القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

مصدر القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

وردت أحاديث (العسر) و (الحرج) من سنّة أهل البيت عن عليّ ، وعليّ بن الحسين ، وأبي جعفر الباقر ، وأبي الحسن موسى بن جعفر ، وأبي جعفر محمّد بن علي عليهم‌السلام. ورواها عنهم زرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأبو بصير ، والفضيل بن يسار ، وعبد الأعلى مولى آل سام ، وجميل بن درّاج ، وسدير ، وعبد الله بن ميمون ، وابن القداح ، ومحمّد بن ميسر ، ومحمّد بن عيسى ، وأحمد بن أبي نصر ، وغيرهم.

وقد أخرجها الكليني في «الكافي» (١) ، والصدوق في «من لا يحضره الفقيه» (٢) ، والطوسي في «الاستبصار» (٣) و «التهذيب» (٤) ، وغيرهم.

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٤ ، ١٤ ، ٣٠ ، ٣٣ كتاب الطهارة ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة والماء الذي فيه الجيف ح ٢ ، وباب اختلاط ماء المطر بالبول وما يرجع في الإناء من غسالة الجنب ح ٧ ، وباب مسح الرأس والقدمين ح ٤ ، وباب الجبائر والقروح والجراحات ح ٤ ، و ٤ : ١١٦ ، ٥٠٤ كتاب الصوم ، باب الشيخ والعجوز يضعفان عن الصوم ح ٤ ، وباب الحامل والمرضع يضعفان عن الصوم ح ١ ، وكتاب الحج ، باب من قدّم شيئا أو أخّره عن مناسكه ح ٢.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١١ ، ١٠٣ باب المياه وطهرها ونجاستها ح ١٥ ، باب التيمم ح ٢١٢ و ٢ : ١٣٣ ١٣٤ ، ٥٠٥ ، باب ما جاء في من يضعف عن الصيام من شيخ أو شاب أو حامل أو مرضع ح ١٩٤٧ و ١٩٥٠ ، وباب تقديم المناسك وتأخيرها ح ٣٠٩١.

٣ ـ الاستبصار ١ : ٢٠ ، ٢٢ ، ٦٢ ، ٧٧ ، ١٢٨ كتاب الطهارة ، باب (١٠) الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة ح ١ و ١٠ ، وباب (٣٥) مقدار ما يمسح من الرأس والرجلين ح ٥ ، وباب (٤٦) المسح على الجبائر ح ٣ ، وباب (٧٦) الجنب ينتهي إلى البئر أو الغدير وليس معه ما يغرف به الماء ح ٢ و ٢ : ١٠٤ ، ١٩٨ ، ٢٨٤ ، ٢٨٥ كتاب الصوم ، باب (٥٤) ما يجب على الشيخ الكبير والذي به العطاش إذا أفطرا من الكفّارة ح ٣ ، وكتاب الحج ، باب (١٢٥) من مسّ لحيته فسقط منها شعر ح ٤ ، وباب (١٩٥) لا يجوز الحلق قبل الذبح ح ٣ و ٤.

٤ ـ تهذيب الأحكام ١ : ٣٧ ، ٨٦ ، ١٤٩ كتاب الطهارة ، باب (٣) آداب الأحداث الموجبة للطهارات ، ح ٣٩ ، وباب (٤) صفة الوضوء ح ٧٤ ، وباب (٦) حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ح ١١٦ ، و ٢ : ٣٦٨ كتاب الصلاة باب (١٧) في ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ح ٦١ ، و ٤ : ٧٥ كتاب الزكاة ، باب (٢١) زكاة الفطرة ح ١٩ ، و ٥ : ٢٢٢ ، ٢٣٦ ، ٢٤٠ كتاب الحج ، باب (١٦) الذبح ح ٨٩ و ١٣٥ و ١٣٦ ، وباب (١٧) الحلق ح ٣.

١٦١

ففي الكافي عن حريز ، عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال :

«يا زرارة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزل به الكتاب من الله لأنّ الله عزوجل يقول : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثم قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، وقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها ، ثمّ فسّر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنّاس فضيّعوه ، ثمّ قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) فلمّا وضع الوضوء إن لم تجدوا الماء أثبت بعض الغسل مسحا ؛ لأنّه قال (بِوُجُوهِكُمْ) ثمّ وصل بها : (وَأَيْدِيَكُمْ) ثمّ قال : (مِنْهُ) ، أي : من ذلك التيمّم ؛ لأنّه علم أنّ ذلك أجمع ، لم يجر على الوجه ؛ لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ ولا يعلق ببعضها ، ثمّ قال : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، والحرج : الضّيق». (١)

وفي الاستبصار للشيخ محمد بن الحسن الطوسي ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله : إنّا نسافر ، فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابّة وتروث ، فقال :

«إن عرض في قلبك منه شيء فافعل هكذا ـ يعني افرج الماء بيدك ـ ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس بمضيّق ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)». (٢)

وفي التهذيب للشيخ الطوسي عن ابن مسكان قال : حدّثني محمد بن ميسر قال :

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٣٠ كتاب الطهارة ، باب مسح الرأس والقدمين ح ٤.

٢ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ كتاب الطهارة ، باب (١٠) الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة ح ١٠.

١٦٢

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان ، قال :

«يضع يده ويتوضّأ ويغتسل ، هذا ممّا قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...)». (١)

وفي «التهذيب» أيضا عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يزور البيت قبل أن يحلق ، قال :

«لا ينبغي إلّا أن يكون ناسيا» ، ثمّ قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه أناس يوم النحر ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، حلقت قبل أن أذبح ، وقال بعضهم : حلقت قبل أن أرمي ، فلم يتركوا شيئا كان ينبغي أن يؤخّروه إلّا قدّموه ، فقال : لا حرج». (٢)

وفي الكافي للكليني عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول :

«الحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللّبن ، لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ؛ لأنّهما لا تطيقان الصوم ، وعليهما أن يتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم يفطر فيه بمدّ من طعام ، وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد». (٣)

وفي التهذيب للشيخ الطوسي عن عبد الله بن ميمون ، عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال :

«زكاة الفطرة صاع من تمر ، أو صاع من زبيب ، أو صاع من شعير ، أو صاع من الأقط ، عن كلّ إنسان حرّ ، أو عبد صغير أو كبير ، وليس على من لا يجد ما يتصدّق به حرج». (٤)

__________________

١ ـ تهذيب الأحكام ١ : ١٤٩ كتاب الطهارة ، باب (٦) حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ح ١١٦.

٢ ـ المصدر السابق ٥ : ٢٢٢ كتاب الحج ، باب (١٦) الذبح ح ٨٩.

٣ ـ الكافي ٤ : ١١٧ كتاب الصوم ، باب الحامل والمرضع يضعفان عن الصوم ح ١.

٤ ـ تهذيب الأحكام ٤ : ٧٥ كتاب الزكاة ، باب (٢١) زكاة الفطرة ح ١٩.

١٦٣

مصدر القاعدة من سنّة الصحابة

عن عائشة : ما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أمرين قطّ في الإسلام إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ... (١)

وفي صحيح البخاري عن عائشة : ما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أمرين قطّ إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما ... (٢)

ورواه مسلم في صحيحه (٣) ، ومالك في الموطأ (٤) ، وأبو داود في سننه (٥).

القاعدة في المصطلح الفقهي

لا يبدو أنّ للفقهاء اصطلاحا خاصا في كلمة (الحرج) ، وإنّما يستعملونها في مداليلها اللّغوية ، لعدم احتياجهم إلى مصطلح جديد يفي بحاجاتهم.

وحسبنا أن يتبادر إلى أذهاننا المعنى اللغوي كلّما مرّ استعمال هذه الكلمة ، وبخاصّة في القرآن الكريم.

__________________

١ ـ مسند أحمد ٧ : ١٦٤ حديث عائشة ح ٢٤٣٠٩.

٢ ـ صحيح البخاري ٨ : ٣٥٩ كتاب الأدب ، باب (٦٠٢) قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يسّروا ولا تعسّروا ح ١٠٠٣.

٣ ـ صحيح مسلم ٤ : ١٨١٣ كتاب الفضائل ، باب (٢٠) في مباعدته صلى‌الله‌عليه‌وآله للآثام واختياره من المباح أسهله ح ٧٧.

٤ ـ الموطأ ٢ : ٩٠٢ ـ ٩٠٣ كتاب حسن الخلق ، باب (١) ما جاء في حسن الخلق ح ٢.

٥ ـ سنن أبي داود ٢ : ٤٣٤ كتاب الأدب ، باب (٥) في التجاوز في الأمر ح ٤٧٨٥.

١٦٤

الفرع الثاني

مدلول القاعدة

لتحديد المراد من هذه القاعدة ، لا بدّ من تحديد ما انطوت عليه من مفردات ، وبخاصة كلمات «الحرج» و «لا». والذي يبدو من كلام اللّغويين : أنّ المراد من الحرج هو الضيق أو الضيق الشديد.

ففي الصحاح للجوهري : «مكان حرج وحرج أي : ضيّق ، كثير الشجر ، لا تصل إليه الراعية». (١) فكأنّه أخذ في مفهومه عدم إمكان الوصول إليه.

وفى النهاية لابن الأثير : «الحرج في الأصل : الضيق ، ويقع على الإثم والحرام ، وقيل : الحرج أضيق الضيق». (٢)

وفي تاج العروس : «الحرج : المكان الضيّق ، وقال الزجّاج : الحرج أضيق الضيق ، ومثله في التهذيب». (٣) فأضيق الضيق أخصّ من مفهوم الضيق ، كالضيق الشديد ، أو الضيق الذي يعجز عنه.

__________________

١ ـ الصحاح ١ : ٣٠٥ مادة «حرج».

٢ ـ النهاية في غريب الحديث ١ : ٣٤٧ مادة «حرج».

٣ ـ تاج العروس ٢ : ٢٠ مادة «حرج» بتصرّف.

١٦٥

وفي مفردات الراغب : «حرج أصل الحرج ، والحرج مجتمع الشيء ، وتصوّر منه ضيق ما بينهما ، فقيل للضيق : حرج ، وللإثم : حرج». (١)

وفي القاموس للفيروزآبادي : «الحرج : المكان الضيّق ، الكثير الشجر ، والإثم». (٢)

والذي يظهر منهما : أنّ الحرج هو الضيق من دون قيد.

وفي مجمع البحرين : «قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) أي : من ضيق ، بأن يكلّفكم ما لا طاقة لكم به ، وما تعجزون عنه. يقال : حرج يحرج من باب علم ، أي ضاق. وفي كلام الشيخ علي بن إبراهيم : الحرج : الذي لا مدخل له ، والضيق : ما يكون له مدخل». (٣)

ويعني به : الضيق الشديد الذي يكون معه العجز ، فيكون أخصّ من مفهوم الضيق لأنّه ؛ يشمله ويشمل ما لا عجز عنه أيضا مع ضيقه. بينما تفسير علي بن إبراهيم يقتضي بالتباين بينهما لأخذه قيدا عدميا في أحدهما لم يؤخذ في الآخر.

والذي نستخلصه من مجموع ما مرّ ، ولعلّ التبادر معنا : أنّ الحرج هو الضيق الشديد ، لا مطلق الضيق ، فقد يجد الشخص نفسه في ضيق نفسي ـ مثلا ـ فلا يقال لمثله إنّه واقع في حرج ، كما أنّ وصف الحرج بالشديد ـ والذي هو كثيرا ما يطرأ على ألسنتنا ويقع في استعمالاتنا فنقول : حرج شديد ـ يبعد ما قيل من أنّه أضيق الضيق ؛ لأنّ أضيق الضيق ـ كما هو مفاد التفصيل ـ لا يقبل الزيادة والوصف في الشدة.

لا :

أمّا المفردة الثانية من مفردات هذه القاعدة فهي (لا) ، وهي أداة نهي ، وقد أفضنا

__________________

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١١٢ مادة «حرج».

٢ ـ القاموس المحيط ١ : ٢٤٨ مادة «حرج» بتصرّف.

٣ ـ مجمع البحرين ١ : ٤٨٣ مادة «حرج» ، وانظر : تفسير علي بن إبراهيم القمي ١ : ٢١٦ في تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) الأنعام : ١٢٥.

١٦٦

الحديث عنها في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ، والأمر هنا مشابه للأمر هناك. (١)

دلالة القاعدة

الظاهر أنّ دلالتها في الكتاب العزيز هي نفس الدلالة اللغوية ، أعني الضيق الشديد ، وكذا في السنّة النبوية وسنّة أهل البيت عليهم‌السلام وسنّة الصحابة ؛ إذ لم يثبت نقلها عن معناها اللّغوي إلى معان أخر.

ويعضد ذلك تبادر هذا المعنى في جميع مجالاتها في الكتاب العزيز والسنّة النبوية وسنّة أهل البيت عليهم‌السلام وسنّة الصحابة.

ومن هنا يصحّ لنا أن نتساءل : أنّ المرفوع في لسان القاعدة هل هو الموضوع الحرجي أو الحكم الحرجي؟

والجواب على ذلك : أنّ لسان الآية يناسب أن يكون المرفوع هو الحكم الحرجي (٢) ، أو قل : التكليف الحرجي ؛ لأنّ (جعل) الواردة في لسان القاعدة (٣) تقتضي ذلك ؛ لوضوح أنّ ما يدخل في صلاحياته ووظيفته كمشرّع هي الأمور الاعتبارية المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، فهو الذي يتصوّر فيه أن يجعل أو لا يجعل. فالآية بلسانها ترفع مثل ذلك الحكم ، أو ـ على الأصحّ ـ تكشف عن كونه غير مجعول ابتداء ، لا أنّه جعل نم رفع ، نعم المجعول هو طبيعي الحكم ، فإذا طرأ منه وتسبّب عنه حرج بالنسبة لمكلّف ما ، كان ذلك الحكم في حقّ ذلك المكلّف غير مجعول ، ولا مشغولة به ذمّته لفرض الحرجية ؛ لأنّ الأحكام الحرجية غير مجعولة من الشارع.

ونعود فنؤكّد أنّ ما يرفع ، أو ما لم يجعل هو الحكم الذي يتسبّب عنه ضيق شديد لا مطلق الضيق ، وإلّا فطبيعة التكليف ـ أي تكليف ـ فيه حدّ لحرية المكلّف ، وتقييد

__________________

١ ـ راجع ص ٧٤ من الكتاب.

٢ ـ القواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢٥٧.

٣ ـ المراد بالقاعدة : الآية.

١٦٧

له ، ومن ثمّ يستلزم كلفة ، فلا يعقل رفعه ، ولا يتوهّم أحد الالتزام بذلك ، وإنّما الضيق الذي يزيد كثيرا عمّا تقتضيه طبيعة التكليف ، وعمّا يستدعيه الحكم من كلفة لو خلّي هو وطبعه ، مثل هذا الضيق يتسبّب في رفع التكليف.

***

١٦٨

الفرع الثالث

حجّية القاعدة

حجّيتها من الكتاب العزيز

ذكر الفقهاء عدّة آيات تصلح للدلالة على الحجّية سبق أن ذكرنا بعضها في مصدر القاعدة ، نذكر أهمّها :

أوّلا : قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...)١ ـ ذكر في تفسير الجهاد المبعوث إليه في قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ...) قولان :

القول الأول : أنّ المراد منه هو الجهاد المتعارف ، والتضحية في سبيل الحفاظ على بيضة الإسلام. (٢) ومن الواضح أنّ أخذ الجهاد بهذا المعنى وتفريع القاعدة عليه ، لا ينتج النتيجة التي تراد من القاعدة.

والسرّ في ذلك أنّ الحرج في الجهاد وجداني ؛ إذ لا حرج أشدّ وأكثر مضايقة من التضحية بالنفس وبالمال ؛ فإذا كان هذا التكليف حرجيا بالوجدان ، فكيف تعقّب الآية

__________________

١ ـ الحج : ٧٨.

٢ ـ انظر : جامع البيان للطبري ١٧ : ٢٦٨.

١٦٩

وتقول بكونه لا حرج فيه؟

والذي يبدو أنّ الآية وسّعت في مفهوم الحرج بالشكل الذي يتعدّى ويتّسع لمثل الجهاد من التكاليف الشاقّة ، وقالت عنه : إنّه ليس حرجيا ، وكأنّ الآية تريد أن توضّح للناس بأنّ التكاليف التي كلّفتم بها ، وأنّ ما جاءت به الشريعة من أحكام ، جميعها أحكام غير حرجية ، ولا تكلّفكم عسرا وضيقا.

وهذا يعني خلاف ما يراد من القاعدة من نفي الأحكام الحرجية إذ لا حرج حتّى ينفى ، أو قل : لا حكم حرجي ؛ إذ كلّ حرج يتصوّر في أيّ من التكاليف لا يساوي ولا يعدل التكليف بالجهاد ، ومع ذلك قالت عنه : إنّه ليس بحرجي.

القول الثاني : إنّ المراد من الجهاد ما جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي من أنّ : «أكثر المفسّرين حملوا الجهاد هاهنا على جميع أعمال الطاعة ... وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى». (١) ونظيره ما جاء عن «الكشاف» للزمخشري. (٢)

وربّما كان هو الأقرب بقرينة تعقيبه بجملة (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم واصطفاكم ، ومعنى الاختيار والاجتباء هنا يناسب أن يكون المطلوب والمبعوث إليه جميع الطاعات ، وتكون الآية موضحة : أنّ الأحكام التي فرضت عليكم لا يراد بها إعناتكم والتشديد عليكم ، بل لصالحكم ولأنفسكم ، فإذا لزم من تكليف شرعي حرج عليكم فاعلموا بأنّه ليس ممّا جعل عليكم.

وبهذا التقريب تعتبر الآية من أقوى أدلّة الحجّية ؛ لكونها واردة في لسان القاعدة ، وليس في ملابساتها ما يوجب التوقّف عن الأخذ بها.

ثانيا : قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ

__________________

١ ـ مجمع البيان ٧ : ١٧٢ ـ ١٧٣.

٢ ـ الكشّاف ٤ : ٢١٤.

١٧٠

وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١).

قال في مجمع البيان : «معناه : ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ، والغسل من الجنابة ، والتيمّم عند عدم الماء ، أو تعذّر استعماله ، ليلزمكم في دينكم من ضيق ، ولا ليعنتكم فيه ، عن مجاهد وجميع المفسّرين». (٢)

والذي يظهر من هذا التفسير أنّ التعقيب وارد على جميع ما شرّع ، وبيان أنّه جميعه ، سواء في ذلك الأوامر الأولية الواقعية أو الثانوية الاضطرارية ، ليست حرجية ولا تكلّفكم عنتا.

ولكنّ الذي يمكن أن نستوضحه : أنّ التعقيب ليس على جميع الأحكام ، وإنّما على الانتقال من الطهارة المائية إلى الترابية ، فكأنّ الآية الكريمة لمّا فرضت الوضوء ، توقّعت حالات عارضة يعسر أو يشقّ معها الوضوء ، فرفعت ذلك الحكم ، وأثبتت مكانه حكما آخر أخفّ منه ، ولا كلفة فيه كالأوّل ، كلّ ذلك إرادة لرفع الحرج ، وبيان أنّه ممّا لم يرد للشارع ، ثمّ عقّبت بأنّ الأوامر المتقدّمة وطلب الطهارة مائية أو ترابية كلّها تكاليف ذات مصالح ملزمة يراد بها تطهيركم ، وإتمام النعمة عليكم بإرشادكم إلى مصالحكم ، لعلّكم تشكرون.

فتكون الآية بهذا الاستظهار دالّة على المطلوب ؛ لأنّها وردت لرفع حكم حرجي وهو الحكم الأولي الاختياري ، وشرّعت مكانه ما ليس فيه كلفة ولا مشقّة ؛ تخفيفا وتسهيلا على المكلّفين.

وتعتبر هذه الآية من أقوى أدلّة الحجّية كذلك ؛ لكونها واردة في لسان القاعدة.

ثالثا : قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ

__________________

١ ـ المائدة : ٦.

٢ ـ مجمع البيان ٣ : ٢٨٩.

١٧١

بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١).

دلّت هذه الآية على أنّ منشأ التخفيف بالنسبة إلى المسافر والمريض هو إرادة اليسر وعدم إرادة العسر ؛ وبخاصة أنّها واردة في مقام التعليل ، وكشف السرّ عن إسقاط الأمر الأوّلي بالصوم ؛ لوجود طارئ : كالمرض أو السفر ، وفرضت القضاء ، كلّ ذلك تخفيفا على المكلّفين ؛ لأنّ الله تعالى بلطفه ورحمته لم يرد بأحد عسرا ، فالتكاليف التي ينشأ منها على المكلّفين عسر وضيق ليست مرادة لله تعالى ؛ تخفيفا منه ومنّة ورحمة.

والأخذ بعموم التعليل يدلّ على تعميم القاعدة لمختلف الأحكام الشرعية.

حجّيتها من السنّة النبوية الشريفة

أمّا حجّيتها من السنّة النبوية فقد وردت عدّة روايات بعضها بلسان القاعدة منها :

(١) ما جاء في تفسير البرهان عن مسعدة بن زياد قال : حدّثني جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«بما أعطى الله أمّتي وفضّلهم على سائر الأمم ، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبيّ ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيا قال له : اجتهد في دينك ولا حرج عليك ، وأنّ الله تبارك وتعالى أعطى أمّتي حيث يقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...)(٢) ، يقول : من ضيق ...» (٣) الحديث.

(٢) وفي مسند أحمد : أخبرني سعيد أنّه سمع حذيفة بن اليمان يقول : غاب عنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما فلم يخرج ، حتّى ظننّا أنّه لن يخرج ، فلمّا خرج سجد سجدة

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٥.

٢ ـ الحج : ٧٨.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٩١١.

١٧٢

فظننّا أنّ نفسه قد قبضت منها ، فلمّا رفع رأسه قال :

«إنّ ربّي تبارك وتعالى استشارني في أمّتي ما ذا أفعل بهم؟ ...» إلى أن يقول : «وطيّب لي ولأمّتي الغنيمة ، وأحلّ لنا كثيرا ممّا شدّد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا من حرج». (١)

(٣) وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة : أنّ أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس ، فصلّى ـ قال ابن عبده ـ ركعتين. ثمّ قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لقد تحجّرت واسعا» ، ثمّ لم يلبث أن بال في ناحية المسجد ، فأسرع الناس إليه ، فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : «إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين ، صبّوا عليه سجلا من ماء ، أو ذنوبا من ماء». (٢)

(٤) وفي معجم الطبراني عن أسامة بن شريك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع وهو يقول : «أمّك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثمّ أدناك» ، قال : فجاء قوم فقالوا : يا رسول الله قتلنا بني يربوع ، قال : «لا تجني نفس على أخرى» قال : ثمّ سأله رجل نسي أن يرمي الجمار ، قال : «ارم ولا حرج» ثمّ أتاه آخر فقال : يا رسول الله نسيت الطواف ، فقال : «طف ولا حرج» ثمّ أتاه آخر فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : «اذبح ولا حرج» قال : فما سألوه يومئذ عن شيء إلّا قال : «لا حرج ، لا حرج» ثم قال : «أذهب الله عزوجل الحرج ، إلّا رجل اقترض مسلما ، فذلك الذي حرج وهلك ...». (٣)

هذه الروايات ـ ونحوها مثلها ـ واضحة الدلالة على حجّية القاعدة ، ولا نريد أن نقف عند أسانيدها ودلالاتها لاشتهارها من جهة ، ولوضوح دلالاتها على الحجّية من

__________________

١ ـ مسند أحمد ٦ : ٥٤٤ حديث حذيفة بن اليمان ح ٢٢٨٢٥.

٢ ـ سنن أبي داود ١ : ٩٤ كتاب الطهارة ، باب (١٣٧) في الأرض يصيبها البول ح ٣٨٠.

٣ ـ المعجم الكبير ١ : ١٨٥ ح ٤٨٤.

١٧٣

جهة أخرى.

فالأدلّة من السنّة النبوية الشريفة وافية وناهضة.

حجّيتها من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام

وأمّا حجّيتها من سنّة أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد استدلّ على حجية القاعدة بأحاديث مأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام ، وهي صريحة الدلالة على القاعدة ، وبخاصّة تلك الروايات التي أحالت على الكتاب العزيز ، مثل :

(١) ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب يحمل (يجعل) الركوة أو التور (١) فيدخل إصبعه فيه ، قال :

«إن كانت يده قذرة فأهرقه (فليهرقه) ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قاله الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...)(٢)». (٣)

(٢) ما رواه الشيخ الطوسي عن ابن أذينة ، عن الفضل قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء ، فقال :

«لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...)(٤)». (٥)

(٣) ما رواه الشيخ الصدوق قال : سئل علي عليه‌السلام : أيتوضّأ من فضل جماعة المسلمين أحبّ إليك أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمّر؟ فقال :

«لا ، بل من فضل جماعة المسلمين ؛ فإنّ أحبّ دينكم إلى الله الحنيفية السمحة

__________________

١ ـ الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. والتور : إناء معروف تذكره العرب تشرب فيه. لسان العرب ٤ : ٩٦ مادة «تور» و ١٤ : ٣٣٣ مادة «ركا».

٢ ـ الحج : ٧٨.

٣ ـ تهذيب الأحكام ١ : ٣٧ كتاب الطهارة ، باب (٣) آداب الأحداث الموجبة للطهارات ح ٣٩.

٤ ـ الحج : ٧٨.

٥ ـ تهذيب الأحكام ١ : ٨٦ كتاب الطهارة ، باب (٤) صفة الوضوء ح ٧٤.

١٧٤

السهلة». (١)

(٤) وما رواه الشيخ الطوسي بإسناده إلى أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء ، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها؟ قال :

«نعم ؛ ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك». (٢)

حجّيتها من الإجماع

الإجماع في اللغة لفظ مشترك بين العزم والتصميم ، فيقال على سبيل المثال : أجمع القوم على النهوض بالعمل الفلاني ، أي : عزموا وصمّموا عليه ، والاتّفاق فيقال : أجمعوا على القيام بعمل ما ، أي : اتّفقوا عليه. (٣)

وهو في اصطلاح الأصوليين موضع خلاف وإن اتّفقوا على دلالته على الاتّفاق. (٤)

وموضع الخلاف فيه : متعلّق الاتّفاق ، فقيل : إنّه مطلق الأمّة ، وقيل : خصوص المجتهدين منهم في عصر ما ، وفي رأي مالك : اتّفاق أهل المدينة.

وقال بعضهم : اتّفاق أهل الحرمين ، أو أهل المصرين ، وربّما ضيّق إلى اتّفاق الشيخين أو الخلفاء الأربعة. وفي بعض المذاهب اتّفاق خصوص مجتهديهم ... إلى ما

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢ باب المياه وطهرها ونجاستها ح ١٦.

٢ ـ تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٨ كتاب الصلاة ، باب (١٧) في ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ح ٦١.

٣ ـ راجع : المستصفى ١ : ٣٢٥ ، والمحصول ٤ : ١٩ ـ ٢٠.

٤ ـ عرّف الإجماع في اصطلاح الأصوليين بأنّه : «اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الأمور». المحصول ٤ : ٢٠.

١٧٥

هنالك من أقوال لا تعكس أكثر من اختلافهم في تحديد هذا المصطلح ، تبعا لاختلافهم في مقدار ما ثبتت له الحجّية من ذلك الاتّفاق. (١)

لذلك لا نرى وجها لالتماس تحديد المراد من هذه اللفظة كمصطلح عامّ ، بعد أن كانت لا تتولّى الحكاية عن مضمون موحّد ، فلا معنى للإشكال على تعاريفهم بعدم الاطّراد والانعكاس.

وقد استدلّوا على حجّيته بالأدلّة الثلاثة : الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، وأقصوا الإجماع لانتهائه إلى الدور. (٢)

وقد عرضنا أدلّتهم وما يرد عليها في كتابنا (الأصول العامّة للفقه المقارن). (٣)

ومن هذا العرض لهذه الأدلّة يتّضح : أنّ الحجّية منوطة بإجماع الأمّة ، لا الصحابة ، ولا أهل المدينة ، ولا أهل الحرمين ، ولا مجموع المجتهدين ، ولا أهل المصرين ، فتخصيص غير الأمّة بالحجّية على أيّ دعوى من هذه الدعاوى لا يتّضح له وجه ، وليس عليه دليل.

نعم ؛ ما ذهب إليه القائلون باكتشاف رأي المعصوم من دخوله ضمن المجمعين لا يعيّن الأمّة جميعا ، بل يكفي منها ما يعتقد فيه بدخول المعصوم. (٤)

__________________

١ ـ انظر الأقوال في متعلّق الإجماع : الإحكام لابن حزم ١ : ٥٥١ ـ ٥٥٢ ، والإحكام للآمدي ١ : ١٩٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٠٢ ، والتلخيص في أصول الفقه ٣ : ١١٣ ـ ١٢٣ ، وأصول السرخسي ١ : ٣١٠ ـ ٣١٥ ، والمستصفى ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، والمحصول ٤ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، وشرح المعالم في أصول الفقه ٢ : ١٠٩ ، ونفائس الأصول ٣ : ٤٢٠ ، ومنهاج الوصول : ١٢٧ ـ ١٢٩.

٢ ـ راجع مبحث حجّية الإجماع في : العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٠١ ـ ٦٠٢ ، وإحكام الفصول ١ : ٤٤١ ـ ٤٤٣ ، وأصول السرخسي ١ : ٢٩٦ ـ ٣٠٠ ، والمستصفى ١ : ٣٢٧ ـ ٣٣٩ ، وميزان الأصول : ٤٩٤ ـ ٤٩٦ ، والمحصول ٤ : ٣٥ ـ ١٠١ ، وشرح المعالم في أصول الفقه ٢ : ٥٥ ـ ٩٠ ، وتهذيب الوصول : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٣ ـ لمزيد من الاطّلاع راجع مبحث الإجماع في هذا الكتاب صفحة ٢٤٥ ـ ٢٥٧.

٤ ـ وهذا هو رأي الإمامية في الإجماع ، يقول العلّامة الحلي : «الإجماع إنّما هو حجّة عندنا لاشتماله على

١٧٦

واستدلّوا بالإجماع على حجّية القاعدة ١ ـ والمناقشة في هذا الاستدلال واردة صغرى وكبرى : أمّا الصغرى فتحصيل الإجماع مشكل ؛ لتعذّر ذلك عادة ، وأمّا الكبرى فاحتمال أن يكون الإجماع هنا مدركيا ، والإجماع المدركي لا يكون حجّة على ما هو التحقيق في حجّية الإجماع. (٢)

وكونه مدركيا غير بعيد ؛ لكثرة الآيات والأحاديث التي تصلح لأن تكون مستندا للحجّية.

حجّيتها من دليل العقل

والحديث حول العقل واعتباره من القواعد التي يستند إليها المجتهدون في مجالات استنباط أحكامهم كثر لدى الأصوليين ، إلّا أنّه لم يتحدّد المراد منه عند الجميع.

وكلماتهم في ذلك مختلفة جدّا ، وفي بعضها خلط بين العقل كمصدر للحجّية في كثير من الأصول المنتجة للحكم الشرعي الفرعي الكلي ، أو الوظيفة ، وكونه أصلا بنفسه كالكتاب والسنّة على حدّ سواء يصلح أن يقع كبرى لقياس استنباط الأحكام الفرعية الكلّية.

وقد عقدت في كتب بعض الشيعة والسنّة أبواب لما أسموه بدليل العقل (٣) ، وعند

__________________

ـ قول المعصوم ، فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ وكان قول الإمام في جملة أقوالها ، فإجماعها حجّة لأجله ، لا لأجل الإجماع». تهذيب الوصول : ٢١١.

إلّا أنّ الكلام عند الإمامية وقع في كيفية استكشاف رأي المعصوم من الاجماع ، فقد ذكر النراقي سبعة عشر طريقا لاستكشاف رأي المعصوم والحجّة. راجع : عوائد الأيام : ٦٨٣ ـ ٧٠٣.

١ ـ راجع : عوائد الأيام : ١٧٤ ، والعناوين ١ : ٢٨٥ ، والقواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢٥٢.

٢ ـ راجع : دراسات في علم الأصول ٣ : ١٤٥.

٣ ـ راجع : المستصفى ١ : ٣٧٧ وما بعدها ، والحاصل من المحصول ٢ : ٤٢ وما بعدها ، والإحكام للآمدي ١ : ٧٢ وما بعدها ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٩ ، وما بعدها ، وهداية المسترشدين ٣ : ٤٩٦ وما بعدها ، والحدائق الناضرة ١ : ٤٠.

١٧٧

فحص هذه الأبواب تجد المعروض فيها التماس العقل كدليل على الأصل المنتج ، لا أنّه بنفسه أصل منتج لها.

وبعد عرض مطوّل لجلّ أقوالهم ومناقشاتهم ، وما يرد عليها في كتابنا (الأصول العامّة للفقه المقارن) خلصنا إلى ما يأتي :

أولا : أنّ العقل مصدر الحجج ، وإليه تنتهي ، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين ، وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس أن يصدر حكمه فيها.

ثانيا : قابليته لإدراك الأحكام الكلّية الشرعية الفرعية بتوسّط نظرية التحسين والتقبيح العقليين ، ولكن على سبيل الموجبة الجزئية ، وعدم قابليته لإدراك جزئياتها وبعض مجالات تطبيقها.

ثالثا : عدم إدراكه ـ وحده ـ لكثير من الاحكام الكليّة كالعبادات وغيرها لعدم ابتناء ملاكاتها ـ على نحو الموجبة الكلّية ـ على ما كان ذاتيا من معاني الحسن والقبح.

رابعا : الالتزام بالتحسين والتقبيح لا ينهى إلى إنكار الشرائع ، بل الاحتياج قائم على أتمّ صورة إليها ، لتدارك ما يعجز العقل عن الولوج إليه ، وهو أكثر الأحكام ، بل كلّها مع استثناء القليل. (١)

والمراد بدليل العقل هنا تطابق العقلاء على قبح التكاليف التي تولّد الحرج للمكلّفين. وبما أنّ الشارع المقدّس سيّد العقلاء ، وخالق العقل ، فلا بدّ أن يكون جاريا في جعله على وفق مدركاتهم العقلية. وحيث إنّ الأحكام الحرجيّة ممّا يدرك العقل قبح تشريعها ؛ فلا بدّ أن يرفعها ؛ منّة منه على العباد. (٢)

والإشكال الذي يرد على دليل العقل : إنكار تطابق العقلاء على قبح تشريع الأحكام الحرجية ، ومع إنكار التطابق لم يبق مجال للتمسّك بدليل العقل.

__________________

١ ـ الأصول العامة للفقه المقارن : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٢ ـ راجع : عوائد الأيام : ١٧٣ ، والعناوين ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٨ ، والقواعد الفقهية للبجنوردي ١ : ٢٥٢.

١٧٨

الفرع الرابع

شبهات حول القاعدة

سقوط القاعدة لكثرة التخصيصات

من الشبه التي يمكن أن تثار حول هذه القاعدة : سقوطها لكثرة ما طرأ عليها من تخصيصات (١) ، ونحن نعلم أنّ هناك أحكاما شرعية وردت على موضوعات حرجية. وأنّ الشارع المقدّس لم يرفع اليد عنها ، ونسبتها إلى أدلّة الحرج نسبة المخصّص.

وبما أنّ هذه الموضوعات من الكثرة بمكان ، فالتخصيص بها تخصيص بالأكثر ، وهو غير مستساغ عرفا. فمن الأحكام المتعلقة بموضوعات حرجية : الضرائب المالية كالخمس ، والزكاة ، والأحكام المتعلّقة بالعقوبات ، كالقصاص ، والتعزير إلى غير ذلك من الأحكام الواردة على موضوعات حرجية.

ومقتضى الجمع بينها وبين القاعدة هو تخصيص القاعدة بها ، ولازم ذلك تخصيصها بالأكثر. والتخصيص بالأكثر مستهجن عرفا.

والجواب على ذلك : هو التماس قدر جامع بين الأحكام الحرجية على إطلاقها

__________________

١ ـ هذه الشبهة أوردها الشيخ الأنصاري على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». راجع : فرائد الأصول ٢ : ٤٦٥ ، ورسالة في نفي العسر والحرج للآشتياني : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

١٧٩

يكون هو المخصّص. وحينئذ يكون التخصيص واحدا وإن أخرج أكثر الأفراد. ومثل هذا ليس فيه ما يستهجن لدى أهل اللسان ؛ لأنّ المستهجن كثرة التخصيصات ، لا التخصيص الواحد المنطوي على كثرة الأفراد. (١)

وهذا الجواب سليم جدا لو أنّ الشارع المقدّس جمع بين مداليل الأحكام أو الموضوعات الحرجية ، وكوّن منها دليلا واحدا قدّمه على دليل الحرج ، أمّا وأنّ هذا من صنعنا نحن ، وليس للشارع يد في التماس قدر جامع بين هذه الأحكام حيث يقدّم على قاعدة الحرج المذكورة ، وعملية التقديم عملية جمع بين الأدلّة ، لا عملية جمع بين دليل الشارع والقدر الجامع الذي انتزعناه نحن من مختلف الأدلّة ، فإشكال الوهن لكثرة التخصيص قائم فعلا.

والأولى أن يجاب عن ذلك : بأنّنا لا نتعقّل أن يجعل الشارع أحكاما حرجية ؛ لما سبق أن أشرنا إليه في كتابنا (الأصول العامّة للفقه المقارن) (٢) من أنّ أحكام الشارع وليدة مصالح ومفاسد باتّفاق كلمة المسلمين وإن اختلفت وجهات نظرهم في كيفية الاستدلال على ذلك ، وتشريع الأحكام الحرجية من قبله يتنافى مع ما يدركه العقل من أنّ ذلك ممّا لا ينبغي صدوره من الشارع المنزّه عن شهوة التحكّم في تصرّفات عبيده ، كما هو مقتضى ما تقتضيه قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.

إضافة إلى أنّ الأعلام الذين استدلّوا على مبدأ المصالح والمفاسد بالاستقراء لا بدّ أن يكونوا قد أدركوا ـ بحكم استقرائهم ـ أوجه المصالح في هذه الأحكام التي يبدو أنّها حرجية وإن لم تكن هي كذلك.

وإذا صحّ هذا اتّضح ما نريده من عدم صدق عنوان (الحرج) على موضوعات هذه الأحكام التي لا يتقوّم النظام الاجتماعي إلّا بها عادة.

__________________

١ ـ هذا الجواب ذكره الشيخ الأنصاري أيضا في مقام الجواب عن الشبهة المذكورة في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». راجع : فرائد الأصول ٢ : ٤٦٥.

٢ ـ راجع : ص ٢٧٨ من هذا الكتاب.

١٨٠