إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

المقصد الثاني في النواهي

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة النهي وصيغته

الفصل الثاني : في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين

الفصل الثالث : في كشف النهي عن الفساد وعدمه

وفيه مقامان :

الأوّل : كشف النهي في باب العبادات ، عن الفساد

الثاني : كشف النهي في باب المعاملات عن الفساد

١٦١
١٦٢

الفصل الأوّل

في مادّة النهي وصيغته

أسقط المحقق الخراساني البحث في مادّة النهي مع أنّها مثل مادة « الأمر » قابلة للبحث فيها من جهات شتّى ـ على ضوء ما مرّ في مادة الأمر ـ وخصَّ البحث بصيغة النهي التي تمثّلها لفظة « لا تفعل » مكان « إفعل » في جانب الأمر ، كما أسقط كثيراً من المباحث التي خاض فيها في صيغة الأمر نظير : دلالتها على الحرمة وعدمها ، واشتراط العلو أو الاستعلاء وعدمهما ، وظهورها في النفسي العيني التعييني وعدمه ، ودلالتها على الفور والتراخي وعدمه ، إلى غير ذلك من المباحث ، وإنّما ركّز في المقام على الأُمور التالية :

١. انّ مفاد هيئة النهي هو الطلب.

٢. انّ متعلّق الطلب ، هو الترك لا الكف عن الفعل.

٣. انّ النهي لا يدل على الدوام ، غير أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها.

٤. إذا خالف النهي فهل يدلّ على إرادة ترك المتعلّق ثانياً أو لا؟

وإليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

١٦٣

الف : مفاد الهيئة

ادّعى المحقّق الخراساني بأنّ مفاد الهيئة في كلا الموردين هو الطلب ، غير أنّه يتعلّق في الأمر بالوجود وفي النهي بالعدم.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ادّعاء محض والمتبادر منهما غير الطلب ، بل الهيئة في الأمر والنهي تدل على البعث أو الزجر ، حيث إنّ الصيغة تقوم مكان البعث أو الزجر بالفعل ، فانّ الإنسان يبعث غلامه بحركة الرأس ويزجره بالإشارة باليد ، فقام الأمر بالصيغة ، مكان البعث بالرأس ، والنهي بالصيغة مكان الزجر باليد.

ب : متعلّق الطلب

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المتعلّق في الأوّل هو الوجود وفي الثاني هو العدم.

لكنّه خلاف التحقيق ، لأنّ الصيغة مركّبة من هيئة ومادة ، والمادة لا تدلّ إلا على نفس الطبيعة ، فأين الدال على الوجود والعدم؟

نعم البعث أو الزجر ، لغاية الإيجاد ، أو الاستمرار على الترك وكون شيء غاية شيء ، غيرُ كونه مأخوذاً فيه وبذلك يسقط البحث عن كون المتعلّق هو الترك أو كف النفس ، وما حولهما من النقض والإبرام.

ج : عدم دلالتها على الدوام

ذكر المحقّق الخراساني بأنّ الصيغة لا تدلّ على الدوام والتكرار ، غير أنّ إيجاد الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكون إلا بعدم الافراد.

ما ذكره قدس‌سره ونسبه إلى أنّه مقتضى العقل ، منظور فيه ، بل مقتضى العقل انّ

١٦٤

الإيجاد والإعدام على نسق واحد ، لما حُقِّق في محلّه من أنّ الطبيعة تتكثّر حسب تكثّر الأفراد فزيد إنسان تام ، وبكر إنسان آخر ، وكلّ حائز تمام الإنسانية ، ونسبة الطبيعة إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا الأب الواحد بالنسبة إليهم ، فإذا كانت الطبيعة متعددة الوجود حسب تعدد الأفراد ، تكون متعددة العدم كذلك.

نعم ما ذكره صحيح عرفاً ، فلا تكون الطبيعة معدومة ـ عنده ـ إلا بانعدام جميع الأفراد ، فلو نهى عن السرقة وشرب الخمر والغيبة ، فلا يصدق ترك الطبيعة إلا بترك جميع أفرادها وذلك لمناسبات مغروسة في ذهن المكلّف من أنّ النهي عن الشيء لغاية المفسدة الملزمة في كلّ فرد ، فلا يتحقّق الغرض الغائي ـ الاجتناب عن المفسدة ـ إلا بترك جميع الأفراد.

د. إذا خالف النهي

إذا خالف النهي ، فهل يدل على لزوم تركه ثانياً أو لا؟ والظاهر عدم الدلالة لسقوط النهي بالعصيان ، ولزوم امتثاله ثانياً يتوقف على الدليل ، بل إطلاق المتعلّق يدل على العدم ، وإلا لكان على المولى أن يقيّد ويقول : وإن عصيت فلا تفعل أيضاً.

١٦٥

الفصل الثاني

في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

باعتبار عنوانين

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : الفرق بين الاجتماع الآمري والاجتماع المأموري

إنّ الأمر والنهي من المفاهيم ذات الإضافة ، فللأمر إضافة إلى الآمر ، وإضافة إلى المأمور به ، وإضافة إلى المأمور ، كما أنّ النهي له إضافة إلى الناهي أوّلاً ، وإلى المنهيّ عنه ثانياً وإلى المنهيّ ثالثاً ، فعندئذ فهنا صور ثلاث :

١. لو اتّحد الآمر والمأمور ، والناهي والمنهي في زمان واحد ، وكان بين المأمور به والمنهي عنه ، من النسب التساوي كأن يقول : أخرج من البيت في ساعة خاصّة ولا تخرج منه في نفس الساعة ، يسمّى الاجتماع آمرياً ، فإنّ الآمر هو السبب لاجتماع الأمر والنهي في شيء واحد في زمان واحد ، ويكون من قبيل التكليف المحال ، إذ لا ينقدح في ذهن الإنسان ، في زمان واحد إرادتان متضادتان طلبُ الخروج وعدمُه فهذا النوع من الطلب تكليف محال من شخص واحد في زمان واحد ـ بدل كونه تكليفاً بالمحال ـ حيث إنّ عدم إمكان امتثاله يرجع إلى عدم

١٦٦

القابلية في ناحية المكلّف به قبل أن يرجع إلى قصور قدرة المكلّف ، حيث لا يمكن الجمع بين الوجود والعدم.

نعم لو رجع عدم إمكان الامتثال إلى قصور قدرة المكلّف ، مع كون المكلّف به في نفسه أمراً ممكناً كما إذا قال : انقذ الغريقين مع عدم قدرته إلا على إنقاذ أحدهما ، يكون من قبيل التكليف بالمحال ، وإن كان مرجع ذلك ـ عند الدقّة أيضاً ـ إلى التكليف المحال ، لانّ المكلِّف إذا وقف على قصور قدرة المكلَّف كيف ينقدح في ذهنه إرادة إنقاذ الغريقين؟ لكن القضية شكلاً وصورة من قبيل التكليف بالمحال ، وحقيقة ومآلاً من قبيل التكليف المحال.

٢. تلك الصورة ولكن كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه ، هي التباين كما إذا أمر بالصلاة ونهى عن النظر إلى الأجنبية ، فهذا من الإمكان بمكان ولا يعدّ من باب الاجتماع حتّى لو نظر إليها حين الصلاة ، لا توصف الصلاة به ، لأنّ النظر قائم بالعين والصلاة قائمة بسائر الجوارح.

٣. نفس الصورة الأُولى ولكن كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه ، عموماً وخصوصاً من وجه ، كما إذا أمر بالصلاة ونهى عن الغصب ، فيقع الكلام في أنّه هل يصحّ للمولى أن يأمر بالأُولى على الإطلاق وينهى عن الغصب كذلك أو لا يصح؟ اختلف الأُصوليون على قولين :

١. يجوز ، لانّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فيخرج عن كونه تكليفاً محالاً ، كما هو واضح ، أوتكليفاً بالمحال ، لأنّ له المندوحة في إقامة الصلاة في غير المغصوب.

٢. لا يجوز ، لأنّ مفاد الإطلاق في الدليلين عبارة : صل ولو في الدار المغصوبة ، ولا تغصب ولو في حال الصلاة ، ولو أخذنا بكلا الإطلاقين يكون

١٦٧

الشيء الواحد ـ الصلاة في الدار المغصوبة ـ متعلّقاً للأمر والنهي ويكون من قبيل الاجتماع الأمري.

فقد ظهر ممّا ذكر انّ محل النزاع هو الصورة الثالثة ، وانّ أساس النزاع بين المجوّز والمانع هو كفاية اختلاف المتعلّقين في توجّه الأمر والنهي ، وعدم كفايته ، لأنّ مرجع الأخذ بالإطلاقين إلى الاجتماع الأمري وكون الشيء الواحد في مورد الاجتماع متعلّقاً للأمر والنهي فلاحظ.

الثاني : هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟

هل النزاع في المسألة صغروي ـ كما ذهب إليه صاحب الكفايةـ أو كبرويّ كما هو اللائح من الكتب الأُصولية حيث يبحثون عن جواز الاجتماع وعدمه ولكلّ من القولين ، وجه.

أمّا كونه صغروياً فمن اعتمد ـ كالمحقّق الخراساني ـ في إقامة الدليل على الجواز وعدمه ، على أنّ تعدد العنوان ـ كالصلاة والغصب ـ يوجب تعدد المعنون كالحركة في الدار المغصوبة أو لا يوجب ، جعل النزاع صغروياً وانّه هل هنا اجتماع أو لا؟ وذلك لأنّه لو قلنا بأنّ تعدّد العنوان ، لا يحدث تعدّداً في المعنون ، يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، ولو قلنا : إنّ تعدّده يحدث تعدّداً في المعنون ، وانّ كلاً من الصلاة والغصب موجود بوجود خاص لا يلزم اجتماعهما في شيء واحد.

ويقرب من ذلك نظرية المحقّق النائيني حيث إنّه بنى الجواز وعدمه في المسألة على أنّ تركيب المادة والصورة ، أو تركيب المقولات بعضها مع بعض ، تركيب انضمامي أو اتّحادي ، فعلى الأوّل يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فلا

١٦٨

يلزم الاجتماع ، وعلى الثاني تلزم وحدة متعلّقهما فيلزم الاجتماع.

وبالجملة من بنى الجواز وعدمه على قضية « تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، أو لا » أو انّ تركيب المقولات بعضها مع بعض تركيب انضمامي أو اتّحادي ، فقد جعل النزاع صغروياً ، فالمجوز ينفي الاجتماع ، والمانع يثبته.

لكن جعل النزاع صغروياً ، يلازم القول بأنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالأفراد الخارجية ، مع أنّ المعروف بينهم ـ حتّى المحقّق الخراساني ـ انّها تتعلّق بالطبائع دون الافراد إذا فسّرت الأفراد ، بالمصاديق الخارجية ، وذلك لأنّ الخارج ظرف لسقوط الأمر لا ثبوته ، ولا محيص عن القول بكون النزاع كبرويّاً وانّ مصب النزاع عبارة عن الأمر التالي :

هل يجوز الأمر بشيء ، والنهي عن شيء آخر ، مع تصادقهما على مورد واحد ، أو لا؟ فالقائل بالجواز يقول : إنّ متعلّق الأمر هو حيثية الصلائية ، ومتعلّق النهي هو الحيثية الغصبية ، فالمتعلّقان مختلفان ، وتصادقهما على مورد لا يكون مانعاً عن حفظ الأمر والنهي المتعلّقين بشيئين مختلفين فيجوز اجتماع الأمر والنهي في المقام.

والقائل بالامتناع يقول : إنّ متعلّق الأمر والنهي وإن كان مختلفاً حقيقة ، لكن حفظ إطلاق الدليلين ، يستلزم وحدة متعلّق الأمر والنهي في النهاية ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق « اقم الصلاة » هو وجوب إقامة الصلاة في عامّة الأماكن حتّى المكان المغصوب ، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله : « لا تغصب » هو تحريمه مطلقاً حتّى في الحالة الصلائية ، فلو صلّى في مكان مغصوب يلزم أن يكون العنوان الكلي ( الصلاة في الدار المغصوبة ) متعلّقاً للأمر والنهي بحكم حفظ الإطلاقين ، فيرجع الاجتماع المأموري إلى الاجتماع الأمري لاتّحاد الآمر والناهي ، والمأمور والمنهي ، والمأموربه والمنهي عنه فلا يجوز هذا النوع من الأمر والنهي.

١٦٩

الثالث : ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

العنوان المعروف للمسألة هو قوله : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا؟ فقد وقع الكلام في تعيين المراد من « الواحد » في التعريف.

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المراد هو الأعم من الواحد الشخصي والنوعي والجنسي وقال : المراد منه مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين ، بأحدهما كان مورداً للأمر ، وبالآخر مورداً للنهي فيعم الواحد الشخصي الذي له عنوانان كالصلاة في الدار المغصوبة ، والواحد النوعي مثل عنوان « الصلاة في المغصوب » والواحد الجنسي كالحركة المعنونة بالصلائية والغصبية ـ وأضاف ـ فخرج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنهي ولكن لم يجتمعا وجوداً ولو اجتمعا مفهوماً كالسجود للّه والسجود للصنم.

يلاحظ عليه : أنّ لازم ذلك إرادة معنيين من لفظ الواحد ، فتارة أُريد به مطلق الواحد ، ليشمل الواحد الشخصي والنوعي والجنسي ، وأُخرى أُريد به الواحد الشخصي فقط ليخرج السجود للّه والسجود للصنم ، حيث لا يجتمعان وجوداً في مصداق واحد.

والأولى أن يقال : انّ المراد من الواحد هو الواحد الشخصي فقط ، ويرجع النزاع إلى أنّ اجتماع العنوانين في واحد شخصي وتصادقهما عليه ، هل يمنع من الأخذ بالإطلاقين في الأمر والنهي معاً فيكون الحقّ مع الامتناعي ، فعندئذ لا محيص من الأخذ بأحد الإطلاقين ، إمّا الأمر بالصلاة ، أو النهي عن الغصب ففي مورد الصلاة في الدار المغصوبة ، إمّا أمر ولا نهي ، أو نهي ولا أمر أو لا يمنع فيكون الحقّ مع الاجتماعي.

١٧٠

الرابع : ما هو الفرق بين المسألتين؟

اختلفت كلمتهم في بيان الفرق بين هذه المسألة ، وما سيوافيك من البحث في دلالة النهي عن العبادات والمعاملات ، على الفساد وعدمها ، ففي بيان ما هو الفارق أقوال :

١. التمييز بالغرض

انّ الجهة المبحوث عنها في المسألتين هي التي تميّز إحدى المسألتين عن الأُخرى ، فانّ الجهة المبحوث عنها في المقام عبارة عن كون تعدد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا ، فعلى القول بالتعدّد ترتفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد ، لاستقرار كلّ حكم على موضوعه من دون سراية أحد الحكمين إلى موضوع الحكم الآخر ، وعلى القول بعدم التعدّد ، يتحد متعلّق كلّ من الأمر والنهي ، فيسري كلّ حكم إلى متعلّق الحكم الآخر ، فيعود البحث إلى السراية وعدمها تلو القول بأنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟

هذه من الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة ، بخلاف الجهة المبحوث عنها في الأُخرى فانّها ـ بعد تسليم توجّه النهي إلى العبادة ـ يقع الكلام في كون النهي موجباً للفساد أو لا ، فجهة البحث في الأُولى غيرها في الثانية.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تعدد الغرض يحكي عن وجود اختلاف جوهري بين المسألتين ، إذ لا معنى لترتّب أثرين مختلفين على المسألتين مع عدم اختلافهما في الذات والجوهر ، وعلى ذلك فيحصل التمايز الجوهري قبل الغرض والأثر.

وثانياً : أنّ ما ذكره مبني على كون البحث في المسألة صغروياً وإنّ تعدّد

١٧١

العنوان هل يوجب تعدّد المعنون ، حتّى يكون متعلّق الأمر غيره في النهي أو لا؟ فيكون مرجع البحث إلى أنّه هل هنا اجتماع أو لا؟ ولكنّك عرفت أنّ البحث في المقام كبروي وانّ البحث إنّما هو في جواز الأمر بشيء والنهي عن شيء آخر ، متصادقين على مصداق واحد وعدمه ، ومرجع البحث إلى جواز الاجتماع وعدمه ـ بعد تسليم أصل الاجتماع في مصداق واحد ـ لا أصل الاجتماع وعدمه.

٢. التمييز بالموضوع

ذهب صاحب الفصول إلى أنّ المسألتين تتميّزان بالموضوع ـ ذكره عند البحث عن دلالة النهي المتعلّق بالعبادة ، على الفساد أو لا ـ وحاصل ما ذكره هو انّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ، سواء أكان بينهما عموم وخصوص من وجه كما إذا قال : صلّ ولا تغصب ، أو عموم وخصوص مطلق كما إذا قال : أكرم الناطق ، ولا تكرم الشاعر ، وعلى كلّ تقدير ، فالموضوعان متغايران مفهوماً ، وأمّا النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد وعدمه ، ففيما إذا كان الموضوعان متّحدين حقيقة مختلفين بالإطلاق والتقييد ، كما إذا قال : صلّ ، ولا تصلّ في الحمام.

يلاحظ عليه : بأنّه لو انحصر وجه التمايز بين المسألتين بالتمايز في الموضوع لتوجّه إليه ، ما أورده المحقّق الخراساني عليه ، وحاصله : انّه لو كانت الجهة المبحوث عنها متعددة فلابدّ من عقد مسألتين وإن كان موضوعهما واحداً ، وإن كانت الجهة المبحوث عنها واحدة فلابدّ من عقد مسألة واحدة وإن كان الموضوع متعدّداً ، فلا دور لوحدة الموضوع وتعدّده.

١٧٢

٣. التمييز بالموضوع والمحمول

إنّ المسألتين تتميّزان موضوعاً ومحمولاً ، أمّا الأوّل فقد عرفته في كلام صاحب الفصول ، وأما الثاني فلأنّ المحمول في المقام جواز الاجتماع وعدمه ، وفي مسألة النهي عن العبادة ، هو دلالة النهي على الفساد وعدمه ، ومع الاختلاف الجوهري بين المسألتين في جانب الموضوع والمحمول ، لا وجه اشتراك بينهما حتّى يُسأل عن جهة افتراقهما.

نعم لو قلنا في المقام بالامتناع وانّه لابدّ من حفظ أحد الحكمين فقدّمنا النهي على الأمر ، يكون المورد من صغريات المسألة الآتية في دلالة النهي على الفساد وضعاً أو لا.

٤. التمييز بكون البحث عقلياً

الفرق بين المسألتين هو انّ ملاك البحث في المقام عقلي حيث يبحث في جواز الاجتماع وعدمه عقلاً ، وفي المسألة الآتية لفظي حيث يبحث في دلالة النهي على الفساد لفظاً.

يلاحظ عليه : مضافاً إلى أنّ البحث هناك لا يختصّ باللفظ ، بل يعمّ ما إذا كان الدالّ عليه ، هو الدليل اللّبي كالعقل والإجماع ، انّ مثل هذا الاختلاف لا يصير سبباً لتعدّدها ، لأنّ اختلاف طريق إثباتها لا يجعل المسألة الواحدة ، مسألتين.

الأمر الخامس : المسألة أُصولية

اختلفت كلمة علماء الأُصول في حقيقة هذه المسألة إلى أقوال :

١٧٣

١. مسألة أُصولية ، ٢. مسألة كلامية ، ٣. من مبادئ الأحكام ، ٤. مسألة فقهية ، ٥. من المبادئ التصديقية.

وإليك تبيين هذه الأقوال مع نقدها.

١. المسألة أُصولية

المشهور انّ هذه المسألة مسألة أُصولية لوجود ملاكها فيها وهو صحّة وقوع نتيجتها كبرى للاستنباط ، فانّها على القول بجواز الاجتماع يُستنبط منها صحّة الصلاة ، كما أنّها كذلك على القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر ، وأمّا على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي فيترتّب عليه الفساد.

هذا ولو قلنا بأنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه ، فالمسألة أُصولية أيضاً لما عرفت من أنّ البحث عن العوارض التحليلية بحث عن عوارض الموضوع ، والمراد من العوارض التحليلية هو تعيّنات الموضوع وتشخّصاته.

فانّ الفقيه عالم بوجود الحجّة بينه وبين ربّه ولكن لا يعلمها على وجه التحديد ، فالبحث في علم الأُصول بحث عن تعيّن الحجّة بخبر الواحد ونظائره ، ومثله المقام فالكلام في تشخيص ما هو الحجّة عند اجتماع الأمر والنهي فهل هناك حجّتان أو حجّة واحدة؟ وعلى الثاني فهل هي الأمر بالصلاة أو النهي عن الغصب؟

الإشكال على كون المسألة أُصولية

وقد أورد المحقّق النائيني على كون المسألة أُصولية بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على مجرّد القول بالامتناع ، بل القول بالامتناع يوجب دخول دليلي الوجوب

١٧٤

والحرمة في باب التعارض وإجراء أحكام التعارض عليهما. ويستنبط من ذلك حكم فرعي. (١)

توضيحه : انّ القول بالامتناع لا يكفي في إثبات فساد العبادة ، بل يتوقّف على أمر آخر وهو إعمال المرجّحات بتقديم جانب النهي على الأمر ، فعند ذلك تفسد العبادة أخذاً بأحد الدليلين ورفض الآخر ، فظهر انّ فساد العبادة ليس نتيجة مباشرة للقول بالامتناع ، بل لابدّ بعد القول به من إعمال قواعد التعارض وتقديم جانب النهي على جانب الأمر.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ كون المسألة أُصولية ليس رهن ترتّب الأثر على كلتا الصورتين : الإثبات والنفي ، بشهادة انّ حجّية خبر الواحد مسألة أُصولية يترتّب الأثر على واحد من طرفي القضية وهو كونه حجّة دون عدمها. وعلى ذلك فيكفي في عدّ المسألة أُصولية ترتّب أثر الصحة على القول بالاجتماع وإن لم يكن على القول بالامتناع أثر شرعي حسب افتراضه.

وثانياً : لا يشترط في كون المسألة أُصولية أن تكون المسألة سبباً تامّاً لاستنباط الحكم الشرعي ، بل ربّما يتوقّف استنباط الحكم الشرعي على ضم مسألة أُخرى إلى المسألة الأُولى حتّى يستنبط منها الحكم الشرعي وذلك كحجّية خبر الواحد التي لا يستنبط منها الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها مسألة أُخرى باسم حجّية الظواهر.

وعلى ذلك فلا مانع من جعل المسألة أُصولية وان توقّف ترتّب الأثر ـ على القول بالامتناع ـ على إعمال قواعد التعارض.

وثالثاً : أنّ المتبادر من كلام المحقّق النائيني انّ المسألة من باب التزاحم على

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٣٤ ؛ فوائد الأُصول : ١ / ٣٩٩.

١٧٥

القول بالاجتماع ، ومن باب التعارض على القول بالامتناع ، ولكنّه رأي شاذ فإنّ الظاهر من الأُصوليين انّه على القول بالاجتماع لا تزاحم ولا تعارض ، وأمّا على القول بالامتناع فهناك تزاحم لا تعارض ، ولأجل ذلك يجب أن يلجأ الامتناعي إلى إعمال مرجّحات باب التزاحم لا التعارض ، وسيوافيك شرحه عند البحث عن الأمر الثامن للمحقّق الخراساني.

٢. مسألة كلامية

إنّ المسألة كلامية ، لأنّ الأمر والنهي من الأُمور الواقعية ، فالبحث هو عن جواز اجتماعهما وامتناعه.

وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ علم الكلام هو العلم المتكفّل لبيان حقائق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها ، وليس البحث في المقام عن جواز الاجتماع وامتناعه ، بل البحث عن وجود الاجتماع وعدمه. (١)

ولا يخفى ضعف الاستدلال والإشكال.

أمّا الأوّل : فلأنّ علم الكلام ، هو العلم الباحث عن ذاته سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، حتّى أنّ البحث عن النبوّات العامّة والخاصّة والإمامة والمعاد ، بحث عن أفعاله سبحانه ، وانّه هل يجب عليه بعث الأنبياء ، أو نصب الإمام أو احياء المكلّفين للجزاء أو لا؟ وأمّا البحث عن الجواز والامتناع ـ كما في كلام المستدل ، أو البحث عن حقائق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها كما في كلام المستشكل ـ فلا صلة لهما بعلم الكلام.

ولو أردنا جعلها في عداد المسائل الكلامية لوجب تغيير عنوان المسألة بأن

__________________

١. فوائد الأُصول : ١ / ٣٩٩.

١٧٦

نقول : هل يجوز على اللّه أن يأمر بعنوان وينهى عن عنوان آخر ، متصادقين في أمر واحد أو لا؟ ولكن الملاك في عدّ المسألة من مسائل علم ما ، هو العنوان الموجود في الكتب لا المحرّف منه.

٣. من مبادئ الأحكام

وربّما يظهر من بعض الأُصوليين انّها من مبادئ الأحكام حيث يبحث فيها عن أحوال الأحكام الخمسة وأوصافها ، فيبحث عن إمكان اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد أو لا ، وانّه هل هناك مطاردة بين الوجوب والحرمة أو لا؟

وأورد عليه المحقّق الخوئي : بأنّ مبادئ الأحكام راجعة إلى المبادئ التصوّرية أو المبادئ التصديقية ، وذلك لأنّه إن أُريد تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادئ التصورية ( لعلم الفقه ) ، لأنّه لا يعني من المبادئ التصورية إلا تصوّر الموضوع والمحمول ( وهنا الأخير ).

وإن أُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، وعلم الأُصول كلّه مبادئ تصديقية لعلم الفقه ، وبفضل هذه المسألة نجزم بحكم الصلاة في الدار المغصوبة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ مبادئ الأحكام من مصطلحات القدماء في خصوص علم الفقه ، والمراد منها لا هذا ولا ذاك ، بل شيء ثالث وهو البحث عن ماهية الأحكام الخمسة وملازماتها كالبحث في أنّ الوجوب والاستحباب بسيطان أو مركبان ، والبحث عن اقتضاء وجوب شيء وجوبَ مقدمته ، أو حرمته حرمتَها ، وفي المقام يعود البحث إلى استلزام وجوب الشيء عدمَ حرمته أو بالعكس فيما إذا

__________________

١. المحاضرات : ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

١٧٧

تصادق العنوانان في مورد واحد ، فالبحث كلّه يرجع إلى الأحكام الخمسة بصور مختلفة ، فلو كان علم الفقه باحثاً عن عوارض فعل المكلّف التي هي الأحكام الخمسة فالمبادئ الأحكامية تبحث عن حالات تلك العوارض التي تعرض فعل المكلّف.

نعم يلاحظ على صاحب النظرية انّ الملاك في جعل المسألة من باب هو عنوانها المعروف في الكتب ، وليس هو إلا جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، دون مطاردة الوجوب الحرمة أو بالعكس ، فانّ البحث على هذا العنوان يوجب تغيير عنوان المسألة المعروفة من الكتب.

٤. مسألة فقهية

وجعل بعضهم مسألة جواز الاجتماع أو الامتناع من المسائل الفقهية قائلاً بأنّ البحث يرجع إلى صحّة الصلاة وفسادها عند الإتيان بها في المكان المغصوب.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره نتيجة المسألة وليس أصلها ، والمحمول في المسألة جواز الاجتماع وعدمه لا صحّة الصلاة وفسادها.

على أنّ نتيجة البحث لا تختص بباب الصلاة ، بل تعم الحجّ والاعتكاف وغيرها.

٥. من المبادئ التصديقية

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المسألة من المبادئ التصديقية ، وقد ذهب إليه عندما ردّ على أُصولية المسألة قائلاً : بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على القول

١٧٨

بالامتناع مباشرة ، بل يجب أن ينضم إلى القول بالامتناع شيء آخر وهو فرض المورد من باب التعارض وإجراء أحكامه على العبادة ، ويستنبط من الجميع حكم فرعي. والمسألة الأُصولية عبارة عمّا يستنبط بها حكم فرعي من دون حاجة إلى ضم نتيجتها إلى قاعدة أُخرى.

فإذن ليس للمسألة دور ، إلا أنّ القول بالامتناع يحقّق موضوعاً للتعارض ، كما أنّ القول بالاجتماع يحقق موضوعاً للتزاحم ، ومن المعلوم أنّ البحث عن أحكام التعارض والتزاحم مسألة أُصولية ، لكن البحث عن وجود التعارض أو التزاحم بحث عن المبادئ التصديقية. (١)

فالإنصاف انّ البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية لرجوع البحث فيه إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ تسمية هذه المسألة بالمبادئ التصديقية تسمية خاطئة ، فانّها عبارة عن المقدّمات التي يتوقّف عليها الجزم بالنسب الموجودة في مسائل العلم ، كشعر امرئ القيس في علم النحو حيث يثبت به القواعد النحوية ، أو البراهين التي يتوقّف عليها إثبات النسبة في المسألة الهندسية ككون زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين.

فإذا كان هذا هو المراد من المبادئ التصديقية فليست هذه المسألة سبباً للإذعان بالنسب في المسائل الأُصولية ، بل هي من المبادئ التصوّرية لإثبات وجود موضوع المسائل وهو انّ المقام على الاجتماع ـ حسب فرضه ـ من باب

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٢. فوائد الأُصول : ١ / ٤٠٠.

١٧٩

التزاحم ، فعلى الفقيه أن يجري فيه قواعد التزاحم ، وعلى الامتناع من باب التعارض فعليه أن يجري مرجّحات التعارض.

وبالجملة : فالتزاحم والتعارض من موضوعات المسائل الأُصولية حيث إنّ كل واحد منها موضوع لأحكام خاصّة فللتزاحم حكم وللتعارض حكم آخر.

فنتيجة البحث في المقام تنتهي إلى إثبات التزاحم أو التعارض في المقام وهما من موضوعات المسائل الأُصولية التي لهما من الأحكام والمرجّحات ، وإثبات موضوع المسائل ، يعد من المبادئ التصوّرية للعلم لا التصديقية.

وثانياً : الظاهر أنّ القول بالاجتماع يخرج المسألة عن إطار التزاحم والتّعارض ، وأمّا القول بالامتناع في المقام فيدخل المسألة في باب التزاحم لا التعارض ، لأنّ المتزاحمين عبارة عمّـا إذا كان مورد كلّ دليل مشتملاً على مصلحة ملزمة والمقام كذلك حيث نعلم بوجود المصلحة الملزمة في جانب الفعل أي الصلاة ووجود المفسدة الملزمة للترك لأجل الغصب ، غير أنّ المكلّف بسوء الاختيار صار عاجزاً عن الجمع بين المصلحتين فأشبه بما إذا لم يتمكّن من إنقاذ الغريقين.

السادس : في عموم النزاع لأقسام الأمر والنهي

هل النزاع يختص بالايجاب والتحريم النفسيّين ، العينيّين ، التعيينيّين ، أو يعم الغيريّين والكفائيّين والتخييريّين؟ ذهب صاحب الفصول إلى الأوّل ، والمحقّق الخراساني إلى الثاني.

لا شكّ انّ كلاً من مادّة الأمر والنهي ، إذا أطلقت تنصرف إلى ما هو الشائع ، أي النفسي العيني والتعييني ، كما أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة في صيغة الأمر هو كذلك ، لأنّ غيرها في مقام الإثبات يحتاج إلى بيان زائد ، بخلافها ، وقد

١٨٠