إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٧٦٤

الأُمُور ). (١)

فجعل إقامة الصلاة وما تلاه في ذمّة الأُمّة المتمكّنة وهو روح الواجبات الكفائية.

هذا وقد بسط الكلام شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في تبيين هذه النظرية في موسوعته المسمّاة بـ « مفاهيم القرآن ». (٢)

النظرية الرابعة : تعلّق الوجوب بواحد معيّن

وحاصل هذه النظرية انّ التكليف منصبٌّ على واحد معيّن عند اللّه سبحانه ، فإن قام هو بالفريضة وإلا يسقط عنه بفعل غيره ، لأنّ المفروض انّ الغرض واحد ، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

يلاحظ عليه : أوّلاً : ما هو السبب لتعلّق التكليف بشخص معين عند اللّه دون إعلامه.

وثانياً : انّه خلاف ظواهر الأدلّة فانّ التكليف إمّا متوجّه إلى عامّة المكلّفين استغراقاً ، أو إلى الفرد غير المعيّن أو مجموع المكلّفين.

إكمال فيه أمران :

١. ربّما يظهر من المحقّق الخراساني عند البحث فيما إذا دار أمر الواجب بين العينية والكفائية ، كون الواجب الكفائي من قبيل الواجب المشروط ، حيث قال في وجه الحمل على كون الواجب واجباً عينياً بأنّ الحكمة تقتضي كونه مطلقاً

__________________

١. الحج : ٤١.

٢. مفاهيم القرآن : ٢ / ١٩٨ ـ ٢٠٣.

١٤١

سواء أتى به آخر أو لا. (١)

ومفاد ذلك انّ الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان الآخر به ، بخلاف العيني ، وهو كما ترى ، لأنّ الترك إمّا شرط للوجوب أو شرط للواجب. فعلى الأوّل يلزم على الجميع وجوب القيام بالفعل ، دفعة واحدة لحصول الشرط. وعلى الثاني يلزم عدم حصول الامتثال إذا أتى به الجميع لعدم الإتيان بالواجب مع شرطه.

وبما انّ هذه النظرية مستوحاة من عبارة الكفاية ولا نص عليها ، فلم نردفها بسائر النظريات.

٢. إذا قلنا بأنّ الواجب الكفائي ما له بدل فإذا قام أحد يسقط الحكم عن الأبدال الأُخر ، فالمقصود البدل الذي يكون مثل الأبدال الأُخر في توجّه الوجوب إليه ، فخرج وجوب أداء الدين عن التعريف فانّه وإن كان يسقط بأداء البريء ، لكنّه ليس بدلاً بهذا المعنى ، إذ ليس الأداء عليه واجباً وإنّما هو متبرّع له أن يؤدي وله أن لا يؤدي. (٢)

ثمرات البحث

ثمّ إنّه يقع الكلام في ثمرات الاختلاف في واقع الواجب الكفائي فنقول :

إنّ هناك ثمرات فقهية وكلامية على تلك النظريات ، وإليك الفقهية ثم الكلامية.

١. لو نذر أحد أن يعطي عشرة رجال لكلّ درهماً إذا أتى كلّ واحد منهم بواجب ، فلو قام الكلّ بالصلاة على الميّت ودفع الشخص لكلّ واحد درهماً ، فهل

__________________

١. الكفاية : ١ / ١١٦.

٢. الفصول : ١٠٧.

١٤٢

برَّ نذره أو لا؟ يختلف حسب اختلاف الأنظار.

أمّا على الأوّل فقد امتثل نذره ، لأنّ المفروض انّ الوجوب يتعلّق بآحاد المكلّفين فكلّ واحد من هذه العشرة كان مخاطباً بتجهيز الميّت والصلاة عليه غاية الأمر لو سبق أحد منهم إلى الواجب لسقط عن الآخر ، وأمّا إذا شارك الكلّ دفعة واحدة ، أو كان التكثّر والتعدد مطلوباً فقد أتى كلّ بواجبه ، فيكون إعطاء الدرهم إعطاءً لمن أتى بواجبه.

ويمكن أن يقال بصدق الطاعة والامتثال على النظرية الثانية أيضاً لما عرفت من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الخارجي أو الفرد الذي يصدق عليه عنوان المكلّف ، والمفروض انّ كلّ واحد من المصلّين مصداق للفرد ، وينطبق عليه عنوان المكلّف.

نعم على القول بأنّ المتعلّق هو المجموع فالوجوب تعلّق به لا بكلّ واحد من آحاد المكلّفين فليس هناك إلا امتثال واحد لا امتثالات.

ومثلها النظرية الرابعة فانّ التكليف تعلّق بفرد مشخّص عند اللّه فليس هناك إلا تكليف واحد ومكلّف معيّن والباقي من العشرة غير مكلّفين.

وحصيلة البحث : انّه إذا دفع لكلّ واحد من المصلّين درهماً فقد أبرّ نذره على النظريتين الأُوليين دون الأُخريين.

٢. جواز قصد الأمر لكلّ واحد من المكلّفين إذا كان المتعلّق قابلاً للتكرار ومطلوباً غير مبغوض كتحصيل علم الدين مع قيام عدّة معه بالتحصيل ، فعلى النظريتين الأُوليين يصحّ لكلّ واحد قصد الأمر لما عرفت من أنّ النظرية الثانية تتحد نتيجة مع الأُولى وإن كانت تختلف عنها في كيفية التحليل.

وأمّا الثالثة فالأمر متوجّه إلى المجموع وليس الفرد نفس المجموع ، فكيف

١٤٣

يتقرب بالأمر غير المتوجّه إليه؟ ومثلها النظرية الرابعة حيث إنّ المكلّف فرد معيّن عند اللّه ، لا كلّ من بلغ وعقل.

٣. إذا كان رجلان متيمّمين فوجدا ماءً لا يفي إلا بوضوء واحد منهما فهل يبطل تيمم كلّ منهما أو لا يبطل واحد منهما ، أو يبطل واحد منهما على البدل؟ فاختار المحقّق النائيني قدس‌سره الوجه الأوّل ، وذلك لأنّ بطلان التيمّم مترتّب على وجدان الماء ، المحقّق في ظرف القدرة على الحيازة ، فيبطل التيمّمان معاً ، وليس بطلانه مترتباً على الأمر بالوضوء حتّى يقال بوجود التزاحم في تلك الناحية حيث إنّ الأمر بواحد منهما بالتوضّؤ يزاحم الأمر بالآخر.

وفصّل تلميذه الجليل في التعليقة بين صورة سبق أحدهما إلى الحيازة وعدمه ، ففي الأُولى يبطل تيمم السابق فقط ويستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء وبقائه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء ، وأمّا الصورة الثانية فيبطل كلّ من التيمّمين لتحقّق ما ترتّب عليه بطلانه وهو وجدان الماء ، فإذا تحقّق يترتّب عليه كلّ من الأمرين. (١)

وقال السيد الطباطبائي : إذا وجد جماعة متيمّمون ماءً مباحاً لا يكفي إلا لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت وإن كان في ضيقه بقى تيمّم الجميع. (٢)

أقول : إنّ المتبادر من قوله : ( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً ) (٣) هو الوجدان العرفي الملازم مع التمكّن من استعماله بلا نزاع ، وعلى ذلك يختلف

__________________

١. أجود التقريرات : ١ / ١٨٩.

٢. العروة الوثقى : أحكام التيمم ، المسألة ٢٢.

٣. المائدة : ٦.

١٤٤

حكم الصور.

١. إذا تسابقوا عليه فسبق واحد منهم لحيازته بطل تيمّمه خاصّة ، لأنّه وجد الماء عرفاً متمكّناً من استعماله بالانتزاع دون الآخرين فانّهم وإن وجدوا ماءً ولكن غير متمكّنين من استعماله.

٢. تلك الصورة ولكن كان المسبوق قادراً على التغلّب فتسامح ، ففي تعليقة السيد الحكيم بطل تيممه أيضاً ، والحقّ صحته لما عرفت من أنّ المراد هو التمكّن العرفي بلا مغالبة ومصارعة ، والمفروض هنا عدمه.

٣. إذا وجدا ماءً مع الانصراف عن الحيازة فهل يبطل تيمم الكلّ لتحقّق شرط البطلان في كلّ واحد لصدق وجدان الماء والتمكّن منه بلا نزاع ، لأنّ المفروض انصرافهما عن حيازته؟

١٤٥

الفصل الحادي عشر

تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت

و

تقسيم المؤقت إلى الموسّع والمضيّق

قُسِّم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والمطلق إلى فوري وغير فوري ، والمؤقّت إلى موسّع ومضيّق ، وإليك بيان كلا التقسيمين.

لا شكّ انّ الفعل لا ينفك عن زمان فالإنسان المادّي بما هو يعيش في عالم المادة لا يفارق فعلُه الزمانَ بل فعلُه يولِّد الزمان ، ومع ذلك كلّه فنسبة الفعل إلى الزمان على قسمين :

أ. تارة لا يكون للزمان تأثير في وصف الفعل بالمصلحة أو المفسدة وإنّما يكون الزمان ظرفاً للفعل ، وأُخرى يكون للزمان دور ـ وراء كونه ظرفاً للفعل ـ في وصف الفعل بالملاك ، ويكون له مدخلية في تحقّق الغرض ، وعندئذ ينقسم الواجب إلى مطلق ـ مرسل من مدخلية الزمان فيه ـ ومؤقّت قُيّد الفعل بالوقت والزمان.

ثمّ إنّ المطلق أي الواجب الذي لا دور للزمان فيه ، تارة يكون واجباً فورياً

١٤٦

لا يجوز تأخيره كصلاة الآيات ، وأُخرى يكون غير فوري كقضاء الفوائت الذي يجوز تأخيره.

كما أنّ المؤقت وهو الواجب الذي للزمان فيه دور ، تارة يكون مضيّقاً كصوم رمضان وأُخرى موسّعاً كالصلوات اليومية بالنسبة إلى أوقاتها.

فعلى ذلك فالمؤقت على قسمين : تارة يكون الوقت بمقدار الفعل لا أوسع ولا أضيق كصوم رمضان ، وأُخرى يكون الزمان أوسع من الفعل كالصلوات اليومية ، وأمّا عكس الثاني فغير صحيح أي كون الفعل أكثر من الزمان ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق.

إذا عرفت تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والأوّل إلى فوري وغير فوري ، والثاني إلى الموسّع والمضيّق ، فلنذكر أُموراً لها صلة بالمقام :

١. إذا وجبت الصلاة بين الزوال والمغرب فللطبيعة أفراد عرضية كالصلاة في المسجد أو البيت ، كما أنّ لها أفراداً طولية كالصلاة في الساعة الأُولى والثانية وهكذا ، فالتخيير بين تلك الأفراد تخيير عقلي لا شرعي فالعقل يخيّر بين هذه الأفراد في مقام الامتثال. نعم لو قال الشارع : صلِّ في المسجد أو في البيت أو في الوقت الأوّل أو في الوقت الثاني ، يكون التخيير شرعيّاً كخصال الكفّارة ، والمفروض انّه فرض الصلاة بين الحدين فقط.

٢. إذا أخر المكلّفُ الواجبَ الموسّع حتّى ضاق الوقت فلا يخرج الواجب عن كونه موسّعاً ولا يدخل في المضيّق ، نعم يكون مضيقاً بالعرض ، وعدم تأخيره لكونه مفوِّتاً للواجب لا لكونه مضيَّقاً بالذات.

٣. أشكل على الواجب الموسّع بأنّه ما يجوز تركه في بعض الأوقات ، فكيف يكون واجباً ويجوز تركه؟

١٤٧

يلاحظ عليه : بأنّ الواجب عبارة عمّا لا يجوز تركه بتاتاً ، والموسّع كذلك ، ولا ينافيه تركه في بعض الأوقات.

٤. عُرِّف الواجبُ المضيّق بأنّه عبارة عمّا يكون وقت الوجوب والواجب ( المكلّف به ) واحداً مع أنّ مقتضى القاعدة أن يكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب ولو بلحظة ، لأنّ الإتيان بالواجب انبعاث وهو معلول البعث والوجوب فيجب أن يكون الوجوب متقدّماً على الانبعاث تقدّمَ العلّة على المعلول فيكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب الذي يعبّر عنه بوقت الانبعاث.

يلاحظ عليه : بأنّ تقدّم العلّة على المعلول ترتبيّ لا زماني كتقدّم حركة اليد على حركة المفتاح ، وأقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب تقدّم بيان الوجوب على زمان الواجب حتّى يتمكّن المكلّف من امتثاله ، وأمّا تقدّم زمان الوجوب على الواجب فليس بلازم.

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟

هذه مسألة أُصولية يعبّر عنها تارة بما ذكر ، وأُخرى بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.

وحاصله : انّه إذا مضى وقت الفعل هل الأمر الأوّل كاف في وجوب قضائه خارج الوقت أو يتوقّف على وجود أمر جديد وإلا فالأمر الأوّل قد سقط؟ قولان :

فمنهم من يقول بكفاية الأمر الأوّل في إيجاب القضاء ، ومنهم من يقول بلزوم أمر جديد متعلّق بالفعل خارج الوقت أيضاً.

وتحقيق المقام يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : في مقام الثبوت.

الثاني : في مقام الإثبات.

١٤٨

أمّا الأوّل : فحاصله انّه لو قلنا بتعدّد المطلوب وأنّ إيجاد الفعل مطلوب وإيجاده في وقته مطلوب آخر فالقضاء بالأمر الأوّل ، وأمّا لو قلنا بوحدة المطلوب وانّ هنا مطلوباً واحداً وهو إيجاد الفعل في وقته ، فإيجاده خارج الوقت رهن أمر جديد.

وأمّا الثاني : أي البحث إثباتاً فهو فرع استظهار التعدد أو الوحدة من لسان الدليل ، فالحقّ انّ الدليل قاصر عن إفادة تعدد المطلوب ، فإذا أمر بالوقوف في عرفات من الزوال إلى الغروب فلو فات الموقف من المكلّف فإيجاب القضاء عليه بوقوفه فيها في خارج الوقت الذي يعبّر عنه بالوقوف الاضطراري يحتاج إلى الدليل ، وذلك لأنّ الأمر متعلّق بالمقيّد بالوقت ، فالواجب هو الفعل المحدد بالوقت فلا دلالة للأمر على إيجاب الفعل المجرّد عن الوقت.

نعم استثنى المحقّق الخراساني ممّا ذكرنا مورداً خاصّاً بالشروط الثلاثة :

١. أن يكون لدليل الواجب إطلاق بالنسبة إلى خارج الوقت.

٢. أن يكون التقييد منفصلاً لا متّصلاً.

٣. أن لا يكون في الدليل المقيّد إطلاق حاك عن كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة ( الركن ) وانّ المولى يطلبه مطلقاً متمكناً كان أو عاجزاً غاية الأمر إذا عجز المكلّف منه سقط وجوب الباقي ، فعندئذ يجب قضاء الفعل بنفس الأمر الأوّل ، قال :

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. (١)

__________________

١. كفاية الأُصول : ١ / ٢٣٠.

١٤٩

مثلاً إذا قال المولى : اغتسل من دون تحديد ، ثمّ قال في دليل آخر : اغتسل يوم الجمعة ، فلو افترضنا وجود الإطلاق في دليل الواجب والإهمال في دليل القيد بالنسبة إلى خارج الوقت ، فعندئذ يكون إطلاق دليل الواجب محكّماً خارج الوقت ، فعليه الغسل بعد غروب الجمعة.

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع ، فإنّ البحث فيما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي بالنسبة إلى تعدد المطلوب أو وحدته ، وإلا فالمتبع هو الدليل الاجتهادي ، ولو افترضنا كون البحث في نطاق وسيع ، فعليه أن يطرح الصور الأربع في المقام :

أ. أن يكون لكلّ من دليلي الواجب والتوقيت إطلاق والمراد من وجود الإطلاق في دليل الواجب كونه بذاته مطلوباً ، سواء أُتي به في الوقت أو خارجه ، كما أنّ المراد من الإطلاق لدليل التوقيت كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة وانّه مطلوب في حالتي التمكن وعدمه.

ب. أن يكون كل من الدليلين مهملاً من هذه الناحية فلا يدلّ دليل الواجب على كون الفعل بذاته مطلوباً مع قطع النظر عن القيد كما لا يدلّ دليل التوقيت على مدخلية الوقت في أصل المصلحة وكونه مطلوباً في حالي التمكّن وعدمه.

ج. أن يكون لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

د. عكس الثالث.

أمّا الأوّل : فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد لأظهريته من إطلاق دليل الواجب ، ويكون المراد انّ الوقت دخيل في أصل المصلحة لا في كمالها.

كما أنّ المرجع في الثاني هو الأُصول العملية لفقدان الدليل الاجتهادي ،

١٥٠

وسيوافيك ما هو المرجع من الأُصول ، وعلى الثالث يؤخذ بإطلاق دليل الواجب ويثبت تعدد المطلوب ويجب القضاء بنفس الأمر الأوّل.

وعلى الرابع يكون الأمر على العكس ، إذ إطلاق القيد يثبت كون الوقت دخيلاً في تمام مراتب مصلحة الواجب لا في بعضها.

وبعبارة أُخرى يكون إطلاق المقيَّد بياناً للمطلق ، فيؤخذ به لا بالمطلق فلا تتم مقدّمات الحكمة في جانب دليل الواجب.

والظاهر انّ محط النزاع هو الثاني لا الأوّل ولا الأخيران.

الأصل العملي في المسألة

إذا كان دليل الواجب أو دليل التوقيت مهملاً بالنسبة إلى خارج الوقت فما هو المرجع عند الشكّ؟

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو أصالة البراءة وعدم وجوبها في خارج الوقت لا استصحاب وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت ، وذلك لعدم جريان الاستصحاب في المقام لعدم اتحاد القضيتين ، وذلك لأنّ الوقت إمّا قيد للموضوع ( الغُسْل ) أو للمحمول الوجوب ، وعلى كلا الفرضين فإبقاء الحكم بعد خروج الوقت قضية أُخرى غير القضية المتيقنة.

نعم يستظهر من الروايات الواردة في المستحبّات المقيّدة انّ القيد ليس ركناً بل يأتي بالمستحب خارج الوقت أيضاً كما إذا ورد بزيارة الحسين تحت السماء إذا لم يتمكّن منه لعذر أو لغير عذر فيجوز له الزيارة في البيت وغيره.

ثمرات القولين :

تظهر الثمرة في موارد نذكر منها ما يلي :

١٥١

١. إذا ترك الواجب في وقته قطعاً ، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ يجب على القول الثاني دون الأوّل ، كما إذا لم يخرج الفطرة في وقتها المحدد ، أو تساهل في صلاة الخسوف والكسوف حتّى انجلى النيران ، فهل يجب القضاء أو لا؟

٢. إذا أتى بالواجب ولكن شكّ في صحّة العمل لأجل الشكّ في الشرائط وعدمها على النحو التالي :

أ. إذا توضّأ في الظلمة بمائع مردد بين كونه ماء مطلقاً أو مضافاً فشكّ في صحّة العمل بعد خروج الوقت.

ب. إذا صلّى على جهة ثمّ شكّ بعد خروج الوقت انّها كانت إلى القبلة أو لا.

ج. إذا توضّأ أو اغتسل والخاتم على اصبعه مع العلم بعدم تحريكه وقت العمل ، فشكّ بعد خروج الوقت في جريان الماء تحته وعدمه.

توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل كاف في إيجاب القضاء ، فالعلم بالقضاء وإن لم يكن موجوداً في الصور الثلاثة ، لكن على القول بهذا الأصل ينقلب الشكّ في المقام ، إلى الشكّ في أصل الامتثال الذي يعبّر عنه بالشكّ في السقوط حيث بعد خروج الوقت يشكّ في أنّه هل امتثل ما علم اشتغال ذمته به ، يقيناً أو لا ، وبما انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، يحكم العقل بلزوم الاشتغال في حالة الشكّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل غير كاف في إيجاب القضاء فلا يجب شيء خارج الوقت ، لأنّه لو علم قطعاً بعدم الامتثال في الوقت فلا يجب القضاء عليه خارج الوقت ، فكيف إذا شكّ في الامتثال؟ فعدم وجوب شيء بطريق أولى.

فإن قلت : المشهور عدم العبرة بالشكّ بعد خروج الوقت ، فلماذا لا يكون

١٥٢

هو المرجع بعد خروجه في هذه الصور الثلاث؟

قلت : إنّ القاعدة المزبورة راجعة إلى الشكّ في أصل الإتيان ، فلا يعتد به خارج الوقت ، وأمّا المقام فالشكّ إنّما هو في صحّة العمل المأتي به لا في إتيانه.

فإن قلت : إنّ مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة العمل ، وعليها ، فالوضوء في الصورة الأُولى والثالثة محكوم بالصحة ، مثل الصلاة في الصورة الثانية.

قلت : سيوافيك في محلّه انّ القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حتى لا يكون حال العمل وحال الشكّ سيّان من حيث التذكر وعدمه ، وأمّا المقام فالحالتان متساويتان من حيث التذكر بشهادة انّه لو نبّهه إنسان حال العمل ، وسأله عن إطلاق الماء وعدمه ، أو جريان الماء تحت خاتمه وعدمه أو كون الجهة قبلة أو لا ، لأجاب بالشك وعدم الترجيح بواحد من الطرفين ، ومثله لا يكون مجرى للقاعدة ، لأنّ المتيقّن منها ما يكون حال العمل أذكر من حال الشكّ كما في روايات الباب ، فلاحظ.

١٥٣

الفصل الثاني عشر

الأمر بالأمر بفعل

هل هو

أمر بنفس الفعل؟

إذا أمر المولى فرداً ، ليأمر فرداً آخر بإنجاز فعل ، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضاً أو لا؟ وإليك بعض الأمثلة :

١. إذا أمر سبحانه نبيّه أن يأمر الأُمّة بغضِّ الأبصار عن النساء الأجنبيات وقال : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهُمْ ) (١) ، هل ينحصر أمره سبحانه في الأمر بالنبي فقط ، أو يسري أمره إلى نفس الفعل ، أعني : غضّ البصر؟

٢. إذا أُمر أولياءُ الصبيان بأمرهم بالصلاة ، فهل يتلخص أمر الشارع في الأمر بالأولياء أو يسري إلى نفس الفعل أي الصلاة أيضاً ، فعندئذ تصبح صلاتهم ، شرعية؟

٣. إذا أمر الوالدُ ، الولدَ الأكبر بأمر الولد الأصغر ببيع الدار ، فهل يكون

__________________

١. النور : ٣٠

١٥٤

الأصغر مأموراً من جانب الوالد أيضاً ، أو لا؟ فلو باع الدار قبل أمر الولد الأكبر يكون بيعه صحيحاً لازماً أو لا؟ والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في مقام الثبوت

إنّ للمسألة صوراً ثلاث في عالم التصوّر :

الف : إذا تعلّق غرض المولى بإنجاز الفعل وكان أمر المأمور الأوّل طريقاً للوصول إليه ، على نحو لو كان المأمور الثاني حاضراً لدى المولى ، لأمره بالفعل مباشرة.

ب : إذا كانت المصلحة قائمة بمجرّد أمر المأمور الأوّل للثاني منهما من دون أن يكون إنجاز الفعل مورداً للغرض ، مثلاً إذا كان المأمور الثاني معروفاً بالتمرّد عن طاعة المولى ، فيأمر المولى أحد ملازميه بالأمر لغرض أن يقوم بفعل كذا ، فيكون تمام المصلحة قائماً بالإنشاء. وأمر المأمور الأوّل الثاني.

ج. إذا تعلّق الغرض بنفس الفعل لكن ـ بعد أمر المأمور الأوّل ـ فيكون كلا الشيئين متعلّقين للغرض.

فعلى الأوّل ، يكون الأمر بالأمر ، أمراً بنفس الفعل ، دون الصورتين الأخيرتين ، وذلك لأنّ الأمر الثاني إمّا تمام الموضوع كما في الصورة الثانية ، أو جزءه كما في الصورة الثالثة ، فلا يصحّ القيام بالفعل قبل ثبوت الموضوع كلّه أو جزؤه.

ثمرات المسألة

الثمرة الأُولى : إذا أمر الولي الصبي بالصلاة ، فهل تكون الصلاة مأموراً بها للآمر الأوّل ، أو ينحصر مفاد أمره بنفس الأمر بالثاني؟ مثلاً ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه قال : « إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ،

١٥٥

فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين » فالحديث يدلّ على أنّه سبحانه أمر الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة في سنين خاصّة ، فلو قلنا بأنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بنفس ذلك الشيء تقع صلاة الصبي متعلقاً بأمره سبحانه فتصبح صلاته وصومه ، شرعية يُكتفى بصلاتهم وصيامهم عند النيابة عن الغير كما يجوز الاقتداء بهم ، إلى غير ذلك من آثار الصحة ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّه ليس أمراً بالفعل ، بل أمر بالأمر فقط ، فلا يترتّب عليها آثار الصلاة الشرعية.

والظاهر هو الأوّل فانّ المتبادر عرفاً في هذه المواضع انّ أمر المولى طريق إلى قيام الصبي بالصلاة ، فلو قام بها من دون أمر الآمر الثاني لكان مثل ما إذا قام بعد أمره ، وهذا يكشف عن عدم مدخلية أمره ، فيكون أمره بالأمر أمراً بذلك الشيء.

كما أنّ أمر الإمام أولاده بالصلاة ، طريقي لا موضوعي ، فأولاد الإمام في خمس سنين ، وأولاد غيره في سبع سنين مأمورون شرعاً ، بأمر غير إلزامي لإتيان الصلاة.

وربّما تردّ الثمرة بأنّه لا حاجة في إثبات شرعية عبادات الصبي ، إلى هذه القاعدة المتمثلة في هذه الرواية لوجود روايات كثيرة في هذا المورد حيث حكم عليهم بالأمر بالعبادات المحمول على الاستحباب في سنين خاصة. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لا مانع من إثبات المطلب من طريقين ، أحدهما ما أُشير إليه في الروايات ، وثانيهما هذه القاعدة.

__________________

١. الوسائل : ٦ ، الباب ٢٩ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ١ ـ ١٤.

١٥٦

إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على شرعيّة عبادات الصبي بالعمومات الواردة في الكتاب والسنة الشاملة للبالغ والصبي ، غاية الأمر انّ حديث الرفع ( رفع القلم عن ثلاثة ، ... الصبي حتّى يحتلم ) رفع الإلزام لا أصل الحكم ولا أصل المحبوبية ، لانّه حديث امتنان ولا امتنان في رفع الحكم غير الإلزامي ، فتكون عباداته شرعية. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

١. انّ القول بشمول الخطاب والعمومات لكلّ مميّز ، سواء أكان بالغاً شرعياً أم لا ، خرق للسنّة السائدة بين الأُمم والعقلاء ، فانّ مصبّ القوانين بين العقلاء في عامّة الحضارات هم البالغون لا غيرهم وإن كانوا مختلفين في حدّ البلوغ ولم يثبت انّ للشارع طريقة خاصّة تخالف طريقتهم.

وبعبارة أُخرى : انّ تعيين نصاب خاص لشمول القانون في المجتمعات الإنسانية ـ بلا فرق بين الدينية وغيرها ـ لقرينة على أنّ التشريع الإسلامي كسائر التشريعات ، رهن الوصول إلى ذلك النصاب غير أنّ الشارع قد حدّد النصاب ولم يفوضه إلى العرف والعقلاء ولكنّه لا يكون مانعاً ، عن انصراف العمومات والخطابات إلى البالغ ذلك النصاب.

فإن قلت : إذا كان غير البالغ غير مشمول للحكم ، فما معنى « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » ، فانّ الرفع فرع الثبوت.

قلت : إنّ استعمال الرفع ـ وإن لم يكن الحكم ثابتاً ـ لأجل قابلية المميّز

__________________

١. مستمسك العروة الوثقى : ٨ / ٤٢٤ ، المسألة ٢ ؛ حقائق الأُصول : ١ / ٣٤٢.

١٥٧

للحكم عليه بشيء من الأحكام ، نظير رفع الحكم عن النائم بل في المجنون أيضاً بإلزام الولي بمراقبته ، فوجود المقتضي للإيجاب ، صار مصحّحاً للاستعمال.

٢. انّ المنشأ هو البعث نحو المطلوب وهو أمر بسيط دائر أمره بين الوجود والعدم وليس أمراً مركباً من أصل الحكم والإلزام حتى يرفع الثاني ويبقى الأوّل.

الثمرة الثانية

الثمرة الثانية ما مرّ في صدر البحث من أنّه لو أمر الوالد ولده الأكبر ، بأمر الولد الأصغر ، ببيع الدار ، فاطّلع الولد الأصغر قبل أمر الأكبر فباعه ، فلو قلنا بأنّ مثل هذا الأمر ، أمر بنفس الفعل يكون البيع صحيحاً لازماً دون ما لم نقل فيكون بيعاً فضوليّاً.

١٥٨

الفصل الثالث عشر

الأمر بعد الأمر

تأكيد أو تأسيس

إذا أمر المولى بشيء ، ثمّ أمر به ثانياً ، فهل هو تأكيد للأمر الأوّل ، أو إيجاب ثان غير الإيجاب الأوّل ويعبّر عنه بالتأسيس؟ هنا صور :

١. إذا قيّد الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدد ، كما إذا قال : صلّ ، ثمّ قال : صلّ صلاة أُخرى.

٢. إذا كان السبب للأوّل ، غيره للثاني ، كما إذا قال : إن ظاهرت فاعتق ، وإن أفطرت عمداً فاعتق.

٣. إذا كان أحد الأمرين خالياً عن ذكر السبب والآخر محفوفاً بذكر السبب فقط كما إذا قال : توضّأ ، ثمّ قال : إذا بُلت فتوضّأ.

٤. إذا كان كلّ من الأمرين خالياً من ذكره.

لا إشكال انّ الأمر الثاني في الصورة الأُولى يحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب ، وتعدد الواجب ، لمكان قيد « أُخرى » ، وأمّا الصورة الثانية فيحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب ، وأمّا تعدد الواجب ـ أي العتق وعدمه ـ فهو مبني على ما سيأتي في باب المفاهيم من التداخل في المسببات أو لا ، وانّه هل يمكن

١٥٩

امتثال وجوبين ، بفعل واحد أو لا؟

وأمّا الصورتان الباقيتان ، فإطلاق المادة وعدم تقييدها بقيد « أُخرى » يقتضي الحمل على التأكيد ، لامتناع تعلّق الوجوبين الكاشف عن الإرادتين ، بشيء واحد ، لأنّ تشخّص الإرادة في لوح النفس بالمراد فلا يعقل التعدد فيها مع وحدة المشخِّص ، هذا حول المادة ، وأمّا الهيئة فربما يقال بأنّها ظاهرة في التأسيس أي تعدد الوجوبين.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر بعد الأمر ظاهر في تعدد الطلب ، وأمّا إنّه طلبُ تأسيس أو طلبُ تأكيد فلا ظهور له في واحد منهما ، فيؤخذ بإطلاق المادة وانّ الموضوع هو نفس الوضوء الآبي عن تعلّق إرادتين به وتكون النتيجة هي التأكيد.

تمّ الكلام في المقصد الأوّل ( الأوامر )

وحان البحث في المقصد الثاني ( النواهي )

١٦٠