إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

يعلم خلافه؟!

نعم الذي يتصوّر هو البدعة ، وهو القيام العملي بنشر البدع بين الناس والقول بأنّها من الشارع ، وهو غير التشريع.

وأمّا الرابع فهو عدول عن القول بالحرمة الذاتية وتسليم للحرمة التشريعية.

هذا كلّه حول ما ذكره المحقّق الخراساني وما يرد عليه.

والذي نقول به : إنّ النهي في هذه الموارد وما شابهها ليس نهياً ذاتيّاً كالنهي عن الخمر والقمار كما يدّعيه المحقّق الخراساني ، ولا نهياً تشريعيّاً كما كان يدّعيه المستشكل ، بل النهي في هذه الموارد إرشادي إلى فساد العبادة وعدم تحقّقها والذي يدلّ على ذلك هو فهم العرف في امتثال الموارد.

مثلاً إذا كان العنوان موضوعاً لحكم ولم يكن العنوان مطلوباً بالذات وإنّما أمر به لأجل مصالح تترتّب عليه ، غير أنّ المأمور جاهل بتركيب العنوان وأجزائه وشرائطه وموانعه ، فعندئذ كلّما يصدر من الآمر أمر أو نهي فكلّها تحمل على الإرشاد إلى أجزاء الموضوع وشرائطه وموانعه ، فإذا قيل : « دع الصلاة أيّام أقرائك » فهو إرشاد إلى أنّ الحيض مانع عن صحّة الصلاة فلا يحصل ما هو المطلوب.

والحقّ انّ المحقّق الخراساني ومن سار على نهجه أطنبوا الكلام في المقام مع انتفاء الموضوع وهو تعلّق الحرمة الذاتية بالعبادة.

بقي الكلام في القسمين الآخرين ، وإليك الكلام فيهما.

الثاني : النهي المولوي التشريعي

إذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يوجبه الشرع أو حرّم عليها ما لم يُحرّمه

٣٢١

فأتى به أو تركه بنيّة أمره ونهيه ، يكون الفعل والترك حراماً تشريعياً لا ذاتياً ، فالفعل والترك ربّما لايكون واجباً ولا حراماً بالذات ، لكن ادّعاء تعلّق الأمر أو النهي به شرعاً ، يصيِّره حراماً تشريعياً ، ويحكم عليه بالفساد ، سواء أقلنا بأنّ الصحة رهن الأمر ، فالمفروض انّه لا أمر له ـ وإلا لم يكن حراماً تشريعاً ـ أو رهن الملاك والمفروض عدم العلم به ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض عدمه. وعلى ذلك حمل النواهي المتعلّقة بصوم يوم العيدين ، وصلاة الحائض وصومها ، وقد مضى انّ الظاهر انّها من قبيل القسم الثالث الذي سيوافيك. ولعل منه ، النهي عن إقامة صلاة النوافل في ليالي رمضان بالجماعة.

ثمّ أشار في « الكفاية » إلى قسم من النهي وأسماه بالعرضي ، وهو النهي المتولّد من الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضده ( الصلاة ) عرضاً ، فهذا النهي بما انّه عرضي ، لا يوجب الفساد ، إذ ليس هنا إلا واجب واحد ، وهو الإزالة ، ونسبة النهي إلى ضده ، أعني : الصلاة ، نسبة مجازية.

الثالث : النهي الإرشادي

قد عرفت أنّه إذا أمر المولى بعنوان طريق لإحراز المصالح ، فالأوامر والنواهي المبيّنة ، لإجزائه وشرائطه وموانعه ، نواهي إرشادية إلى بيان الأجزاء والشرائط والموانع ، وربما يكون المرشد إليه هو الكراهة كما في النهي عن الصلاة في الحمام ، وفي البيت وهو جار للمسجد ، فانّ المتبادر ـ بعد الإجماع على الصحة ـ هو الإرشاد إلى الكراهة.

وربّما يكون النهي المتعلّق بالعنوان ، إرشاداً إلى كونه فاسداً كما في النهي عن صوم العيدين.

٣٢٢

المقام الثاني

دلالة النهي على الفساد في المعاملات

قد عرفت حكم النهي عن العبادة ولم يذكر له المحقّق الخراساني إلا قسماً واحداً وهو تعلّق النهي المولوي التحريمي بذات العبادة ، وقد أضفنا إليه قسمين آخرين وهو تعلّق النهي التشريعي بالعبادة ، أو النهي الإرشادي إلى الفساد ، وقد أشرنا إلى أنّه ليس للقسم الأوّل مصداق في الفقه ، وانّ دلالة النهي على الفساد في القسمين الأخيرين واضحة.

وأمّا المعاملات فقد ذكر له المحقّق الخراساني أقساماً خمسة أنكر دلالة النهي فيها على الفساد إلا في القسم الرابع والخامس ، وإليك الإشارة إلى أقسامها :

١. إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة بما هو فعل مباشري كالعقد وقت النداء.

٢. إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة بما هو فعل بالتسبيب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر فالمنهي عنه هو مالكيته المتحققة بالبيع.

٣. إذا تعلّق النهي بالتسبيب بها إليه وإن لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وهذا كالتسبب إلى الطلاق بقوله : أنت خليّة ، ومثل المحقّق البروجردي بالظهار ، فانّ التلفّظ بلفظة ( ظهرك كظهر أُمّي ) ليس بحرام ، كما أنّ مفارقة الزوجة مثله ، فالمبغوض هو تحصيل المسبب بذلك السبب.

٤. رابعها أن يتعلّق النهي بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة مثل النهي

٣٢٣

عن أكل الثمن والمثمن في بيع المنابذة ، أو بيع شيء كالخمر.

٥. ما يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد وخص الدلالة على الفساد بالعقود والإيقاعات لا مطلق المعاملات كالنهي عن غسل الثوب النجس بماء مضاف.

وهناك قسم سادس لم يتعرّض له المحقّق الخراساني وهو :

٦. إذا ورد نهي ولم يعلم أنّه من مصاديق أيِّ قسم من الأقسام الخمسة.

وإليك دراسة الكل.

أمّا القسم الأوّل فإنّ تعلّق النهي بالفعل المباشري أي صدور العقد وقت النداء لكونه مانعاً من درك الفريضة لا بمضمونه ، فهو لا يلازم الفساد.

يلاحظ عليه بوجهين :

١. لا معنى لتعلّق النهي بنفس التلفّظ بالعقد مع كونه غير مبغوض ، بل النهي تعلّق في الواقع بالاشتغال بغير ذكر اللّه ، ولما كان البيع من أغلب ما يوجب الاشتغال بغيره ، خصّ بالذكر وقيل ( وَذَرُوا البَيْعَ ).

٢. انّ النهي في المقام لما لم يكن ناشئاً عن مفسدة موجودة في المتعلّق لا في لفظه ولا في معناه ، بل كان لأجل كونه مفوّتاً للمصلحة فيكون النهي في الواقع تأكيداً للأمر بإتيان الواجب لا شيئاً زائداً ، وكان الأمر ( فَاسْعَوا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) في المقام والنهي ( وَذَرُوا البَيْعَ ) وجهين لعُملة واحدة فتارة يعبر عنه بالأمر به وأُخرى بالنهي عمّا يزاحمه.

والأولى أن يمثّل بإجراء العقد مُحْرِماً ، لنفسه أو غيره.

وأمّا القسم الثاني ، أي تعلّق النهي بمضمون المعاملة ( المسبّب ) بما هو فعل تسبيبي لا مباشري. وقد ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني إلى عدم دلالته على الفساد ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه النهي هو كونه مبغوضاً ، وأمّا كونه فاسداً فلا ، بشرط أن لايكون النهي إرشاداً إلى الفساد ، ولم يكن لسانُه لسانَ تقييد العمومات

٣٢٤

والمطلقات.

وذهب المحقّق النائيني إلى دلالته على الفساد بالبيان التالي :

يشترط في صحّة المعاملة أُمور :

١. أن يكون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكم المالك.

٢. أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر لتكون له السلطنة الفعلية على التصرّف فيها.

٣. أن لا يكون لإيجاد المعاملة سبب خاصّ.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تعلّق النهي بالمسبب وبنفس الملكية المنشأة كالنهي عن بيع المصحف ، كان النهي معجزاً مولوياً للمكلّف ورافعاً للسلطنة عليه ، فلا يكون المكلّف مسلّطاً على المعاملة في حكم الشارع ويترتب على ذلك فسادها.

ثمّ إنّه قدس‌سره استشهد على ما رامه بأنّ الفقهاء حكموا بفساد البيع في الموارد التالية لأجل فقدان هذا الشرط أي ما يكون محجوراً عن التصرّف فيها.

١. الإجارة على إنجاز الواجبات المجّانية ، لأنّ العمل لوجوبه عليه ، خارجة عن سلطانه ومملوك للّه.

٢. بيع منذور الصدقة فانّ النذر يجعل المكلّف محجوراً عن التصرّف المنافي.

٣. شرط حجر المشتري عن بيع خاص كما إذا باع الدار ، وشرط على المشتري عدم بيعه من زيد ، فيبطل لو باعه ، لحجر المكلّف حسبَ ما التزم في هذا النوع من التصرّف فيترتّب عليه الفساد. (١)

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٣٢٥

يلاحظ عليه : أنّ الشرط الثاني لصحّة المعاملة عبارة عن عدم كون البائع محجوراً شرعاً كالسفيه ، وعدم كون مورد المعاملة متعلّقاً لحقّ الغير كالعين المرهونة التي تعلّق بها حقّ المرتهن أو ورثة الميّت ، وكأموال المفلّس التي تعلّق بها حقّ الديّان.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ شرط صحّة المعاملة اشتراط كون التصرّف حلالاً وغير حرام ، فلم يقم عليه دليل ، فإذا كان التصرّف مبغوضاً ، لا لأجل تعلّق حق الغير به ، ولا لأجل كون المتصرّف محجوراً ، بل لنهي الشارع عن التصرّف كالنهي عن بيع المصحف فلا دليل على كونه شرطاً في الصحّة ، نعم هو حرام لكن ليس كلّ حرام باطلاً.

ثمّ إنّ الموارد التي استشهد بها على ما ادّعى من الشرط مورد نظر :

أمّا الأوّل ، أعني : فساد الإجارة على الواجبات المجانية ، فإنّما هو لأجل تعلّق غرض الشارع بتحقّقها في الخارج بالمجان لا لكون العمل مملوكاً للّه سبحانه أو كون الأجير محجوراً عن التصرّف ، وذلك فان أريد من كونه مملوكاً للّه تكويناً فالكون وما فيه حتّى أفعال الإنسان مملوك للّه سبحانه مع أنّه يجوز عقد الإجارة على فعله.

وإن أريد كونه مملوكاً للّه تعالى اعتباراً وبالتقنين والتشريع ، فاللّه سبحانه فوق هذا وفي غنى عن كونه مالكاً قانوناً بعد كونه مالكاً حقيقة.

وأمّا قوله سبحانه : ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمْسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (١) فاللام للاختصاص لا للملكية ، وعلى فرض كونها للملكية بعد كونه سبحانه مالكاً لأجل اقترانه بمالكية الرسول وذي القربى ، فعبّر عن الأوّل بلفظ الأخيرين وهذا

__________________

١. الأنفال : ٤١.

٣٢٦

ما يوصف في علم البديع ، « بالمشاكلة » ، نظير ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرينَ ). (١)

وأمّا الثاني ، أعني : بيع المنذور ، فهو بين صحيح وفاسد فانّ تعلّق النذر بالفعل ، أي الالتزام بأن ينذر للّه سبحانه ، فلو لم يفعل فقد حنث نذره ولكن المنذور باق على ملكه له أن يبيع ويهب ، وهذا ما يعبّر عنه بنذر الفعل. وان تعلّق النذر بالنتيجة أي التزم أن يكون قطيع الغنم صدقة إذا قضيت حاجته ، فبعد القضاء تكون العين خارجة عن ملك الناذر ولا يجوز له البيع لعدم كونه مالكاً وهذا ما يعبّر عنه بنذر النتيجة.

والحاصل : انّه إذا كان النذر نذر فعل فالمعاملة صحيحة وليس عليه إلا كفّارة الحنث ، وإن كان نذر نتيجة فالبيع باطل لعدم كونه مالكاً للعين عند البيع لدخولها في ملك المنذور له.

وأمّا الثالث : أعني إذا شرط في البيع ، عدم بيعها من زيد فالظاهر انّه لو باعه منه صحّ البيع وللبائع الأوّل خيار تخلّف الشرط.

فقد تحصّل من ذلك انّه لم يقم دليل على أنّ جواز التصرّف في المبيع من شروط الصحّة أوّلاً وإنّ ما رتّب عليه من المسائل الثلاث لا تصلح للاستشهاد ـ كما عرفت ـ ثانياً.

إكمال : الاستدلال بصحيحة زرارة

ربّما يستدلّ بصحيحة زرارة على الملازمة الشرعية بين النهي المولوي التحريمي والفساد نظير الملازمة المستفادة من قوله عليه‌السلام : « إذا قصّرتَ أفطرتَ » (٢)

__________________

١. الأنفال : ٣٠.

٢. الوسائل : ٥ ، الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ١٩.

٣٢٧

وإليك الرواية.

عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيّده ، فقال : « ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما » قلت : ـ أصلحك اللّه ـ إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابَهما ، يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا تُحِلُّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّه لم يعص اللّه ، وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز ». (١)

وجه الاستدلال : انّ ظاهر قوله : « إنّه لم يعص اللّه ... » أنّه لو كان هنا عصيان بالنسبة إليه تعالى كان فاسداً والمراد من العصيان هو العصيان التكليفي ، وبما انّه لم يكن هناك عصيان بالنسبة إلى اللّه سبحانه لم يكن فاسداً.

فعلى ظاهر هذا الحديث كلّ ما تعلّق به النهي التحريمي فهو يدلّ على فساد متعلّقه إذا أتى به.

ثمّ إنّ هناك سؤالاً آخر وهو أنّه كيف فرّق الإمام بين عصيان اللّه وعصيان السيد ، وقال : « إنّه لم يعص اللّه وإنّما عصى سيّده » مع أنّ عصيان السيّد يلازم عصيانه سبحانه ، لانّه تعالى أمر العبد بإطاعة مولاه. وعدم التصرّف في شيء إلا بإذنه ، فإذا خالف مولاه وسيده فهو في الحقيقة خالف أمر اللّه تعالى ، فكيف فرَّق بينهما في الحديث؟

أقول : إنّ الجواب عن الاستدلال بالحديث أوّلاً ، والإجابة عن وجه التفريق بين العصيانين ثانياً يظهر بالبيان التالي :

فإنّ الاستدلال بالحديث على أنّ العصيان يلازم الفساد في النهي التحريمي ، مبنيّ على تفسير العصيان في الرواية بالعصيان التكليفي ، أي ما

__________________

١. الوسائل : ١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١.

٣٢٨

يستلزم العقوبةَ والمؤاخذةَ في الآخرة ، وحينئذ يدلّ على أنّ كلّ مخالفة شرعية للحكم التحريمي في مورد المعاملات ، يوجب الفساد ويثبت مقصود المستدل ، كما يوجب طرح السؤال عن التفريق بين العصيانين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العصيان في المقام هو العصيان الوضعي ، أي كون الشيء موافقاً للضوابط أو مخالفاً لها ، فعندئذ يسقط الاستدلال أوّلاً ، ولا يبقى مجال لطرح السؤال ثانياً.

توضيحه : انّ في مورد العصيان احتمالات :

١. أن يكون المراد منه في كلا المقامين ، العصيانَ التكليفي المستتبع للعقاب.

٢. أن يكون المراد منه في كلا الموردين ، العصيانَ الوضعي المستتبع للفساد قطعاً.

٣. أن يكون المراد من العصيان في الأوّل ، العصيان الوضعي ؛ ومن الثاني العصيان التكليفي.

٤. أن يكون عكس الثالث.

وبما انّ التفريق بين العصيانين خلاف الظاهر فيحمل على معنى واحد ، وبذلك يبطل الاحتمالان الأخيران المبنيّان على التفريق بين العصيانين ، ولكن الظاهر من الرواية والرواية التالية هو العصيان الوضعي الذي يراد منه كون الشيء غير موافق للقانون والضابطة الشرعيّة.

والدليل على ذلك أنّ الإمام أبا جعفر عليه‌السلام فسّر العصيان في رواية أُخرى بالنكاح في عدّة وأشباهه الذي يكون نكاحها على خلاف الشريعة وقوانينها ،

٣٢٩

وإليك الرواية :

روى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال : ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ... » فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإن أصل النكاح كان عاصياً ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّما أتى شيئاً حلالاً وليس بعاص للّه وإنّما عصى سيده ولم يعص اللّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدة وأشباهه ». (١)

ترى أنّ الإمام يفسّر العصيان ـ المنفي في المقام ـ بما حرّم اللّه عليه من النكاح في العدة ، فتكون النتيجة أنّ الإمام ينفي العصيان الوضعي في المورد من غير تعرّض للعصيان التكليفي ، ومن المعلوم أنّ العصيان الوضعي يلازم الفساد ، لأنّ كون العمل غير موافق للضابطة عبارة أُخرى عن عدم إمضاء الشارع له ، وهو لا ينفك عن الفساد ، بخلاف العصيان التكليفي الذي نحن بصدد بيان حكمه فلا يلازم الفساد.

وإن شئت قلت : إنّ صحّة نكاح العبد تعتمد على دعامتين :

الأُولى : كون المنكوحة محللة النكاح ولا يكون بينها وبين الزوج ما يحرمه عليه من النسب والرضاع والمصاهرة.

وبعبارة أُخرى : أن لا يكون ممّا حرّم اللّه نكاحه في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ... ). (٢)

والمفروض تحقّق هذا الشرط.

الثانية : صدور العقد من العبد عن رضا المولى ، والمفروض انتفاء هذا

__________________

١. الوسائل : ١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

٢. النساء : ٢٣.

٣٣٠

الشرط ، فنكاح العبد جامع للشرط الأوّل دون الشرط الثاني ، فإذا حاز الشرطَ الثاني يكتمل الموضوع ويصحّ.

وبعبارة ثالثة : انّ نكاح العبد عقد فضولي صدر من أهله ووضع في محله ، ولكنّه يفقد شرطاً من شروط الصحّة الوضعية ، فإذا حاز شرطها يحكم عليه بالصحة.

وبذلك تحيط بالاجابة عن كلا الأمرين :

أمّا الاستدلال فقد عرفت أنّه مبنيّ على تفسير العصيان بالحرمة التكليفية التي هي محلّ البحث والنقاش ، ولكن المراد من العصيان هو الوضعية ، فالعصيان الوضعي يلازم الفساد ، لا العصيان التكليفي الذي هو المدّعى.

وأمّا الثاني فانّ الملازمة بين عصيان السيّد وعصيانه سبحانه إنّما هو في مرحلة الحرمة التكليفية ، والمفروض أنّها غير مطروحة.

وأمّا الحرمة الوضعية أي كون العقد مشروطاً برضا المولى فهو من خصائصه حيث أعطى له سبحانه تلك الخصيصة فله أن يجيز وله أن لا يجيز.

وما ذكرنا من الجواب هو أوضح ما يمكن أن يقال :

وربّما يظهر من تقريرات سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ارتضاؤه لهذا الجواب. (١)

تذنيب : في ملازمة النهي للصحّة

قد عرفت أنّ الأُصوليين ركّزوا على البحث في دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته ، ولكن أبا حنيفة وتلميذيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ،

__________________

١. لاحظ لمحات الأُصول : ٢٥٩.

٣٣١

وحُكي عن فخر المحقّقين أيضاً انّ النهي يدل على الصحّة مكان دلالته على الفساد ، وهذا من غريب الدعاوي حيث يجتني الصحة من النهي مكان اجتناء المشهور الفساد منه.

ثمّ إنّ ما ذكره أبو حنيفة وتلميذاه من البيان غير موجود بأيدينا ولكن المحقّق القمي نقل في المقام بيانين ... نذكر كلّ واحد على وجه الإيجاز.

الأوّل : المنهي عنه هو الصوم الشرعي لا اللغوي

ليس المراد دلالة النهي على الصحـة بالدلالـة المطابقيـة أو التضمنيـة ، إذ ليست الصحة نفس مفاد النهي لا عينـاً ولا جزءاً ، بل المراد انّـه يستلزم الصحـة ، فقول الشارع « لا تصم يوم النحر » وللحائض « لا تصل » يتضمن إطلاق الصوم على صومها والصلاة على صلاتها ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فلو لم يكن مورد النهي صحيحاً لم يصدق تعلّق النهي على أمر شرعي فيكون المنهي عنه مثل الإمساك والدعاء ونحو ذلك وهو باطل إذ نحن نجزم بأنّ المنهي عنه أمر شرعي. (١)

وحاصل هذا الاستدلال : انّ المنهي عنه إمّا الصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي أو بمفهومهما اللغوي ، والثاني غير منهيّ عنه ، والأوّل يلازم الصحة ، فإذا تعلّق النهي بالصوم الشرعي فقد تعلّق بالصوم الصحيح ، لأنّ كلّ صوم شرعي صحيح ، وهذا ما قلنا من أنّ النهي يدلّ على الصحة.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر غير دائر بين شيئين ، بل هناك أمر ثالث يعد قسماً من الشرعي ، وهو انّ الأمر تعلّق بالصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي ، لكنّه أعمّ من الصحة والفساد ، فالصلاة غير الصحيحة والصوم الفاسد كلاهما من العبادات

__________________

١. القوانين : ١ / ١٦٣.

٣٣٢

الشرعية الفاسدة ، فلو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ فهو واضح ، لأنّ الفاسد أيضاً أمر شرعي فاسد ، وأمّا لو قلنا بكونها موضوعة لخصوص الصحيح ، فاستعمال هذه الألفاظ في القسم الفاسد يكون مجازاً ولا مانع منه بعد قيام القرينة على الفساد.

الثاني : الحرمة الذاتية لاتتعلّق بالفاسد

هذا هو البيان الثاني لإثبات أنّ النهي يلازم الصحّة يقول : إنّ النهي عن شيء كالأمر إنّما يصحّ بعد كون المتعلّق مقدوراً ، ومن المعلوم أنّ النهي لا يتعلّق بالعبادة الفاسدة ، إذ لا حرمة لها فلابدّ أن يكون متعلّق النهي هو الصحيح ولو بعد النهي فلو اقتضى النهي الفساد يلزم أن يتعلّق النهي بشيء غير مقدور.

وبعبارة أُخرى لو كان النهي سبباً للفساد لزم أن يكون النهي سالباً للقدرة ، والتكليف الذي يجعل المكلّف عاجزاً عن الارتكاب يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الاستدلال في مجال العبادات أوّلاً والمعاملات ثانياً ، أمّا في الأوّل فقد أجاب عنه بالبيان التالي :

« أمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى فمع النهي عنه يكون مقدوراً ، كما إذا كان مأموراً به وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به ، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد وهو محال ، وقد عرفت أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة بمعنى انّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة ». (١)

__________________

١. الكفاية : ١ / ٣٠٠.

٣٣٣

وحاصل بيانه : انّ العبادة على قسمين امّا الذاتي فلا تتغيّر ولا تتبدّل أوصافها فهي عبادة بالذات قبل النهي وبعد النهي ولا يؤثر النهي في حالها.

وأمّا العبادات المجعولة التي قوام عباديتها بتعلّق الأمر بها ، فهي تنقسم إلى عبادة فعلية وعبادة شأنية أو بالتالي إلى صحيحة فعلية وصحيحة شأنية.

والمراد من الأُولى ما يكون متعلّقاً للأمر بالفعل.

كما أنّ المراد من الثانية ما لو تعلّق به الأمر لكان أمره عبادية ولما سقط إلا بالقصد ، فالقسم الأوّل لا يقع متعلّقاً للنهي ، لأنّ العبادة والصحّة الفعلية والصحّة عبارة عمّا تعلّق به الأمر ، وما هو كذلك يمتنع أن يقع متعلّقاً للنهي والمفروض انّه تعلّق به النهي.

والقسم الثاني ، أي العبادة الشأنية يقع متعلّقاً للنهي ويكشف عن صحّة المتعلّق لكن صحّة شأنية ، وهو غير مطلوب المستدلّ فانّه يريد أن يستدلّ بتعلّق النهي على الصحّة الفعلية دون الشأنية ، ولكن النهي لا يكشف إلا عن الصحّة الشأنية ، أي ما لو تعلّق به الأمر يكون أمره عبادياً وفعله صحيحاً.

فما هو المطلوب أي الصحّة الفعلية لا يعطيه النهي وما يعطيه النهي ، أي العبادة الشأنية ليس هو المطلوب.

إجابة المحقّق الخراساني في مورد المعاملات

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال في مجال المعاملة بالنحو التالي قال : والتحقيق في المعاملات انّه كذلك إذا كان في السبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت

٣٣٤

المعاملة مؤثرة صحيحة ، وأمّا إذا كان عن السبب فلا لكونه مقدوراً وإن لم يكن صحيحاً. (١)

وحاصله انّ النهي عن السبب لا يكشف عن الصحّة ، لأنّ حرمة السبب عبارة عن حرمة التلفّظ به في حال النداء والإحرام ، وهو مقدور مطلقاً قبل النهي وبعده ، نعم يكشف النهي عن الصحّة فيما إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة ، أي تملّك الكافر المصحفَ والعبدَ أو تعلّق النهي بالتسبب ، فانّ النهي كاشف عن كون المعاملة المنهية مؤثرة في حصول السبب وهو آية الصحة.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين العبادات والمعاملات فانّ الأُولى مخترعات شرعية بخلاف الثانية فانّها مخترعات عقلائية ، وقد تحقّق الاختراع والتسمية بالبيع والإجارة وغيرها قبل بزوغ شمس الرسالة ولم يتصرف الشارع فيها إلا بإضافة شرط أو جزء أو بيان مانع ، فعلى ذلك فأسماء المعاملات اسم للصحيح عند العرف والعقلاء ونهي الشارع دليل على أنّ المعاملة مؤثرة في حصول هذا النوع من الصحّة ، أي الصحّة العرفية ، ومن المعلوم أنّ الصحة العرفية لا تثبت مطلوب المستدل فانّه يريد أن يستدل بالنهي على الصحة الشرعية لا العرفية وبينها من النسب عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، فكلّ صحيح عند الشرع صحيح عند العقلاء دون العكس ، فالبيع الربوي صحيح عند العقلاء وليس كذلك عند الشرع.

وبعبارة أُخرى فأقصى ما يدل عليه النهي تأثير المعاملة في الصحة العرفية ، وهي ليست بمطلوبة ، وإنّما المطلوب دلالة النهي على الصحّة الشرعية.

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٣٣٥

فروع فقهية

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في تقريراته إلى بعض المسائل التي لها صلة بالموضوع ونحن نقتفيه :

١. إذا تعلّق النهي بالإيجاب دون القبول فهل تسري الحرمة إلى القبول أو لا؟ كما إذا كان الموجب محرماً دون القابل؟ الظاهر ، لا لعدم الملاك إلا إذا لوحظت المسألة من باب الإعانة على الإثم ، وهو خارج عن محط البحث ، قال في « الجواهر » : ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر ، فخصّوا المنع بمن خوطب بالسعي وحكموا بجواز البيع من طرف الآخر ، نعم رجّح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة بالإثم. (١)

٢. إذا كانت المعاملة باطلة من جانب واحد كما إذا كانت غررية من جانب الموجب دون القابل ، فهل يسري الحكم الوضعي إلى الطرف الآخر ، أو لا؟ الظاهر نعم ، لأنّ مفاد المعاملة أمر بسيط لا يقبل التبعض ، فالملكية المنشأة إمّا موجودة أو لا. فعلى الأوّل يلزم صحة المعاملة في كلا الجانبين ، وهو خلاف الفرض ، والثاني هو المطلوب.

٣. لو كان لنفس الإيجاب أثر مستقل وإن لم ينضم إليه القبول لترتب عليه ، كما إذا كان الموجب أصلياً دون القابل ، فما لم يردّ القابلُ الحقيقي لما كان له حق التصرف في المبيع ، لأنّه أثر للايجاب الكامل ، وهو محقّق وليس أثراً لمالكيّة القابل حتّى يقال بأنّها غير متحقّقة بعده. (٢)

__________________

١. الجواهر : ٢٩ / ٢٤١.

٢. مطارح الأنظار : ١٧١.

٣٣٦

ثمّ إنّ الثمرات الفقهية لمسألة النهي عن العبادات والمعاملات متوفرة في الفقه ، وقد ذكر شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ قسماً منها في الدورة السابقة ولم يتعرض لها في هذه الدورة ( الرابعة ) وأحال إلى كتاب المحصول الذي هو تقرير لدروس الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة الثالثة من دورات أُصوله بقلم زميلنا السيّد محمود الجلالي المازندراني ـ حفظه اللّه ـ فمن حاول الاطلاع فليرجع إليه.

٣٣٧
٣٣٨

المقصد الثالث

المفاهيم

١. مفهوم الشرط

٢. مفهوم الوصف

٣. مفهوم الغاية

٤. مفهوم الحصر

٥. مفهوم اللّقب

٦. مفهوم العدد

٣٣٩
٣٤٠