القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

هذا إذا لم ننكر كثرة التخصيص المدّعاة ، أمّا إذا أنكرناها فلا شبهة من هذه الناحية. (١)

سقوط القاعدة لابتلائها دائما بالمعارض

وقد سبق أن بحثنا هذا الإشكال في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ، والمقام هنا مشابه للمقام هناك. (٢)

وخلاصة ما توصّلنا إليه من جواب : هو أنّ دليل (لا حرج) دليل حاكم على أدلّة الأحكام الأوّلية ، ولذلك قدّم عليها ، والدليل الحاكم لا تلحظ فيه النسبة بينه وبين الدليل المحكوم.

والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر موسّعا أو مضيّقا له.

فمن القسم الأوّل ما ورد من أنّ : «الفقّاع خميرة استصغرها الناس» (٣) ، فالفقّاع وإن لم يكن خمرا بمفهومه اللغوي ، إلّا أنّ الشارع بدليله هذا وسّع مفهوم الخمر إلى ما يشمل الفقاع ، وأعطاه جميع أحكام الخمر بحكم عموم التنزيل ، وأمثال هذا في الأدلّة كثيرة.

ومن القسم الثاني ما ورد في أدلّة نفي الحرج ، وسمة هذه الأدلّة إلى الأحكام الأوّلية سمة المضيّق لها إلى ما لا يشمل الأحكام الحرجية ، ولسان الكثير من أدلّة هذا النوع من الحكومة لسان نفي للموضوع تعبّدا ، ونفي الموضوع يستدعي نفي الحكم ؛ إذ لا حكم بلا موضوع.

__________________

١ ـ أنكر كثرة التخصيص المدّعاة الشيخ أحمد النراقي ، راجع : عوائد الأيام : ١٩٣.

٢ ـ راجع : ص ٩٠.

٣ ـ الكافي ٦ : ٤٢٣ كتاب الأشربة ، باب الفقاع ح ٩.

١٨١

إجمال القاعدة

وقد ذهب إلى ذلك الشيخ محمد بن الحسن ، الملقّب ب «الحرّ العاملي» في كتابه الفصول المهمة ، حيث قال : «نفي الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا يطاق ، وإلّا لزم رفع جميع التكاليف». (١)

وكأنّ وجه الإجمال لديه هو أنّ جميع الأحكام الإلزامية ذات مراتب في الحرج ، وتقديم (لا حرج) عليها يستلزم إسقاط هذه التكاليف ، وإسقاط التكاليف لا يمكن الالتزام به بحال.

فالقاعدة إذا لا بدّ فيها من الالتزام بالإجمال ، ويستثنى من ذلك تعلّقه بما لا يطاق حيث يوجب الجزم ؛ لانطباق القاعدة عليه ، فلا إجمال.

والجواب عن ذلك هو : إنكار الإجمال لكثير من الآيات والروايات ، حيث يستدلّ بها الأصحاب على نفي التكاليف الحرجية. (٢)

__________________

١ ـ الفصول المهمة في أصول الأئمة ١ : ٦٢٦ باب (٤٤) بطلان تكليف ما لا يطاق ، وأنّه لا حرج في الدين ، ذ ح ٧.

٢ ـ راجع : عوائد الأيام : ١٨٨ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٧٤٥.

١٨٢

الفرع الخامس

مجالات القاعدة في الفقه

خرّج العلماء على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته .. يقول ابن نجيم في الأشباه والنظائر : «واعلم أنّ أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة :

الأول : السفر.

الثاني : المرض. ورخصه كثيرة : التيمّم عند الخوف على نفسه ، أو على عضوه ، أو من زيادة المرض ، أو بطئه ، والقعود في صلاة الفرض ، والاضطجاع فيها ، والإيماء. والتخلّف عن الجماعة مع حصول الفضيلة ، والفطر في رمضان للشيخ مع وجود (١) الفدية عليه ، والانتقال من الصوم إلى الإطعام في كفارة الظهار ، والفطر في رمضان ، والخروج من المعتكف ، والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار ، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية ، والتداوي بالنجاسات ، وبالخمر على أحد القولين ، واختار قاضي خان عدمه. وإساغة اللقمة إذا غصّ بها اتّفاقا ، وإباحة النظر للطبيب حتّى العورة والسوءتين.

الثالث : الإكراه.

الرابع : النسيان.

__________________

١ ـ الصحيح : «وجوب» بدل «وجود» كما هو في المصدر.

١٨٣

الخامس : الجهل.

السادس : العسر وعموم البلوى ، كالصلاة مع النجاسة المعفوّ عنها ، كما دون ربع الثوب من مخفّفه ، وقدر الدرهم من المغلّظ (١) ، ونجاسة المعذور التي تصيب ثيابه ، وكان كلّما غسلها خرجت ، ودم البراغيث والبقّ في الثوب وإن كثر ...

السابع : النقص فإنّه نوع من المشقّة ، فناسب التخفيف ، فمن ذلك عدم تكليف الصبي والمجنون ففوّض أمر أموالهما إلى الولي ، وتربيته وحضانته على (٢) النساء رحمة عليه ، ولم يجبرهم على الحضانة تيسيرا عليهنّ ، وعدم تكليف النساء (٣) بكثير ممّا وجب على الأحرار ؛ لكونه على النصف من الحرّ في الحدود والعدّة». (٤)

وقال السيوطي بعد ذكره لكثير من مجالاتها في الفقه : «فقد بان أنّ هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه». (٥)

وقال السيوري في كتابه نضد القواعد : «وجميع رخص الشرع وتخفيفاته تعود إليها ؛ كالتقية ، وشرعية القسم (٦) عند الخوف على النفس ، وإبدال القيام عند التعذّر في صلاة الفريضة ، ومطلقا في الباقي (٧) ، وقصر الصلاة والصوم ، ومنه المسح على الرأس والرجلين بأقلّ مسمّاه ؛ ومن ثمّ أبيح المفطر في جميع الليل بعد أن كان حراما بعد النوم ، وكلّ ذلك للترغيب في العبادات وتحبيبها إلى النفس.

ومن الرخص ما يخصّ كرخص السفر ، والمرض ، والإكراه ، ومنها ما يعمّ كالقعود في النافلة ، وإباحة الميتة عند المخمصة.

__________________

١ ـ الصحيح : «المغلظة» بدل «المغلظ» كما هو في المصدر.

٢ ـ الصحيح : «إلى» بدل «على» كما هو في المصدر.

٣ ـ الصحيح : «الأرقّاء» بدل «النساء» كما هو في المصدر.

٤ ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم : ٧٥ ـ ٧٦ ، ٨١ ـ ٨٢ بتصرّف.

٥ ـ الأشباه والنظائر ١ : ٢٠٣.

٦ ـ الصحيح : «التيمّم» بدل «القسم» كما هو في المصدر.

٧. الصحيح : «النافلة» بدل «الباقي» كما هو في المصدر.

١٨٤

ومن رخص السفر ترك الجمعة والقصر ، وسقوط القسم بين الزوجات لو تركهنّ ، بمعنى عدم القضاء بعد عوده ، وسقوط القضاء للمتخلّفات لو استصحب بعضهنّ ، والظاهر أنّ القسم تابع لمطلق السفر وإن لم يقصر فيه الصلاة.

ومن الرخص : إباحة كثير من محظورات الإحرام مع الفدية ، وإباحة الفطر للحامل ، والمرضع ، والشيخ والشيخة ، وذي العطاش ، والتداوي بالنجاسات والمحرّمات عند الاضطرار ، وشرب الخمر لإساغة اللقمة ، وإباحة الفطر عند الإكراه عليه مع عدم القضاء ...

ومن اليسر : الاستنابة في الحجّ للمعضوب والمريض الميئوس من برئه ، وخائف العدوّ ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ، والمطر والوحل والأعذار بغير كراهية ، ومنه إباحة نظر المخطوبة المجيبة للنكاح ، وإباحة أكل مال الغير مع بذل البدل مع الإمكان ولا معه مع عدمه عند الإشراف على الهلاك ، ومنه العفو عمّا لا تتم الصلاة فيه منفردا مع نجاسته ، وعن دم القروح والجروح التي لا ترقأ. وعدّ منه الشيخ (١) دم البراغيث بناء على نجاسته ...». (٢)

__________________

١ ـ الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ، راجع : تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٩ كتاب الطهارة ، باب (١٢) في تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ذ ح : ٣٩.

٢ ـ نضد القواعد الفقهية : ٧٤ ـ ٧٦ ، بتصرّف.

١٨٥
١٨٦

المطلب الثاني

ما يلابس القاعدة من الأحكام

* أولا : الضرر في القاعدة شخصي أو نوعي؟

* ثانياً : نفي الضرر بين الرخصة والعزيمة

* ثالثا : القاعدة وشمولها للمحرّمات

* رابعا : القاعدة والأمور العدمية

* خامساً : الضرر في القاعدة واقعي أو علمي؟

* سادساً : القاعدة وشمولها لضرر الغير

١٨٧
١٨٨

أولا : الحرج بين الرخصة والعزيمة

سبق أن تحدّثنا في كتابنا «الأصول العامّة للفقه المقارن» (١) ، وفي قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) (٢) ، عن مفهوم الرخصة والعزيمة.

فقد عرّف غير واحد العزيمة بما يرجع إلى «ما شرّعه الله أصالة من الأحكام العامّة التي لا تخصّص بحال دون حال ، ولا مكلّف دون مكلّف». (٣) ومثّلوا لها بما ألزم به الشارع من الصوم ، والصلاة ، والحجّ ، وترك شرب الخمر ، وأكل الميتة ، وهكذا.

وفي مقابلها الرخصة وهي : «ما شرّعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلّف في حالات خاصّة تقتضي هذا التخفيف». (٤) ومثّلوا لها بما أحلّ لأجل الاضطرار والإكراه ، كأكل لحم الميتة ، وشرب الخمر ، وغيرها من العناوين الثانوية.

ورجوعهما إلى الأحكام التكليفية من أوضح الأمور ، فليس العزيمة إلّا الحكم

__________________

١ ـ ص ٦٧.

٢ ـ ص ١٠٤ من هذا الكتاب.

٣ ـ علم أصول الفقه : ١٢١ ، وانظر : الإحكام للآمدي ١ : ١١٣ ، والمستصفى ١ : ١٨٤ ، والمحصول ١ : ١٢٠.

٤ ـ علم أصول الفقه : ١٢١. وانظر : الإحكام للآمدي ١ : ١١٣ ، والمستصفى ١ : ١٨٤ ، والمحصول ١ : ١٢٠.

١٨٩

المجعول للشيء بعنوانه الأوّلي ، وليست الرخصة إلّا جعل الإباحة للشيء بعنوانه الثانوي ، وهما لا يخرجان عن تعريف الأحكام التكليفيّة بحال.

وبمقتضى ما تمّ من حدّي الرخصة والعزيمة ؛ يقع التساؤل عن قاعدة (لا حرج) : هل يقتضي النفي فيها العزيمة أو الرخصة؟

والتحقيق : أنّ مقتضى ما استفدناه من حديث (لا حرج) أنّه وارد مورد الامتنان على المكلّفين ، فالمستفاد منه رخصة لا عزيمة ؛ لأنّ المنّة لا تقضي أكثر من وضع الإلزام للأحكام التكليفيّة ، واللزوم للأحكام الوضعيّة ، ولا تكشف عن رفع أصل الملاك. (١)

ثانيا : الحرج في القاعدة شخصي أو نوعي؟

يقسم الحرج إلى قسمين :

(١) الحرج الشخصي : ويراد به الحرج المتعلّق بأشخاص المكلّفين.

(٢) الحرج النوعي : ويراد به الحرج المتعلّق بأغلبيّة المكلّفين.

وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فهما يلتقيان مثلا في حرج ما يعمّ نوع الناس ، فإذا انطبق على زيد ـ مثلا ـ كان من ناحية حرجا شخصيا ؛ لانطباقه على الشخص ، ومن ناحية أخرى حرجا نوعيا لشموله لأغلبيّة الناس ، كالحرج الناشئ من استعمال الماء البارد في الغسل في شدّة البرد ، ويفترقان في انطباقه على من يتحرّج باستعمال الماء البارد في الحرّ ؛ فإنّه حرج شخصي لا نوعي ، وعلى من لا يتحرّج باستعمال الماء البارد في شدّة الشتاء وإن تحرّج نوع الناس.

والتحقيق ـ كما انتهينا إليه في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ـ : أنّ الحرج الوارد في

__________________

١ ـ راجع : مستمسك العروة الوثقى ٤ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

١٩٠

لسان القاعدة ـ كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع وكونها واردة مورد الامتنان ـ يقتضي أن يكون المراد به الحرج الشخصي ؛ إذ ليس من المنّة على المكلّف غير المتحرّج من قبل امتثاله لحكم الشارع أن ينفى عنه الحكم ، لا لشيء سوى أنّ غيره متحرّج. (١)

هذا بالإضافة إلى أنّ مقتضى ما استفدناه من حكومة هذه القاعدة على الأدلّة الأوّلية يقتضي ذلك ؛ فالأدلّة المتعرّضة لأحكام الشارع الأوّلية ـ كأدلّة وجوب الصلاة ، والصوم ، والحج ، وغيرها ـ واردة مورد العموم الاستغراقي ، ومقتضاه انحلاله إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد من ينطبق عليهم موضوع التكليف ، فكأنّ الشارع وجّه تكاليفه إلى هؤلاء الأفراد جميعهم مباشرة ، وكان لكل فرد منهم تكليفه الخاصّ ، ثمّ جاءت هذه القاعدة فشرحت مراده من هذه الأدلّة ، فكأنّها قالت : إنّ هذه الأحكام إذا استلزم امتثالها حرجا لمن تعلقت به فهي منفيّة عنه.

ثالثا : القاعدة وشمولها للمحرّمات

والذي يبدو من أدلّة قاعدة (لا حرج) أنّ فيها إطلاقا يشمل المحرّمات والواجبات (٢) ، كما أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك ؛ لأنّ القاعدة امتنانية ، وليس من المنّة إبقاء الحرمة الحرجيّة على حالها.

والمستفاد من قاعدة (لا حرج) أنّها إنّما تنفي خصوص الحكم الذي يحدث امتثاله الحرج ، والمحرّمات ـ نوعا ـ لا نتصور في امتثالها إحداث حرج ما. (٣)

__________________

١ ـ راجع : رسالة في نفي العسر والحرج للآشتياني : ٢٤٩ ـ ٢٥٠. والذي ذهب إليه الأصفهاني هو نفي الأمرين معا ؛ النوعي والشخصي. راجع : هداية المسترشدين ٢ : ٧٥٠.

٢ ـ راجع : مستند الشيعة ١٥ : ٣٢ ، والقواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢٦٤.

٣ ـ راجع : رسالة في نفي العسر والحرج للآشتياني : ٢٣٩.

١٩١

والسرّ في ذلك أنّ امتثال المحرّم لا يكون إلّا بتركه ، والترك عدم ، فلا يتصوّر فيه غالبا أن يكون علّة إحداث نقص مادّي ، فترك شرب الخمر لا يحدث الحرج وإن كان شربه قد يدفع الحرج.

والحقيقة أنّ الواجبات والمحرمات مختلفات من حيث السنخية ؛ فامتثال الواجب قد يحدث حرجا كما في الوضوء في شدّة البرد ؛ لأنّه أمر وجوديّ يصلح لأن يكون علّة لإحداث حرج ما ، ولكن ترك الحرام لا يمكن عادة أن يحدثه لكونه عدميّا.

نعم ، الذي يمكن تصوّره في المحرّمات هو أنّ مخالفتها قد تكون رافعة للحرج ، كما في مثال إساغة اللقمة في الخمر ، ولها قواعدها الخاصة.

والحقيقة أنّ قاعدة (لا حرج) ناظرة إلى رفع الحرج ابتداء ، وتلك ناظرة إلى رفعه بعد وجوده ، وهو لا يتحقّق إلّا بمخالفة الحرام ، أي أنّ ارتكاب المحرّم قد يرفع الحرج بعد حدوثه.

وعلى هذا فالمحرّمات تكون خارجة بالتخصّص ؛ ولذلك خصّها الشارع بفحوى قاعدة مستقلّة يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى. (١)

نعم ، لو أمكن أن نتصوّر أنّ ترك محرّم ما ـ وهو عدم ـ يمكن أن يكون علّة في إحداث حرج ما ، يكون ذلك مشمولا للقاعدة ، إلّا أنّنا لا نتصوّره في جلّ المحرّمات ، فهي إذا خارجة عن هذه القاعدة تخصّصا.

نعم ، إنّ بعض المحرّمات يعلم أنّ الشارع لا يريد أن تقع ؛ لما فيها من مفاسد كالزنا ، وقتل النفس المحترمة ، وشرب الخمر ، فلا يعقل أن تنالها أدلّة الحرج. (٢)

__________________

١ ـ وهي قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات». يأتي الحديث عنها في صفحة ٢٠٦.

٢ ـ راجع : رسالة في نفي العسر والحرج للآشتياني : ٢٤٢.

١٩٢

رابعا : القاعدة وشمولها للمستحبّات

يتحدّث الفقهاء عن تناول أدلّة (لا حرج) للمستحبّات (١) أو أنّها تختصّ بالواجبات (٢) ، ويميل البعض (٣) إلى تناولها للمستحبّات ويرفع اليد عن استحبابها إذا تسبّب عنها حرج.

ولكنّا نلتزم بعدم تناولها لذلك ؛ لأنّ فرض الاستحباب وجواز الترك ابتداء يبعدها عن أن تحتاج إلى دليل رافع.

فالمكلّف المتحرّج إذا شاء أن يفعل المستحب راضيا بما يتسبّب عنه به من حرج ، ليس من المنّة عليه في شيء أن يقال له برفع الحكم وإسقاطه.

ولعلّ لنا في سيرة الكثير من الأولياء شاهدا على ذلك ، فنراهم في سبيل الإتيان بالمستحبّ يقدمون على ما فيه الحرج الشديد ، فيتعمّدون المشي إلى بيت الله الحرام ، وإلى زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام ، ونحوها من الأعمال طلبا ورغبة في الثواب وإن تسبّب لهم بذلك حرج شديد.

خامسا : القاعدة والأحكام الوضعية

بعد أن تقدّم في (لا حرج) من كونها رافعة للإلزام الشرعي ، صحّ لنا أن نتساءل

__________________

١ ـ راجع : كتاب الطهارة للأنصاري ٢ : ٢٥٨.

٢ ـ راجع : التنقيح في شرح العروة الوثقى ٤ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦.

٣ ـ هداية المسترشدين ٢ : ٧٥١.

١٩٣

عن حدودها واتساعها لكلّ اعتبار شرعي ولو لم يكن اقتضائيّا.

وبعبارة أخرى بعد أن عرّفنا الأحكام الوضعيّة بأنّها الاعتبارات الشرعية لا من حيث الاقتضاء والتخيير ، هل ترفع بامتثال (لا حرج) من الأدلّة النافية؟

وقد أجاب أكثر الفقهاء بعدم شمولها لها ؛ لعدم الإلزام في الحكم الوضعي ، وكأنّهم استفادوا من كلمة (عليكم) في الآية الشريفة نوعا من الإلزام ، أو فقل : تسلّط الرفع على خصوص الأحكام الملزمة ؛ لأنّها هي التي تناسب كلمة (عليكم).

نعم ، الأحكام التكليفيّة الناشئة والتابعة لبعض الأحكام الوضعيّة هي التي تكون صالحة للرفع إذا ما تسبّب عنها حرج.

وكمثال على ذلك : الصحّة في البيع ـ وهي حكم وضعي ـ إذا تسبّب عنها حرج للمكلّف هل ترتفع؟

ونودّ أن نشير هنا إلى أنّه هل يمكن تصوّر نشوء الحرج من نفس حكم الشارع بالصحّة ، أو أنّ الحكم الحرجي هو إلزام الشارع بالوفاء بالعقد بدليل آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) أمّا نفس الصحة ـ بما هي صحة ـ أي مع غض النظر عن الحكم التكليفي التابع لها فلا ينشأ عنه حرج؟

الظاهر أنّه يشكل تصوّر الحرج فيها نفسها ، وإذا قدّر نشوء حرج من مثل هذا الحكم فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تقصر عنه ، بل تتناوله وترفعه (٢) ، نعم هي ترفع ما به الحرج ، دون سائر الآثار والأمور الأخرى ، لما ذكر مرارا من أنّ «الضرورات تقدّر بقدرها».

وممّا يتّصل بالموضوع ويحسن أن ننبّه عليه ، هو أنّ مثل الطهارة والنجاسة هل هي أحكام شرعية ، واعتبارات مجعولة من قبل الشارع لمثل الدم ونحوه ، أو أنّها

__________________

١ ـ المائدة : ١.

٢ ـ القواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢٥٦.

١٩٤

ليست كذلك ، وإنّما هي عبارة عن حكاية واقع قائم في ذات الدم ونعني به الخبثية الموجودة فيه ، وحينئذ لا تكون الأدلّة الرافعة متناولة لمثله ، لما ذكر من أنّ يد الاعتبار لا تتناول الواقع بتغيير وتبديل.

سادسا : (لا حرج) والأمور العدميّة

يمكننا تصوير المسألة بصورتين :

الأولى : بما سبق أن بحثناه في قاعدة (لا ضرر) تحت عنوان (لا ضرر والمحرّمات) (١) ، فمثلا عدم شرب الخمر لو تسبّب عنه ضرر أو حرج ، هل يكون موردا للقاعدة؟ وهل يرتفع مثل هذا العدم لأنّه حرجي ، فيباح الخمر لأنّ رفع العدم إثبات لنقيضه؟

والحديث الذي تقدّم في (لا ضرر) ربّما يعاد نفسه هنا ، ونلتزم بما سبق أن التزمنا به من عدم الترخيص بالمحرّمات التي علم عدم رضا الشارع بوقوعها مطلقا.

نعم ، ربّما يقال هنا بأنّ بعض المحرّمات التي لم تبلغ درجة الخطورة فيها مبلغا يصيّرها مكروهة الوقوع ، لا مانع من ترخيص الشارع فيها ورفعها عند الحرج.

الثانية : بما سبق أن بحثناه في قاعدة (لا ضرر) تحت (عنوان لا ضرر والأمور العدميّة) (٢) ، ونعني بها الموارد التي سكت الشارع المقدّس عن بيان حكم لها ، وكمثال على ذلك لو امتنع الزوج عن النفقة على زوجته هل يسوغ الطلاق هنا ، بأن ينتقل حقّ إيقاعه عن الزوج ، أو لا؟ لأنّ بقاء الزوجية مع الامتناع عن النفقة يستلزم حرجا على

__________________

١ ـ تقدّم في ص ١٠٦ من هذا الكتاب.

٢ ـ تقدّم في ص ١٠٩ من هذا الكتاب.

١٩٥

الزوجة.

أو أنّ الشارع ـ مثلا ـ لم يشرّع الضمان على الدولة لإنسان ما إذا أتلف ماله بآفة سماوية ، وبما أنّ عدم تشريعه حرج على ذلك الإنسان فهل يمكن أن نرفع هذا العدم بقاعدة (لا حرج) ، ورفع العدم معناه إيجاد الضمان في المثال ؛ فنحكم بضمان الدولة لهذا الإنسان استنادا إلى هذه القاعدة.

وإذا عدنا إلى ما سبق أن بيّناه من أنّ الشارع المقدّس لم يسكت عن شيء مطلقا ؛ لما تسالمت عليه الكلمة من أنّ لله تعالى في كل واقعة حكما ، وهذه الواقعة لا بدّ أن يكون لها حكم ، ولا أقلّ من حكم ظاهري أو وظيفة مجعولة من قبل الشارع مستفادة من أمثال : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١) ، ونحوها من أدلّة البراءة ، فيكون الشارع قد حكم أو جعل عدم الطلاق للحاكم الشرعي أو لغيره ، لأنّا في الفرض نشكّ في جعل الطلاق في غير الزوج أوّلا ، ومع الشكّ في جعله فإنّ أصالة عدم الجعل تنتج أنّ الحكم هنا هو عدم الضمان أو الوظيفة على الأصح.

وقد خلص المحقّق النائيني عند بحثه لهذا الموضوع في قاعدة (لا ضرر) إلى كون الأمور العدميّة لا تقبل الرفع ولا صلاحية لها في ذلك (٢) ، فهو هنا أوضح لأنّ كلمة (جعل) أخذت في لسان القاعدة ، فالحكم المجعول يكون خارجا عنها موضوعا ولا تتناوله بحال.

كما أنّه ذكر هنا أنّ عدم جعل الطلاق (٣) ، أو عدم جعل الضمان (٤) يحدث حرجا حسب الفرض على الزوجة أو المتلف له ، إلّا أنّ جعل حقّ الطلاق أو الضمان يستلزم حرجا أيضا ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع إلى ما كان عليه الحال قبل الحرج.

__________________

١ ـ الكافي ١ : ١٢٦ كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه ح ٣.

٢ ـ منية الطالب ٣ : ٤١٨.

٣ ـ انظر : تكملة العروة الوثقى لليزدي ١ : ٧٥.

٤ ـ انظر : حاشية المكاسب لليزدي ٢ : ٣٧.

١٩٦

إلّا أنّا يمكن نلتزم في أمثال هذه الموارد من أنّها ذات وظيفة مجعولة من قبل الشارع ، وأنّها غير مغفلة ، وأنّ الوظيفة ـ وإن كانت حرجيّة ـ فهي أضيق من القاعدة فتكون خارجة عنها بالتخصيص ، فتكون النتيجة أنّ كلّ حكم أو وظيفة حرجية غير مجعولة ولا مرادة للشارع إلّا الحكم بعدم الضمان ، أو جعل عدم الطلاق أو نحوها من الأمور الحرجية فإنّها مجعولة هنا وباقية على ما فيها من حرج ، فكأنّها جعلت ابتداء على هذا الحال لمصلحة يراها الشارع فتقدّم بالتخصيص.

سابعا : الإقدام على الحرج

ويمكننا تصوير المسألة بصورتين :

الأولى : أن يكون الفعل حرجيّا في نفسه كالوضوء مثلا ، وطبيعي أنّه مورد من موارد القاعدة ، وتطبيق لها ، فيرتفع وجوب الوضوء ، ولكنّ المكلّف نفسه يتعمّد الوضوء ويقدم عليه ، لا على بدله ، فهل يصحّ منه الوضوء أو يحكم ببطلانه (١)؟

والواقع أنّ هذه المسألة تبنى على ما سبق أن بحثناه تحت عنوان (الحرج بين الرخصة والعزيمة) وانتهينا هناك إلى أنّه رخصة ، فذلك يعني بقاء الملاك وصلاحية التقرّب به ، فيحكم حينئذ بالصحّة.

ومن يقول بالعزيمة لا بدّ أن يذهب إلى البطلان ؛ لأنّ الفعل حينئذ لا يصلح للتقرّب ، فالفرض المذكور من توابع تلك المسألة.

الثانية : أن يقدم الإنسان مختارا على فعل إذا حقّقه وتلبّس به تسبّب له حرج في

__________________

١ ـ ذكر العلّامة محمد حسن الآشتياني : أنّه لا إشكال ظاهرا عندهم في مشروعية العبادات الواجبة فيما يحكم بعدم وجوبها لقاعدة نفي العسر والحرج ، كالصوم الحرجي ، والطهارة الحرجية في الغسل أو الوضوء للغايات الواجبة. رسالة في نفي العسر والحرج : ٢٤٤.

١٩٧

امتثال بعض التكاليف الأوّلية ، وكمثال على ذلك : شخص سافر إلى أوربا وهو يعلم أنّه سيبتلى بأكل النجس ، أو نحوه من تكاليف ، فيقع التساؤل هل تعمل (لا حرج) دورها وتؤدّي وظيفتها أو لا؟

ووجه عدم جريانها أنّ المكلّف تعمّد فأوقع نفسه في ظرف يستطيع أن يتجنّبه ، فالقاعدة تختصّ برفع الأحكام الأوّلية (١) إذا تسبّب منها حرج ليس للمكلّف فيه يد.

ولكنّ الظاهر أنّ (لا حرج) هنا أيضا تعمل ، وتتّسع وظيفتها إلى مثل هذه الصورة لأنّ الحكم ـ أيّ حكم ـ تابع لموضوعه ومترتّب عليه ، أشبه بترتّب المعلول على علّته ، فإذا حصل الموضوع تبعه الحكم ، ولا يتساءل عن كيفية حصول الموضوع. (٢)

نعم ، قد يقال باستحقاق المكلّف العقاب ؛ لإيقاع نفسه في ذلك بناء على أنّ مقدّمة الحرام حرام ، أو أنّ الفعل نفسه حرام يعاقب عليه ، كما لو ألقى بنفسه مختارا من شاهق فأصيب بما يعجز معه عن الغسل أو الوضوء ، فلا مانع من الالتزام باستحقاقه العقاب لإيذاء نفسه.

أمّا قاعدة (لا حرج) فإنّه بعد تحقّق موضوعها وكون الوضوء أو الغسل لهذا المصاب حرجيّا فإنّها تعمل وترفع وجوبه ، ولا تلازم بين الحكمين.

ثامنا : تعارض (لا حرج) مع (لا ضرر)

ورد على لسان الشيخ الأنصاري أنّ (لا حرج) حاكمة على (لا ضرر) ، ومقدّمة عليها عند التعارض تقديم حكومة. (٣)

__________________

١ ـ راجع : رسالة في نفي العسر والحرج : ٢٥٤.

٢ ـ انظر : المصدر السابق : ٢٥٥ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٧٥٦.

٣ ـ فرائد الأصول ٢ : ٤٦٧.

١٩٨

وعقّب كل من تأخّر عن الشيخ من تلامذته على هذا الرأي بأنّه لا حكومة بين القاعدتين (١) ، وإنّما هما في رتبة واحدة ، وكلاهما ناظر للأدلّة الأوّلية ومقدّم عليها تقديم حكومة وغلبة ، وأمّا فيما بينهما فلا.

وقد ذكر الشيخ مثالا لتقريب وجهة نظره مفاده : إذا كان تصرّف الجار في ملكه ـ والحكم الأوّلي هنا جواز التصرف بمقتضى قاعدة السلطنة ـ يتسبّب عنه ضرر للجار ، فهو إذا مورد (لا ضرر) ، كما أنّ منعه عن ذلك التصرّف يسبّب له حرجا ، فيكون موردا ل (لا حرج) فيتعارضان (٢) ، فأيّهما يقدّم؟

ولكن التدقيق في المثال يجلّي لنا بعض الالتباس عند ما نتذكّر أنّ العامّين من وجه هما عبارة عن العنوانين المستقلّ كلّ منهما عن الآخر ، إلّا أنّه من باب الاتّفاق قد يلتقي فيهما العنوانان فيكون هذا ذاك ، وذاك هذا ، كالعالم والفاسق ، اللذان يجتمعان في زيد ـ مثلا ـ فيكون هو عالما وهو نفسه فاسق.

والأمر في مثالنا ليس بهذه الصورة ، لأنّ مورد (لا ضرر) هو نفس التصرّف ، ومورد (لا حرج) هو ليس نفس التّصرّف ، وإنّما موردها هو عدم التصرّف ، والشيء وعدمه ليسا من موارد العموم من وجه في شيء.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أيّ القاعدتين تقدّم في مقام العمل؟

الظاهر ـ بل المتعيّن ـ أنّ التصرّف نفسه هو موضوع (لا ضرر) ، وهو المقدّم باعتباره ناشئا عن مقتضى الدليل الأوّلي في المورد ، وباعتبار حدوث الضرر للجار بسبب إجازة الشارع لهذا التصرّف فيكون الحكم الضرري ـ الجواز ـ منتفيا بمقتضى (لا ضرر) ويكون مرفوعا ، فإذا رفع جواز التصرّف ، تسبّب عن رفعه حرج للمكلّف.

وبعبارة أوضح : نتيجة لإعمال قاعدة (لا ضرر) وما يتولّد عنها وهو رفع الجواز ،

__________________

١ ـ انظر : رسالة في نفي العسر والحرج : ٢٥٨ ، ومنية الطالب ٣ : ٤٣٠.

٢ ـ فرائد الأصول ٢ : ٤٦٧.

١٩٩

هو نفسه يكون موضوعا لقاعدة (لا حرج) ؛ باعتبار أنّ هذا الرفع هو المسبّب للحرج ، فينبغي أن تعمل (لا حرج) فتنفيه وتزيله.

وكأنّا نريد أن نقول : إنّ الأحكام التي تتناولها (لا حرج) بالرفع هي أعمّ من الأحكام الأوّلية والثانويّة ، حيث تعتبر جميعها (دينا) أو من الدين ، و (لا حرج) تنفي الحرج عن الدين ، ولا تريد العسر.

أي أنّ (لا ضرر) تولّد موضوعا وتقف ، وذلك الموضوع نفسه ترفعه (لا حرج) ، فكأنّ (لا ضرر) غير عاملة في المقام ، وبعد أن تعمل (لا ضرر) وتسقط (لا حرج) نتيجتها ، لا تعود للحياة من جديد ؛ للزوم الدور الواضح.

فالقاعدتان في المثال طوليتان ، وليستا عرضيتين حتّى يتصوّر فيهما تعارض أو تزاحم.

تاسعا : الحرج على الغير

من الأضواء التي ألقيت على القاعدة ، وثار حولها التساؤل ، هو ما ذا لو تسبّب نتيجة تصرّف المكلف حرج للغير (١) ، هل تتناوله القاعدة فترفع الحكم المسبّب له؟

وكمثل على ذلك : شخص مباح له التصرّف في داره كيف شاء بحكم قاعدة السلطنة ، إذا نشأ من بعض تصرّفاته المباحة حرج على جاره ، فهل يرتفع ذلك الحكم ـ أعني الإباحة ـ فيمنع من تصرّفه أو لا؟

والجواب على التساؤل بالنفي ، وربّما يكون المدرك لسان القاعدة نفسه ، حيث أنّها نفت الحرج (عليكم) ، وهذا يعني انحلال الحكم إلى قضايا بوجود المكلّفين ـ شأن كلّ قضية حقيقية ـ فأيّ حكم حرجي بالنسبة لأيّ مكلّف يكون متناولا للقاعدة

__________________

١ ـ انظر : منية الطالب ٣ : ٤٣١.

٢٠٠