إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

هذا كلّه إذا كان الحمل شائعاً صناعياً ، وإليك الكلام في الثاني ، أي فيما إذا كان الحمل أوّلياً.

٢. لام الجنس إذا كان الحمل أوّلياً

إذا كانت النسبة بين المسند إليه المحلّى باللام والمسند هو التساوي في المفهوم لا الوجود. وبعبارة أُخرى : إذا كان الحمل أوّلياً فهو يفيد الحصر بلا إشكال ، نظير قولك : الإنسان حيوان ناطق غير أنّ الحصر مدلول وحدة الموضوع والمحمول مفهوماً وليس للام هاهنا أيّ دور.

هذا كلّه حول لام الجنس ، وإليك الكلام في القسمين الآخرين للام.

٣. لام العهد

إنّ لام العهد بمنزلة « هذا » والغرض الإشارة إلى ما سبق ذكره ، كما في قوله تعالى : ( كَما أَرسَلْنا إِلى فِرعَوْنَ رَسُولاً * فعَصَى فِرعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخذاً وَبِيلاً ) (١) ولا يدلّ على الحصر كما هو واضح.

٤. لام الاستغراق

والمراد من لام الاستغراق ما يدلّ على شمول المدخول لكلّ ما يصدق عليه ، نحو قوله : ( إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر ) (٢) وهو يفيد الحصر قطعاً ، أي حصر الإنسان في الخسر على نحو لا يشذّ عنه فرد من أفراد المدخول ، إلا إذا قام الدليل على الخروج كما في قوله : ( إِنَّ الإِنْسان لَفي خُسر ).

__________________

١. المزمل : ١٥ ـ ١٦.

٢. العصر : ٢.

٤٦١

بعض أدوات الحصر

من أدوات الحصر توسط الضمير بين المسند إليه والمسند ، كقولك : زيد هو القائم.

كما أنّ من أدواته أيضاً تعريف المسند نحو زيد الأمير.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في المقام ضابطة غالبية وليست ضابطة عامة ، ولذلك يجب على المحقّق الإمعان في القرائن التي يكتنف بها الكلام.

٤٦٢

الفصل الخامس

مفهوم اللقب

قسّم الأُدباء الاسم الذي يعيّن المسمّى إلى أقسام ثلاثة :

١. العلم ، ٢. الكنية ، ٣. اللقب.

يقول ابن مالك :

اسمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمّى مُطلقاً

عَلَمُهُ كَجَعْفَر وَخِرْنَقاً

وَقَرَن وَعَدَن وَلاحِق

وَشَذْقَم وَهَيْلَة وَواشِق

وَاسْماً أتى وَكُنْيَةً وَلَقباً

وَأَخِّرَنْ ذا إِنْ سِواهُ صَحِبا

فإذا قلنا : اللهمّ صلّ على سيّدنا أبي القاسم محمّد رسول اللّه ، فقد جاء فيه الكنية والعلم واللقب.

هذا هو مصطلح النحاة في لفظ اللقب ، وأمّا مصطلح الأُصوليين في اللقب هو كلّ ما يعدّ من أركان الكلام أو أحد قيوده كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والقيود الزمانية والمكانية كلّها ألقاب حسب ذلك الاصطلاح ، والمعروف بين الأُصوليين إلا من خرج كالدقاق والصيرفي وأصحاب أحمد بن حنبل عدم المفهوم للقيود الواردة في الكلام مستدلاً بأنّ قولنا : « المسيح رسول اللّه » لا يعدّ دليلاً على أنّ

٤٦٣

محمّداً ليس رسول اللّه ، فإذا قال : « أكرم زيداً في الدار » فالتشريع محدد بالإكرام في الدار ولا يدلّ على عدم وجوبه في غير الدار ، لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه.

وأمّا عدم إجزاء الإكرام في غير الدار عن الإكرام في الدار فليس لأجل كون القضية الأُولى ذات مفهوم ، بل لأجل عدم امتثال المأمور به.

فهناك فرق بين الدلالة على العدم وبين عدم الإجزاء لأجل عدم الامتثال ، فإذا قال : نذرت للفقراء أو وقفت عليهم أو أوصيت لهم ثمار هذا البستان ، فلا يدلّ على نفي الحكم عن غير الفقراء ، بل هو ساكت عنه.

نعم لو صرف ثماره على الأغنياء لا يجزي لا لأجل المفهوم ، بل لأجل عدم الامتثال.

وعلى ضوء هذا ذهب الأُصوليون إلى أنّ للقيود الموجودة في الكلام لها مدخلية في الحكم على نحو لولاها لما أمكن الحكم بالموضوع ، ومع ذلك لا يدلّ على سلب الحكم عنه عند عدمه ، وذلك لأنّ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

مع ذلك فهذه الضابطة ضابطة غالبية وربما تدلّ القرائن على الأخذ بالمفهوم ، وقد نقل رحمة اللّه الكرماني في تعليقته على الرسائل عند البحث عن مفهوم الوصف لآية النبأ ، قصة مفيدة في المقام فلاحظ.

٤٦٤

الفصل السادس

مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ في الموضوع أو في جانب المحمول يتصوّر على أقسام أربعة :

١. أن يؤخذ العدد في جانبي الزيادة والنقيصة على نحو « لا بشرط » فلا تعد النقيصة مخلة ولا الزيادة كذلك. كقوله سبحانه مخاطباً النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِين ). (١)

فانّ ذكر عدد سبعين لبيان المبالغة لا للتحديد ، فلا تكون النقيصة ولا الزيادة موجبة للغفران ، لأنّ الجميع لبيان عدم صلاحيتهم للمغفرة سواء أزاد على السبعين أم نقص منه.

٢. يؤخذ « بشرط لا » في كلا الجانبين كأعداد الفرائض.

٣. يؤخذ « بشرط لا » في جانب النقيصة دون الزيادة ، كما هو الحال في مسألة الكر فانّه عبارة عن ثلاثة أشبار ونصف ، طولاً وعرضاً وعمقاً ولا يكفي الناقص كما لايضر الزائد.

__________________

١. التوبة : ٨٠.

٤٦٥

٤. على عكس الصورة الثالثة بأن يؤخذ « بشرط لا » في جانب الزيادة دون النقيصة كما في أيام العادة فيحكم عليها بالحيض إلى العشر بشرط أن لاتتجاوز ، وكما هو الحال في الفصل بين المصلين فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

فإذا كان العدد حسب الثبوت على أقسام أربعة ، فكيف يمكن لنا القول بالمفهوم فيه ، أي انّه مأخوذ بشرط لا في كلا الجانبين ، إذ ليس معنى المفهوم إلا هذا.

والحاصل : انّه لو كان العدد دائماً لغاية التحديد في كلا الجانبين كان علينا الأخذ بالمفهوم أي بدلالة الدليل على عدم كفاية الأقل وإخلال الزائد ، وأمّا إذا كان الواقع على الوجوه الأربعة فلا يمكن استظـهار المفهوم.

هذا ما يرجع إلى مقام الثبوت ولكن ما ورد في القرآن الكريم من الأعداد في آيات الأحكام فهو بصدد التحديد من كلا الجانبين أو من جانب واحد ، نحو قوله سبحانه :

١. ( الزّانِيةُ والزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَة ). (١) فظاهر الآية التحديد في كلا الجانبين.

٢. قوله سبحانه : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (٢) ، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا جانب الزيادة.

__________________

١. النور : ٢.

٢. البقرة : ٢٨٢.

٤٦٦

٣. ( وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعةِ شُهداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادةً أَبداً ) (١) ، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا الزيادة.

٤. ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهادةُ أَحَدِهِمْ أَربعُ شَهادات بِاللّهِ انّهُ لَمِنَ الصّادِقِين ) (٢) ، والآية ظاهرة في تحديد جانب النقيصة ، ويحتمل أن يكون كذلك جانب الزيادة أيضاً.

والحاصل : انّ الأعداد الواردة في مقام التشريع ظاهرة في التحديد.

والذي يهم الفقيه أن يدرس كلّ مورد ويأخذ بحكمه :

١. فربما يؤخذ بشرط لا في جانب الأقل ، كما هو الحال في عدد الغسلات من البول والخنزير وعدد منزوحات البئر والنصاب بالزكاة والخمس ، وعدد من تقوم به الجمعة والجماعة.

٢. وربما يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة ، ككون ما تراه المرأة من الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا يتجاوز.

إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم أحد الأمرين فالظاهر كونه في مقام التحديد زيادة ونقيصة.

تطبيقات

ثمّ إنّ تعلم القواعد وإن كان مهماً لكن الأهمّ هو تطبيقها على مصاديقها الواردة في الكتاب والسنّة ، وها نحن نذكر بعض التطبيقات في المقام :

فرعان مبنيان على إفادة إلا للحصر

١ ـ لوحصل التغيير في ماء الكرّ أو الجاري في غير صفاته الثلاث كالحرارة والرقّة والخفّة ، فهل ينجس أو لا؟ الظاهر هو الثاني للحصر المستفاد من

__________________

١. النور : ٤.

٢. النور : ٦.

٤٦٧

الاستثناء بعد النفي ، أعني قوله عليه‌السلام : خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلا ما غيـّر لونَه أو طعمه أو ريحه. (١)

٢. لو ضمّ إلى نيّة التقرّب في الوضوء رياء ، قال المرتضى بالصحّة مع عدم الثواب والمشهور هو البطلان ، لقوله سبحانه : ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّين ) (٢) ، والمراد من « الدين » هو الطاعة ، والحصر قاض بأنّ فاقدة الإخلاص لا أمر بها فلا تكون صحيحة. (٣)

فرعان مبنيان على إفادة « إنّما » للحصر

١.يجب أن تُحنَّط مساجد الميّت السبعة بالحنوط ، وهو الطيب المانع عن فساد البدن ، وظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالكافور لقول الصادق عليه‌السلام : « إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد إلى الكافور ». (٤)

٢. روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : إذا كنت إماماً « فإنّما التسليم » أن تسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة. (٥)

فيدلّ الحصر على عدم الخروج إلا بالتسليم الثاني.

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ١ / ٨٣.

٢. البيّنة : ٥.

٣. لاحظ الجواهر : ٢ / ٩٦ ـ ٩٧.

٤. الوسائل : ٢ ، الباب ١٤ من أبواب التكفين ، الحديث ١ ؛ لاحظ الجواهر : ٤ / ١٧٦.

٥. الوسائل : ٤ ، الباب ٢ من أبواب التسليم ، الحديث ٢.

٤٦٨

فروع مبنية على مفهوم العدد

١. لا يفسد الصوم ما يصل إلى الجوف بغير الحلق من منافذ البدن المعلومة عمداً غير الحقنة بالمايع ، لصدق اسم الصوم معه شرعاً ، وحصر الباقر عليه‌السلام : « لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء ». (١)

٢. هل يكفي الحجر الواحد إذا كان له أطراف ثلاثة؟ قيل لا ، لورود النصّ على ثلاثة أحجار إلا أن يحمل على الغالب. (٢)

٣. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل : نعم لمفهوم موثقة سماعة قال : سألته عن الجنب ، هل يقرأ القرآن؟ قال : « ما بينه وبين سبع آيات ». (٣)

٤. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة وهي ثلاثة أيّام ؛ قال بعض الأفاضل : بلياليها تحقيقاً ، لأنّه الأصل في التحديد. (٤)

٥. يستحبّ أن يرغم الأنف في حال السجود ولا يجب ، لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء. (٥)

٦. لا تنعقد الجمعة بالأقلّ من خمسة لقوله عليه‌السلام : « لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة » (٦) ، فيكون مفهومه ـ لو

__________________

١. الوسائل : ٧ ، الباب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١ ؛ لاحظ الجواهر : ١٦ / ٢٩٦.

٢. الوسائل : ٢ ، الباب ٩ من أبواب الخلوة ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ٢ / ٣٥.

٣. الوسائل : ٢ ، الباب ١٩ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩ ؛ لاحظ الجواهر : ٣ / ٧١.

٤. لاحظ الجواهر : ٢٣ / ٣٠.

٥. الوسائل : ٤ ، الباب ٤ من أبواب السجود ، الحديث ٨ ؛ لاحظ الجواهر : ١٠ / ١٧٤.

٦. الوسائل : ٥ ، الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ١١ / ١٩٩.

٤٦٩

قلنا بأنّ للعدد مفهوماً ـ انعقادها بالخمسة.

فروع لها صلة بمفهوم اللقب

١. يستدل على حرمة عمل الصور المجسّمة لذوات الأرواح بصحيح زرارة عن أبي جعفرقال : « لا بأس بتماثيل الشجر ». (١)

٢. يستدلّ على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري بصحيح الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري ، وهو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط ». (٢) فيدلّ على نفيه عن البائع بمفهوم اللقب.

٣. روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يكفن الرجال في ثياب الحرير ، فلو قلنا بالمفهوم لدلّ على جواز تكفين المرأة به. (٣)

٤. استدلّ على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد بصحيح ابن سنان « يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها » ، ومفهومه عدم جواز الاكتفاء بها لغيره. (٤)

تمّ الكلام في المفاهيم

__________________

١. الوسائل : ١٢ ، الباب ٩٤من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ٢٢ / ٤٢.

٢. الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ١.

٣. المستدرك : ٢ ، الباب ٩١ من أبواب الكفن ، الحديث ٢ ؛ لاحظ الجواهر : ٤ / ١٧٠.

٤. الوسائل : ٤ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ٥ ؛ لاحظ الجواهر : ٩ / ٣٣٤.

٤٧٠

المقصد الرابع في العام والخاص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : للعام صيغة تخصّه

الفصل الثاني : تخصيص العام لا يوجب المجازية

الفصل الثالث : العام المخصّص حجّة في الباقي

الفصل الرابع : في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً

الفصل الخامس : المخصص اللفظي المجمل مصداقاً

الفصل السادس : إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي

الفصل السابع : إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي

الفصل الثامن : إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي

الفصل التاسع : لزوم الفحص عن المخصّص

الفصل العاشر : في الخطابات الشفاهية

الفصل الحادي عشر : تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

الفصل الثاني عشر : تخصيص العام بالمفهوم

الفصل الثالث عشر : الاستثناء المتعقّب للجمل

الفصل الرابع عشر : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

الفصل الخامس عشر : في حالات العام والخاص

٤٧١
٤٧٢

المقصد الرابع

العام والخاص

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

١. الأُمور الاعتبارية والتعريف الحقيقي

التعاريف الواردة في كلمات القوم في أمثال المقام هل هي تعاريف حقيقية أو تعاريف لفظية؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الثانية ، وعلّلها بوجهين :

١. كون المعنى المركوز في الأذهان أوضح ممّا عُرِّف به مفهوماً ومصداقاً ، ولذا يجعل صدق ذلك المعنى على فرد وعدم صدقه ، مقياساً في الإشكال على التعاريف بعدم الاطراد أو الانعكاس. والتعريف لابدّ أن يكون بالأجلى مع أنّ مصاديقه أجلى بكثير من التعريف.

٢. عدم تعلّق غرض وثمرة فقهية وحكم فرعي عليه.

يلاحظ على الوجه الأوّل بأنّ الظاهر أنّهم بصدد التعريف الحقيقي وآية ذلك ، الإشكال بعدم الطرد وعدم العكس ، ولو كانوا بصدد التعريف اللفظي لتركوا نقد التعاريف.

٤٧٣

وهذا لا ينافي أن تكون بعض المصاديق أوضح ممّا جاء في التعريف كما هو الحال في أكثر الموضوعات الواقعة في مجاله. ولو كان وضوح بعض المصاديق مانعاً عن التعريف الحقيقي لصار مانعاً في أكثر الموارد حتّى الأُمور التكوينية كالبياض والسواد والماء والتراب مع انّ الجميع يقع في أُطرِ التعريف.

والغرض من التعريف ، هو التعرّف على المصاديق غير الواضحة ، على نحو يكون التعريف مقياساً لتمييز المصداق عن غيره في عامة الموارد ، سواء أكان واضحاً أم لا.

ويلاحظ على الثاني بانّ عدم ترتّب الثمرة الفقهية لايكون مانعاً عن التعريف فانّ أكثر ما يذكرونه في مقدمات علم الأُصول بل وفي ضمن المقاصد ربما لا يترتّب عليها ثمرة فقهية كالبحث عن الوضع والمعاني الحرفية نعم فيها تشخيص للأذهان.

وممّا يؤخذ على المحقّق الخراساني انّه جعل التعريف اللفظي مرادفاً للتعريف بشرح الاسم مع انّه غيره وقد أوضحنا حاله في مباحث الألفاظ عند البحث عن تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط. (١)

وربما يقال انّ التعريف الحقيقي من خصائص المتأصلات والأعيان الخارجية دون المفاهيم الاعتبارية لانّ مأخذ الجنس والفصل هو الوجود الخارجي وما لا وجود له خارجاً لا جنس له ولا فصل.

ولذلك يعبر في الأُمور الاعتبارية عمّا به الاشتراك بانّه كالجنس وعمّا به الامتياز بانّه كالفصل ، مثلاً يقول الشهيد الثاني في كتاب الروضة عند قول الشهيد في تفسير الطهارة « بانّه إستعمال طهور مشروط بالنية » : إنّ الاستعمال

__________________

١. لاحظ إرشاد العقول : ١ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

٤٧٤

كالجنس وما هذا إلا لانّ الطهور أمر اعتباري.

ومع ذلك كلّه فانّ تعريف كلّ شيء بحسبه ، فالتعريف الحقيقي للأُمور الاعتبارية لا يعدو عن مفاهيم اعتبارية يشكِّل أحدهما القدرَ المشترك ، والآخر وجه الامتياز.

الثاني : تعريف العام

عرّف علماء الأُصول العامَ بوجوه نذكرها تباعاً :

١. شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ التعريف مبني على أنّ وصف اللفظ بالعموم إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم به ، وسيوافيك عدم صحّته ، فانّ للعموم في لغة العرب وبعض اللغات التي نعرفها ألفاظاً خاصة وضعت للعموم ، سواء أتعلق به حكم أو لا.

وثانياً : أنّ التعريف يشمل المطلق ، فالحكم فيه أيضاً شامل لجميع أفراد مدخوله غاية الأمر على وجه البدل مثل قوله : اعتق رقبة.

٢. شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه

يلاحظ عليه : أنّ فاعل قوله : « ينطبق عليه » هو لفظ العام كالعلماء في قوله : « أكرم العلماء » ، ومن المعلوم أنّ المقياس في العام شموله لكلّ ما ينطبق عليه مفرده ، لا شموله لكلّ ما ينطبق عليه لفظ العام ، فكم فرق بينهما؟ فانّ العام كالعلماء لا ينطبق إلا على ثلاثة ، ثلاثة ، وأمّا مفرده فينطبق على واحد واحد. ولذلك عدل المحقّق البروجردي إلى تعريف ثالث وهو :

٤٧٥

٣. شمول مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد.

فلفظة العلماء عام لشمولها لجميع ما يصلح أن ينطبق مفرده عليه. (١)

الثالث : أقسام العام

إنّ العام ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدليّ ، فإن لوحظ كلّ واحد من أفراد العام ـ مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به ـ بحياله واستقلاله ، أي بوصف الكثرة فهو عام استغراقي ، وإن لوحظ الأفراد لا بحياله بل بنعت الجمع فهو مجموعي ، وإن لوحظ واحد من الأفراد لا بعينه على نحو الفرد المنتشر ، فهو بدلي.

وعلى ما ذكرنا فالعام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به ، ينقسم إلى تلك الأقسام ، فالمتكلّم تارة يلاحظ كلّ فرد فرد على نحو الاستقلال بحيث لو تعلّق به حكم يكون لكلّ فرد إطاعة وعصيان.

وأُخرى يلاحظه بنحو المجموع على نحو لو تعلّق به الحكم يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد.

وفي ذينك القسمين تكون الافراد ملحوظة في عرض واحد ، غاية الأمر تارة بنعت الكثرة ، وأُخرى بنعت الجميع.

وثالثة : يلاحظ فرد ما على نحو لا يقف اللحاظ على ذلك الفرد بل ينتقل إلى فرد آخر فيكون المنظور إليه هذا أو ذاك أو ذلك فيكون العام بدلياً.

وعلى ضوء ما ذكرنا تبين انّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة لا يتوقّف على لحاظ الحكم المتعلّق به بل العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم يقع في إطار اللحاظ على الأنحاء الثلاثة.

__________________

١. لمحات الأُصول : ٣٠٢.

٤٧٦

وممّا يؤيّد ذلك انّ الواضع وضع لكلّ من الأقسام لفظاً خاصاً ، فلفظة « كلّ » موضوعة للعام الاستغراقي ، كما أنّ لفظة « مجموع » موضوعة للعام المجموعي ولفظة « أي » موضوعة للعام البدلي.

يقول سبحانه : ( الزَّانِيةُ والزَّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة وَلاتأخُذْكُم بِهِما رأفَةٌ في دِينِ اللّهِ ). (١)

فلفظة كلّ في ( كلّ واحد ) موضوعة للعام الاستغراقي.

يقول سبحانه : ( أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأَسماءُ الحُسْنى ). (٢)

وقال سبحانه حاكياً عن سليمان : ( يا أَيُّها المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتيِنِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمين ) (٣). فلفظة أيّ في الآيتين موضوعة للعام البدليّ.

نظرية المحقّق الخراساني انقسام العام إلى ثلاثة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنّما هو باختلاف كيفية تعلّق الأحكام به وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الأمر : انّ تعلق الحكم به ، تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في « أكرم مجموع الفقهاء » مثلاً ، لما امتثل أصلاً بخلاف الصورة الأُولى فانّه أطاع وأصاب. وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لأطاع وامتثل. (٤)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره غير تام من جهات ثلاثة : رتبة ، وملاكاً ، ووضعاً :

__________________

١. النور : ٢.

٢. الإسراء : ١١٠.

٣. النمل : ٣٨.

٤. كفاية الأُصول : ١ / ٣٣٢.

٤٧٧

أمّا الجهة الأُولى : ـ أي رتبة ـ فانّ الموضوع في رتبة سابقة على الحكم ، والحكم متأخر عنه رتبة وتصوراً ، فكيف يكون الحكم المتأخّر سبباً لانقسام الموضوع إلى أقسام ثلاثة.

لا أقول : إنّ ذلك مستلزم للدور بتوهم « انّ الحكم متوقّف على الموضوع والموضوع حسب انقسامه إلى أقسام ثلاثة متوقّف على الحكم ».

وذلك لأنّ امتناع الدور يختص بالأُمور التكوينية لا الاعتبارية ، ولكنّه على خلاف الضابطة في الأُمور الاعتبارية بأن يكون المتأخّر ـ أي الحكم ـ سبباً لانقسام المتقدّم رتبة.

وأمّا الجهة الثانية ـ أي ملاكاً ـ فانّ انقسام الحكم إلى أقسام ثلاثة رهن وجود مصالح مختلفة للموضوع ، حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بكلّ فرد فرد من أفراد العام ، فيأمر بإكرام كلّ واحد على سبيل الاستقلال.

وقد تكون المصلحة قائمة بإكرام المجموع بحيث لو تخلّف واحد منهم لما حصل الغرض الداعي.

وثالثة تكون قائمة بإكرام فرد من أفراد الموضوع على سبيل البدل فيأمر بإكرامه كذلك ، فملاك الانقسام إلى الأقسام الثلاثة حاصل قبل تعلّق الحكم ، فلابدّ أن يكون الانقسام باعتبار الموضوع الحامل للملاك ، لا الحكم المتعلّق بحامل الملاك.

وأمّا الجهة الثالثة : ـ أعني : وضعاً ـ فانّ الوضع يتبع الغرض ، فربما يتعلّق الغرض ببيان كون الموضوع كلّ فردمن الأفراد أو مجموعهم أو واحد منهم موضوعاً للحكم ، فيجب أن يوضع لما يتعلّق به الغرض ، لفظ خاص ، وقد أشرنا إلى بعض الألفاظ الموضوعة للأقسام الثلاثة ، فلاحظ.

ولنأت بمثال لأجل إيضاح أحكام الأقسام الثلاثة :

٤٧٨

لو نذر أن لا يدخّن فتارة يتعلّق نذره بترك كلّ ما يصدق عليه لفظ السيجارة في بيته ، وأُخرى بترك مجموع ما في بيته منها ، وثالثة بترك واحد منها.

فالنذر في الأوّل بنحو العام الاستغراقي ، ويكون لكلّ فرد إطاعة وعصياناً وبالتالي كفّارة متعدّدة ، كما أنّه في الثاني بنحو العام المجموعي وتتحقّق الطاعة بترك الجميع والعصيان بفعل واحد منهم ويكون هناك كفّارة واحدة ، وذلك لحنث النذر بالفرد الأوّل ، ولا يصدق الحنث على الفرد الثاني لافتراض انّ الموضوع ( المجموع ) لم يبق بحاله حيث نقص منه فرد واحد ، كما أنّه في الثالث بنحو العام البدلي فيجوز له التدخين إلى أن يبقى منها واحد.

الرابع : البدلي من أقسام العام

الظاهر من الأُصوليّين انّ العام ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب ما عرفت ، غير أنّ المحقّق النائيني قدس‌سره قال : إنّ في عدّ العام البدلي من أقسام العموم مسامحة واضحة ، بداهة أنّ البدلية تنافي العموم. فانّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فرد واحد ، أعني به : الفرد المنتشر ، وهو ليس بعام. نعم البدلية عامة فالعموم إنّما هو في البدلية لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ البدلية ليست شيئاً وراء الموضوع ، فالموضوع هو العام بقيد البدلية ، وإطلاق العام عليه على المختار لأجل قابلية صدقه على كلّ فرد فرد ، لكن لا في عرض واحد ، بل على نحو التبادل ، كقوله : أكرم أي رجل شئت.

وأمّا على مختار المحقّق الخراساني الذي هو خيرة المحقّق النائيني فلوجود ملاك العموم وهو سعة الحكم وشموله لكلّ فرد على نحو التبادل ، حيث إنّ الحكم يعمّ ويسع كلّ فرد على وجه البدلية مقابل اختصاصه بفرد واحد.

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٤٣.

٤٧٩

الخامس : دوران الأمر بين أحد الأقسام الثلاثة

إذا دار أمر العام بين أحد هذه الأقسام ، فهل هي أصل يعتمد عليه في تعيين أحد الأقسام؟ مثلاً : إذا حلف على ترك التدخين فشك انّه هل كان على نحو العموم الاستغراقي أو المجموعي ، قال المحقّق النائيني : إنّ الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية ، لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى غاية زائدة وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعاً واحداً. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه لا موضوع للأصل اللفظي في العام ، وذلك لما عرفت من أنّ في لغة العرب لكلّ من الأفراد لفظاً خاصاً ، فأين لفظة « كلّ » من لفظة « أي » وهما من لفظة « المجموع » ، فالأمر يدور بين المتباينين فلا أصل هنا يعيّن واحداً من هذه الألفاظ.

والحاصل : انّ تعلّق العلم الإجمالي بصدور واحد من هذه الألفاظ المردد بين الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، يكون سبباً لدوران الموضوع بين الأُمور المتباينة كدوران الفائت بين الظهر والمغرب والفجر ، فكما لا موضوع للأصل اللفظي فيه فهكذا المقام.

نعم يتصوّر الدوران فيما إذا كان الدليل لبياً كالإجماع والسيرة على وجـوب شيء كصيام ثلاثة أيّام فيقع الكلام في وجوبها متوالية حتّى يكون كالعـام المجموعي أو أعمّ منه ومن غير المتوالي ليكون كالعام الاستغراقي ، فالمرجـع حينئذ هو البراءة ، وذلك لأنّ الشكّ في كلفة زائدة وهو التوالي والأصل عدمه.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥١٥.

٤٨٠