القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

المطلب الأول

قواعد النيّة

وهي من جملة القواعد الواقعيّة ، وأهمها :

* قاعدة : العدول

* قاعدة : النيّة في اليمين تخصّص اللفظ العامّ ولا تعمّم الخاصّ

* قاعدة : إنّما الأعمال بالنيّات

* قاعدة : لا ثواب إلّا بالنيّة

٢٤١
٢٤٢

قاعدة العدول

مصدر القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

وردت من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام جملة من الروايات عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله ، وعن أحدهما عليهما‌السلام.

ورواها عنهما : زرارة بن أعين ، صباح بن صبيح ، سليمان بن خالد ، عبد الرحمن ابن أبي عبد الله ، عمرو بن أبي نصر السكوني ، علي بن جعفر ، محمد بن مسلم ، سماعة الحلبي ، وغيرهم.

فعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى ، فقال :

«إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها ، فإن ذكرها وهو في الصلاة بدأ بالتي نسي ، وإن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ثمّ صلّى المغرب ...». (١)

وعن سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة ، فبينما هو قائم يصلّي إذ أذّن المؤذن وأقام الصلاة ، قال عليه‌السلام :

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٢٩٣ كتاب الصلاة ، باب من نام عن الصلاة أو سها عنها ح ٥.

٢٤٣

«فليصلّ ركعتين ، ثمّ ليستأنف الصلاة مع الإمام ، ولتكن الركعتان تطوعا». (١) ونحوه حديث سماعة. (٢)

وعن صباح بن صبيح ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أراد أن يصلّي الجمعة فقرأ ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال عليه‌السلام :

«يتمّها ركعتين ثمّ يستأنف». (٣)

وعن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها ، قال عليه‌السلام :

«له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها». (٤)

وعن علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : عن القراءة في الجمعة بم يقرأ؟ قال عليه‌السلام :

«يقرأ الجمعة ، و (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ، وإن أخذت في غيرها وإن كان (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فاقطعها من أوّلها وارجع إليها». (٥)

دلالتها في اللغة

جاء في صحاح الجوهري : «وعدل عن الطريق : جار. وانعدل عنه مثله». (٦)

وفي القاموس : «وكلّ ما أقمته فقد عدلته ، وعدل عنه يعدل عدلا وعدولا : حاد ،

__________________

١ ـ تهذيب الأحكام ٣ : ٢٧٤ كتاب الصلاة ، باب (٢٥) فضل المساجد والصلاة فيها وفضل الجماعة وأحكامها ح ١١٢.

٢ ـ وسائل الشيعة ٨ : ٤٠٥ أبواب صلاة الجماعة ، باب (٥٦) استحباب نقل المنفرد نيته إلى النفل وإكمال ركعتين إذا خاف فوت الجماعة مع العدل ح ٢.

٣ ـ الاستبصار ١ : ٤١٥ كتاب الصلاة ، باب (٢٤٩) القراءة في الجمعة ح ٩.

٤ ـ تهذيب الأحكام ٢ : ٢٩٣ كتاب الصلاة ، باب (١٥) كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك والمسنون ح ٣٦.

٥ ـ وسائل الشيعة ٦ : ١٥٣ أبواب القراءة في الصلاة ، باب (٦٩) عدم جواز العدول عن الجحد والتوحيد في الصلاة بعد الشروع ح ٤.

٦ ـ الصحاح ٥ : ١٧٦١ ، مادة «عدل».

٢٤٤

وإليه عدولا : رجع ، والطريق : مال». (١)

وفي نهاية ابن الأثير : «وفي حديث المعراج : (فأتيت بإناءين فعدّلت بينهما) يقال : هو يعدّل أمره ويعادله إذا توقّف بين أمرين أيّهما يأتي ، يريد أنّهما كانا عنده مستويين ، لا يقدر على اختيار أحدهما ، ولا يترجّح عنده ، وهو من قولهم : عدل عنه يعدل عدولا إذا مال ، كأنّه يميل من الواحد إلى الآخر». (٢)

وفي مجمع البحرين : «وعدل عن الطريق عدولا : مال عنه وانصرف». (٣)

وعلى هذا يكون معنى هذه القاعدة هو الرجوع بالنيّة من قصد فقهي إلى آخر ، كما إذا نوى أن يصلّي صلاة العصر قبل إتيانه لصلاة الظهر ، وتذكّر في الأثناء ، فإنّه يجب عليه العدول من قصد الثانية إلى قصد الأولى.

حجّية القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

حفلت كتب الحديث بأحاديث مستفيضة أو متواترة مأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام ، وكثرت كثرة توجب الاطمئنان بصدورها عن المعصومين عليهم‌السلام ، منها :

عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام :

«... إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر ، فذكرتها وأنت في الصلاة ، أو بعد فراغك فانوها الأولى ، ثمّ صلّ العصر ، فإنّما هي أربع مكان أربع ، وإن ذكرت أنّك لم تصلّ الأولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين فانوها الأولى ، ثمّ صلّ الركعتين الباقيتين ، فقم فصل العصر ... فإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ، ثمّ سلّم ، ثمّ قم فصلّ العشاء الآخرة». (٤)

__________________

١ ـ القاموس المحيط ٣ : ٥٦٩ ، مادّة «عدل» ، بتصرّف.

٢ ـ النهاية في غريب الحديث ٣ : ١٩١ مادّة «عدل».

٣ ـ مجمع البحرين ٣ : ١٣٣ مادّة «عدل».

٤ ـ حصل اضطراب في نقل الفقرات الأخيرة من الحديث ، وهي في المصدر كما يلي :

٢٤٥

وعن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أمّ قوما في العصر ، فذكر وهو يصلّي بهم أنّه لم يكن صلّى الأولى ، قال عليه‌السلام :

«فليجعلها الأولى التي فاتته ، ويستأنف العصر وقد قضى القوم صلاتهم». (١)

وعن عمرو بن أبي نصر السكوني قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقوم في الصلاة فيريد أن يقرأ سورة فيقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) قال عليه‌السلام :

«يرجع من كلّ سورة إلّا من (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)». (٢) وغيرها كما مرّ في مصدر القاعدة.

حجّية القاعدة من الإجماع

وقد ادّعاه بعض الأعلام منهم : المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد (٣) في مسألة تقديم صلاة العصر على الظهر والتذكر في الأثناء فإنّه يجب عليه العدول إلى الظهر.

وكذلك ادّعي الإجماع في مسألة عدم جواز العدول من سورة إلى أخرى مع تجاوز النصف.

قال السيّد محسن الحكيم : «المعروف عدم جواز العدول مع تجاوز النصف .. وعن ظاهر المفاتيح : الإجماع عليه ... وفي الجواهر : الظاهر تحقّق الإجماع عليه». (٤)

والإجماع هنا إجماع مدركي ، والإجماع المدركي لا يكون حجّة على ما هو التحقيق في حجيّة الإجماع.

__________________

ـ «فإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب فقم فصلّ المغرب ، وإن كنت قد ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ، ثمّ سلّم ، ثمّ قم فصلّ العشاء الآخرة».

الكافي ٣ : ٢٩١ كتاب الصلاة ، باب من نام عن الصلاة أو سها عنها ح ١.

١ ـ تهذيب الأحكام ٢ : ٢٦٩ كتاب الصلاة ، باب (١٣) المواقيت ح ١٠٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ٣١٧ كتاب الصلاة ، باب قراءة القرآن ح ٢٥.

٣ ـ حاشية إرشاد الأذهان : ٦٣.

٤ ـ مستمسك العروة الوثقى ٦ : ١٨٦. وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ١٣٣ ، وجواهر الكلام ١٠ : ٦٠.

٢٤٦

تطبيقات

لا يجوز العدول من صلاة إلى أخرى إلّا في موارد منها (١) :

(١) في الصلاتين المترتّبتين ، كالظهرين والعشاءين إذا دخل في الثانية قبل الأولى عدل إليها بعد التذكر في الأثناء إذا لم يتجاوز محلّ العدول.

(٢) إذا كانت عليه صلاتان أو أزيد قضاء ، فشرع في اللاحقة قبل السابقة يعدل إليها مع عدم تجاوز محلّ العدول.

(٣) إذا دخل في الحاضرة فذكر أنّ عليه قضاء فإنّه يجوز له أن يعدل إلى القضاء إذا لم يتجاوز محلّ العدول.

(٤) العدول من الفريضة إلى النافلة يوم الجمعة لمن نسي قراءة سورة الجمعة وقرأ سورة أخرى وبلغ النصف أو تجاوز.

(٥) يجوز العدول من سورة إلى أخرى اختيارا إلّا من الجحد والتوحيد ، فلا يجوز العدول منهما إلى غيرهما بمجرّد الشروع فيهما ولو بالبسملة ، ويجوز العدول منهما إلى الجمعة والمنافقين.

(٦) العدول من الجماعة إلى الانفراد لعذر مطلقا.

(٧) العدول من إمام إلى إمام إذا عرض للأول عارض.

(٨) العدول من القصر إلى التمام إذا قصد في الأثناء إقامة عشرة أيام.

(٩) العدول من التمام إلى القصر إذا بدا له في الإقامة بعد ما قصدها.

(١٠) لا يجوز العدول من الفائتة إلى الحاضرة ، كما لا يجوز العدول من النفل إلى الفرض ، ولا من الفرض إلى النفل.

وفي منهاج الصالحين للسيد أبي القاسم الموسوي الخوئي : «لا يصحّ العدول من

__________________

١ ـ انظر : العروة الوثقى ١ : ٤٥٣ ـ ٤٥٥ ، ٤٧٣ فصل في النيّة ، مسألة رقم (٢٠) ، وفصل في القراءة ، مسألة رقم (١٦).

٢٤٧

صوم إلى صوم إذا فات وقت نيّة المعدول إليه ، وإلّا صحّ على إشكال». (١)

وفيه أيضا : «لا يجوز العدول من اعتكاف إلى آخر اتّفقا في الوجوب والندب أو اختلفا». (٢)

وغيرها كثير.

قاعدة

النيّة في اليمين تخصّص اللفظ العامّ ولا تعمّم الخاصّ

قال السيوطي في الأشباه والنظائر : «مثال الأوّل أن يقول : والله لا أكلّم أحدا ، وينوي زيدا. ومثال الثاني : أن يمنّ عليه رجل بما نال منه فيقول : والله لا أشرب منه ماء من عطش ، فإنّ اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصّ ، فلا يحنث بطعامه وثيابه ، ولو نوى أن لا ينتفع بشيء منه ، ولو كانت المنازعة تقتضي ذلك ؛ لأنّ النيّة إنّما تؤثّر إذا احتمل اللّفظ ما نوى بجهة يتجوّز لها. قال الأسنوي : وفي ذلك نظر ؛ لأنّ فيه جهة صحيحة ، وهو إطلاق اسم البعض على الكلّ». (٣)

وقال السيوري : «ذهب بعضهم إلى أنّه إذا نوى بالعامّ الخاصّ لا يتخصّص به ، بل يكون ذكر الخاصّ توكيدا للنسبة إليه ، والنسبة إلى غيره باقية بحالها ، فلو قال : «لا كلّمت أحدا» ونوى زيدا ، عمّه بالقصد الثاني ، وغيره بالقصد الأول ، إلّا أن ينوي مع ذلك إخراج من عدا زيد ؛ لأنّ المخصّص يجب أن يخالف حكم العامّ ، وذكر زيد لا يخالفه ...

فإن قيل : لو قال : والله لا لبست ثوبا ، ونوى القطن ، كان بمثابة قوله : ثوبا قطنا ، ولو قال ذلك تخصّص به وإن كان غافلا عن غيره ، أجيب : بأنّ المعلوم من كلام العرب

__________________

١ ـ منهاج الصالحين ١ : ٢٦٣ مسألة رقم (٩٨١).

٢ ـ المصدر السابق : ٢٨٩ مسألة رقم (١٠٦٩).

٣ ـ الأشباه والنظائر ١ : ١٣٩.

٢٤٨

أنّ اللفظ المستقلّ بنفسه إذا لحق (١) به غير المستقلّ صيّر الأوّل غير مستقلّ كما في الاستثناء والغاية ، ولم يثبت ذلك في النيّة حتّى يجري مجرى اللفظ ، ومن ثمّ لو قال : له عشرة إلّا تسعة ، قبل ، ولو قال : تنقص تسعة أو أدّيتها ، لم يقبل ؛ لاستقلال الضميمة بنفسها ، قلت : كلّما تلفّظ به كان مخصّصا ، أو اللفظ المذكور صالح له فينبغي أن يكون بنيّة تنافي التخصّص ، إذ يصير ذلك بمثابة الملفوظ ؛ لأنّ التقدير صلاحية اللفظ له ، واستعمال العامّ في الخاصّ من هذا القبيل ، فيصير الجزء الأخير كغير المذكور في عدم تناول اللّفظ إياه ؛ ولأنّ الصفة المتعقّبة يجوز جعلها مؤكّدة ، ولا يخرج ما عداها ، ويجوز جعلها مخصّصة وذلك بالنيّة ؛ فإذا أثّرت النيّة في الصفة الملفوظة فلم لا تؤثّر في المنويّة مع اشتراكهما في الاستعارة من اللّفظ ؛ ولأنّه لو صحّ ما قاله لم يكن معنى صورة إطلاق وإرادة الخاص منه ، إلّا مع التقييد بإرادة إخراج الخاصّ الآخر ، وحاصل كلام هذا القائل راجع إلى ذلك من قبيل المفهوم ؛ فيجري الخلاف فيه كالخلاف في المفهوم ، إلّا أنّه مع ذلك لا تفترق صورة التلفّظ بالصفة والنيّة لها ، ونحن نقول : إنّما خصّص هذا بالمذكور لا لمفهوم (٢) اللفظ ، بل لأنّ قضيّة الأصل ينفي ما عدا المذكور». (٣)

وقال أيضا : «النيّة يكتفى بها في تقييد المطلق وتخصيص العامّ ، وتعيّن المعتق (٤) والمطلّقة والفريضة المنويّة ، وتعيين أحد معاني المشترك ، وصرف اللفظ من الحقيقي (٥) إلى المجاز كقوله في المطلق : والله لأصلّينّ ، وعنى به ركعتين ، أو لأكلّمنّ رجلا وعنى به زيدا ، وتخصيص العام : والله لا لبست الثياب ، وعنى به القطن أو ثيابا بعينها ، ولا تكفي النيّة عن الألفاظ التي هي أسباب ، كالعقود والإيقاعات ، فلو قال : والله

__________________

١ ـ في المصدر : «ألحق».

٢ ـ في المصدر : «بمفهوم».

٣ ـ نضد القواعد الفقهية : ٧٣ ـ ٧٤.

٤ ـ في المصدر : «المعيّن» بدل «المعتق».

٥ ـ في المصدر : «الحقيقة».

٢٤٩

لا أكلت ، وأثّرت النيّة في مأكول بعينه إذا أراده ، أو في وقت بعينه إذا قصده ، لأنّ اللّفظ دالّ عليه التزاما ، قد جاء في القرآن : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(١) مع قوله في الآية الأخرى : (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)(٢) أي : لا يأتيهم في حالة من الأحوال إلّا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم ، فقد قصد إلى حال اللهو والإعراض بالإثبات وإلى غيرها بالنفي ، والأحوال أمور خارجة عن المدلول المطابقي ، مع أنّها عارضة غير لازمة ، فإذا أثّرت النيّة في العوارض ، ففي اللوازم أولى ، وقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...)(٣) الآية ، والمدلول المطابقي متعدّ (٤) ؛ إذا التحريم لا يتعلّق بالأعيان ، بل بالأفعال المتعلّق بها من الأكل والانتفاع ، فقد قصد بالتحريم ما لا يدلّ اللفظ عليه مطابقة ...». (٥)

قاعدة

إنّما الأعمال بالنيّات

المستفاد من قاعدة : «إنّما الأعمال بالنيّات» ، و «لكلّ امرئ ما نوى» أنّ النيّة من مقوّمات العبادة ومن مشخّصات متعلّقاتها (٦) ، وتشخيص مواردها بأدلّتها الخاصّة التي لا تستند إلى هذه القواعد ، وإنّما يرجع فيها إلى ما دلّ على اعتبارها من الأدلّة الخاصّة.

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢.

٢ ـ الشعراء : ٥.

٣ ـ المائدة : ٣.

٤ ـ في المصدر : «متعذّر» بدل «متعدّ».

٥ ـ نضد القواعد الفقهية : ٦٩ ـ ٧٠ ، بتصرّف.

٦ ـ راجع : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ١٣٧ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٢٠ ، والقواعد والفوائد ١ : ٧٤ ـ ٧٥.

٢٥٠

قاعدة

لا ثواب إلّا بالنيّة

وينظر في هذه القاعدة إلى أنّ ثواب الأعمال إنّما يناط بالنيّة ، فهي ناظرة إلى شأن من شئون الآخرة. (١)

__________________

١ ـ راجع : الأشباه والنظائر لابن نجيم : ٢٠.

٢٥١
٢٥٢

المطلب الثاني

القواعد التي تلابس قواعد النيّة

وتتضمّن :

* قاعدة : الأمور بمقاصدها

* قاعدة : العبرة في العقود للمقاصد والمعاني

لا للألفاظ والمباني

٢٥٣
٢٥٤

قاعدة

الأمور بمقاصدها

مصدر القاعدة

لم ترد هذه القاعدة بهذا اللّسان في الكتاب العزيز ، كما لم ترد من طريق السنّة النبويّة المشرّفة (١) ، وإنّما ورد بعض ملابساتها في الأحاديث المأثورة عن النيّة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) ، و «لا عمل لمن لا نيّة له» (٣) ... إلى غيرها من الأحاديث التي تقدّمت في مباحث النيّة.

وفي سنّة أهل البيت عليهم‌السلام وردت بعض ملابساتها أيضا في الأحاديث المأثورة عن النيّة كقوله عليه‌السلام : «لا قول إلّا بعمل ونيّة ، ولا قول وعمل إلّا بنيّة» (٤) ... وغيرها من الأحاديث التي تقدّمت أيضا في مباحث النيّة.

__________________

١ ـ وردت هذه القاعدة على ألسنة الفقهاء ، راجع : الأشباه والنظائر للسبكي ١ : ٥٤ ، والأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٦٥ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٢٧ ، وتحرير المجلّة ١ : ١٢٩.

٢ ـ صحيح البخاري ١ : ٥٨ كتاب الوحي ، باب بدء الوحي ح ١.

٣ ـ السنن الكبرى ١ : ٦٧ كتاب الطهارة ، باب (٣٧) الاستياك بالأصابع ح ١٧٩.

٤ ـ وسائل الشيعة ١ : ٤٧ أبواب مقدّمة العبادات ، باب (٥) وجوب النيّة في العبادات الواجبة واشتراطها بها مطلقا ح ٤.

٢٥٥

دلالتها في اللغة

الأمور : جمع أمر ، ويراد به كما في لسان العرب : «الأمر واحد الأمور ، يقال : أمر فلان مستقيم وأموره مستقيمة ، والأمر الحادثة ، ويجمع : الأمور ، لا يكسر على غير ذلك ، وفي التنزيل العزيز : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(١)». (٢)

والمقاصد ـ كما في لسان العرب ـ : الأساس قصد إتيان الشخص ، يقال : قصدته ، وقصد له ، وقصد إليه ، وإليك مقصدي ، وأقصدني إليك الأمر. (٣)

كما في «تاج العروس». (٤) وفيه أيضا : «قصدت قصده : نحوت نحوه». (٥)

وعلى هذا فمدلول القاعدة هو تقوّم الأمر بما يقصد إليه الآمر ، فلا يتحقّق الأمر إلّا بالقصد.

ويرد على لسان القاعدة اشتماله على لفظه «الأمور» وهو جمع أمر ، وهو لفظ عام ينطبق على كلّ قول وفعل ، وهو أعم من الموضوعات الفقهية وغيرها ، وهذا وهن في القاعدة.

حجّية القاعدة من السنّة النبويّة الشريفة وسنّة أهل البيت عليهم‌السلام

حفلت كتب الحديث بأحاديث تلابس أحاديث النيّة ، وكثرت كثرة توجب الاطمئنان بصدورها أو بعضها على الأقلّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، وهذا ما أغنانا عن النظر في أسانيدها ، وقد مرّت في مصادر النيّة.

__________________

١ ـ الشورى : ٥٣.

٢ ـ لسان العرب ٤ : ٢٧ مادّة «أمر» ، بتصرّف.

٣ ـ المصدر السابق ٣ : ٣٥٣ مادّة «قصد» ، بتصرف وزيادة في النقل.

٤ ـ تاج العروس ٢ : ٤٦٦ مادّة «قصد».

٥ ـ لسان العرب ٣ : ٣٥٣ مادّة «قصد».

٢٥٦

حجّية القاعدة من الإجماع

وقد ادّعاه بعض الأعلام ، وقد أجبنا عن مثله بإمكان كونه مدركيّا ، فلا يصلح للاستدلال به لعدم ثبوت حجّيته.

حجّية القاعدة من بناء العقلاء

الظاهر أنّ العقلاء يصدرون بتصرّفاتهم عن هذه القاعدة ، ويبنون عليها ، وأنّ الشارع المقدّس قد أمضاهم على ذلك.

مجالاتها في الفقه

ذكر قاضي خان ـ كما جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم ـ : «أنّ بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا إن قصد به التجارة فلا يحرم ، وإن قصد به لأجل التخمير حرم ، وكذا غرس الكرم على هذا». (١)

وقال ابن نجيم : «وعلى هذا عصير العنب بقصد الخلّية أو الخمرية ، والهجر فوق ثلاث ، دائر مع القصد ، فإن قصد هجر المسلم حرم ، وإلّا فلا ، والإحداد للمرأة على ميّت غير زوجها فوق ثلاث دائر مع القصد ، فإن قصدت ترك الزينة والطيب لأجل الميت حرم عليها ، وإلّا فلا ، وكذا قولهم : إنّ المصلّي إذا قرأ آية من القرآن جوابا بكلام بطلت صلاته ، وكذا إذا أخبر المصلّي بما يسرّه وقال : الحمد لله ، قاصدا الشكر ، بطلت ، أو بما يسوؤه فقال : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، أو بموت إنسان وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قاصدا له ، بطلت صلاته». (٢)

__________________

١ ـ الأشباه والنظائر : ٢٧.

٢ ـ المصدر السابق.

٢٥٧

وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ـ بعد عرضه لنماذج من تطبيقات هذه القاعدة ـ : «بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد به التقوّي على العبادة أو التوصّل إليها ، كالأكل ، والنوم ، واكتساب المال ، وغير ذلك». (١)

أقول : إلى غير ذلك من العناوين الثانوية التي يتبدّل الحكم الأوّلي بطروّها عليه.

__________________

١ ـ الأشباه والنظائر ١ : ٧٣.

٢٥٨

قاعدة

العبرة في العقود للمقاصد والمعاني

لا للألفاظ والمباني

قال الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء : «اعتبار القصود في العقود ممّا لا شكّ فيه ولا ريب ، بمعنى : أنّ العقد إذا خلا من قصد فهو لغو ، بل كلّ كلام كذلك ، ولكنّ إناطة المدار في العقد على القصد وحده دون اللفظ غير صحيح ، بل لا يتحقّق العقد إلّا باللّفظ الخاص ، ولكن مع القصد.

فالقاعدة الصحيحة هنا هي ما عبّر عنها فقهاؤنا بقولهم : العقود تابعة للقصود ، يريدون : أنّ كلّ معاملة كالبيع ، والإجارة ، والرهن ، لها ألفاظ تخصّها بحسب الوضع ، والشرع يعبّر عنها بالعقد ، ولكنّها لا تؤثّر الأثر المطلوب من ذلك العقد إلّا بقصد معناه من لفظه ، فلو لم يقصده ، أو قصد معنى آخر ، كما لو قصد من البيع الإجارة ، أو من الإجارة البيع ، ولو مجازا ، كان باطلا ، لا أنّ المدار على القصد وحده دون اللّفظ كما في مادة المتن». (١)

وقال في موضوع آخر : «نعم ، لا ريب أنّ القصود هي الركن الأعظم في العقود

__________________

١ ـ تحرير المجلّة ١ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، بتصرّف.

٢٥٩

ولكن بقيد الألفاظ الخاصة الموضوعة للدلالة عليها ، المتّحدة بتلك المعاني اتّحادا جعليّا لا بالألفاظ الغريبة عنها ؛ إذ من المعلوم أنّ للّفظ أنسا وملابسة مع المعنى الموضوع له المستعمل فيه ، ونفورا ووحشة من المعنى غير الموضوع له.

وعلى كلّ فالصراحة اللّازمة ـ ولا سيما في العقود اللازمة ـ توجب استعمال الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة بالوضع والمطابقة ، لا بالمجاز والكناية ، فضلا عن الغلط. فاللّازم أن تكون المادة هكذا : العبرة في العقود للمقاصد والمعاني مع الألفاظ والمباني». (١)

وأمّا قاعدة (العقود تابعة للقصود) فهي قاعدة مستقلّة تبحث في مكانها المناسب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

__________________

١ ـ تحرير المجلّة ١ : ٢١٠.

٢٦٠