إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

المناقشة الثانية : قياس الضدّين بالنقيضين

إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين. (١)

هذه ، هي المناقشة الثانية التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى المقدّمة الأُولى ، أعني : كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضد ، وتوضيحها كالتالي :

إنّ ارتفاع أحد النقيضين كرفع اللابياض ليس مقدمة لتحقّق النقيض الآخر ( البياض ) مع كمال المنافرة بين النقيضين ( البياض واللابياض ) ، بل رفع أحد النقيضين ملائم لثبوت النقيض الآخر.

فإذا كان هذا حال النقيضين فليكن حال الضدين أيضاً كذلك لوحدة الملاك وهو المنافرة بين العينين والملائمة بين أحدهما ورفع الآخر ، فلا يكون رفع البياض مقدمة لثبوت الضدّ الآخر.

وربما تقرّر المناقشة بوجه آخر وهو التمسّك بقانون المساواة ، بيانه :

إنّ النقيضين كالبياض واللا بياض في رتبة واحدة هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ الضدّين كالبياض والسواد في رتبة واحدة ، فينتج انّ اللا بياض في رتبة الضدّ الآخر أي السواد.

وذلك لأنّه لو كان اللا بياض في رتبة البياض ، وكان البياض في رتبة السواد ، تكون النتيجة انّ اللا بياض في رتبة السواد لقاعدة التساوي ، فانّ مساوي المساوي للشيء ، مساو لذلك الشيء. (٢)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٠٧.

٢. المراد من المساوي الأوّل هو اللا بياض ومن الثاني البياض ، والمراد من الشيء هو السواد.

٢١

يلاحظ عليه : أنّ قانون المساواة إنّما يجري في المسائل الهندسية فيقال : انّ زاوية « أ » مساوية لزاوية « ب » ، وزاوية « ب » مساوية لزواية « ج » ، فينتج انّ زاوية « أ » مساوية لزواية « ج » ، وأمّا التقدّم والتأخّر والتقارن من حيث الرتبة فلا تعمّها القاعدة ، بل ثبوت كلّ تابع لوجود الملاك فيه وقد يوجد الملاك في أحد المساويين دون الآخر ، ولذلك قالوا : إنّ ملازم العلّة ليس متقدماً على المعلول رتبة مع أنّ العلّة متقدمة عليه كذلك وما هو إلا لأنّ ملاك التقدّم وهو نشوء المعلول عن العلّة موجود في العلة لا في ملازمها.

وعلى ذلك فلو كان البياض متحداً مع السواد رتبة لا يكون دليلاً على أنّ المتحد مع البياض ( اللا بياض ) متّحد مع السواد في الرتبة ، وذلك لفقد الملاك ، لأنّ اتحاد النقيضين في الرتبة لأجل انّه لولا الاتحاد يلزم ارتفاعهما وهو محال مثلاً إذا لم يصدق أحد النقيضين كالبياض فلو قلنا بأنّ النقيضين في رتبة واحدة فلابدّ أن يصدق اللابياض ، ولو نقل ، لا يلزم أن يصدق اللا بياض وعند ذاك يلزم ارتفاع النقيضين ، فظهر انّه لا محيص من القول بوحدة رتبة النقيضين وإلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وهذا بخلاف اللا بياض والسواد فلا يلزم من القول بعدم الوحدة في الرتبة ، سوى ارتفاعهما وعدم صدقهما ولا محذور فيه.

المناقشة الثالثة : استلزامه الدور

هذه هي المناقشة الثالثة التي وجهها المحقّق الخراساني إلى كون الضدّ مقدمة للضدّ الآخر ، وبيّنها بالعبارة التالية :

لو اقتضى التضاد توقّفَ وجود الشيء على عدم ضدّه ، توقّفَ الشيء على

٢٢

عدم مانعه ، لاقتضى توقّفَ عدمِ الضدّ على وجود الشيء ، توقّفَ عدم الشيء على مانعه ، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح. (١)

وربما يردّ الدور ـ بما في الكفاية ـ من أنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلي ، ولكن توقّف عدم الآخر على وجود واحد من الضدّين شأني ، مثلاً : انّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقّق البياض فيه ، وأمّا توقّف عدم الضدّ ( البياض ) على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي فلا دور.

أمّا كون التوقّف في جانب الوجود فعلي ، فلوضوح انّ توقّف وجود المعلول على جميع أجزاء علته ومنها عدم المانع فعلي ، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحقّقه ووجوده في الخارج ، وأمّا عدم الضدّ فلا يتوقّف على وجود الضدّ الآخر ، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقّق المقتضي مع بقية الشرائط ليكون توقّفه عليه فعليّاً.

وقد أجاب عن الإشكال المحقّق الخراساني (٢) بأنّ الدور وإن ارتفع فعلاً لكن لم يرتفع شأناً ، لأنّ عدم الضدّ وإن كان موقوفاً عليه بالفعل ، لوجود الضدّ

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٠٧.

٢. لا يخفى انّ عبارة الكفاية في هذا المقام لا تخلو من إغلاق وغموض ، وذلك لأجل أمرين :

الأوّل : انّه فصل بين المبتدأ أعني قوله : « وما قيل في التفصي » والخبر أعني قوله : « غير سديد » بفاصل طويل يبلغ مقدار صفحة ، ومثل هذا يخل بالبلاغة.

الثاني : انّه أقحم بين الإشكال على الدور والإجابة عنه سؤالاً وجواباً تحت عنوان « إن قلت ، قلت » ، وزاد هذا تعقيداً على تعقيد.

وذكر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ انّ السؤال قد طرحه تلميذه الشيخ عبد اللّه الكلبايكاني في درسه الشريف ، وأجاب عنه بما في الكفاية ، فمدّ اللّه عمر شيخنا الأُستاذ فقد أوضح ما في الكفاية بما لا مزيد عليه كما ترى.

٢٣

الآخر ، ولكنّه أيضاً موقوف على وجود الضدّ الآخر شأناً ، بحيث لو وجد المقتضي للإيجاد يكون عدمه مستنداً إلى وجود الضدّ وهو أيضاً محال ، ضرورة استلزامه كون شيء مع كونه في مرتبة متقدمة فعلاً ، في مرتبة متأخرة شأناً.

تحليل المقدّمة الثانية من الاستدلال

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاص استدلّ بدليل ذات مقدّمات ثلاث :

الأُولى : انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، وهذا هو الذي تقدّم الحديث عنه.

الثانية : انّ مقدّمة الواجب واجب ، وقد مرّ الكلام فيه.

الثالثة : إذا كان ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم المقدّمة الأُولى ، وكان ترك الصلاة واجباً بحكم المقدّمة الثانية ، تصل النوبة إلى المقدّمة الثالثة وهي انّ الأمر بالشيء ـ وهو في المقام أمر مقدّمي ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ـ يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيضه وهو هنا الصلاة ، فتكون الصلاة منهياً عنها.

وببركة هذه المقدّمات الثلاث يثبت انّ المولى إذا أمر بالإزالة فلا محيص له عن النهي عن الصلاة بحكم هذه المقدّمات.

أقول : إنّ المقدّمتين التاليتين كالمقدّمة الأُولى باطلتان.

أمّا الثانية فقد قلنا : إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة مطلقاً من غير فرق بين المقام وغيره ، لأنّ الهدف من إيجاب المقدّمة هو إيجاد البعث والداعي في ذهن المخاطب ؛ وعندئذ فلو كان المخاطب قاصداً للإتيان بذيها ، فهو يأتي بالمقدّمة

٢٤

بحكم العقل من دون حاجة إلى إيجابها ؛ وإن كان صارفاً عن إتيانه ، فلا يبعثه الأمر بالمقدّمة إلى امتثال ذيها لعدم ترتّب العقاب على تركها.

ومنه يظهر بطلان المقدّمة الثالثة وهو انّه إذا أمر المولى بترك الصلاة بحكم انّه مقدّمة فعليه أن ينهى عن ضدّه العام ـ أعني : ترك ترك الصلاة الذي هو مساو للصلاة ـ فانّ هذا النهي مثل الأمر بالمقدّمة إمّا لغو وإمّا غير باعث ، لأنّه لو كان ناوياً للإزالة فلا حاجة للنهي عن الصلاة ، وإن كان صارفاً عنها فلا يكون النهي عن الصلاة داعياً له إلى امتثال الإزالة.

وبذلك تمّ الكلام في المسلك الأوّل الذي أسميناه بمسلك المقدّميّة حيث إنّ المستدلّ يتطرق إلى مقصود عن هذا الطريق ، وبدوري أرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء من الإطناب في هذا البحث ، فانّ طبيعة البحث ألجأتني إليه.

٢٥

المسلك الثاني : مسلك الملازمة

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام استدلّ بوجهين :

أحدهما : مسلك المقدمية وقد مضى الكلام فيه.

الثاني : مسلك الملازمة والاستدلال عن هذا الطريق مبني على أُمور ثلاثة :

أ : انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضدّه العام وهو ترك الإزالة.

ب : انّ الاشتغال بكلّ فعل وجودي ( الضدّ الخاص ) كالصلاة والأكل ملازم للضدّ العام ، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج : المتلازمان متساويان في الحكم ، فإذا كان تركُ الإزالة منهياً عنه ـ حسب المقدّمة الأُولى ـ فالضدّ الملازم لها كالصلاة يكون مثلَه. فينتج انّ الأمر بالشيء ـ كالإزالة ـ مستلزم للنهي عن الضدّ الخاص.

يلاحظ على الأمر الأوّل بما مرّ من المنع عن اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه العام ، وانّ مثل هذا النهي المولوي لا يترتّب عليه أي أثر.

كما يلاحظ على الأمر الثاني بأنّه لا دليل على تساوي المتلازمين في الحكم ، إذ يمكن أن يكون الملاك موجوداً في أحدهما دون الآخر. بأن يكون ترك الإزالة حراماً ولا يكون ملازمة الصلاة حراماً لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

نعم يجب أن لا يكون المساوي محكوماً بحكم مضاد لحكم المساوي ، فإذا

٢٦

وجب الاستقبال إلى الكعبة لا يجوز أن يحرم الاستدبار إلى الجدي. نعم لا يجب أن يكون الاستدبار واجباً.

قد فرغنا عن الدليلين اللذين أُقيما على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص ، ولما كانت المقدّمة الأُولى للدليل الأوّل ، هو مقدمية ترك الضدّ ، لفعل الضدّ الآخر ، وقد عرفت بطلانه وكان للمحقّق الخوانساري تفصيلاً في المقام ، أحببت التعرّض له فأقول :

عود إلى مسلك المقدمية ثانياً

ذهب المحقّق الخوانساري إلى التفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، فذهب إلى توقّف الضدّ على ارتفاع الضد الموجود ولا يمكن ، فلو كان المحل أسود توقف عروض : البياض على ارتفاع السواد دونما إذا لم يكن أسود.

وأيّده المحقّق النائيني بقوله : إنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين ، فلا يكون قابلاً لعروض الضدّ الآخر إلا بعد انعدامه ، ويكون وجوده موقوفاً على عدم الضدّ الموجود ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن شيء منهما موجوداً وكان المحل خالياً عن كلّ منهما ، فانّ قابليته لعروض كلّ منهما فعلية ، فإذا وجد المقتضي لأحدهما ، فلامحالة يكون موجوداً من دون أن يكون لعدم الآخر دخل في وجوده. (١)

يلاحظ على أصل الاستدلال بأنّ العدم أنزل من أن يكون موقوفاً عليه أو موقوفاً وحقيقة الأمر انّه يرجع إلى التزاحم بين الوجودين ، فعبّروا عن رفع التزاحم بأنّ ورود أحدهما يتوقّف على عدم الآخر ، ففيما كانت الفاكهة على الشجر سوداء ،

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٢٥٩.

٢٧

وإن كان يمتنع عروض البياض عليها ، لكن لا لأجل كون عدم السواد مقدمة لعروض البياض ، بل لأجل التزاحم بين الوجودين فعبروا عن التزاحم بكون عدم السواد مقدمة لعروض البياض.

ويلاحظ على التأييد بأنّه أيضاً كأصل الاستدلال ، إذ لا نقص في قابلية الجسم ، بل هي كاملة سواء أكان الضدّ موجوداً أم لا ، وانّ عروض الضدّ لا يبطل القابلية للجسم ، وعدم قبوله لا للنقص في القابلية بل لأجل وجود التمانع بين الوجودين.

بحث استطرادي : إنكار المباح أو شبهة الكعبي

نقل الأُصوليون عن عبد اللّه بن أحمد الكعبي انتفاء المباح وانّ الأحكام تنحصر في الواجب والحرام قائلاً بأنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل واحد من أفراد المباح فيجب بوجوبه بحكم كونه مقدّمة.

وما ذكره من الاستدلال مبنيّ على أُمور ثلاثة :

الأوّل : انّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العام ، فلو كان فعل الشيء حراماً كالكذب كان تركه واجباً ، وهذا نظير ما لو كان فعله واجباً ـ كالإزالة ـ كان تركه حراماً.

وبالجملة كما يتولد من الأمر بالشيء ، النهي عن الضدّ العام ، فهكذا يتولّد من النهي عنه ، الأمر بالضد العام.

الثاني : انّ الترك الواجب ( ترك الكذب ) يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية لاستحالة خلو المكلّف عن فعل من الأفعال الاختيارية.

الثالث : انّ مقدمة الواجب وهي الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الترك

٢٨

الواجب واجبة فينتفي المباح.

يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّه لا دليل إذا كان فعل الشيء حراماً أن يكون تركه واجباً لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام ، إذ هو لا يترتّب عليه أيّ أثر.

ويلاحظ على الأمر الثاني : أنّ الترك الواجب ( ترك الحرام ) لا يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية كالمباح ، وذلك لأنّ ترك الحرام مستند إمّا إلى فقد المقتضي الذي يعبر عنه بالصارف ، أو وجود المقتضي للضد الآخر. مثلاً : انّ ترك الكذب إمّا لأجل الصارف عنه خوفاً من اللّه سبحانه ، أو إلى وجود المقتضي للأضداد الأُخر كالأكل والشرب.

وعلى كلّ تقدير فالمقدّمة لترك الحرام ( أو للترك الواجب ) أحد الأمرين :

١. الصارف عن الحرام.

٢. وجود المقتضي لارتكاب الأكل والشرب وبالتالي لا يكون المباح مقدّمة.

٢٩

المحور الثالث

في الثمرة الفقهية

قد عرفت أنّ الكلام في هذا الفصل يدور على محاور ثلاثة ، وقد مضى الحديث عن المحورين الأوّلين فلا نعود إليهما ، ولنركِّز على المحور الثالث وهو ثمرة البحث ، فنقول :

إنّ ثمرة البحث هي بطلان الصلاة وصحّتها على القول بالاقتضاء وعدمه ، فلو كان الأمر بالمضيَّق كالإزالة مقتضياً للنهي عن الموسَّع كالصلاة ، فالصلاة تكون محكومة بالبطلان ، ولو نُفِي الاقتضاء فلا تكون منهياً عنها وتكون صحيحة طبعاً.

نعم مجرّد ثبوت تعلّق النهي بالصلاة لا يكفي في استنتاج المسألة الفقهية بل يجب أن تُضم إليها مسألة أُصولية أُخرى ، وهي انّ النهي في العبادات موجب للفساد.

وعلى ضوء ذلك فاستنتاج البطلان موقوف على مقدّمتين : صغرى وكبرى.

فالصغرى أي تعلّق النهي يثبت في المقام.

وأمّا الكبرى فترجع إلى المقصد الثاني وهو انّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.

وبذلك يعلم أنّ المسألة الأُصولية تارة تكون علّة تامّة لاستنتاج المسألة

٣٠

الفقهية كما هو الحال في حجّية خبر الواحد ، وأُخرى تكون جزء العلّة كما في المقام حيث إنّ الصغرى على ذمّة هذا البحث والكبرى على ذمّة المقصد الثاني ، فبضم الأمرين يُستنتج الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ جماعة أنكروا الثمرة لوجهين :

الأوّل : انّ النهي ـ على فرض ثبوته ـ نهي غيري ، وهو لا يكشف عن وجوب المفسدة في المتعلّق فلا يكون ملازماً للفساد ، وإنّما يدلّ النهي على الفساد إذا كان كاشفاً عن وجود المفسدة في المتعلّق على نحو يكون مبغوضاً للمولى وهو من خصائص النهي النفسي لا الغيري كما في المقام. (١)

هذا من غير فرق بين كون النهي مستفاداً من مسلك المقدمية أو مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو واضح ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة فيكون واجباً ويتعلّق به الأمر ، لكن الأمر بترك الإزالة أمر مقدّمي يتولّد منه نهي غيري آخر ، وهو النهي عن الصلاة بذريعة انّ الأمر بالشيء ( ترك الصلاة ) يقتضي النهي عن ضدّه العام أي النقيض وهو الصلاة.

وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ استنباط النهي متوقّف على أنّ الأمر بالإزالة مقتض للنهي عن الضد العام ، أعني : ترك الإزالة ، وهذا النهي غيري يتولّد منه نهي آخر عن الصلاة لكونها ملازمة لترك الإزالة ، والمتلازمان متحدان حكماً.

ولعلّنا نرجع إلى الإجابة عن هذا الإشكال.

الثاني : ما ذكره بهاء الدين العاملي من أنّ التكليف لإثبات النهي عن

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٠٠.

٣١

الصلاة أمر لا طائل تحته ، إذ لا نحتاج في الحكم بفساد الصلاة إلى النهي ، بل يكفي عدم الأمر بالصلاة ، وهو أمر متفق عليه لظهور سقوط الأمر بالصلاة بعد الأمر بالإزالة ، فكون الصلاة غير مأمور بها يكفي في فسادها.

ثمّ إنّ القوم حاولوا الإجابة عن هذا الإشكال بوجوه ثلاث :

الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة ولا يلزم قصد الأمر ، وهذا ما أجاب به المحقّق الخراساني.

الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان الفرد المزاحَم فاقداً للأمر ، وهو المستفاد من كلمات المحقّق الثاني.

الثالث : تصحيح الأمر بالصلاة عن طريق الترتب.

وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر :

الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الصحّة ليست رهن تعلّق الأمر بالعبادة فقط ، بل الصحّة أعمّ من الأمر ، ويكفي فيها أيضاً وجود الملاك والرجحان الذاتي في العبادة ، إذ الفرد المزاحم من العبادة وغير المزاحم سيّان في الملاك والمحبوبية الذاتية ، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره وأمّا سقوط ملاكه ورجحانه الذاتي وكونه معراج المؤمن وقربان كلّ تقي فهو بعد باق عليه.

فإن قلت : إنّ العلم بوجود الملاك فرع تعلّق الأمر بالصلاة والمفروض سقوطه ، ومعه كيف يعلم الملاك وانّها صالحة للتقرب. وبعبارة أُخرى كما أنّ النهي يكشف عن عدم الملاك ، فكذلك الأمر يكشف عن وجوده ، ومع فقد الأمر فمن أين نستكشف وجود الملاك؟

٣٢

قلت : إنّ المقام من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين ، والملاك في كلّ من المتزاحمين موجود على نحو لولا التزاحم لكان الفرد الموسَّع مأموراً به ، وهذا معنى اشتماله على الملاك وإن لم يكن مأموراً به بالفعل ، حتّى أنّ المحقّق النائيني جعل قصد الملاك أقوى في حصول التقرب من قصد الأمر ، فقال : لم يدل دليل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة ، وأمّا تطبيقه على قصد الأمر فإنّما هو بحكم العقل ، وقصد الملاك لو لم يكن أقوى في حصول التقرب بنظر العقل من قصد الأمر فلا أقلّ من كونه مثله. (١)

الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة

وهذا الجواب مستنبط من كلام المحقّق الكركي وإن لم يكن هو بصدد الإجابة على إشكال بهاء الدين العاملي لتقدّم عصره عليه.

وحاصل ما يستنبط من كلامه انّ البحث عديم الثمرة في المضيقين دون المضيّق والموسّع.

أمّا الأوّل كإنقاذ الغريقين اللذين أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّ الأمر بالأهم يوجب سقوط الأمر بالمهم مطلقاً عن الفرد والطبيعة ، إذ ليس لها إلا فرد واحد مزاحم بالأهم.

وأمّا الثاني فتظهر فيه الثمرة ، فأمّا إذا بنينا على عدم تعلّق النهي بالضد كما هو مفروض الإشكال فغايته انّه يوجب سقوط الأمر بالطبيعة المتحقّقة في الفرد المزاحم لعدم القدرة على الإتيان به شرعاً ، وهـو في حكم عـدم القـدرة عقلاً ، لا سقوط الأمر عن الطبيعة بوجودها السعيّ ، بل الأمر بها باق لعدم اختصاص

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٢٦٥ ؛ المحاضرات : ٣ / ٧١ ـ ٧٣.

٣٣

تحقّق الطبيعة بالفرد المزاحم.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الفرد المزاحم وإن لم يكن من مصاديق الطبيعة المأمور بها ولكنّه من مصاديق مطلق الطبيعة ، وملاك الامتثال إنّما هو انطباق عنوان الطبيعة على الفرد الخارجي لا كون الفرد الخارجي بشخصه مأموراً به ، فهو مصداق الطبيعة وإن لم يكن مصداق الطبيعة المأمور بها.

وبعبارة أُخرى : انّ الثابت هو سقوط الأمر عن هذا الفرد فواضح ، لا سقوطه عن الطبيعة ، وذلك لأنّ الواجب الموسّع له أفراد غير مزاحمة وإنّما المزاحمة بين المضيق والفرد المزاحم من الموسع ، فيأتي الفرد بنية الأمر بالطبيعة باعتبار انّ لها مصاديق غير مزاحمة.

هذا هوالمستفاد من كلام المحقّق الكركي في « جامع المقاصد » في كتاب الدين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام :

١. أن يكون وجوبها إنشائياً مادام الأهم غير مأتي به.

٢. أن يكون وجوبها فعلياً والواجب استقبالياً ، والمراد من الاستقبالي تعيّن الإتيان بالمهم بعد الإتيان بالأهم.

٣. أن يكون الوجوب والواجب فعليّين.

__________________

١. قال فيه : لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاً من الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فإنّ قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. ( جامع المقاصد : ٥ / ١٢ ). ولم نجد فيه عبارة تصلح سنداً لما ذكره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في المتن ، وهو أعرف بمواقع كلمات الفقهاء.

٣٤

لكن الأمر الإنشائي لا يمكن التقرّب به ، لأنّ المفروض عدم بلوغ إرادة المولى حدّ الطلب الجدّي.

وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم ، لأنّ المفروض انّ الطبيعة مقيدة بالزمان المتأخّر عن الإتيان بالأهم.

وأمّا الثالث وهو يستلزم أن يكون كلّ من الوجوب والواجب فعليين ، فهو يستلزم الأمر بالضدين.

فالإتيان بالمهم في الأمر المتعلّق بالطبيعة لا ينجع ، لأنّه بين كون الأمر إنشائياً أو الواجب استقبالياً وبين استلزامه طلب الضدين.

أضف إلى ذلك هو انّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود أو نفس الطبيعة باعثاً وداعياً بالنسبة إلى هذا الفرد أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم التكليف بالضدّين ، وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بنية الأمر المتعلّق بالطبيعة لافتراض عدم باعثيته له.

هذا فإذا كان الجواب الأوّل ـ أي إتيان الصلاة بملاكها أو إتيانها بلحاظ الأمر المتعلّق بالطبيعة ـ ناجعاً في إضفاء الصحة على الصلاة فهو ، وإلا فلابدّ من سلوك طريق آخر ، وهو تصوير تعلّق الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان أمر الأهم وهذا هو البحث المعروف بالترتب ، لترتب الأمر المتعلق بالمهم على عصيان الأمر الأهم.

٣٥

الأمر بالضدين على نحو الترتّب

إنّ الترتّب من المسائل الشائكة التي تضاربت فيه الأقوال والآراء ، وبما انّها من أُمّهات المسائل الأُصولية التي يستنبط بها مسائل مختلفة كما سنشير إليها ، نقدم أُمّوراً قبل الخوض في صلب الموضوع.

الأوّل : الفرق بين التعارض والتزاحم

يستعمل لفظ التزاحم في هذا الباب ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، فلابدّ من توضيح المراد في المقام فقط ، فنقول :

لا شكّ انّ التعارض والتزاحم يجمعهما وجود التنافي بين الدليلين وإنّما الاختلاف في مصبِّه ، فنقول :

إنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الجعل والإنشاء بأن يستحيل من المقنن الحكيم ، صدور حكمين أو جعلين حقيقيين لغاية الامتثال فهو التعارض ويعرف بالتنافي بين مدلولي الدليلين في مقام الجعل والإنشاء.

مثلاً يستحيل على الحكيم أن يحرّم بيع العذرة وفي الوقت نفسه أن يبيحها فيقول : ثمن العذرة سحت ثمّ يقول : ولا بأس ببيع العذرة ، إذ لا تنقدح الإرادتان المتضادتان في نفس المقنن على وجه الجد ، فيُعلم كذب أحد الدليلين وعدم صدور واحد منهما في مقام التشريع.

ثمّ إنّ التكاذب بين الدليلين تارة يكون بالذات كما في المثال المذكور ،

٣٦

وأُخرى بالعرض ، كما إذا ورد الدليل على وجوب صلاة الظهر وصلاة الجمعة في يومها ، فانّ الدليلين خاليان من التنافي في مقام الجعل ، إذ لا مانع من إيجاب صلاتين في وقت واحد يسع كلاً منهما لكن بعد ما علمنا أنّ الشارع لم يكتب يوم الجمعة على المكلّف إلا فريضة واحدة ، عرضهما التكاذب بالعرض.

نعم لا يشترط في التعارض التنافي في مقام الامتثال ، بل يمكن أن يكون المتعارضان ممكني الامتثال ، كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الشيء والآخر على استحبابه أو إباحته ؛ كما يمكن أن يكون ممتنعي الامتثال ، كما إذا دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة والجامع بين عامة الأقسام وجود التكاذب في مقام الجعل والإنشاء.

وأمّا التزاحم فهو عبارة عن وجود التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال بمعنى عدم المنافاة في مقام الجعل والتشريع ، بل الحكمان في ذلك المقام متلائمان غير أنّ عجز المكلّف وقصور قدرته صار سبباً لحدوث التنافي بين الدليلين ، كما في قولك « انقذ أخاك » و « انقذ عمّك » فجعل الحكمين والأمر بإنقاذ كلا الشخصين ليس فيه أي تناف في مقام الإنشاء ، ولذلك لو ابتلى المكلّف بهما متعاقباً لا مجتمعاً تمكّن من الامتثال ، وإنّما التنافي في مقام الامتثال عندما ابتلي بهما جمعاً.

ومثله المقام فإذا قال المولى أزل النجاسة عن المسجد وقال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ ) (١) فليس هناك أيّ تناف بين الدليلين لا في مقام الجعل كما هو واضح لاختلاف الموضوعين ، بل ولا في مقام الامتثال ، كما إذا ابتلى بأحدهما بعد الآخر ، وإنّما التنافي فيما إذا ابتلى بهما معاً حيث يعجز عن القيام بالأمرين معاً.

__________________

١. الإسراء : ٧٨.

٣٧

وهذا هو المسمّى بالتزاحم بمعنى انّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن الصرف في الآخر.

ثمّ اعلم أنّ تفسير التعارض والتزاحم على هذا النحو هو خيرة المحقّق النائيني وتلاميذ مدرسته ، وقد خالف في تفسيره المحقّق الخراساني وسيوافيك تفسيره في باب اجتماع الأمر والنهي عند الكلام في الأمر الثامن والتاسع من مقدّمات البحث.

الثاني : مرجحات التعارض غير مرجحات التزاحم

إذا كان التعارض يختلف بجوهره عن التزاحم فمرجّحات الأوّل غير مرجّحات الثاني ، أمّا الأوّل فبما انّ التعارض هناك يرجع إلى مقام الجعل والتشريع فتمييز الصادق عن الكاذب رهن المرجحات التي يذكرها الشارع لتلك الغاية وليس للعقل إليها سبيل ، وستوافيك تلك المرجحات في المقصد الثامن عند البحث عن التعادل والترجيح ، وأمّا مرجحات باب التزاحم فبما انّ التنافي خارج عن مصب التشريع ولا صلة له بالشارع وإنّما يرجع إلى قصور قدرة المكلّف عن الامتثال ، فللعقل سبيل إلى تعيين المرجّحات وهو تقديم الأهم بالذات أو بالعرض على غيره.

وعناوين تلك المرجّحات عبارة عن الأُمور التالية :

١. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

٢. تقديم المضيق على الموسع.

٣. تقديم الأهم بالذات على المهم.

٤. سبق أحد الحكمين زماناً.

٣٨

٥. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

وبما انّا قد استوفينا الكلام فيها ـ تبعاً لشيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في باب التعادل والتراجيح نطوي الكلام فيها وإن شئت فراجع « إرشاد العقول ». (١)

الثالث : في تعريف الترتّب

إنّ الترتّب عبارة عن تعلّق أمر فعلي بواجب أهم على وجه الإطلاق بلا تقييد بشيء وتعلّق أمر فعلي آخر بضدّه المهم مشروطاً بعصيان ذلك الأمر المتعلّق بالأهم على نحو الشرط المتأخر أو بالعزم على عصيانه ، وتظهر حقيقة الترتّب في المثالين الأخيرين.

أ. إذا كان الواجبان مضيّقين ، كما إذا قال المولى : انقذ ولدي فإن عصيت فأنقذ الأجنبي.

ب. إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً كما إذا قال : أزل النجاسة فإن عصيت فصلِّ.

فعلى كلا التقديرين يكون أحـد الأمرين مطلقاً والآخر مشروطاً بالعصيان.

الرابع : صحّة الترتّب وعدمها عقلي

البحث عن صحّة الترتّب وعدمها بحث عقلي لا دخالة للّفظ فيه وذكره في أبواب مباحث الألفاظ كذكر أحكام الملازمات في باب الأوامر مع أنّ البحث فيها عن الملازمة العقلية.

__________________

١. إرشاد العقول : ٢ / ٣١٠ ـ ٣١٤ ، من المباحث العقلية.

٣٩

الخامس : الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه

إنّ مسألة الترتّب من المسائل التي يكفي في وقوعها إمكانها ، وذلك لأنّه إذا ابتلى المكلّف في أوّل الظهر مثلاً بواجبين أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فيدور الأمر لأجل رفع التنافي بين أحد الأمرين :

أ. إمّا رفع اليد عن نفس الأمر بالمهم مطلقاً والقول بسقوطه كما عليه شيخنا بهاء الدين العاملي حيث زعم انّ الأمر بالإزالة موجب لسقوط الأمر بالصلاة مطلقاً.

ب. رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم بأن يُقيّد بعصيان أمر الأهم ، فلو كان تقييد الأمر بالمهم كافياً لرفع التنافي فلا وجه لرفع اليد عن أصل الأمر ، لأنّ الضروريات تتقدر بقدرها ، فمن صحّح الترتّب أخذ به ، ومن لم يصحّحه رفع اليد عن الأمر بالمهم أساساً.

السادس : الأمر بالمهم فعليّ كالأهم

إنّ واقع الترتّب يقوم على أساس توجه أمرين فعليين إلى المكلّف أحد الأمرين مطلق والآخر مشروط.

وبعبارة أُخرى ففي الوقت الذي يكون الأمر بالمهم ( الصلاة ) فعلياً يكون الأمر بالإزالة أيضاً فعلياً لم يَسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان ، فلأجل تصحيح الجمع بين الأمرين الفعليين يبقى الأمر بالأهم على إطلاقه ، ويُقيّد الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو يكون الأمر معه فعليّاً أيضاً. ولذلك لابدّ من الدقة في الشرط الذي يخرج الأمر بالمهم عن إطلاقه ويصيره مشروطاً مع كونه فعلياً أيضاً.

٤٠