إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

مرّ توضيح ذلك في المقصد الأوّل عند البحث في دوران الصيغة بين هذه الاحتمالات.

إنّما الكلام في أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي ، هل يختصّ بما إذا كان الإيجاب والتحريم نفسيين أو عينيين أو تعيينيين ، أو يعمّها ومقابلاتها؟ الظاهر هو العموم ، لوجود ملاك البحث في عامّة الأقسام ، فالقائل بالامتناع يستدلّ بتضاد الوجوب والحرمة تارة ، وتضاد مبادئهما من الإرادة والكراهة ثانياً ، وإنّ تعدد العنوان ، لا يوجب تعدد المعنون ثالثاً ، وهذا النوع من الاستدلال جار في عامّة أقسام الأمر والنهي ، كما أنّ القائل بالاجتماع يستدلّ بأنّ متعلّق الأمر والنهي متغايران والتصادق في مورد لا يضر بتعدّد المتعلّق في مقام الإنشاء ، والفعلية ، من غير فرق بين أقسام الأمر والنهي ، ولإيضاح الحال نأتي بمثالين :

١. إذا أمر المولى بالصلاة والصوم تخييراً ، ونهى عن التصرّف في الدار ومجالسة الأشرار كذلك ، فالامتثال في جانب الأمر يحصل بإتيان واحدة منهما لكن المخالفة في جانب النهي تتوقف على مخالفتهما معاً ، وعلى ذلك لو صلّى في نفس الدار مع مجالسة الأشرار ، يقع الكلام في صحّة الصلاة والحال هذه وعدمها.

نعم لو صلّى فيها مع عدم مجالستهم ، أو صلّى في غيرها مع مجالستهم ، أو صام فيها بلا مجالسة ، أو صام مع المجالسة لكن في غيرها ، فقد أتى بالواجب دون الحرام ، لما عرفت من أنّ الحرام هو الجمع لا الواحد منهما.

٢. إذا أمر بالوضوء أو الغسل أو التيمم للصلاة ونهى عن التصرّف في دار معيّنة ، فتوضأ أو اغتسل أو تيمّم فيها يقع الكلام فيه كما في غيرها والأمر بها غيري ولكن النهي نفسي.

١٨١

السابع : في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع وعدمه

هل يلزم أخذ عنوان المندوحة في عنوان النزاع أو لا يلزم؟ فيه أقوال :

١. عدم اعتباره في صحّة النزاع.

٢. اعتباره فيه كما عليه صاحب الفصول. (١)

٣. التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يعتبر ، وكبروياً فيعتبر.

٤. التفصيل بين كون الابتلاء بسوء الاختيار فلا يعتبر ، وما إذا حصل بدونه فيعتبر ، وعليه المحقّق القمي في قوانينه. (٢)

والحقّ هو الأوّل : على القول بكون النزاع صغروياً ، إذ لا دور لوجود المندوحة في أساس القولين ، وهو انّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا؟ كما في تعبير المحقّق الخراساني ، أو تركيب المقولات تركيب اتحادي أو انضمامي ، كما في تعبير المحقّق النائيني.

وبعبارة أُخرى : هل الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية ـ لأجل انّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لأجل تركيب المقولات ، انضمامياً لا اتحادياً ، أو لا؟ ـ بناء على أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ، أو تركيب المقولات ، تركيب اتحاديّ ، والجزم بأحد الطرفين لا يتوقف على وجود المندوحة وعدمه في المورد ، فسواء أكان المكان منحصراً بالمغصوب أو متعدداً ، فالعقل إمّا يحكم بالوحدة أو التعدد.

نعم فعلية النهي تتوقّف على وجود المندوحة حتى لا يلزم الأمر بالمحال ، سواء أكان هناك أمر أو لا ، إذ لا يصلح النهي جداً عن المغصوب حتى يتمكّن

__________________

١. الفصول : ١٢٦.

٢. قوانين الأُصول : ١ / ٥٣ ـ ٥٤.

١٨٢

الإنسان من تركه فالمحبوس في مكان مغصوب ، مأمور بالصلاة ، وليس منهيّاً عن الغصب فعلاً وإن كان منهيّاً عنه إنشاء.

وبعبارة أُخرى : انّ صاحب الفصول خلط بين مقام التكليف المحال ، والتكليف بالمحال ، فلو كان متعلّق الأمر نفس متعلّق النهي ، يكون التكليف محالاً سواء أكان هناك مندوحة أم لا ، لاستحالة انقداح الإرادة والكراهة في النفس مع وحدة المتعلّق.

ولو تجاوزنا عن ذلك المحذور وقلنا بتعدّد المتعلّق وكان التكليف ممكناً ، يأتي الكلام في كون المكلّف به ممكناً ، وعندئذ يشترط وجود المندوحة ، وإلا فالتكليف وإن كان ممكناً ، لكن المكلّف به يكون أمراً محالاً ، لافتراض انحصار المكان بالمغصوب ، وبذلك يظهر صحّة قول المحقّق الخراساني وضعف قول صاحب الفصول.

وأمّا الثالث : أي التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يشترط وجود المندوحة ، وذلك لما في كلام المحقّق الخراساني من أنّ ملاك النزاع ، وصحته لا يتوقّف على وجود المندوحة ، لأنّ البحث يرجع إلى أمر تكويني وبحث فلسفي فانحصار المكان في المغصوب وعدمه ، لا يؤثر فيه.

وهذا بخلاف ما إذا كان البحث كبرويّاً فانّ تجويز اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، باعتبار انطباق عنوانين عليه فرع وجود المندوحة والتمكّن من إقامة الصلاة في غير المكان المغصوب ، وإلا فلو كان مضطرّاً فلا محيص من سقوط أحد الحكمين ، إمّا وجوب الصلاة أو حرمة الغصب ، فالتحفّظ على فعلية الحكمين يستدعي وجود المندوحة والسعة.

يلاحظ عليه : أنّ لزوم وجود المندوحة ليس من آثار اجتماع الحكمين

١٨٣

الفعليين في مورد واحد ، بل من آثار نفس النهي ، سواء أكان هناك اجتماع أم لا ، إذ التكليف مطلقاً مجرّداً أو مقروناً بآخر يطلب لنفسه الاستطاعة والقدرة كسائر الشرائط العامّة ، ومع عدمها ، يصبح التكليف تكليفاً بالمحال.

وأمّا القول الرابع : الذي هو قول المحقّق القمي فسيوافيك الكلام فيه في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة.

الثامن : صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام

قد مرّ في المقصد الأوّل أنّ في متعلّق الأوامر والنواهي قولين :

١. تعلّقها بالطبائع والمفاهيم المجردة عن كلّ قيد.

٢. تعلّقها بالافراد.

وعندئذ يطرح السؤال التالي : النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، هل يطرح على كلا القولين أو لا؟

والجواب : هنا آراء وأقوال :

١. النزاع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للبحث بل يتعيّن الامتناع.

٢. انّ القول بالجواز مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع ، والقول بالامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

٣. جريان النزاع على كلا الرأيين ، وهذا مذهب المحقّق الخراساني ، فلا القول بتعلّقها بالطبائع يلازم القول بالجواز ، ولا القول بتعلّقها بالأفراد يلازم القول بالامتناع.

أمّا الأوّل : فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ، فالامتناع هو

١٨٤

المتعيّن حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وذلك لأنّ الطبيعتين وإن كانتا متغايرتين مفهوماً لكنّهما متحدتان وجوداً وخارجاً ، فيلزم أن يكون الشيء الواحد متعلقاً بحكمين متضادين.

وأمّا الثاني : فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، فالجواز لا غبار عليه ، حتى على القول بتعلّقها بالأفراد ، وذلك لأنّ الحكمين وإن تعلّقا بالفرد الخارجي لكنّه لمّا كان معنوناً بعنوانين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين ، ومجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد ، ويكون بما انّه فرد لهذا العنوان متعلّقاً للوجوب ، وبما انّه مصداق لعنوان آخر متعلّقاً للنهي ، فهو على وحدته وجوداً يكون اثنين لكونه مصداقاً للطبيعتين. (١)

يلاحظ على القولين الأوّلين : أنّهما مبنيّان على تفسير الفرد في متعلّق الأحكام ، بالفرد المنطقي وهو الجزئي الخارجي ، وعندئذ يصحّ القولان بأنّ النزاع في الجواز والامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالفرد ، فالقول بالامتناع متعيّن ، أو انّ الجواز مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، والامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

ولكنّك خبير أنّ الفرد بهذا المعنى ، لا يعقل أن يكون متعلّقاً للحكم ، لأنّه قبل الوجود لا يوصف بالفرديّة ، وبعده فهو ظرف سقوط الحكم بالطاعة أو بالمعصية ، بل المراد من الفرد في متعلّق الأحكام هو الفرد الأُصولي ، والمراد ، هو الطبيعة مع ملازماتها ومقارناتها ، والمراد من الملازمات هو ما لا يفارقها كالتأيّن بأين ، والتحيّن بالزّمان وغير ذلك ، كما أنّ المراد من المقارنات ما يصاحبها تارة ويفارقها أُخرى ، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة ، ويعبّر عن ملازمات الطبيعة

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

١٨٥

ومقارناتها ، بالمشخّصات الفرديّة ، فلو قلنا بتعلّق الأحكام بها ، فبما انّها كلي كالطبائع فالواجب الأين الكلّي والزمان الكلّي ، وهكذا فيتأتى النزاع على كلا الرأيين ، لأنّ الفرد بهذا المعنى كالطبيعة في الكلية والشمول وصحّة تعلّق الأمر به.

بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قام بأمرين :

الف : فسّر الفرد ، على النحو الذي فسّرناه ، وفرّق بين الفرد في مصطلح المنطقيين ، والفرد في مصطلح الأُصوليين.

ب : قبل التفصيل الثاني وانّ جواز الاجتماع مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، والامتناع على القول بالافراد.

أمّا الأوّل : فقال : إنّ النزاع في أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة ، هل يتعلّق بمشخّصاتها الخارجية أو انّها من لوازم الوجود وخارجة عن حيّز الأمر؟

أمّا الثاني : فقال : فإذا بنينا على تعلّق الأمر بالمشخّصات سواء أكان الأمر بها استقلالياً أم تبعياً ، وكانت نسبة كلّ من المأمور به ، والمنهي عنه إلى الآخر نسبة المشخّصات ، فلا محالة يكون كلّ منهما محكوماً بحكم الآخر ، فيلزم منه اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد ، وأمّا إذا بنينا على خروج المشخّصات عن حيّز الطلب فلا يسري الأمر إلى متعلّق النهي ، ولا النهي إلى متعلّق الأمر ، فيكون القول بالجواز والامتناع مبنيّاً على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد بالضرورة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يتمّ لو أُريد من المشخّصات الفرديّة ما يعمّ

____________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

١٨٦

الملازمات والمقارنات الاتفاقية كالغصبية بالنسبة إلى الصلاة ، وأمّا لو خصصناه ، بخصوص الملازمات ، أي ما لا ينفك وجود الطبيعة عنها ، كالزمان والمكان ، لا ما يصاحبه تارة ويفارقه أُخرى ، فلا تلزم وحدة المتعلّق ، لأنّ النهي تعلّق بالغصب ، لا الغصب المصاحَب بالصلاة اتفاقاً ، وهكذا الأمر تعلق بالصلاة ، لا الصلاة المقارنة بالغصب.

والذي يسهل الخطب هو أنّ المشخّصات الفردية غير داخلة في متعلّق الأوامر ، لأنّ المولى الحكيم لا يأخذ من متعلّق الحكم إلا ما هو دخيل في غرضه ، والدخيل فيه ، هو نفس الطبيعة ، لا ملازماتها ولا مقارناتها على نحو لو أمكن إيجادها مجرّداً عنها ، يعد ممتثلاً.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ذكر لتعلّق الحكم بالفرد صوراً صحح النزاع في بعضها دون بعض ، وبما أنّ المبنى غير تام ، فلا يهمّنا بيان الصور المختلفة له.

التاسع : الفرق بين التعارض والتزاحم

إنّ كلمتي التزاحم والتعارض من الكلمات الدائرة على ألسنة الأُصوليين ، حيث يستعملون التزاحم في هذا المقام ( باب اجتماع الأمر والنهي ) والتعارض في باب « التعادل والترجيح » ، فإذاً يقع الكلام فيما هو الفرق بينهما.

والذي يزيد غموضاً في المقام هو أنّ الأُصوليّين ـ فيما إذا كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه ـ تارة يطرحونه في هذا المقام نظير صلّ ولا تغصب ، وأُخرى يعقدون له مبحثاً في باب التعادل والترجيح نظير : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق. حيث يتعارض الدليلان في العالم الفاسق ، وعندئذ يقع الكلام فيما هو الفرق بين المقامين وكيف تكون مسألة واحدة من مسائل هذا الباب والباب الآخر

١٨٧

الذي بينهما من البعد بعد المشرقين؟ فنقول :

إنّ المحقّق الخراساني بصدد الإجابة عن هذين السؤالين :

١. ما الفرق بين التزاحم والتعارض؟

٢. ما الفرق بين المثالين؟

وحاصل ما ذكره : انّه لو كان في كلّ من موردي الدليلين مناط الحكم وملاكه فهو من باب التزاحم ، وأمّا إذا كان المناط موجوداً في واحد منهما ، أو احتملنا انّ كلاً منهما فاقد للملاك ، فهو من باب التعارض ، هذا هو الذي تبنّاه وعقد لبيانه فصلين باسم التاسع والعاشر ، وكأنّ الأوّل بصدد بيان الموضوع وأقسامه ، والثاني في بيان ما يحرر به وجود المناطين وعدمه.

وإليك توضيح ما ذكره في الأمر الثامن برُمّته كي يتّضح للقارئ ما رامه صاحب الكفاية ، وأمّا التاسع فنضرب عنه صفحاً لما سيوافيك وجهه ، فنقول :

جعل المحقّق الخراساني الكلام في مقامين :

الأوّل : مقام الثبوت ، والمراد منه ملاحظة الموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به.

الثاني : مقام الإثبات ، والمراد منه ملاحظة الموضوع بعد تعلّق الحكم به.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكر فيه صوراً ثلاثاً :

الأُولى : إذا كان الملاك موجوداً في مورد التّصادق منهما ، وقلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، يكون المورد محكوماً بحكمين فعليّين ، فالصلاة في الدار المغصوبة والغصب بما انّهما واجدان للملاك فالاجتماعي يقول إنّه يكون محكوماً بحكمين بلا تريّث.

١٨٨

الثانية : تلك الصورة أي يكون مورد التصادق واجداً للملاكين ولكن لا نقول بجواز الاجتماع بل امتناعه ، فعندئذ يكون مورد التّصادق من باب التزاحم (١) ويؤخذ بمرجّحات بابه فيكون مورد التّصادق محكوماً بأقوى المناطين ، ولو لم يكن هناك مناط أقوى يرجع إلى حكم آخر غير الحكمين.

الثالثة : ما إذا لم يكن في مورد التّصادق ملاك ، فيخرج من هذا الباب ويدخل في باب التّعارض الذي يبحث عنه في المقصد الثامن من المقاصد الثمانية ، فعندئذ يؤخذ بالحكم الذي له مناط دون ما ليس له مناط.

وأمّا ما هو طريق كشف وجود المناط في حكم دون حكم؟ فهو ما سيوافيك في مقام الإثبات ، وحاصله : انّ مرجّحات باب التّعادل والتراجيح طريق إلى وجود الإحراز في المرَّجَّح دون المرجح عليه.

كما أنّه يحتمل أن يكون المورد فاقداً للملاك مطلقاً ، وعندئذ يطرحان ويرجعان إلى حكم آخر ، ولا تأثير في هذا المقام للقول بالجواز والامتناع لما عرفت من أنّ القولين من فروع القول بوجود الملاك في مورد التصادق والمفروض عدم اشتمال مورده على المناط.

هذا كلّه بيان الأحكام حسب الثبوت ، وإليك أحكامها حسب الإثبات.

ما هو المختار حسب الإثبات؟

قد عرفت أنّ صور البحث في مقام الثبوت ثلاثة ، وعندئذ يقع الكلام في بيان ما هو المختار على الإثبات أي بعد تعلّق الحكم بالموضوعين؟ فنقول :

__________________

١. والعجب انّ الشيخ الأنصاري ، جعل هذه الصورة من صغريات التعارض. لاحظ مطارح الأنظار : ١٢٤.

١٨٩

إنّ المحقّق الخراساني قدَّم حكم الصورة الثالثة أوّلاً ، وحذف بيان حكم الصورة الأُولى ، واقتصر على بيان حكم الصورة الثانية ، ونحن نشرح الجميع لكن على ضوء الكفاية بتقديم ما قدّمه فنقول :

الصورة الثالثة : عبارة عمّا إذا كان مورد الدليلين خالياً من الملاكين ، فيرجع إلى دليل آخر ، وأمّا إذا كان واحد منها خالياً عنه ، فعندئذ يؤخذ بما فيه المناط ، وطريق التعرّف عليه هو الرجوع إلى المرجّحات الواردة في باب التعادل والترجيح ، فيؤخذ بما هو المشهور أوّلاً ، ثمّ الموافق للكتاب ثانياً ، ومخالف العامّة ثالثاً ، وهذا النوع من البحث يرجع إلى باب التّعادل والترجيح.

وأمّا الصورة الأُولى : التي أحجم المحقّق الخراساني عن بيانها فنقول : إذا كان مورد التصادق واجداً لكلا الملاكين وقلنا بجواز الاجتماع وانّ كلّ حكم ثابت على متعلّقه من غير تجاوز عن موضوعه إلى موضوع آخر فلا كلام فيه ، وهذا هو الذي يتبنّاه الاجتماعي ويرى الساحة خالية عن التزاحم فضلاً عن التعارض ، وبما انّ المحقّق الخراساني لم يقل بجواز الاجتماع أسقط بيان حكم هذه الصورة.

الصورة الثانية : ما إذا كان مورد التصادق واجداً للملاكين ولكن قلنا بامتناع الاجتماع ، فالقائل لا محيص له إلا الأخذ بأقوى المناطين فانّه إذا كان هناك تزاحم بين المقتضيين يؤخذ بالأقوى مناطاً من غير فرق بين هذا الباب وسائر الأبواب حتّى إذا كان أقوى المناط مروياً بسند غير قوي يقدم على ما هو أضعف مناطاً وإن روي بسند قوي ، فلو ورد إنقاذ النبي بخبر الواحد وإنقاذ الولي بخبر أقوى منه ، فبما انّ إنقاذ النبي أقوى مناطاً يؤخذ به وإن كان السند غير قوي.

هذا ما أفاده في الكفاية ، ثمّ إنّه قدس‌سره أشار بالجملة التالية إلى صورة رابعة تعد من شقوق مقام الإثبات ومن فروع القول بعدم جواز الاجتماع حيث قال :

١٩٠

نعم لو كان كلّ منها متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض فلابد من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة. (١)

توضيحه : انّه إذا كان في مورد التصادق كلا المناطين يؤخذ بأقواهما ولكن فيما إذا لم يدل دليل خارجي على فعلية كلا الحكمين ، بل كان المورد قابلاً لحمل أحدهما على الفعلي والآخر على الاقتضائي ، وأمّا لو دلت القرينة على فعلية كلا الحكمين مع القول بامتناع الاجتماع فلا محالة يكون المقام مزيجاً من التزاحم والتعارض.

أمّا التزاحم فلما عرفت من وجود الملاكين ، وأمّا التعارض فلما عرفت من شهادة القرائن على فعلية الحكمين فعندئذ لا مناص في هذه المرحلة من إعمال مرجحات باب التعارض.

هذا إيضاح ما أفاده في الثامن.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بأُمور :

الأوّل : انّ ما ذكره في أوّل الفصل من أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كلّ واحد من متعلّق الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق والاجتماع شيء لا مدخلية له في حقيقة البحث وإن كان له مدخلية في ترتب الأثر فانّ البحث في المقام يدور على أنّ تعدد العنوان موجب لتعدّد المعنون أو لا ، وهذا لا يتوقف على وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التصادق وعدمه.

نعم ترتّب الثمرة والقول بصحّة الصلاة على الاجتماع رهن وجود المناط في

__________________

١. الكفاية : ١ / ٢٤٢.

١٩١

الموردين ، كما أنّ الحكم بصحّتها على القول بالامتناع وتقديم الأمر على النهي رهن وجود الملاك فيها ، وهذا هو الذي أشار إليه السيد المحقّق البروجردي ، فقال : إنّ صاحب الكفاية خلط بين الإمكان والامتناع كبروياً وبين ثمرة النزاع في الفقه فالقائل بالجواز يقول : إنّ اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي جهتين ممكن والقائل بالامتناع ينكره.

نعم تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحقّقاً في صور الاجتماع وهو أمر آخر وراء محل النزاع. (١)

الثاني : انّ الفرق بين التزاحم والتعارض ليس وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التزاحم وعدمه لهما في مورد التعارض ، بل الملاك هو ما سبق ذكره في مبحث الترتّب ، وهو انّه إذا كان التكاذب بين الدليلين في مقام الجعل والتشريع فهو من باب التعارض كما إذا قال : ثمن العذرة سحت ، لا بأس ببيع العذرة ، فلا يمكن جعل حكمين متضادين لموضوع واحد وهو ثمن العذرة.

وأمّا إذا كان بين الدليلين في مقام التشريع كمال الملائمة ولكن طرأ التزاحم في مقام الامتثال وهذا كقول القائل : انقذ النبي وأنقذ الإمام ، فلا نرى أي تكاذب بين الدليلين ، ولو كان هناك شيء من التدافع فإنّما هو لضيق قدرة المكلّف وبُعْد الغريقين مكاناً ، وإلا فلو كان الغريقان متقاربين أو كانت قدرة المكلّف أوسع فلا تزاحم.

الثالث : وهو ان عدّ قولنا : صلّ ولا تغصب من هذا الباب وقول القائل : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق من قبيل المتعارضين ليس لأجل وجود الملاك فيما يسمى بالتزاحم ، وعدمه فيما يسمّى بالتعارض ، وإنّما يعد العرف المورد الثاني من

__________________

١. لمحات الأُصول : ٢١٧.

١٩٢

التعارض دون الأوّل ، وذلك لأنّ كلاً من الدليلين في الأوّل غير ناظر إلى صورة الاجتماع ، بل الأمر تعلّق بطبيعة الصلاة والنهي تعلّق بطبيعة الغصب ، فلا يعد الدليلان عند العرف متعارضين ، لعدم الإشارة فيها إلى صورة التصادق ولو إجمالاً بخلاف الدليلين الآخرين ، أي أكرم كل فاسق وأكرم كلّ عالم ، أو قوله : أكرم العالم وأكرم الفاسق ، فإنّ في كلّ من لفظتي : « كل » و « اللام » إشارة إلى المصاديق الخارجية التي منها اجتماع الفسق والعلم في مورد واحد.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده سيدنا الأُستاذ في درسه الشريف حيث يقول : إنّ الميز بين البابين لبس بما ذكر ، إذ الميزان في عد الدليلين متعارضين هو كونهما كذلك في نظر العرف ، ولذا لو كان بينهما جمع عرفي خرج من موضوعه فالجمع والتعارض كلاهما عرفيان ، وهذا بخلاف المقام فانّ التعارض فيه إنّما هو من جهة العقل ، إذ العرف مهما أدق النظر وبالغ في ذلك لا يرى بين قولنا : صلّ ولا تغصب تعارضاً ، لأنّ الحكم على عنوانين غير مرتبط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الجمع أيضاً عقلي مثل تعارضه ، وعليه فكلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر وإن أحرزنا المناط فيهما فهو داخل في باب التعارض ولابدّ فيه من إعمال قواعده من الجمع والترجيح والترك ، كما أنّ ما لم يعده متعارضاً مع آخر وآنس بينهما توفيقاً وإن عدهما العقل متعارضين فهو من باب الاجتماع وإن لم يحرز المناط فيها. (١)

ثمّ إنّ الشيخ المحقّق المظفر ـ أتى بهذه المقالة ـ التي ذكرها السيد الأُستاذ ببيان مشروح ، وإليك ما ذكره ، فإنّه قدس‌سره عد ما جعل الملاك بين التزاحم والتعارض هو ما ذكرناه من وجود التكاذب في مقام التشريع في الثاني دون الأوّل ، قال :

إنّ العنوان المأخوذ في الحكم على قسمين :

__________________

١. تهذيب الأُصول : ١ / ٣٨٣.

١٩٣

الأوّل : إذا أخذ العنوان في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميزات ، يكون في حكم المتعرض لحكم كلّ فرد من أفراده فيكون نافياً بالدلالة الالتزامية لحكم مناف لحكمه.

الثاني : أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ، أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأُخرى ، فيكون المطلوب في الأمر والنهي عنه صرف وجود الطبيعة.

فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل ، فإنّ موضع الالتقاء يكون العام حجّة فيه كسائر الأفراد الأُخرى بمعنى أن يكون متعرضاً بالدلالة الالتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة إلى الأفراد وخصوصيات المصاديق.

وفي هذه الصورة لابدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامية في كلّ منها على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.

وإن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع ولا يقع تعارض بين الدليلين حينئذ ذلك مثل « صلّ » وقوله : « لا تغصب » باعتبار انّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر والنهي الكثرات والمميزات على وجه يسع العنوان وجميع الأفراد ، وإن كان نفس العنوان في حدّ ذاته وإطلاقه شاملاً لجميع الأفراد ، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة وامتثاله يكون بفعل أي فرد من الأفراد فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم

١٩٤

آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد.

وكذلك النهي يكون متعلّقاً بصدق طبيعة الغصب فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة. (١)

وفي الختام نقول : إنّ المحقّق النائيني جعل الفرقَ بين البابين ، هو انّ اجتماع المتعلّقين في باب الاجتماع ـ صلّ ولا تغصب ـ يكون على وجه الانضمام ، وفي باب التعارض ـ أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ـ يكون على وجه الاتحاد ، وقد عرفت أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تندرج في صغرى التعارض لكون التركيب فيها انضمامياً. (٢)

يلاحظ عليه : أنّه إن رجع ما ذكره إلى ما ذكرناه فنعم الوفاق وإلا فالتفريق بما ذكره ليس أمراً واضحاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سوف يرجع إلى المسألة في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة بعد الفراغ عن مسألة امتناع الاجتماع فلاحظ. (٣) وكان عليه أن يقتصر بما أفاده في المقام.

العاشر : في ثمرات القولين

ذكر المحقّق الخراساني في المقام صوراً خمساً حسب القولين ، وإليك الإشارة إلى عناوينها :

١. إذا قلنا بجواز الاجتماع.

__________________

١. أُصول الفقه ، الطبعة المنقحة : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٤٢٨.

٣. كفاية الأُصول : ١ / ٢٧٣.

١٩٥

٢. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر.

٣. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي والالتفات إلى الحرمة.

٤. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي ، مع الجهل بالحرمة تقصيراً ونسيانها كذلك.

٥. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي مع الجهل بالحرمة جهلاً عن قصور.

فنذكر هذه الصور وبيان أحكامها من حيث صحّة العمل وبطلانه عبادياً كان أو توصلياً.

الصورة الأُولى : إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فلا شكّ في صحّة العمل التوصلي ، وهكذا العمل العبادي ، لأنّه يأتي بالمجمع بداعي الأمر وإن كان عمله معصية أيضاً ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بالأمر غير الساقط ، وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز قطعاً ولو في العبادات وإن كان معصية للنهي أيضاً ».

وهذه الثمرة هي الثمرة المعروفة للمسألة اعتمد عليها الأُصوليون من سالف الأيام وكانت النتيجة صحة العبادة على القول بالاجتماع وبطلانها على القول بالامتناع.

غير أنّ كلاً من العلمين : المحقّق البروجردي ، والمحقّق النائيني ـ قدّس اللّه سرّهما ـ أشكلا على صحّة الصلاة ، بل مطلق العبادة على القول بجواز الاجتماع ، لكن كل ببيان خاص.

أمّا الأوّل فقال بأنّ العمل غير قابل للتقرب ، ومتعلّق كلّ من الأمر والنهي وإن كان متغايراً لكنّهما موجودين بوجود واحد ، فهو موجود غير محبوب ، بل

١٩٦

مبغوض فكيف يتقرب إلى المولى بأمر مبغوض؟!

وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف بعمله هذا متمرد على المولى وخارج عن رسم العبودية وزيّ الرقيّة ، فكيف يتقرب إلى ساحته سبحانه ، بما يعدُّ مبعِّداً ولا يكون مقرِّباً؟!

يلاحظ عليه : أنّه إذا كان القرب والبعد ، أمراً عقلائياً ، وكان العمل مزيجاً بالمحبوب والمبغوض ، فلا مانع من أن يتقرّب بحيثية دون الأُخرى ، نظير ما إذا أطعم اليتيم بمال حلال في دار مغصوبة ، فيعدّ لأجل الترحم عليه متقرباً ، وإن كان لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن عاصياً ، غير متقرّب.

والذي يرشدك إلى وجود الفرق بين العملين : انّه لو غصب دار المولى ، وأكرم فيها ابنه ، وما لو غصبها وضرب فيها ابنه ، فلا شكّ انّ بين العملين بعد المشرقين ، وهذا آية إمكان التقرب ، بعمل متحد مع العمل المبغوض.

وأمّا الثاني فحاصل ما أفاده انّ الصلاة في الدار المغصوبة ليس مصداقاً للمكلّف به ، كما أنّه ليس واجداً للملاك.

أمّا الأوّل فلأنّ منشأ اعتبار القدرة نفس التكليف لا حكم العقل ، لأنّ الأمر هو جعل داع للمكلّف نحو المكلف به ولا يصح جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف ، فيكون متعلّق التكليف هو الحصة المقدورة عقلاً ، غير الممنوعة شرعاً ، فتخرج الحصة المحرمة تحت الأمر ، وعلى ضوء ذلك فالصلاة لما كانت ملازمة للمحرم فلا تكون مصداقاً للأمر ولا تكون مأموراً بها ، ولا يمكن الحكم بالصحة لأجل الأمر.

وأمّا عدم تصحيحها بالملاك ، فلأنّه إنّما يصحّ التقرب به إذا لم يكن ملازماً بالقبح الفاعلي وإلا فلا يكون صالحاً للتقرب ، والصلاة والغصب وإن كانا غير

١٩٧

متحدين إلا انّهما موجودان بإيجاد واحد ، فلا محالة يكون موجِدهما مرتكباً للقبيح بنفس الإيجاد ويستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المعروف بين المتكلّمين هو انّ الحاكم باشتراط التكليف بالأُمور العامّة من العقل والقدرة والعلم ، هو العقل دون ذات التكليف ، وما ذكره من « أنّ منشأ اعتباره القدرة نفس التكليف ، وذلك لأنّ الأمر جعل داع للمكلّف نحو العمل ، ولا يصحّ جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف » ، عبارة أُخرى عن حكم العقل بذلك ، وإلا فلو غضّ النظر عن حاكمية العقل ، فأيّ دليل يمنع عن كون الأمر داعياً إلى الأعم ممّا هو واقع في إطار قدرة المكلّف وما هو خارج عنه؟

وبذلك يعلم أنّ متعلّق الأمر هو مطلق الطبيعة ، لا الطبيعة المقدورة ، غير الممنوعة ، فيكون الفرد المحظور مصداقاً لها ، غير خارج عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لازم ذلك هو الخروج عن محلّ البحث ، فانّ المفروض اجتماع الأمر والنهي ، وتصادقهما على المصداق الخارجي ، وتخصيص المورد بالنهي فقط خلف الفرض.

وثانياً : انّ ما ذكره من كون المجمع فاقداً للملاك بحجّة أنّ موجد الصلاة والغصب مرتكب للقبح بنفس هذا الإيجاد ، « ويستحيل أن يكون العمل الصادر منه مقرِّباً » مبنيّ على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل ، وهو بعدُ غير ثابت ، لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة نفسها في البيت ، وكون الفاعل مرتكباً للقبيح مقارناً للصلاة ـ كما هو المفروض ـ لا يجعل الصلاة فعلاً قبيحاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الصورة الأُولى وإليك الكلام في الصورة الثانية.

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٩.

١٩٨

الصورة الثانية : القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر إلا أنّه لا معصية عليه ، والفرق بين الصورتين هو وجود المعصية في الأُولى دون الثانية ، لكون النهي حكماً اقتضائيّاً لا فعليّاً » وذلك لأنّ القائل بالامتناع يحمل أحد الحكمين على الاقتضائي والآخر على الفعلي ، وظاهر العبارة صحّة العمل عبادياً كان أم توصلياً.

لكن الموافقة معه مطلقاً مشكلة ، لأنّ الأخذ بالأمر لأجل كونه أقوى ملاكاً عن الحرام مختص بالصورتين التاليتين :

١. إذا لم يتمكن من الصلاة إلا في المكان المغصوب.

٢. إذا تمكن من الصلاة في المكان المباح لكن دار الأمر بين فوت الواجب ـ لأجل ضيق الوقت ـ وارتكاب الحرام فيقدم الأمر.

وأمّا إذا كان الوقت وسيعاً ، وكان هناك مندوحة ، فيؤخذ بالنهي دون الأمر لإمكان الجمع بين الامتثالين.

الصورة الثالثة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي لكونه أقوى ملاكاً مع الالتفات والعلم بالحرمة وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية بقوله : « وأمّا عليه ( الامتناع ) وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له ، وأمّا فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة » وما ذكره هو المتعيّن ووجهه واضح.

الصورة الرابعة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم جانب النهي لكن المكلّف غير ملتفت إلى الحرمة تقصيراً أو نسياناً ، وإلى هذه الصورة أشار في « الكفاية » بقوله : أو بدونه ( الالتفات ) تقصيراً فانّه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد

١٩٩

القربة وقد قصدها إلا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً ، فلا يقع مقرباً وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عادة.

وحاصله : انّه يتمكن من قصد القربة ، لكن العمل غير صالح لأن يتقرب به ، ونزيد بياناً بأنّ الصحة رهن أحد أمرين : الأمر والمفروض كونه اقتضائياً ، والملاك وهو بعد غير معلوم ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض كونه إنشائياً ، ولأجل ذلك قال الفقهاء بأنّ المقصر والناسي خارجان عن قاعدة « لا تعاد » كما هما خارجان أيضاً عن حديث الرفع.

الصورة الخامسة : تلك الصورة مع الجهل بالحرمة قصوراً.

إذا قلنا بالامتناع وقدمنا النهي ولكن كان المصلي جاهلاً بالحرمة حكماً أو موضوعاً عن قصور ، فقد نسب إلى المشهور صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا كان الجهل عن قصور ، والظاهر انّ قولهم لها لأجل قولهم بجواز الاجتماع ـ وسيوافيك انّ القول المشهور بين الإمامية من عصر الفضل بن شاذان ( المتوفّى ٢٦٠ هـ ) إلى الأعصار المتأخرة كالمحقّق الأردبيلي وتلميذيه هو القول بجواز الاجتماع ، غير أنّ المحقّق الخراساني لما قال بالامتناع حاول أن يصحح فتوى المشهور بالصحة على مختاره وحاصل ما أفاده من الفرق بين الجهل عن تقصير والجهل عن قصور يتلخص في النقاط التالية :

١. انّ صحّة العبادة رهن أمرين :

الف : قصد القربة.

ب : كون المأتي به صالحاً لأن يتقرّب به.

والأوّل مشترك بين الجاهلين فيقصدان القربة ، لكن الثاني كون المأتي به صالحاً للتقرب غير متحقّق في المقصّر ، لأنّ الجاهل لما كان كالعامد ، يعد عمله

٢٠٠