إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

وقد ذكر ذلك التفصيل في ضمن مسألة « ومن سها فلم يدر أربعاً صلّى أم خمساً وتساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو » وقال ما هذا لفظه :

فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة ، في صلاة واحدة ، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو ، أو سجدتا السهو عن الجميع؟

قلنا : إن كانت المرّات من جنس واحد ، فمرّة واحدة تجب سجدتا السهو ، مثلاً تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى ، وكذلك في باقي الركعات ، فانّه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ؛ لأنّه لا دليل عليه ، وقولهم عليهم‌السلام : من تكلّم في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو (١) ، وما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي بل الواجب ، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ؛ لأنّ هذا قد تكلّم مثلاً ، وقام في حال قعود ، وأخلّ بإحدى السجدتين ، وشكّ بين الأربع والخمس ، وأخلّ بالتشهد الأوّل ، ولم يذكره إلا بعد الركوع في الثالثة ، وقالوا عليهم‌السلام : من فعل كذا ، يجب عليه سجدتا السهو ، ومن فعل كذا في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو ، وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ، ولا دليل على تداخلهما ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقّق. (٢)

وحاصل كلامه : أنّه إذا كانت الأسباب الشرعية من نوع واحد يمكن التمسّك بإطلاق الجزاء وهو وجوب سجدتا السهو من دون تقييد بالمرّات ، وأمّا

__________________

١. الوسائل ج ٥ ، الباب ٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٢. السرائر : ١ / ٢٥٨ ، باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة.

٤٠١

إذا كانت الأسباب الشرعية من جنسين فليس هناك ما يمكن التمسّك بإطلاقه ، بل يجب امتثال كلّ على حدة ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان.

بل لقائل أن يقول انّ مقتضى الإطلاق في القسم الثاني هو عدم التداخل ، لأنّ مقتضى إطلاق قوله : إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو ، هو وجوبها ، سواء وجبتا لأجل فعل أو لا ، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله : « إن قمت مكان القعود فاسجد سجدتي السهو » ، هو وجوبها مطلقاً ، سواء وجبتا لأجل التكلّم أو لا ، فصارت النتيجة هي اجتماع وجوبين.

ومن هنا يعلم أنّ ما أورد عليه في « الكفاية » تبعاً لما في « مطارح الأنظار » لا صلة له بكلامه وقد نشأ من عدم الرجوع إلى نفس الكتاب ، فالأولى أن يقال : كما سيوافيك في الموضع الثاني أنّ الضابطة فيما إذا كانت النسبة هو العموم والخصوص من وجه هو التداخل إلا إذا قامت القرينة على عدمه ، ومن هذا الباب باب الديات والحدود والغرامات والخسارات والتأديبات ، لأنّ إيجاب سجدة السهو يعد تأديباً للمصلّي فمن كثر عليه الخطأ يكثر تأديبه ، فلأجل ذلك لا فرق بين كون الفعلين من جنس واحد أو غير جنس. (١)

__________________

١. وقد أورد شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة على التفصيل الذي عليه الحلّي ما هذا حاصله : ماذا يريد الفخر من الوحدة ، فهل يريد الوحدة النوعية كتكرر الوطء فهو وإن كان صحيحاً لكن المؤثّر هو الأفراد والمفروض انّها متعددة ، وإن أراد انّ الوحدة الحقيقية فهي غير صحيحة حسب المفروض.

هذا ما أفاده في الدورة السابقة ولكنّه ـ مدّ ظلّه ـ أفاد في هذه الدورة ـ الرابعة ـ بأنّ ما ذكرناه سابقاً وإن كان صحيحاً ، لكن ليس له ولا لما في المطارح والكفاية من الإشكال على الفخر ، صلة بكلامه فانّ كلامه يدور حول وجود الإطلاق في المتحد دون المختلف ، ومقتضى الإطلاق في الأوّل هو الاقتصار على المرّة بخلاف الثاني فترديد كلامه بين الوحدة النوعية أو الشخصية ، أجنبي عن مرامه ، فلاحظ.

٤٠٢

الثالث : إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية

إذا شكّ في مقتضى الأدلّة وانّ مقتضاها تداخل الأسباب ( وحدة الوجوب ) أو تعدّده ، فالأصل هو البراءة عن الوجوب الواحد الزائد.

نعم مقتضى الأصل في الموضع الثاني ، ( اجزاء الامتثال الواحد عن وجوبين ) أوّلاً ، هو الاشتغال للشك في سقوط الوجوب بالامتثال الواحد.

الرابع : فيما إذا تكرر الجزاء من دون ذكر السبب

إنّ محط البحث فيما إذا ذكر سببان لجزاء واحد كالنوم والبول للتوضّؤ ، وأمّا إذا تكرّر حكم واحد من دون ذكر السبب كما إذا قال : صم ، ثمّ قال بعد فترة : صم ، فهو خارج عن حريم النزاع ، وعندئذ يكون البحث مركّزاً على أنّ الأصل هو في الأمرين المتكررين هو التأسيس أو التأكيد ، وقد تقدّم في أواخر الأوامر (١) فلاحظ.

____________

١. لاحظ هذا الجزء ، ص ١٥٩.

٤٠٣

الموضع الثاني

في تداخل المسببات وعدمه

قد عرفت أنّ البحث في التنبيه الثالث يقع في موضعين :

الأوّل : في تداخل الأسباب وعدمه.

الثاني : في تداخل المسبّبات وعدمه.

وقد عرفت أنّ النزاع الأوّل يرجع إلى اقتضاء كلا الشرطين وجوباً واحداً ، أو اقتضاء كلّ ، وجوباً خاصاً له ، فلو قلنا بأنّ مدلول القضية الشرطية هو الأعم من حدوث الجزاء ، أو ثبوته ، عند ثبوت الشرط ، فلازمه القول بالتداخل في الأسباب ، وأمّا لو قلنا بالحدوث لدى الحدوث ، فلازمه القول بعدم التداخل فيها ، وقد مرّ انّ الثاني هو المتعيّن عند العرف.

وأمّا النزاع الثاني ( تداخل المسببات وعدمه ) فيرجع إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكليف والاشتغال ، وعدم صدقه.

وبعبارة أُخرى : هل يكفي الإتيان بفرد واحد ـ مع تعدّد التكليف ـ فلازمه تداخل المسببات ، أو لا يكفي فلازمه عدم تداخلها؟

ومن هنا يظهر انّ البحث في تداخل المسببات وعدمه ، فرع القول بعدم تداخل الأسباب ، وتعدد الوجوب والتكليف ، وإلا فعلى القول بتداخل الأسباب ،

٤٠٤

وانّه ليس في المقام إلا وجوب واحد فلا موضوع للبحث عن تداخل المسببات وعدمه ، لوضوح انّ التكليف الواحد ، لا يقتضي إلا امتثالاً واحداً ، ويكون الإتيان بفرد من أفراد الطبيعة ، مسقطاً قطعاً ، فالبحث في الموضع الثاني مبنيّ على ظهور القضية الشرطية في استقلال تأثير كلّ شرط ، وانّ أثر كلّ غير أثر الآخر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقام الثبوت ، أي إمكان تداخل المسببات وعدم إمكانه ، وأُخرى في مقام الإثبات ، وما هو مقتضى الأدلّة.

١. إمكان التداخل ثبوتاً وعدمه

ذهب الشيخ الأعظم إلى امتناع التداخل وقال : قد قرّرنا فيما تقدّم انّ متعلّق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير إلا أن يكون ناسخاً لحكم السببية. (١)

يلاحظ عليه : بما سبق في المقام الأوّل وهو انّ إيجاد التكثّر في جانب الجزاء ، لتصحيح تعلّق وجوبين بطبيعة واحدة ، رهن التصرّف في جانب الجزاء بأحد وجهين :

الأوّل : تقييد متعلّق الوجوب في إحدى القضيتين الشرطيتين بلفظة « آخر » فيكون وزانُ القضيتين وزانَ قولنا : إذا نمت فتوضأ وإذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

الثاني : تعلّق كلّ من الجزاء ( وجوب الوضوء ) بشرطه بأن يقال : إذا بلت فتوضّأ وضوءاً مسبباً من النوم ، أو البول.

فما ذكره الشيخ إنّما يتمّ على الوجه الأوّل وتكون النسبة بين الموضوعين ، هو

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨١.

٤٠٥

التباين مثل ما إذا قال : أكرم الإنسان الأبيض ، وأكرم الإنسان الأسود ، فعندئذ يمتنع تداخل المسببين ، بل لابد من إكرام انسانين بلونين مختلفين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المصحّح لتعلّق الوجوبين ، هو تقييد كلّ وجوب بسببه ، فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم من وجه.

ومن هنا يعلم أنّ النزاع في تداخل المسببات وعدمه يختصّ بما إذا كان بين متعلّقي الوجوبين ، من النسب الأربع ، هو العموم والخصوص من وجه أو المطلق دون التباين لعدم إمكان التداخل ، عندئذ ولا التساوي ، إذ لا موضوع للتداخل حينئذ.

ولقد أحسن المحقّق الخراساني في المقام حيث استدلّ على إمكان التداخل بما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه وقال :

« الذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعدّدة ، حسب تعدّد الشرط ( عدم التداخل في الأسباب ) إلا أنّ الاجتزاء بواحد ، لكونه مجمعاً لها كما في أكرم هاشمياً ، وأضف عالماً ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ضرورة انّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق انّه امتثلهما ولا محالة يسقط بامتثاله وموافقته ، وإن كان له امتثال كل منهما على حدة ، كما إذا قال : أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم غير الهاشمي.

٢. ما هو مقتضى الأدلة إثباتاً؟

إذا ثبت إمكان التداخل ثبوتاً ، يقع الكلام فيما هو مقتضى الأدلّة الاجتهادية إثباتاً ، فقد استدل القائل بعدم التداخل ولزوم تعدّد الامتثال بوجهين :

٤٠٦

حجّة القائل بعدم التداخل

الأوّل : ما استدلّ به العلاّمة في « المختلف » ونقله السيد الصدر في شرح الوافية عن العلاّمة على ما حكاه الشيخ الأعظم في « المطارح » وقال :

إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإمّا أن يقتضيان مسبّبين ، أو مسبّباً واحداً ، أو لا يقتضيان شيئاً ، أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر ، والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب ، أمّا الملازمة فلانحصار الصور في المذكورات ، وأمّا بطلان التوالي :

أمّا الأوّل ( من الثلاثة الأخيرة ) فلما عرفت سابقاً من أنّ النزاع المذكور مبني على خلافه ، [ لأنّ المختار في الموضع الأوّل هو عدم التداخل ].

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل.

وأمّا الثالث : فلأنّ استناده إلى واحد معيّن من السببين يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببيّة ، وإلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره بطوله ، إنّما يناسب المقام الأوّل ، أي عدم تداخل الأسباب ، وانّ كلّ سبب يقتضي وجوباً مستقلاً ، ولا صلة له بالمقام أي تداخل المسببات وعدمه ، أي لزوم تعدّد الامتثال وعدمه.

اللّهمّ إلا إذا ضُمّ إليه أمر آخر ، وهو إن تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل الثاني ، ولذلك قام الشيخ بتهذيب الدليل وقال : واعلم أنّ محصل هذا الوجه ينحل إلى مقدمات ثلاث :

٤٠٧

الأُولى : دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية : أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة : أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لابدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلو. (١)

هذا وللقائل بالتداخل أن يمنع كلّية المقدّمة الثالثة ويفصِّل بين كون النسبة بين المتعلّقين هي التباين أو العموم والخصوص من وجه أو المطلق ، فعلى الأوّل تعدّد الأثر يقتضي تعدّد الفعل كما مثلنا ، بخلاف الثاني فيكفي في امتثال الأثرين ، امتثال واحد على ما عرفت.

الثاني : ما استدلّ به المحقّق النائيني وهو انّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد ، ولو كان ذلك بقصد امتثال الجميع في غير ما دلّ الدليل على سقوطها به ، كما هو الحال في سقوط أغسال متعدّدة بغسل الجنابة ، أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع وكما في ارتفاع أفراد الحدث الأصغر بوضوء واحد.

وبالجملة الأصل العملي يقتضي عدم سقوط الواجبات المتعدّدة مالم يدلّ على سقوطها دليل بالخصوص.

نعم يستثنى من ذلك مورد واحد ، وهو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضية أكرم عالماً وأكرم هاشمياً ، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين ، ولا يعتبر في تحقّق الامتثال إلا الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر. (٢)

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨١ ، ولم نعثر على أصل الدليل في « المختلف » ولكن لاحظ : ١ / ١٩١ ـ ١٩٢ الطبعة الحجريّة.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٢.

٤٠٨

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ البحث في المقام من التداخل وعدمه حول مقتضى الأدلّة الاجتهادية وليس الكلام في مقتضى الأُصول العملية ، فالاستدلال بالأصل مع إمكان الاستدلال بالدليل الاجتهادي ، غير تام.

وثانياً : أنّه لم يعلم الفرق بين المقام ومسألة العموم والخصوص من وجه الذي استثناه من الضابطة ، إذ لو كان المعتبر عند العقل في تحقّق الامتثال ، الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر خارجاً ، فيجب القول بالتداخل في المقام ، لأنّه ينطبق على الوضوء الواحد عنوان التوضّؤ المأخوذ في كلا الجزاءين ، إذ المفروض أنّ الجزاء عبارة عن قوله : « يجب عليك الوضوء الناشئ من جانب البول أو النوم ». فالتداخل عندئذ يكون مقتضى القاعدة من دون حاجة إلى دليل خارجيّ كما هو ظاهر كلامه.

حجّة القائل بالتداخل

احتجّ القائل بالتداخل بأنّه إذا كان ما به الامتثال مصداقاً لكلا العنوانين ، كالإكرام والضيافة ، يتلقّاه العرف امتثالاً بكلا الأمرين ، نظير ما إذا أمر الطبيب رجلاً سميناً بأكل الفاكهة مكان الطعام حتّى يخفّ وزنه ثمّ أمره بأكل فاكهة خاصة لتداوي مرض خاص فيه ، فإذا أكل تلك الفاكهة بدل الطعام أيضاً ، فقد امتثل كلا الأمرين الإرشاديين ، ونظيره الأمران المولويان.

هذه هي الضابطة في المقام إلا إذا قامت قرينة على تعدّد الامتثال ، كما في الأمثلة التالية :

١. إذا ورد النص على نزح سبع دلاء عند وقوع كلّ من الفأرة في البئر ، وبول الصبي الذي لم يبلغ فوقع كلّ بعد الآخر ، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة

٤٠٩

واحدة ، بل يلزم نزح سبع دلاء أُخرى أيضاً ، وذلك لأنّ لوقوع كلّ منهما بعد الآخر تأثيراً خاصّاً في قذارة الماء ، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة واحدة ، بل يجب التكرار.

٢. إذا ظاهر وأفطر في شهر رمضان ، فلا يكفي تحرير رقبة واحدة في مقام التكفير ، وذلك لأنّ الغاية من إيجاب التكفير هو تأديب العاصي ، وهو لا يحصل إلا بالتعدّد ، ومنه يعلم حكم سائر الكفّارات.

٣. إذا أتلف ثوبين من صنف واحد ، فلا يجوز الاقتصار على دفع ثوب واحد ، لأنّ الغاية من الضمان هو جبر الخسارة الواردة على الطرف ، وهو رهن دفع ثوبين ، ومنه يعلم حكم الغرامات والخسارات والديات عامة.

٤. إذا نذر ذبح شاة لقضاء حاجة خاصة ، ثمّ نذر شاة أيضاً لقضاء حاجة ثانية فقُضيت له الحاجتان ، فلا يكفي ذبح شاة واحدة ، لأنّ لقضاء كلّ من النذرين شكراً خاصّاً.

وبذلك يظهر حال الحدود والتعزيرات ، فالأصل فيهما التعدد وإن كانت متماثلة.

بقي هنا أُمور :

بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل وعدمه

نذكر في المقام بعض الفروع المترتبة على هذه المسألة وهي كالتالي :

١. إذا وجبت عليه الزكاة فهل يجوز دفعها إلى واجب النفقة إذا كان فقيراً من جهة الإنفاق؟ قال في « الجواهر » : لا يجوز لكونه ليس إيتاءً للزكاة ، لأصالة عدم تداخل الأسباب. (١)

__________________

١. الجواهر : ١٥ / ٤٠١.

٤١٠

٢. إذا اجتمع للمستحق سببان أو ما زاد ، يستحقّ بها الزكاة ، كالفقر ، و « الكتابة » و « الغزو » جاز أن يعطى بحسب كل سبب نصيباً ، لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلاً فيستحقّ بكلّ منها. (١)

٣. إذا اجتمع سببان للخيار كالمجلس والعيب وخيار الحيوان ، فلا يتداخل السببان وفائدته بقاء أحدهما مع سقوط الآخر.

٤. لو تكرر منه وطء الحائض في وقت واحد كالثلث الأوّل ، أو في وقتين ، كما إذا كان الثاني في الثلث الثاني يقع الكلام في تكرر الكفّارة وعدمه. (٢)

٥. إذا وقعت نجاسات مختلفة في البئر لكلّ تقدير خاص ، فهل يجب نزح كلّ ما قدر أو لا؟ مبنيّ على التداخل وعدمه. (٣)

٦. إذا تغير أحد أوصاف ماء البئر ومع ذلك وقع فيه من النجاسات ما له مقدّر ، فهل يكفي نزح الجميع أو يجب معه نزح ما هو المقدّر؟ مبني على مسألة التداخل وعدمه.

٧. إذا مات وهو جنب ، فهل يكفي غسل واحد أو يجب الغسلان؟

__________________

١. الجواهر : ١٥ / ٤٤٧.

٢. الجواهر : ٣ / ٢٣٦.

٣. الجواهر : ١ / ٢٦٠.

٤١١

السالبة الكلية ومفهومها

قد عرفت أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فيعتبر في مفهوم القضية الشرطية أمران :

١. اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب.

٢. وحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً وقيداً.

مثلاً إذا قال القائل : « إن جاء زيد يوم الجمعة راكباً فأكرمه » يصير مفهومه إن لم يجئ زيد يوم الجمعة راكباً فلا تكرمه. فتجد انّ القضيتين تشتركان في الموضوع والمحمول وعامة القيود ، وتختلفان في السلب والإيجاب.

هذه هي الضابطة في أخذ المفهوم.

وعلى ضوء ذلك ينبغي إمعان النظر في مفهوم السالبة الكلية ، أعني قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء ». (١)

فهل مفهومه هو الموجبة الجزئية بمعنى إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ فينجسّه شيء ، أي بعض النجاسات على سبيل الإهمال ، فلا يكون المفهوم عندئذ دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس.

وعلى ذلك جرى الشيخ محمد تقي ( المتوفّى ١٢٤٨ هـ ) صاحب الحاشية على

__________________

١. الوسائل : ١ ، الباب ٩ من أبواب طهارة الماء ، الحديث ١ و ٢ و ٦.

٤١٢

المعالم. (١)

أو أنّ مفهومه هو الموجبة الكلية بمعنى انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كلّ شيء ، أي عامّة النجاسات ، فيكون المفهوم دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس ، وعليه الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته. (٢)

استدلّ صاحب الحاشية بما اشتهر بين المنطقيّين بأنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية ، وليس للمفهوم دور إلا أنّه نقيض المنطوق ، فإذا كان المنطوق سالباً كلّياً يكون مفهومه ، أي نقيضه موجباً جزئياً ، وتبعه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي على ما في تقريراته (٣) وسيدنا الأُستاذ الخميني. (٤)

والتحقيق أن يقال : انّ لفظ « شيء » في المنطوق يحتمل أحد أمرين :

١. أن يكون المراد منه هو معناه العام المتوغل في الإبهام.

٢. أن يكون المراد منه هو العناوين التي أُخذت في لسان الأدلّة موضوعة للحكم عليها بالنجاسة ، نظير قولنا : « الدم نجس » والبول نجس.

فإنّ قلنا بالأوّل يكون مفهومه قضية موجبة جزئية ، لوضوح انّ رفع السلب الكلي إنّما هو بالايجاب الجزئي ، فإذا قلنا : « لم يكن هناك شيء » يكفي في رفعه وجود شيء ما في المحل ، وأمّا لو قلنا بأنّ لفظة شيء أخذت مرآة إلى العناوين العشرة التي هي موضوعات للحكم عليها بالنجاسة ، فقولنا : « لم ينجسّه شيء » بمنزلة قولنا : « لم ينجسه الدم ولا البول ولا الكلب ولا الخنزير ولا الميتة ولا ... »

__________________

١. هداية المسترشدين : ٢٩١.

٢. مطارح الأنظار : ١٧٤.

٣. لمحات الأُصول : ٢٩٦

٤. تهذيب الأُصول : ١ / ٤٥٠.

٤١٣

فعند ذلك يكون مفهومها موجبة كلية ، أي إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه الدم والبول والكلب والخنزير والميتة ... الخ.

هذا هو مبنى القولين ومن المعلوم أنّ الحقّ هو الأوّل ، فانّ لفظة « شيء » مفهوم متوغّل في الإبهام ، فنفيه ـ كما في المنطوق ـ رهن نفي كلّ ما يصدق عليه شيء وإيجابه كما هو الحال في المفهوم بوضع شيء من الأشياء.

ثمّ إنّ الذي دعا الشيخ الأعظم إلى اختيار القول الثاني مع أنّه مخالف لما عليه المنطقيّون في باب التناقض ومخالف لما هو المتفاهم العرفي في هذه المواضع هو ما سبق منّا من أنّه يجب الاحتفاظ بعامة القيود الواردة في المنطوق ، وبما انّ الكليّة من إحدى القيود في المنطوق فيجب أن يحتفظ بها في المفهوم.

وعلى هذا المبنى تكون الكلية قيداً محفوظاً في جانبي المنطوق والمفهوم ويصبح المفهوم موجبة كلية.

وإلى ما ذكرنا يشير الشيخ بقوله : « ومن هنا ( لزوم حفظ القيود بتمامها في المنطوق والمفهوم ) يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين من قوله عليه‌السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء » فانّ مفهومه انّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء من النجاسات ، كما يعلم فساد ما قيل من أنّ لازم القضية المذكورة نجاسة الماء غير الكرّ بشيء من النجاسات ، وهو مجمل لا يفيد ولا يلزم منه النجاسة ، بكلّ شيء من النجاسات.

ثمّ رتّب الشيخ على مختاره وقال : إنّ ما دلّ على عدم نجاسة الماء المستعمل في الاستنجاء يعارض عموم المفهوم ، مثل ما دلّ على نجاسته إذا كان غالباً. (١)

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٧٨.

٤١٤

يلاحظ عليه : بأنّ الضابط ( أي الاحتفاظ بكلّ القيود الموجودة في المنطوق ) مختص بالقيود المذكورة في الكلام ، كالقيود المذكورة في المثال السابق يوم الجمعة راكباً ، دون القيود المستفادة من سياق الكلام كالاستغراق المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، أعني : « لم ينجسه شيء » ، ففي مثله لا يؤخذ القيد في جانب المفهوم ، فإذا قال : إن جاءك زيد لا تكرم أحداً ، يصير مفهومه إذا لم يجئ زيد فأكرم أحداً ، لا أكرم كلّ أحد ، وذلك لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام ( وقوع النكرة في سياق النفي ) والمفروض انقلابه إلى سياق آخر ( إلى الإيجاب ) فكيف يمكن التحفّظ بهذا القيد في جانب المفهوم؟

وبعبارة أُخرى : انّ القيود على قسمين :

قيد مذكور في الكلام فلابدّ من أخذه في جانب المفهوم طابق النعل بالنعل.

وقيد مفهوم من سياق الكلام ، أي وقوع النكرة في سياق النفي والنهي ، فهذا النوع من القيد رهن حفظ السياق والمفروض انّ السياق يتغير في المفهوم ، ومعه كيف يمكن الاحتفاظ بهذا القيد؟!

وإن شئت قلت : إنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان القيد ، المفهوم منه العموم ، مجموعياً كان أو استغراقياً قابلاً للانتقال إلى المفهوم حتّى يكون الاستغراق الموجود في المنطوق مأخوذاً في المفهوم ، كما إذا قال : إن جاء زيد أكرم كلّ واحد ممّن معه ، فيكون مفهومه استغراقياً أيضاً ، وأمّا إذا كان العموم مستفاداً من سياق النفي ، فيكون قائماً بالسياق فإذا تبدل سياق النفي إلى الإيجاب ينتفي ما يدلّ على العموم فلا يمكن أخذه في المفهوم حتّى يكون إيجاباً استغراقياً ويكون مفهومه موجبة

٤١٥

كلية ، بل يتعيّن أن يكون موجبة جزئية.

ثمّ إنّ شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) اقتصر على هذا القدر في دورتنا الرابعة ، وقد أفاض الكلام في ذلك في الدورات السابقة ، وبما انّ ما أفاده فيها طويل الذيل طوينا الكلام عنه ، فمن أراد فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد الجلالي. (١)

__________________

١. المحصول : ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٦.

٤١٦

الفصل الثاني

مفهوم الوصف

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : في تعريف مفهوم الوصف

قد عُرِّف مفهوم الوصف بتعاريف نذكر منها ما يلي :

١. الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عام مقيّد بصفة خاصة ، وهو خيرة الآمدي.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّه لا يشمل الوصف غيرَ المعتمد على موصوفه كقولنا : « أكرم عالماً » ، إذ ليس فيه إلا شيء واحد لا اسم انضم إليه وصفه.

٢. تعليق الحكم بالصفة حتّى يدلّ على انتفائه لدى انتفائها.

وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ التعليق يناسب مفهوم الشرط لا مفهوم الوصف.

قلت : وفيه تأمّل واضح ، لأنّ التعليق من العلقة وهي الرابطة ، فهي موجودة في القضايا الشرطية والحملية في كلّ بنحو.

٣. إثبات الحكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها يدلّ على انتفاء ذلك

٤١٧

الحكم عند انتفاء الصفة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه يرد عليه ما أورده الشيخ على تعريف الآمدي من عدم شموله للوصف غير المعتمد على موصوفه ، كما إذا قال : « أكرم عالماً » من غير فرق بين القول ببساطة المشتق وتركّبه.

أمّا على الأوّل فلا ذات مأخوذة مع بعض صفاتها ، وأمّا على الثاني فالذات غير مذكورة وظاهر التعريف كونها مذكورة.

اللّهمّ إلا أن يريد الشيخ من أخذ الذات ، الأعم من الأخذ لفظاً أو تقديراً لدى التحليل.

وعلى كلّ تقدير فحصيلة التعاريف عبارة عن دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن موضوعه عند انتفائه.

الثاني : تحديد محلّ النزاع

خصّ المحقّق النائيني محلّ النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف ، واستدلّ على ذلك بوجهين :

١. لو كان غيره داخلاً في محلّ النزاع لدخلت الجوامد فيه أيضاً بداهة انّه لا فرق بين الجامد وغير المعتمد من الوصف ، إلا في أنّ المبدأ في الجامد جعلي وفي غير المعتمد غير جعلي. وهذا لا يكون فارقاً بينهما في الدلالة على المفهوم وعدمها. (٢)

٢. انّ ذكر الموضوع بصورة الوصف غير المعتمد كالعالم لا يحتاج إلى نكتة

__________________

١. مطارح الأنظار : ١٨٧ ؛ ولاحظ القوانين : ١ / ١٧٨.

٢. أجود التقريرات : ١ / ٤٣٣.

٤١٨

غير إثبات الحكم له ، لا إثباته له وانتفاءه عن غيره. (١)

يلاحظ على الأوّل : بوجود الفرق بين قولنا : إسق شجرة ، وقولنا : اسق عالماً ، فانّ الأوّل لا ينحل إلى ذات ووصف ، بخلاف الثاني فانّه ينحل إلى ذات وعلم ، فارتفاع الوصف والمبدأ الجعلي في الأوّل مساوق لارتفاع الذات ، فانّ رفع الشجرية رفع لتمام الموضوع ، وهذا بخلاف الثاني حيث تبقى الذات مع ارتفاع الوصف كالإنسان غير العالم. مضافاً إلى استدلال الفقهاء بآية النبأ على حجّية خبر الواحد تمسّكاً بمفهوم الوصف غير المعتمد على الموصوف ، وبعضهم بفهم أبي عبيدة (٢) من حديث : « ليّ الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته » (٣) ، انّ ليّ غير الواجد لا يبيح ، وهو أيضاً من قبيل الوصف غير المعتمد.

ويلاحظ على الثاني بأنّ التعبير عن الموضوع بالوصف العنواني مع إمكان التعبير عنه بغيره يشعر بمدخلية الوصف في ثبوت الحكم عند ثبوته وارتفاعه عند ارتفاعه ، فإذا قال : إن جاءكم فاسق بنبأ مكان : إذا جاءكم إنسان بخبر يفيد ، انّ للفسق مدخلية في عدم القبول ، وعندئذ يكون الإنسان تمام الموضوع ، والفسق قيداً زائداً أتى به لنكتة.

والحاصل : انّ المفهوم يدور حول وجود قيد زائد في الكلام ، والقيد الزائد في المقام هو أخذ الفسق أو العلم في الموضوع مع إمكان أخذ الإنسان موضوعاً ، لا الفاسق كما في الآية ولا العالم كما في المثال.

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٥٠١.

٢. هو معمر بن مثنى المعروف بأبي عبيدة ( المتوفّى عام ٢٠٧ هـ ) أُستاذ أبي عبيد سلام بن قاسم مؤلف كتاب الأموال ( المتوفّى سنة ٢٢٥ هـ ) وهو بصري لا كوفي ، فما في القوانين انّه كوفي غير صحيح.

٣. الوسائل : ١٣ ، كتاب الدين ، الباب ٨ ، الحديث ٤.

٤١٩

الثالث : أقسام الوصف

إنّ النسبة بين الوصف والموصوف لا تخلو عن وجوه أربعة :

١. أن تكون النسبة بينهما هو التساوي ، كقولنا : الإنسان المتعجّب أكرمه.

٢. أن يكون الوصف أعمّ مطلقاً من الموضوع ، كالإنسان الماشي.

٣. أن يكون الوصف أخصّ مطلقاً من الموضوع ، كقولنا : الإنسان الكريم.

٤. أن تكون النسبة بينهما أعمّ من وجه ، كما في قولنا : « في الغنم السائمة زكاة ».

ثمّ إنّ القسمين الأوّلين خارجان عن محط البحث ، لأنّ الميزان في حجّية مفهوم الوصف ، هو بقاء الموضوع وارتفاع الوصف ، ففيما إذا كانت النسبة بينها هو التساوي أو كان الوصف هو الأعم ، ينتفي الموضوع بانتفاء الوصف أمّا لأجل التساوي لأجل كون الوصف أعمّ وانتفاءه يستلزم انتفاء الأخصّ ، فلا يبقى بحث في انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف.

ولكن القسم الثالث داخل في محلّ النزاع قطعاً ، فلو قال : أكرم إنساناً كريماً ، فعلى القول بالمفهوم يكون مفهومه انّه لا تكرم إنساناً لئيماً.

وأمّا القسم الرابع فله صورتان :

أ. أن يكون الافتراق من جانب الوصف مع بقاء الموضوع ، كما إذا قال : في سائمة الغنم زكاة ، فيكون مفهومه في معلوفة الغنم ليست زكاة.

ب. أن يكون الافتراق من جانب الموضوع بأن يرتفع الغنم ويحلّ مكانه الإبل ، وعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يحتج بمفهوم قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة أو لا؟

٤٢٠