القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

المطلب الأول

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

والحديث حولها يقع في فروع :

* الأول : مصدر القاعدة

* الثاني : مدلول القاعدة

* الثالث : حجّيّة القاعدة

* الرابع : شبهات حول مدلول القاعدة

* الخامس : مجالات القاعدة في الفقه

٦١
٦٢

الفرع الأول

مصدر القاعدة

أوّلا : مصدر القاعدة من السنّة النبويّة الشريفة

ومصدرها لسان حديث نبويّ مأثور «لا ضرر ولا ضرار» وهو يعدّ من جوامع الكلم ، وقد اعتبره الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من معجزات بلاغته. (١)

والثمرات التي رتّبت على هذا الكلام المعجز بإيجازه لو قدّر لها أن تجمع من نطاق الفقه والأصول لتجاوز تسجيلها المئات من الصفحات.

والحديث يكاد يكون متواترا لكثرة رواياته ورواته ؛ فقد رواه جملة من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم :

عبد الله بن عباس ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، وثعلبة ابن مالك ، وعبادة بن الصامت ، وأبو لبابة ، وأبو عوانة ، وعائشة ، وغيرهم.

وقد أخرجه أحمد في «مسنده» (٢) ، ومالك في «الموطّأ» مرسلا (٣) ، والحاكم

__________________

١ ـ تحرير المجلّة ١ : ١٤١.

٢ ـ مسند أحمد ١ : ٥١٥ مسند عبد الله بن عباس ح ٢٨٦٢ ، و ٦ : ٤٤٦ حديث عبادة بن الصامت ح ٢٢٢٧٢.

٣ ـ الموطأ ٢ : ٧٤٥ كتاب الأقضية ، باب (٢٦) القضاء في المرفق ح ٣١.

٦٣

النيسابوري في المستدرك (١) ، والطبراني في المعجم الأوسط (٢) ، والبيهقي في سننه (٣) ، والدارقطني في سننه (٤) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٥) ، الزيلعي في نصب الراية (٦) ، وغيرهم.

ويبدو أنّ الحديث صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من مرّة وطبّقه في موارد متعدّدة منها :

(١) ما ورد في المستدرك على الصحيحين أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«لا ضرر ولا ضرار ، من ضارّ ضارّه الله ، ومن شاقّ شاقّ الله عليه».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرّجه. (٧)

(٢) وفي مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا ضرر ولا ضرار ، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره ، والطريق الميتاء سبعة أذرع» (٨).

(٣) وفي موطّأ مالك مرسلا عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ضرر ولا ضرار» (٩).

(٤) وفي سنن الدارقطني عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

١ ـ المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٦٩ كتاب البيوع ، باب النهي عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة ح ٢٣٩٢.

٢ ـ المعجم الأوسط ١ : ١٩٣ ح ٢٧٠ و ٢ : ٢٤ ح ١٠٣٧.

٣ ـ السنن الكبرى ٦ : ١١٤ كتاب الصلح ، باب (٨) لا ضرر ولا ضرار ح ١١٣٨٤.

٤ ـ سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ كتاب الأقضية والأحكام ح ٨٣ و ٨٤ و ٨٥ و ٨٦.

٥ ـ مجمع الزوائد ٤ : ١١٠ باب لا ضرر ولا ضرار.

٦ ـ نصب الراية ٦ : ٤٢٣ باب ما يحدثه الرجل في الطريق.

٧. المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٦٩ كتاب البيوع ، باب النهي عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة ح ٢٣٩٢.

٨. مسند أحمد ١ : ٥١٥ مسند عبد الله بن عباس ح ٢٨٦٢.

٩. الموطأ ٢ : ٧٤٥ كتاب الأقضية ، باب (٢٦) القضاء في المرفق ح ٣١.

٦٤

«لا ضرر ولا ضرار». (١)

(٥) وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت قال :

قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا ضرر ولا ضرار. (٢)

ثانيا : مصدر القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

وردت جملة من الروايات بلسان القاعدة في سنّة أهل البيت عليهم‌السلام عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

ورواهما عنهما زرارة بن أعين ، وأبو عبيدة الحذّاء ، والحجاج بن أرطأة ، وواصل مولى أبي عيينة ، وهارون بن حمزة الغنوي ، وعقبة بن خالد.

وقد أوردها الكليني في الكافي (٣) ، والصدوق في من لا يحضره الفقيه (٤) ، والطوسي في التهذيب (٥) ، وغيرهم.

من ذلك :

(١) ما ورد في قصّة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وقد رواها ثقة الإسلام الكليني في الكافي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ؛ فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه

__________________

١ ـ سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٧ كتاب الأقضية والأحكام ح ٨٣.

٢ ـ مسند أحمد ٦ : ٤٤٧ حديث عبادة بن الصامت ح ٢٢٢٧٢.

٣ ـ الكافي ٥ : ٢٨٠ ، ٢٩٢ ، ٢٩٣ ، ٢٩٤ كتاب المعيشة ، باب الشفعة ح ٤ وباب الضرار ح ٢ و ٦ و ٨.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٦ ، ٢٣٣ أبواب القضايا والأحكام ، باب الشفعة ح ٣٣٦٨ ، وكتاب المعيشة ، باب المضاربة ح ٣٨٥٩ ، و ٤ : ٣٣٤ كتاب الفرائض والمواريث ، باب ميراث أهل الملل ح ٥٧١٨.

٥ ـ تهذيب الأحكام ٧ : ١٤٧ ، ١٦٤ كتاب التجارات ، باب (١٠) بيع الماء والمنع عنه والكلأ والمراعي وحريم الحقوق ح ٣٦ ، وباب (١٤) الشفعة ح ٤.

٦٥

وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن : فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة ، فأبى أن يقبل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار». (١)

(٢) رواية عقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

«قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار». (٢)

(٣) رواية عقبة أيضا : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء ، وقال : لا ضرر ولا ضرار». (٣)

(٤) وفي سنن البيهقي عن واصل مولى أبي عيينة قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام يحدّث عن سمرة بن جندب :

«أنّه كان له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار ، قال : ومع الرجل أهله ، وكان سمرة بن جندب يدخل إلى نخله فيتأذّى به ، ويشقّ عليه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر ذلك له ، فطلب إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيعه فأبى ، فطلب إليه أن يناقله فأبى ، قال : قال : فهبه لي ولك كذا وكذا أمر رغبة ، فأبى ، فقال : أنت مضار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب فاقلع نخله» (٤).

__________________

١ ـ الكافي ٥ : ٢٩٢ كتاب المعيشة ، باب الضرار ح ٢.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٦ أبواب القضايا والأحكام ، باب الشفعة ح ٣٣٦٨.

٣ ـ الكافي ٥ : ٢٩٣ كتاب المعيشة ، باب الضرار ح ٦.

٤ ـ السنن الكبرى ٦ : ٢٦٠ كتاب إحياء الموات ، باب (٢١) من قضى فيما بين الناس بما فيه صلاحهم ح ١١٨٨٣ بتصرّف.

٦٦

وكثير من الروايات أهملت ذكر المناسبة التي طبّق فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الحديث ، وكأنّ شهرة الحديث تغني عن ذكر المناسبة التي قيلت فيه ، أو أنّهم اقتصروا على ما يريدون الاستشهاد به من الحديث.

زيادة كلمة «على مؤمن» في لسان القاعدة

ففي الكافي للكليني عن عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«إنّ سمرة بن جندب كان له عذق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال له الأنصاري : يا سمرة لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليها ، فإذا دخلت فاستأذن ، فقال : لا أستأذن في طريق ، وهو طريقي إلى عذقي. قال : فشكا الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه ، فقال له : إنّ فلانا قد شكاك ، وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال : يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا ، فقال : لا ، قال : فلك اثنان ، قال : لا أريد ، فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق ، فقال : لا ، قال : فلك عشرة في مكان كذا وكذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ، ولك مكانه عذق في الجنة ، قال : لا أريد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال : ثمّ أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلعت ، ثمّ رمي بها إليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلق فاغرسها حيث شئت». (١)

زيادة كلمة «في الإسلام» في لسان القاعدة

وقد جاء هذا الحديث في بعض الكتب بزيادة «في الإسلام».

__________________

١ ـ الكافي ٥ : ٢٩٤ كتاب المعيشة ، باب الضرار ح ٨.

٦٧

ففي مجمع الزوائد : عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (١)

قال الزيلعي : وأمّا حديث جابر فرواه الطبراني في معجمه الأوسط قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (٢)

وفي نصب الراية : كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلّمه فقال : إنّك تطأ حائطي إلى عذقي (٣) ، فأنا أعطيك مثله في حائطي (٤) وأخرجه عنّي ، فأبى عليه ، فكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، فقال :

«يا أبا لبابة خذ مثل عذقك إلى مالك (٥) ، واكفف عن صاحبك ما يكره».

فقال : ما أنا بفاعل ، فقال :

«اذهب فأخرج له مثل عذقه إلى حائطه ، ثمّ اضرب فوق ذلك بجدار فإنّه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار». (٦)

قال الزيلعي : رواه أبو داود في المراسيل. (٧)

وفي من لا يحضره الفقيه للصدوق ، في معرض احتجاجه قال : وكيف صار الإسلام يزيده شرّا؟! مع قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام يزيد ولا ينقص» ومع قوله عليه‌السلام :

__________________

١ ـ مجمع الزوائد ٤ : ١١٠ باب لا ضرر ولا ضرار.

٢ ـ نصب الراية ٦ : ٤٣٢ باب ما يحدثه الرجل في الطريق ، والمعجم الأوسط ٥ : ٢٣٨.

٣ ـ الصحيح : «عذقك» كما هو في المصدر.

٤ ـ الصحيح : «حائطك» كما هو في المصدر.

٥ ـ الموجود في المصدر : «خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك».

٦ ـ نسب المصنّف هذا الحديث إلى كتاب «نصب الراية» ، ولكن هذا الحديث موجود في «مراسيل أبي داود» وليس موجودا في «نصب الراية» ، وإنّما الموجود فيه هو الإشارة إلى وجوده في المراسيل ، ولم يأت بالحديث. راجع : «مراسيل أبي داود» : ٢٠٧.

٧. نصب الراية ٦ : ٤٣٣.

٦٨

«لا ضرر ولا إضرار في الإسلام». (١)

كما ورد بهذه الزيادة في كتاب «الخراج» ليحيى بن آدم القرشي (٢) ، وفي بعض كتب الفقه الأخرى كالمبسوط للسرخسي (٣) ، والخلاف للطوسي (٤) ، وغيرها. كما ورد بهذه الزيادة في كتب بعض اللّغويّين كما في نهاية ابن الأثير (٥) ، وتهذيب اللغة (٦) ، ولسان العرب (٧).

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٣٤ كتاب الفرائض والمواريث ، باب ميراث أهل الملل ح ٥٧١٨.

٢ ـ الخراج : ١٢٦ باب من بنى أو غرس في أرض قوم بغير إذنهم ح ٣٠٣ و ٣٠٤.

٣ ـ المبسوط ٢٣ : ١٧٥ ، ٢٠٠ ، و ٢٥ : ١٢.

٤ ـ الخلاف ٣ : ٤٤٠ كتاب الشفعة ، مسألة (١٤).

٥ ـ النهاية في غريب الحديث ٣ : ٨١ مادة «ضرر».

٦ ـ تهذيب اللغة ١١ : ٤٥٧ مادة «ضرر».

٧. لسان العرب ٤ : ٤٨٢ مادة «ضرر».

٦٩

الفرع الثاني

مدلول القاعدة

لتحديد المراد من هذه القاعدة لا بدّ من تحديد ما انطوت عليه من مفردات وبخاصّة كلمات : «الضرر» ، «الضرار» ، «لا».

أمّا المفردات الأخرى : «على مؤمن» و «في الإسلام» فلا أظنّ أنّها تحتاج إلى تحديد ؛ لوضوح مفهومها لدى العلماء. فما ذا يعنى إذا بكلمة :

أوّلا : الضرر

نصّ بعض اللّغويّين على أنّ الضرر اسم مصدر من ضرّ يضرّ والمصدر الضرّ ، ويقابله النفع ، كما يقابلها ـ أعني كلمة الضرر ـ المنفعة. (١)

كما نصّ بعضهم على اتّحاد الضرّ والضرر في كون كلّ منهما مصدرا (٢) ، وليس المهمّ تحقيق ذلك ، وإنّما المهمّ تحقيق نوع التقابل بينها وبين المنفعة ؛ لتوقّف مضمونها عليه.

__________________

١ ـ راجع : مختار الصحاح : ٢٠٠ مادة «ضرر».

٢ ـ لم نعثر على هذا القول في كتب اللغة الموجودة لدينا.

٧٠

نظم التقابل بين الضرر والمنفعة

وآراء العلماء في طبيعة هذا التقابل مختلفة ، ولهم فيها أقوال :

(١) أنّهما من قبيل النقيضين ؛ فيكون معنى الضرر بناء على هذا القول : هو عدم المنفعة ، وإليه ذهب الطوفي من الحنابلة ، وبنى عليه مذهبه في المصالح المرسلة في رسالته (١) وهو يتحدّث في هذا المجال : ثمّ إنّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» يقتضي رعاية المصالح إثباتا والمفاسد نفيا ؛ إذ الضرر هو المفسدة ، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة ؛ لأنّهما نقيضان لا واسطة بينهما. (٢)

(٢) أنّهما من قبيل الملكة والعدم في المحلّ القابل لهما ، وقد ذهب إليه الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب كتاب : كفاية الأصول ، من الإماميّة. (٣)

وهذا القول يشبه القول الأوّل في اعتبار أنّ الضرر هو عدم المنفعة ، إلّا أنّه يفترق عنه في اعتباره عدم ملكة ، لا نقيضا ، أي اعتبر قابلية المحلّ فيه دون القول الأوّل.

(٣) أنّهما من قبيل الضدّين اللّذين لهما ثالث ؛ لأنّ الضرر معناه : دخول النقص على شيء ما ، والمنفعة معناها دخول الزيادة عليه ، وقد يوجد محلّ ... (٤)

__________________

١ ـ هذه الرسالة هي في الأصل شرح الحديث الثاني والثلاثين ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» ، من الأربعين حديثا النووية ، والتي قام الطوفي بشرحها ، وأفاض في شرح هذا الحديث ، وأدخل فيه بعض المباحث الأصولية ، فقام البعض باستقلال هذا الحديث من مصدره الأصلي وطبعه منفردا في رسالة سميّت ب «رسالة الطوفي في رعاية المصلحة». والوجه في تسميتها بذلك هو أنّ الطوفي عوّل كثيرا على هذا الحديث للاستدلال على المصالح المرسلة.

٢ ـ رسالة الطوفي : ١١٠ ، وهي ملحقة بكتاب «مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه» لعبد الوهاب خلّاف.

٣ ـ كفاية الأصول : ٣٨١.

٤ ـ ذهب إلى هذا القول كلّ من : النراقي في عوائد الأيام : ٤٩ ـ ٥٠ ، والسيد مير فتاح المراغي في العناوين ١ : ٣١٠ ، والبجنوردي في القواعد الفقهية ١ : ٢١٤.

٧١

القول المختار

والمتبادر من هذه الأقوال عرفا هو القول الثالث ، والتبادر ـ كما يقولون ـ علامة الحقيقة ، فالتاجر الذي يدخل السوق بمائة دينار ويخرج بمائة وعشرة يقال : إنّه انتفع ، فإذا خرج بتسعين قيل : بأنّه تضرّر ، فإذا خرج برأس المال فإنّه لا يصدق عليه بأنّه انتفع أو تضرّر ، ونظير ذلك الربح والخسارة والمصلحة والمفسدة.

فإذن هما من قبيل الضدّين اللّذين لهما ثالث ، هو المحلّ الذي يكون خاليا منهما.

وإذا صحّت دعوى تبادر هذا المعنى من كلمتي الضرر والمنفعة ، ضممنا إلى ذلك أصالة عدم النقل ، لنثبت لهما هذه الدلالة في زمن صدور الحديث.

ثانيا : الضرار

أمّا الضرار فقد اختلف الفقهاء في معناه أيضا تبعا لاختلاف اللّغويين ، وخلصنا من ذلك إلى عدّة أقوال :

(١) أنّه بمعنى الضرر ، فيكون عطفه في هذا الحديث على الضرر من باب عطف التفسير ، أو كما قال في لسان العرب : «وقيل هما بمعنى ، وتكرارهما للتأكيد». (١)

(٢) أنّه مباين له ؛ لأنّ معنى الضرر «ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع». (٢)

(٣) أنّه مباين له أيضا ؛ لأنّ «الضرر : ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه» ٣ ـ قال ابن الأثير وهو يتحدّث عن معنى الحديث : «قوله : «لا ضرر» أي لا يضرّ الرجل أخاه شيئا من حقّه ، والضرار : فعال من الضرّ ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر

__________________

١ ـ لسان العرب ٤ : ٤٨٢ مادة «ضرر».

٢ ـ النهاية في غريب الحديث ٣ : ٨١ ـ ٨٢ مادة «ضرر».

٣ ـ مجمع البحرين ٣ : ١٦ مادة «ضرر».

٧٢

عليه». (١)

(٤) أنّ الضرار مأخوذ من المضارّة التي هي من صيغ المشاركة ، نظير : قاتل ، وخادع ، فيكون الضرر : «فعل الواحد ، والمضارّة : فعل الاثنين». (٢)

(٥) أنّه مأخوذ أيضا من ضارّ يضارّ ، لكن بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل الكاشف عن تعنّته في إلقاء الضرر على الغير. (٣)

القول المختار

والظاهر أنّ معنى «الضرار» هو شيء واحد وإن اختلف اللغويون في تشخيصه ، وليس هو من قبيل المشترك اللفظي بين ما ذكر له من معان.

وإذا صحّ هذا فإنّ المتبادر من هذه المعاني التي ذكروها هو المعنى الأخير ، ودعوى أنّ الضرر والضرار بمعنى واحد ، فهما مترادفان ، ودعوى التباين بينهما ممّا يأباه الفهم العرفي لهذه الكلمات.

ولذا عبّر عن بعضها في لسان العرب بصيغة التمريض : «وقيل».

أمّا اعتبار الضرار من صيغ المشاركة فيأباه ما استقرئ من مصاديقها في القرآن الكريم (٤) كقوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها)(٥) ، وقوله : (وَلا تُضآرُّوهُنَ)(٦) ، و (غَيْرَ مُضَارٍّ)(٧).

والقول : بأنّ صيغة (فاعل) لا تدلّ على المشاركة يقرّبه ما يفهم من المظانّ التي

__________________

١ ـ النهاية في غريب الحديث ٣ : ٨١ مادة «ضرر».

٢ ـ لسان العرب ٤ : ٤٨٢ مادة «ضرر».

٣ ـ انظر : منية الطالب ٣ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٤ ـ نهاية الدراية ٤ : ٤٣٧.

٥ ـ البقرة : ٢٣٣.

٦ ـ الطلاق : ٦.

٧. النساء : ١٢.

٧٣

استعملت فيها هذه الصيغة ، أمثال هاجم ، ودافع ، وخادع ، ونظائرها ، ومن هنا كانت متعدّية بخلاف هيئة (تفاعل) التي تدلّ على اشتراك الطرفين فهي لازمة ، تقول مثلا : شارك زيد عمرا ، وتشارك زيد وعمرو ، فلو كان الاشتراك واقعا من الطرفين في (شارك) لما صحّ أن يكون أحدهما فاعلا والآخر مفعولا ، ولكان حسابها حساب «تشارك زيد وعمرو» في صدور الحدث منهما.

ولو رجعنا إلى إحساسنا اللّغوي لوجدنا ـ في موضوع حديثنا ـ الفارق الكبير بين قولنا : «ضارّ زيد عمرا» و «تضارّ زيد وعمرو».

وجوّ الحديث الّذي صدرت فيه هذه الكلمة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة سمرة والأنصاري يعيّن هذا المعنى ، فالإضرار إنّما كان من سمرة ؛ ولذا قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّك رجل مضارّ» ، ولم يقل ذلك للأنصاري ، فلو كان هناك تبادل ضرر بينهما لوجّه اللّوم لهما ، لا لواحد منهما فقط ، وعنصر التعنّت واضح في جوّ القصّة من قبل المضارّ.

فدعوى أنّ المضارّة غير الضرر ، وأنّ المراد بها إلقاء الضرر على الآخرين تعنّتا غير بعيدة ، وبخاصّة في هذا الحديث ونظائره ممّا أثر في هذا المجال.

ثالثا : لا

والمراد من كلمة (لا) في هذه القاعدة كان أيضا موضعا لاختلاف الفقهاء ، وخلافهم ينتظم في قولين رئيسين :

(١) أنّها ناهية (١) ، فيكون معناها : أنّ الشارع حرّم الضرر والضرار ، نظير ما ورد من نهي الشارع المقدّس عن الرفث والفسوق والجدال في الحجّ في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٢).

__________________

١ ـ انظر : منتهى الدراية ٦ : ٦١١.

٢ ـ البقرة : ١٩٧.

٧٤

(٢) أنّها نافية ، والقائلون بالنفي مختلفون ، وأهمّ أقوالهم قولان :

أ ـ أنّها وردت للنفي (١) ، والمراد به تجوّزا النهي ، ويكون ذلك من قبيل استعمال الجملة الخبرية في الإنشائية ، فيكون مفاد الحديث هو التحريم.

والفارق بين هذا القول والقول السابق ـ مع اتّحادهما معنى ـ أنّ التحريم في القول الأوّل مستفاد من نفس لا الناهية ، فهي مستعملة في مدلولها حقيقة ، وعلى هذا القول أنّه مستفاد من استعمال الجملة الخبريّة في الإنشائيّة تجوّزا.

ب ـ أنّها نافية حقيقة (٢) ، والجملة فيها خبرية ، يراد بها الإخبار ، لا الإنشاء ، إلّا أنّ إخبار الشارع ـ بما هو شارع ـ إنّما يكون عمّا يقع تحت سلطانه ، وما يقع تحت سلطانه إنّما هو تشريعاته الخاصّة ؛ فكأنّه أخبر هنا عن تشريعاته أنّه ليس فيها تشريع ضرريّ.

والتشريع كما يتناول الأحكام على اختلافها من تكليفية ووضعيّة ، يتناول الموضوعات بما أنّها موضوعات لأحكامه ؛ لأنّ اعتبار الموضوع موضوعا لحكمه إنّما هو من وظيفته ، وخاضع لتشريعه وجعله.

مناقشة ورأي

والأقرب من هذه المعاني ظاهرا هو الأخير ؛ لأنّ اعتبار (لا) ناهية في هذه الجملة ممّا تأباه القواعد النحوية ؛ لبداهة أنّ (لا) الناهية لا تدخل على الأسماء ، وإنّما هي من مختصّات الفعل المضارع. (٣)

__________________

١ ـ ذهب إلى هذا القول كلّ من : شيخ الشريعة الأصفهاني في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» : ٣٧ ـ ٤٠ ، ومير فتاح المراغي في العناوين ١ : ٣١١ ، والبدخشي في مناهج العقول ٣ : ١٧٢ ، والنجفي في جواهر الكلام ٣٧ : ١٥ ، والنراقي في عوائد الأيام : ٥١.

٢ ـ ذهب إلى هذا القول كلّ من : الأنصاري في فرائد الأصول ٢ : ٤٦٠ ، والنائيني في منية الطالب ٣ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

٣ ـ تاج العروس ١٠ : ٤٤١.

٧٥

وهذا القول وإن نسب إلى بعض أكابر العلماء ، إلّا أنّني لا أظنّه مراده ، وربما أراد المعنى الثاني ، وأو همت عبارته خلاف ذلك. (١)

والقول الثاني وإن كان له وجه ، إلّا أنّ الذي يبعده هو أنّ اللّجوء إلى التجوّز لا يصار إليه إلّا مع تعذر حمل الكلام على الحقيقة لوجود قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي. والقرينة المدعاة هنا هي تعذّر حمل الكلام على حقيقته ؛ لأنّ نفي الضرر حقيقة في الخارج ، والإخبار عن عدم وقوعه كذب منزّه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لوقوعه بالوجدان (٢) ، بالإضافة إلى أنّ الشارع ليس من وظيفته الإخبار عن الأمور الخارجية (٣) ، فلا بدّ من حملها على التجوّز لذلك.

ولكن هذه القرينة غير واضحة ؛ لأنّ الشارع هنا أخبر عن نفي ما يقع تحت سلطانه من الأضرار الناشئة عن تشريعاته. ويؤيد ذلك وجود كلمة «في الإسلام» في الحديث (٤) ، والإسلام هو مجموع اعتبارات الشارع المقدس ، فكأنّه قال : لا ضرر ولا ضرار في تشريعاتي ، أي : ما يلزم من تشريعاتي الضرر أو الضرار فهو منفي ، فالإخبار هنا ليس عن نفي وقوع الضرر في الخارج ليلزم الكذب ، والخروج عن الوظيفة الشرعية ، وإنّما عن نفيه في مجال التشريع.

على أنّ كلمة «في الإسلام» تبعد إرادة النهي هنا (٥) ؛ إذ لا يستساغ في عالم البلاغة أن يقول القائل : لا تضرّوا ولا تضارّوا في الإسلام.

__________________

١ ـ أوهم كلام شيخ الشريعة الأصفهاني بين المعنى الأوّل والمعنى الثاني ، لكن عباراته إلى المعنى الثاني أقرب كما فهم الأكثر ذلك. راجع كلامه في «قاعدة لا ضرر ولا ضرار» : ٢٨ ، ٣٧ ، ٣٩ ، ٤٤.

٢ ـ انظر : مصباح الأصول ٢ : ٥٢٦.

٣ ـ قال السيد مير فتّاح المراغي في العناوين ١ : ٣١١ : «الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك ، لا في مقام ما يوجد في الدين وما لا يوجد».

٤ ـ عوائد الأيام : ٥١.

٥ ـ المصدر السابق.

٧٦

الخلاصة في دلالة القاعدة

وإذا صحّ ما انتهينا إليه من شرح لمعاني هذه المفردات الثلاث التي وردت في القاعدة المستقاة من الأحاديث النبوية ؛ خلص لنا القول بأنّ مفادها : أنّ كلّ تشريع يدخل النقص على المؤمنين ، أو يستغلّ لإلقاء النقص عليهم ، فهو منفيّ في الشريعة الإسلامية.

ومن هنا يتّضح أنّ هذه القاعدة لا تزيد على كونها نافية للتشريعات الضرريّة ، لا أنّها مشرّعة لأحكام غير ضررية ، واستفادة حكم الواقعة بعد نفي الحكم الضرريّ إنّما يرجع فيها إلى أدلّتها الخاصّة. (١)

نعم ؛ قد يستفاد من نفي الحكم الإلزامي مثلا إذا كان ضرريا ثبوت الجواز بالمعنى العامّ ، إلّا أنّ الجواز بالمعنى العامّ لا يعيّن نوع الحكم ، على أنّ ثبوت الجواز ـ بهذا المعنى ـ إنّما هو بمعونة حكم العقل ، لا بالدلالة اللّغويّة.

__________________

١ ـ قال النراقي : «من هذا يظهر فساد ما ارتكبه بعضهم ـ أي صاحب الوافية : ١٩٣ ، ١٩٤ ـ من الحكم بضمان الضارّ والمتلف بحديث نفي الضرار ، فإنّ عدم كون ما ارتكبه حكما شرعيا لا يدلّ على الضمان ، بل ولا على الجبران مطلقا كما قيل ـ قاله صاحب القوانين ٢ : ٤٨ ـ ...». عوائد الأيام : ٥٥ بتصرّف.

٧٧

الفرع الثالث

حجيّة القاعدة

حجّية القاعدة من السنّة النبوية الشريفة

وقد ادّعى تواتر الحديث بعض الأعلام ، منهم الشيخ الخراساني في «كفاية الأصول» (١).

والظاهر أنّ استفاضة الحديث (٢) ـ إن لم نقل بتواتره ـ تغني عن إطالة الحديث في سنده ؛ لوثوق الباحث بصدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبخاصة أنّه ليس في مضمونه ما يستوجب التوقّف في الأخذ به ، ولا في أجواء رواته ما يثير الريبة والتشكيك ، ووجود الإرسال في بعض رواياته ليس له أيّ تأثير على القول بحجّيته ، ما دامت هناك روايات معتمدة ومستوفية لشرائط الحجّية قد تعرّضت له.

__________________

١ ـ كفاية الأصول : ٣٨١. وقد ادّعى تواتر الحديث كلّ من : فخر المحققين في إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨ ، والسيد مير فتّاح في العناوين ١ : ٣٠٦ ، والإيرواني في الأصول في علم الأصول : ٣٤٧ ، والعراقي في قاعدة «لا ضرر» : ١٣٤.

٢ ـ ادّعى الاستفاضة كلّ من : السبزواري في كفاية الأحكام ٢ : ٥٥٦ ، والنراقي في عوائد الأيام : ٥٣ ، والقمّي في القلائد ١ : ٦٩٨ ـ ٦٩٩ ، والنائيني في منية الطالب ٣ : ٣٦٧ ، والخوئي ، في مصباح الأصول ٢ : ٥١٨.

٧٨

على أنّا في غنى عن ذلك كلّه بعد ما قرّبناه في كتابنا «الأصول العامّة للفقه المقارن» (١) من قيام بناء العقلاء الممضى قطعا من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم قيامه في زمنه ، وعدم ثبوت ردع عنه ، من الأخذ بكلّ خبر وتصديق صاحبه ما لم تكن في لسانه غرابة تستوجب التوقّف عن الاعتماد عليه ، أو تكتنف أجواؤه مواقع للتّهمة ، كأن يكون للراوي هوى معيّن يلتقي مع مضمون ذلك الحديث ، وبخاصّة في القضايا التي لها أهمّية واسعة يتوقّف عليها تقرير مصير ما ، ولعلّ في آية التبيّن التي ردعت عن الأخذ برواية الفاسق ما يشير إلى ما قلناه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٢).

وما عدا ذلك فالناس يصدّق بعضهم بعضا لمجرّد الخبر منهم دون فحص عن هويّة المخبرين عادة. ومثل هذا الحديث بما له من مضمون عال لا يتّضح فيه موقع لتريّب أو اتّهام.

فالحديث إذا من حيث السند لا يقتضي أن يكون موضعا لكلام.

مناقشة ورأي

أمّا متون الأحاديث المتضمّنة لهذه القاعدة فقد وقعت عليها زيادة ونقيصة ، ففي بعضها الاقتصار على كلمتي «لا ضرر ولا ضرار» (٣) ، وفي آخر زيادة كلمة «على مؤمن» (٤) ، وفي ثالث زيادة كلمة «في الإسلام» (٥).

__________________

١ ـ ١٩١ ـ ١٩٢.

٢ ـ الحجرات : ٦.

٣ ـ مسند أحمد ١ : ٥١٥ مسند عبد الله بن عباس ح ٢٨٦٢ ، والكافي ٥ : ٢٩٢ كتاب المعيشة ، باب الضرار ح ٢.

٤ ـ الكافي ٥ : ٢٩٤ كتاب المعيشة ، باب الضرار ح ٨.

٥ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٣٤ كتاب الفرائض والمواريث ، باب ميراث أهل الملل ح ٥٧١٨ ، ومجمع الزوائد ٤ : ١١٠ باب لا ضرر ولا ضرار.

٧٩

والقاعدة في الأحاديث المختلفة ذات الوقائع المتعدّدة إذا علم بوحدة الحكم فيها ؛ تقتضي حمل المطلق على المقيّد ، أي اعتبار الزيادة ، إذ لا معارض لها يمنع من الأخذ بها.

نعم تأتي شبهة التعارض فيما إذا علم أنّ الصادر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلا شيء واحد ، واختلف الرواة في النقل عنه من حيث الزيادة والنقيصة ؛ فأصالة عدم الزيادة في الكلام تعارضها أصالة عدم النقيصة ، ومقتضى ذلك أن يسقطا معا ، وتتحوّل الرواية إلى أن تكون مجملة من هذه الناحية.

وهذا ينطبق على قصة سمرة ؛ لأنّ الأحاديث التي أثرت فيها مختلفة ؛ فبعضها تقتصر على كلمة «لا ضرر ولا ضرار» ، وبعضها تزيد كلمة «على مؤمن» ، وبما أنّ الواقعة واحدة ، وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها واحد ، فلا يعقل أن تكون فيه هذه الكلمة ولا تكون.

ولكنّ هذه الشبهة يمكن أن تدفع بأنّ التعارض والتساقط إنّما يتمّان إذا لم يقدّم أحد الأصلين على الآخر في مجال الحجية. وأصالة عدم الزيادة هنا مقدمة على أصالة عدم النقيصة لقيام بناء العقلاء على ذلك ؛ لوضوح أنّ الناس يتسامحون في النقيصة ولا يتسامحون في الزيادة ؛ لأنّ الناقل غالبا إنّما يأخذ من النصّ موضع حاجته ويترك الباقي ، فالنحويّ ـ مثلا ـ حين يريد الاستشهاد فإنّما يأخذ موضع الشاهد من الحديث أو القصيدة ، ولا يهمه أن يأتي بالحديث أو القصيدة كاملة.

أمّا الزيادة فإنّ الناس يعتبرونها من نوع الكذب والافتراء فلا يتسامحون فيها بحال ، فمن زاد في حديث مثلا ونسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ اعتبر كذّابا مفتريا.

وعلى هذا فأصالة عدم الزيادة مقدّمة لديهم على أصالة عدم النقيصة. (١)

__________________

١ ـ انظر : قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» لشيخ الشريعة الأصفهاني : ١٥ ، ومصباح الأصول ٢ : ٥١٩ والقواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢١٣.

٨٠