إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

قلت : كيف لا منافاة بينهما ، مع أنّ المأمور به ، قسم من المنهي عنه ، وشمول إطلاق المنهيّ عنه لخصوص الخروج بعد الدخول ، ينافي كونه واجباً بالخصوص.

هذا توضيح مقالة المحقّق الخراساني ، حول نقد القول الثالث لصاحب الفصول.

أقول : ما أفاده من أنّه لا دليل على وجوب الخروج حق لا غبار عليه ، إنّما الكلام فيما ذكره من امتناع كون الخروج محرّماً بالنهي السابق الساقط وواجباً بعد الدخول لاستلزامه طلب المحال. ذلك لأنّه إنّما يلزم طلب المحال لو كان النهي باقياً في ظرف امتثال الأمر بالخروج ، وأمّا إذا كان ساقطاً في نفس ذلك الظرف فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وما ذكره من أنّ الميزان في الصحة والامتناع اختلاف زمان الفعل والامتثال ووحدتهما وإن كان صحيحاً ، لكن وحدة المتعلّق إنّما تكون سبباً للامتناع إذا كان كلا الحكمين باقياً إلى زمان الامتثال ، دونما إذا كان أحدهما ساقطاً بالعصيان ـ كما في المقام ـ أو بالنسخ كما في غيره.

والمقام نظير ما لو أمر يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة ، ونهى عنه يوم الخميس ، ومع ذلك نَسخ أحد الحكمين قُبيل ظرف الامتثال.

وجريان حكم المعصية ، ليس بمعنى بقاء الخطاب والحكم ، بل بمعنى انّه كان قبل الدخول قادراً على امتثال « لا تغصب » بأقسامه الثلاثة ، ولماعصى باختياره ، يعاقب على الخروج لأجل أنّه بالدخول ، أعجز نفسه عن امتثال الخطاب في مورد هذا المصداق ، وهذا غير بقاء الخطاب والحكم في حال الخروج.

٢٦١

فإن قلت : انّ الخروج إن كان مشتملاً على المفسدة امتنع تعلّق الأمر به ، وإن كان مشتملاً على المصلحة امتنع تعلّق النهي به.

قلت : قد مرّ أنّ المصالح والمفاسد ، ليست من الأعراض القائمة بالفعل حتّى يمتنع اجتماعهما في الموضوع كالبياض والسواد ، وإنّما هي جهات خارجية راجعة إلى حياة الفرد والمجتمع ، ولا مانع من أن يكون الشيء ذا مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال القول الثالث ، فلندرس القول الرابع وهو قول أبي هاشم الجبائي والمحقّق القمي.

القول الرابع : انّه مأمور به ومنهيّ عنه

ذهب أبوهاشم الجبائي ( المتوفّى ٣٢١ هـ ) والمحقّق القمي ( المتوفّى ١٢٣١ هـ ) إلى أنّ الخروج مأمور به ومنهي عنه وكلاهما فعليان.

وقد استدلّ لهذا القول ـ كما نقله المحقّق الخراساني في آخر كلامه حول هذا القول ـ بأنّ الأمر بالتخلّص ، والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلاً ، لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين ( التخلّص والغصب ).

إذ منشأ الاستحالة :

إمّا لزوم اجتماع الضدين ، وهو غير لازم مع تعدّد الجهة.

وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه :

٢٦٢

أوّلاً : من لزوم التقييد وتقديم أحدهما على الآخر ، فيما إذا تعدّد العنوان ، والجهة حقيقة ، كما إذا تعلّق الأمر بعنوان الصلاة ، والنهي بعنوان الغصب ، وإلا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو الفعل الخارجي لتعلّق الأحكام بالمصاديق دون العنوانين.

ثانياً : لو قلنا بالجواز هناك فلا نقول بالجواز في المقام لعدم تعدد الجهة ، وذلك لأنّ عنوان التخلّص ليس عنواناً تقييدياً حتّى يتعلّق الأمر به والنهي بالغصب وإنّما هو عنوان انتزاعي ، ينتزع من خروج الغاصب عن أرض الغير ، وهو علّة غائية وليس بموضوع للحكم ، كأنّ الشارع يقول أخرج لأجل التخلّص من الغصب فيلزم اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد وهو الخروج.

وثالثاً : انّ التكليف بالمحال محال حتى وإن كان بسوء الاختيار ، وما ربّما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالمراد به انّه لا ينافي عقاباً وملاكاً ، لا انّه لا ينافي خطاباً وحكماً ، لوضوح قبح خطاب العاجز وإن كان السبب للعجز هو نفسه.

ورابعاً : انّ القاعدة لا صلة لها بالمقام ، وقد وردت في ردّ الأشاعرة حيث أنكروا القاعدة الفلسفية ، أعني : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، بأنّه يستلزم الجبر ، لأنّ تحقّق المعلول لو كان رهن وصوله إلى حالة الوجوب ، يخرج عن اختيار الفاعل ويستلزم الجبر.

فأُجيب بأنّ إيجاب المعلول ووصوله إلى حدّ اللزوم والوجوب لما كان باختيار الفاعل فلا يكون هذا النوع من الإيجاب والامتناع أمراً غير اختياري ، لأنّ الفاعل هو الذي أضفى على الممكن ـ عند إيجاده أو إعدامه ـ وصفَ الوجوب والامتناع باختياره فالفاعل ، فاعل موجِب ( بالكسر ) لا موجَب ( بالفتح ).

٢٦٣

القول الخامس : ليس محكوماً بحكم فعلاً مع جريان المعصية

وهذا القول هو مختار المحقّق الخراساني وخيرة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ وقد مرّ تفصيلاً فلا نعيده.

القول السادس : انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب

نقل السيد المحقّق البروجردي هذا الوجه في درسه الشريف ، وهو انّه منهي عنه ومأمور به بالترتّب ، فكأنّه قال : لا تغصب وهو يشمل الأقسام الثلاثة ، ثمّ قال : فإن عصيت بالدخول فأخرج.

يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين الترتّب والمقام ، وذلك : انّ في الترتّب أمرين يتعلّق أحدهما بالأهم والآخر بالمهم مقيّداً بعصيان الأوّل ولو تركهما يعاقب على كلا العصيانين.

وأمّا المقام فليس هنا إلا تكليف واحد وهو النهي عن التصرّف في ملك الغير ، بدون إذنه ، وأمّا الأمر بالخروج فهو حكم العقل ، ليدفع أشد المحذورين بأخفّهما ، دون أن يكون هنا حكم من الشرع متعلّق به.

تمّ الكلام في مسألة من توسط أرض الغير بلا إذن ، أو مع النهي ، في الموردين :

١. حكم الدخول ، ٢. حكم الخروج.

بقي الكلام في المورد الثالث وهو حكم العبادة حين الخروج ، وإليك دراسته :

٢٦٤

المورد الثالث : حكم العبادة حين الخروج

إذا صلّى حال الخروج جامعة لسائر الشرائط فالمشهور هو القول بالصحّة عند ضيق الوقت والبطلان عند سعته.

ولكنّه لا ينطبق على القواعد ، لأنّه لو قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع لكن قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة هو الصحة مطلقاً ، ولو قدّمنا النهي فاللازم هو البطلان من دون فرق بين سعة الوقت وضيقه ، وعندئذ لا محيص من ذكر الصور المتصوّرة مع بيان مقتضى القاعدة فيها.

١. إذا قلنا بجواز الاجتماع وإمكان تمشّي القربة فالصلاة في الأرض المتوسطة مطلقاً دخولاً وبقاء وخروجاً صحيحة ، سواء كان بسوء الاختيار أو لا ، وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية : « لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ».

٢. إذا كان الوقوع فيها لا بسوء الاختيار فالصلاة فيها صحيحة ، سواء أقلنا بجواز الاجتماع أم لا ، أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأجل سقوط النهي لأجل الاضطرار.

وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وأمّا على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا لسوء الاختيار ».

٣. إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بسوء الاختيار ، وقلنا بمقالة الشيخ من أنّ الخروج واجب ، وليس بحرام ، ولا يجري عليه حكم المعصية ، فالصلاة صحيحة لوجود الأمر وعدم النهي.

وإلى هذه الصورة أشار بقوله ومعه ( أي مع القول بالامتناع ) ولكنّها وقعت

٢٦٥

في حال الخروج على القول بكونه مأموراً ، بدون إجراء حكم المعصية.

٤. إذا قلنا بالامتناع وقدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة الصحة ، وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي ... مع ضيق الوقت وأمّا السعة ففيها وجهان ».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحقّق الخراساني حاول أن يطبِّق فتوى المشهور على التفصيل بين ضيق الوقت وسعته على هذه الصورة قائلاً :

بإمكان امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المباحة في سعة الوقت ، دون ضيقه بل ينحصر امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المغصوبة.

توضيحه : انّ مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة ـ على فرض تقديم الأمر على النهي ـ وإن كانت غالبة على ما فيها من المفسدة ، لكن الصلاة في غير تلك الدار خالية عن المفسدة ، فيكون أهمّ من الواجد لها ، وبما انّهما ضدّان يتوجّه الأمر الفعلي إلى الفاقد للمفسدة ، ويكون الواجد لها منهيّاً عنه ، بحجّة انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة منهياً عنها ، ومحكومة بالبطلان لوجود النهي.

وهذا بخلاف الصلاة فيها مع ضيق الوقت فانّ انحصار الامتثال بالصلاة في الدار المغصوبة ينفي توجّه الأمر إلى الضدّ الأهم الفاقد للمفسدة ، فلا يكون هناك أمر بالضد الفاقد لها حتى يتولّد منه النهي عن الضد المهم.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم ، هو تقديم الأقوى ملاكاً ، على الأضعف ملاكاً ، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي والرعية ، فالعقل حكم بتقديم الأوّل ، وأمّا المقام فالمفروض أنّ الفردين ـ في سعة الوقت ـ متساويان في الملاك ، غير أنّ أحدهما يشتمل على المفسدة دون الآخر ،

٢٦٦

والخلو عن المفسدة ، غير كون الخالي أهم من المشتمل عليها.

بل يمكن أن يقال : انّ المفروض هو تقديم ملاك الأمر على ملاك النهي وكون مصلحة الأوّل غالبة على مفسدة الآخر ، ولأجله لا تؤثر المفسدة لوجود المصلحة الغالبة ، وعندئذ تكون الصلاة في الدار المغصوبة ، مثل الصلاة في غيرها فلا مفسدة مؤثرة ، حتّى يجعل الفرد المشتمل عليها ، أضعف والخالي عن المفسدة أقوى.

٥. ويمكن أن يقال انّ تفصيل المشهور راجع إلى صورة خامسة لم يذكرها المحقّق الخراساني ، وهي إذا قلنا بالامتناع وكون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط ، أو الحاضر وقلنا بتقديم ملاك النهي ، فالصلاة باطلة في سعة الوقت وضيقه ، لتقديم النهي على الأمر. وهذه الصورة لم يذكرها في الكفاية ، فإذا قدّم النهي تكون المفسدة غالبة على المصلحة ومن المعلوم انّها في سعة الوقت وأمّا في ضيقه ، فيقدّم الأمر ، لأجل قوله : « لا تسقط الصلاة بحال » فيقدّم على حرمة التصرّف في مال الغير لقوّة لسان دليل الأمر

وهذا بخلاف سعة الوقت ، إذ لا دليل ثالث حتّى يكون مؤثراً في تقديم الأمر على النهي فتكون التصرّفات المتّحدة مع الصلاة أمراً مبغوضاً ومنهيّاً عنه فلا أمر كما هو المفروض من القول بالامتناع وتقديم النهي.

حكم الخروج إذا تاب بعد الدخول

لو تاب العبد ـ بعد الدخول ـ وحاول أن يخرج من أقرب الطرق للتخلّص عن المعصية لا للتنزّه كالدخول ، فقد ذهب السيد البروجردي إلى عدم كونه منهياً عنه وصادراً عن معصية ، وذلك لأنّه إذا تاب عن تصرّفاته السابقة تكون تصرفاته

٢٦٧

اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة ، تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة ، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص كمن اضطرّ إلى الدخول ، فاختار الخروج ـ بعد رفع الاضطرار ـ للتخلّص من البقاء المحرم.

والحاصل : أنّ الخروج بما انّه من توابع الدخول فلو عدّ الدخول عصياناً وظلماً وتمرّداً على المولى تكون توابعه محكومة بحكمه ، وأمّا إذا تقلّب حكمه ـ بحكم انّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ـ فتكون توابعه أيضاً محكومة بحكمه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتصوّر فيما إذا عصى اللّه في حقوقه ، دونما إذا عصاه في حقوق الناس ، وأمّا إذا عصاهم وتجاوز على حقوقهم ، فلا تكفي التوبة والندامة مالم يُحصِّل رضاهم ، ومع تحصيله لا يبقى موضوع للبحث.

__________________

١. لمحات الأُصول : ٢٤٦ ؛ نهاية الأُصول : ٢٤٩.

٢٦٨

التنبيه الثاني

قد ذكر المحقّق الخراساني في هذا التنبيه أُموراً ثلاثة :

١. لا تعارض ولا تزاحم بين خطابي : صلّ ولا تغصب على القول بجواز الاجتماع ، وأمّا على القول بالامتناع فهما من قبيل المتزاحمين يقدّم منهما الأقوى ملاكاً ، وليسا من قبيل المتعارضين كي يقدّم الأقوى دلالة ( الجمع الدلالي ) أو الأقوى سنداً ، وقد أفاض المحقّق الخراساني الكلام في ذلك في الأمر التاسع فلا وجه للتكرار هنا ، وقد أشبعنا الكلام فيه كما قلنا : إنّ التزاحم في مصطلح المحقّق النائيني ـ الذي اخترناه ـ غير المصطلح في لسان المحقّق الخراساني.

٢. لو قلنا بالامتناع ، وقدّمنا النهي فلا يلازم بطلانَ الصلاة في موارد الأعذار ، كما إذا صلّى في المغصوب جاهلاً به ، وقد أفاض الكلام فيه في الأمر العاشر ، وقد أوضحنا حاله.

وحاصل ما قلنا هناك : إنّه فرق بين أن يقول من أوّل الأمر « لا تصلّ في الدار المغصوبة » فيخرج الصلاة فيها عن إطلاق قوله : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » ، فلا تصحّ الصلاة عند طروء الأعذار كالنسيان ، لأنّ التقييد أو التخصيص آية عدم وجود الملاك في مورد فقد القيد أو في الخارج عن العام ؛ وبين أن يقول : « صلّ » و « لا تغصب » فالصلاة على الإطلاق وفي كلّ مكان ، مشتملة على الملاك ، مثل الغصب في كلّ مكان ، وعند ذاك يطرأ التزاحم على المقتضيين المؤثّرين عند الامتثال فيقدم الأقوى منهما ملاكاً ، لو كان الخطابان

٢٦٩

متكفّلين لحكم فعلي وإلا فلابدّ من الأخذ بالفعلي منهما.

ويترتّب عليه أنّه لو لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها ، لاضطرار أو جهل ، أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثّراً لها فعلا.

نظير المقام :

١. إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى.

٢. أو لم يكن واحد من الدليلين دالاً على الفعلية.

وبالجملة : وزان المقام ـ تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب ـ وزان التخصيص العقلي الناشئ من تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً ، والتقديم مختص بما إذا لم يمنع مانع عن تأثير المقتضي للنهي عنه كما في مورد الاضطرار ، أو مانع عن فعلية التأثير كما في صورة الجهل والنسيان ، فعندئذ تصح الصلاة ـ مع الأمر ـ وأُخرى بملاكه.

٣. إذا قلنا بالامتناع ودار الأمر بين تقديم أحد الحكمين ، فهل يقدّم النهي أو الأمر؟ وقد ذكروا لتقديم النهي وجوهاً ثلاثة ذكرها المحقّق الخراساني ، وهذا هو اللازم بالبحث في المقام ، وإليك تلك الوجوه :

الأوّل : النهي أقوى دلالة من الأمر

إنّ هذا المرجّح ـ أقوائيّة الدلالة ـ مرجّح في مقام الإثبات والدلالة ، كما أنّ المرجح الثاني ـ أي دفع المفسدة المترتبة على النهي أولى من جلب المنفعة المترتبة على الأمر ـ مرجِّح في عالم الثبوت والملاك ، وكان على المحقّق الخراساني تقديم الثاني على الأوّل حفظاً للترتيب الطبيعي للبحث ولكنّه قدّم الأوّل ، أي عالم الإثبات على عالم الثبوت ، ونحن نتبع أثره حفظاً لنظام البحث.

٢٧٠

وتقرر قوّة الدلالة بالنحو التالي :

إنّ دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر ، لأنّ مفاد النهي شمولي بخلاف مفاد الأمر فانّه بدلي.

أمّا كون الأوّل شمولياً فلانحلال النهي بانحلال موضوعه إلى أحكام فيكون كلّ تصرّف عصياناً مستقلاً لا صلة له بالتصرّف الآخر ، وهذا بخلاف الأمر فانّه بعث إلى الطبيعة ويكفي في وجودها وجود فرد واحد.

وعلى ضوء ذلك يتعيّن التصرف في جانب الأمر بإخراج الصلاة في الدار المغصوبة من تحته وإبقاء الصلاة في غيرها تحته من دون تصرّف في جانب النهي.

وأورد على الاستدل بأنّه لا فرق بين الدلالة الشمولية والدلالة البدلية إذا كان الدال عليهما هو الإطلاق الذي هو نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فلا وجه لترجيح إحداهما على الأُخرى ، فكما يصلح النهي للتصرّف في الأمر ويكون الشمول قرينة على تقييد الأمر وإخراج ذلك الفرد من تحته ، فهكذا الأمر يصلح للتصرّف في النهي ويكون طلب فرد ما ، قرينة على إخراج فرد ما من الصلاة ، من تحت النهي.

وردّ الإشكال بأنّ الدلالة البدلية هو مفاد الإطلاق حيث إنّ المولى أمر بالطبيعة دون أن يعيّن الخصوصية فيكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد ما ، وأمّا الدلالة الشمولية فليست مستندة إلى الإطلاق ، وذلك لأنّه لو كانت مستندة إلى الإطلاق لكان استعمال « لا تغصب » في بعض أفراد الغصب حقيقة ، لعدم جريان مقدّمات الحكمة لأجل القرينة ، فلا يكون هناك دالّ على الشمول ، وبالتالي لا يكون استعماله في بعض الأفراد استعمالاً له في غير ما وضع له. مع أنّ كون استعماله فيه حقيقة واضح الفساد.

٢٧١

بل الشمول مستند إلى دلالة العقل ، وهي انّ الطبيعة لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها ، فعندئذ تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية لقوّة الدلالة العقلية على الدلالة الإطلاقية.

ثمّ إنّ المحقق الخراساني نصر المستشكل الأوّل وردّ الإشكال عليه بما هذا توضيحه : إنّ دلالة النفي أو النهي على العموم والاستيعاب أمر لا ينكر إلا أنّ سعة العموم والشمول تابع لما يراد من مدخولهما ومتعلّقهما ، وعندئذ تختلف سعة الشمول حسب اختلاف المتعلّق.

فلو أُريد من المتعلّق الطبيعة المطلقة فيدل النفي والنهي على سعة دائرة الشمول ، وأمّا إذا أُريد من المدخول الطبيعة المقيّدة فيتوجه النفي والنهي على الطبيعة المقيّدة ، فالسعة والضيق في جانب النفي والنهي رهن سعة المتعلّق وضيقه وهما فرع جريان مقدّمات الحكمة فيه.

ويتّضح الأمران في المثالين التاليين :

١. لا رجل في الدار.

٢. لا رجل عادل في الدار.

فتجد أنّ النفي في الأوّل أوسع دائرة من النفي في الثاني ، ويعود ذلك إلى سعة المتعلّق وضيقه ، فإذا اتّضح ذلك ، نقول : إنّه لا فرق بين الدلالة البدلية والشمولية في الأقوائية ، لأنّ البدل كما هو نتيجة الإطلاق فهكذا الشمول هو نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة ، حيث أخذ المولى الطبيعة المطلقة متعلّقة بالنهي من دون قيد ولو كان المراد هو الطبيعة المقيّدة لكان عليه الإتيان بالقيد.

هذا ما أفاده في الكفاية.

٢٧٢

ثمّ إنّه قدس‌سره احتمل احتمالاً ضعيفاً أشار إلى ضعف الاحتمال بقوله : « اللّهم ». (١)

وحاصل الاحتمال : أنّ المخاطب في استفادة الشمول لفي غنى عن إجراء مقدّمات الحكمة ، وذلك لأنّ مكانة النهي والنفي في لغة العرب كلفظة كلّ في كلّ رجل ، فكما أنّ استفادة الشمول في الثاني غير موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة في متعلّقه ( رجل ) بل السامع ينتقل إلى السريان والشمول لأجل لفظة كلّ ، فهكذا المقام ، حيث إنّ دلالة النفي والنهي على الشمول والاستيعاب تُغني المخاطب عن اجراء مقدمات الحكمة ، وهذا هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله :

اللّهمّ إلا أن يقال : إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق كما ربّما يدعى ذلك في مثل « كلّ رجل » وانّ مثل لفظة « كل » يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة. (٢)

ومع أنّ المحقّق الخراساني ـ حسب ما أفاده أخيراً ـ قوّى ( الأمر الثالث ) أي الإشكال ، على الإشكال ، لكنّه لم يقبل دليله من أنّه لو كان الشمول مستفاداً من الإطلاق لكان استعمال مثل « لا تغصب في بعض الأفراد حقيقة ... » بل اعترف بكونه حقيقة على جميع المباني ، سواء قلنا بأنّ الشمول مستند إلى مقدّمات الحكمة فواضح ، لعدم جريانها مع وجود القرينة ولا على القول بأنّ دلالته على الشمول بالالتزام أو بالوضع ، لأجل تعدّد الدال والمدلول بمعنى انّ الخصوصية مستفادة من القرينة لا من استعمال قوله : « لا تغصب » في بعض الأفراد كما سيوافيك

__________________

١. وقد أيّده المحقّق البروجردي في درسه الشريف ، لاحظ لمحات الأُصول : ٣٠٧.

٢. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٦.

٢٧٣

توضيحه في فصل « انّ العام بعد التخصص حقيقة وليس بمجاز ».

وأنت خبير بضعف ما احتمله ، إذ لا فرق بين النفي والنهي ولفظة « كلّ » في أنّ استفادة السعة والضيق تابع لسعة المتعلّق وضيقه ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انّه كان في وسع المكلّف تقييد المتعلّق في جانب النفي والنهي ، ومع التقييد تضيق دائرة الشمول ، والدالّ على عدم القيد هو الإطلاق بإجراء مقدّمات الحكمة ، فالاشكال على الاستدلال متوجّه.

نعم يرد على الاستدلال بأنّه انّما تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية إذا كانت الأُولى وضعية والثانية إطلاقية ، فإذا قال المولى : لا تكرم الفسّاق ، وقال : أكرم عالماً ، فبما أنّ دلالة الأوّل على الشمول بالدلالة اللفظية ، أعني : الجمع المحلّى باللام ، ودلالة الثاني على كفاية فرد من أفراد الطبيعة ، بالدلالة العقلية ، فلا مناص من تقديم الدلالة الوضعية على الدلالة العقلية عند التّعارض في العالم الفاسق ، لأقوائية الوضعية وعدم توقّف تمامية دلالتها على شيء ، بخلاف الدلالة العقلية ، فانّها فرع عدم ما يصلح للقرينيّة ، والوضعية صالحة لها ، وأمّا الشمولي والبدلي الإطلاقيان كما في المقام ، فكلّ منهما يصلح للتصرّف في الآخر ، فلا مرجّح للتقديم.

الثاني : دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة

وحاصل هذا الدليل أنّ في امتثال الأمر جلب المصلحة وفي مخالفة النهي وجود المفسدة ، فإذا دار الأمر بين كون شيء واجباً أو حراماً فقد دار الأمر بين حيازة المصلحة ودفع المفسدة ، فترك الفعل لأجل دفع المفسدة المحتملة أولى من امتثاله لجلب المصلحة المحتملة.

٢٧٤

أقول : الدليل مؤلّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهي عبارة عن اشتمال الأمر على المصلحة دون أن يكون في تركه مفسدة ، واشتمال النهي على المفسدة.

وأمّا الكبرى : وهي أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة كذلك ، ولكن كلاً من الصغرى والكبرى ليسا بتامّين.

المناقشة في الصغرى

وقد ناقش المحقّق القمّي في الصغرى بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الواجب ولو كان معيّناً ليس إلا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما انّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه. (١)

وحاصل الإيراد : انّ الواجب يشتمل على المصلحة من دون أن يكون في تركه مفسدة والحرام على العكس.

يلاحظ على كلام المحقّق الخراساني بأنّ المراد من المصالح والمفاسد هو الأعم من الفردية والاجتماعية ، وعلى ذلك فربّما يكون في ترك الواجب مفسدة عظمى كما في ترك الجهاد فانّه يوجب الذُّلّ والهوان وسيطرة العدو على النفوس والأموال ، وأيّ مفسدة أعظم من ذلك؟!

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فواللّه ما غُزِي قوم في عُقِرَ دارهم قط إلا وقد ذلّوا ». (٢) ، ومثله ترك الزكاة فانّ في تركها إيجاد الفوضى واتّساع دائرة الفتنة وفقدان

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٧.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ٢٧.

٢٧٥

الأمن المالي.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما جاع فقير إلا بما متِّع به غني ». (١)

إلى هنا تبيّن أنّ الصغرى ليست بتامّة ، وانّ المفسدة موجودة في كلا الطرفين : فعل الحرام وترك الواجب ، والحقّ مع المحقّق القمي قدس‌سره.

المناقشة في الكبرى

وحاصل الكبرى : انّ دفع المفسدة المتيقّنة والمحتملة أولى من جلب المنفعة المتيقنة والمحتملة ، وقد ناقشها المحقّق الخراساني بوجوه ستة نذكرها بتوضيح :

١. انّ الواجبات والمحرّمات ليست على وزان واحد فربّ واجب يكون في تركه أشد المجازات كالفرار من الزحف ، وربّ حرام لا يكون مثل ذلك كالنظر إلى الأجنبية ، فلو دار الأمر بين الفرار من الزحف ، والنظر إلى الأجنبية فلا يصحّ أن يقال : انّ ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فليس في المقام ضابطة كلية.

٢. انّ القاعدة أجنبية عن المقام ، فانّه فيما إذا دار الأمر بين الواجب والحرام [ الحتميّين ] كما إذا دار الأمر بين ركوب الطائرة المغصوبة ، والحجّ ، ففي مثله يرجع إلى القاعدة ، لا في المقام الذي ليس هنا إلا أحد الحكمين إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا موضوع للقاعدة. هذا حسب ما في الكفاية ، ولكنّه أوضحه في الهامش بقوله : إنّ الترجيح بهذه القاعدة إنّما يناسب ترجيح المكلّف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام وهو مقام جعل الأحكام فانّ المرجع هناك ليست إلا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الأغراض ومخالفتها.

توضيح كلامه : أنّ ملاكات الأحكام على قسمين :

__________________

١. نهج البلاغة ، قصار الحكم ، برقم ٣٢٨.

٢٧٦

أ. ملاك التشريع ومناط جعل الحكم فهو ينحصر بالحسن والقبح فيحكم بوجوب الأوّل وحرمة الثاني.

ب. المصالح والمفاسد التي ترجع إلى المكلفين. ولكلّ من الملاكين مقام خاص ، فلو كان الشك راجعاً إلى نفس الحكم الشرعي وما هو المجعول كما هو الحال في المقام حيث إنّ الشكّ مركز على أنّ المجعول في الصلاة في الدار المغصوبة هو الوجوب أو الحرمة ففي مثله لا يرجع إلى القاعدة ( دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ).

نعم لو كان الحكم الشرعي معلوماً ودار الأمر بين ترك الواجب وفعل الحرام ففي مثل ذلك يتمسّك بالقاعدة كما إذا دار الأمر بين الحجّ وركوب الطائرة المغصوبة ، فعندئذ يقال : « ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة ».

إلى هنا تمّت المناقشة الثانية ، وإليك سائر المناقشات التي أوردها في « الكفاية ».

٣. ولو سلّم فإنّما يجدي لو حصل القطع.

أي انّ مورد القاعدة فيما إذا قطع بالأولوية لا ما إذا ظن ، وليس في المقام أيُّ قطع بالأولوية ، لما عرفت من أنّه ربما يكون جلب المنفعة المحتملة أولى من دفع المفسدة كذلك.

٤. ولو سلّم انّه يجدي ولو لم يحصل اليقين فإنّما تجري فيما يكون العلم الواقعي فعلياً على كلّ تقدير ولا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في المقام لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته.

توضيحه : انّ مصب القاعدة هو ما إذا كان الحكم الواقعي المردد بين

٢٧٧

الوجوب والحرمة فعلياً على كلّ تقدير ، بحيث نعلم أنّ المولى يطلب امتثاله ، ففي مثله لا موضوع للبراءة للعلم القطعي بوجود الحكم الفعلي على كلّ تقدير كما في المرأة المرددة بين كونها زوجة على رأس أربعة أشهر أو أجنبية ، فتصل النوبة إلى القاعدة فيؤخذ بما فيه دفع المفسدة ويترك ما فيه جلب المنفعة.

وأمّا المقام فتجري البراءة في أحد الطرفين ، أعني : الحرمة دون الوجوب محال ، أمّا عدم جريانها في جانب الوجوب للعلم القطعي بعدم سقوط وجوب الصلاة ، ولو في ضمن المكان المباح ، وأمّا جريانها في جانب الحرمة فبما انّه تُحتمل مساواة الملاكين ، فلا يكون هنا علم بالحرمة الفعلية ، لأنّ احتمال تساوي الملاكين يلازم احتمال عدم فعليتها فيصلح لأن تقع مجرى لها.

٥. ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشكّ في الأجزاء والشرائط فلا يلزم القول بالاشتغال في المقام فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.

توضيحه : انّه لو قيل إنّ الأصل عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ـ ككون السورة جزءاً من الصلاة أو لا ـ هو الاشتغال وبطلان الصلاة بدونها ، لما كان دليلاً على القول بالاشتغال وبطلان الصلاة في المقام ، وذلك لوجود المقتضي للصحة في المقام وهو الأمر وليس المانع إلا الحرمة المرفوعة بأصل البراءة ، بخلاف الشكّ في كمّية الأجزاء والشرائط فلا علم بالصحة لاحتمال وجوب الشيء المشكوكة جزئيته.

وحاصل الفرق بين المقام : هو وجود العلم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط في المقام وإنّما الشكّ في مانعية الغصب ، وهي مرفوعة بالأصل ، فالمقتضي موجود ، والمانع مرفوع.

٢٧٨

وهذا بخلاف الشكّ في الجزئية والشرطية فليس هناك علم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء والشرائط ، بل يحتمل كون السورة جزءاً ، فيكون المأتي به ناقصاً من حيث كونه جامعاً للأجزاء والشرائط ، وتوهم أنّ أصل البراءة رافع للجزئية على فرض ثبوتها مدفوع بأنّ الرفع الظاهري لا ينافي الجزئية الواقعية على فرض ثبوتها في الواقع فتكون الصلاة ناقصة. فتأمّل.

فإن قلت : إنّ الشكّ في المانعية والجزئية من باب واحد ، فأصل البراءة رافع للمانعية والجزئية في الظاهر دون الواقع ، فلو كان المشكوك مانعاً واقعاً ، يكون المأتي به ناقصاً من حيث اقترانه بالمانع.

قلت : المفروض انّ المانع هو المبغوضية المحرزة لا المبغوضية الواقعية ، كما أشار إليه بقوله : « فانّه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عقلاً أو نقلاً » ، فإذا لم تكن محرزة يكون عدم المبغوضية قطعياً ، بخلاف جزئية الجزء أو شرطية الشرط ، فالجزء بما هو جزء والشرط بما هو شرط مأخوذان في المتعلّق ، فأصالة البراءة لا تؤثر في انقلاب الواقع على فرض وجوده.

٦. نعم لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير مجدية ، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب ـ لو كان عبادة ـ محكّمة حتّى لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط ، لعدم تأتي قصد القربة مع الشكّ في المبغوضية.

حاصله : انّ التفكيك بين المقام والشك في الجزئية والشرطية ، مبنيّ ـ كما تقدم ـ على أنّ المفسدة الغالبة المحرزة مانعة من الصلاة ، فعدم إحرازها يكفي في الحكم بصحّة الصلاة ، وعدم اقترانها بالمانع واقعاً ، وأمّا إذا قلنا بأنّ المفسدة بوجودها الواقعية الغالبة مانعة وإن لم يعلم بها المكلّف ، فعندئذ ، تكون النتيجة

٢٧٩

معكوسة ، فلا يجدي الأصل في المقام وإن قلنا به في الشك في الجزئية والشرطية.

وذلك لأنّها لو كانت المفسدة الواقعية مطلقاً مانعة فبما أنّها محتملة في المقام ، فلا يتمشّى قصد القربة ، إذ كيف يمكن التقرّب القطعي بشيء يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى؟! فتكون أصالة الاشتغال محكّمة.

هذه هي الوجوه الستة التي أوردها صاحب الكفاية على القاعدة أوردناها بإيضاح لقصور عبارة الكفاية في المقام في إفادة المقصود.

المرجّح الثالث : الاستقراء

استدلّ القائل بتقديم جانب الحرمة بأنّ الاستقراء يشهد على أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب فيما إذا دار الأمر بين المحذورين وأشار إلى موردين :

١. أيّام الاستظهار ـ بعد تمام العادة وقبل العشرة ـ حيث أمر الشارع بترك العبادة مع أنّ الأمر يدور بين الوجوب والحرمة.

٢. إذا كان الإنسان محدثاً ، وابتلى بإنائين مشتبهين فقد أُمِر بإهراقهما والعدول إلى التيمم ، مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة وحرمة التوضّؤ بالماء النجس.

يلاحظ على الاستدلال :

إنّ الاستقراء كما يستفاد من تعريفه ، تصفح الجزئيات حتّى ينتقل الباحث منه إلى الحكم الكلّي وإفادته الظن أو القطع تابع لمقدار التتبع وكثرته ، وأمّا تتبع مورد أو موردين فلا يفيد الظن ، فكيف القطع؟! مضافاً إلى أنّ ترجيح جانب الحرمة في هذين الموردين ، لوجود دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي ذلك الجانب.

٢٨٠