو ليس إلا المرجع المذكور في الآية ، فيجب تطابقهما فلا يمكن أن تكون الإشارة على وجه أخص والمشار إليه على وجه أعمّ.

وأمّا الثالث ، أعني : احتمال المجاز في الاسناد ، فهو أيضاً غير صحيح ، لأنّ المجاز في الاسناد رهن مصحح كالمبالغة حيث ينسب الحكم الصادر من بعض إلى الكلّ مبالغة ، كما في قول القائل : قتل بنو فلان زيداً ، وإنّما قتله بعضهم ، ومثله قوله سبحانه مخاطباً اليهود : ( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبلِي بِالبَيّناتِ وَبِالَّذي

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٥٩٩

قُلتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (١) مع أنّ القتل لم يصدر إلا عن بعضهم فنسب إلى الكلّ مبالغة بملاك رضاهم بعملهم ، وهذا بخلاف الآية إذ ليس فيها وجه للمبالغة.

الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين

إذن يجب علينا علاج المشكلة من طريق آخر ، وهو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني عند البحث في أنّ التخصيص موجب لمجازية العام أو لا ، فقد حقّق فيه أنّ التخصيص لا يوجب المجازية لا في المتصل ولا في المنفصل.

أمّا المتصل فلأجل تعدد الدالّ والمدلول ، كقولنا : أكرم العالم العادل ، فكلّ من العالم والعادل مستعمل في معناهما ، لأنّ العالم مستعمل في العالم العادل.

نعم الحكم تابع بمجموع الموضوع.

وأمّا المنفصل فلما حقّق من أنّ لكل متكلّم إرادتين : استعمالية وجدية ، فالعالم يستعمل في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية ، فلو كانت الإرادة الجدية متعلّقة به أيضاً فيكون العام بعمومه موضوعاً وإن لم تكن الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية أشار إلى عدم المطابقة بدليل خاص ، فترفع اليد عن ظاهر الدليل بدليل أقوى دون أن تطرأ المجازية على العام ويستعمل في غير معناه.

وعلى ضوء هذا فكان على المحقّق الخراساني أن يطرق هذا الباب ويقول إنّه لا محذور في البين أبداً من الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين ، إذ لا مانع من أن يكون العام مستعملاً في معناه ويكون الضمير أيضاً راجعاً إلى نفس

__________________

١. آل عمران : ١٨٣.

٦٠٠