القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(١) أي : فمن ألجئ إلى أكل الميتة (٢).

وليس للشارع اصطلاح معيّن فيها ، وإنّما ورد استعمالها لديه بنفس مدلولها اللّغوي ، وفي حدود ما نفهم من هذا المدلول أنّ الضرورة أضيق من الضرر ؛ لأنّها لا تنطبق إلّا على الضرر البالغ الذي لا يتسامح فيه العقلاء ولا يصبرون عليه إلّا إذا ألجئوا إلى ذلك ، كالضرر الذي يلزم من بقائه واستمراره خطر الموت ، أو استئصال أموال كثيرة ، أو الوقوع في مرض لا يمكن الصبر عليه أو لا يسهل عادة.

والمراد بالمحظور في القاعدة هو الممنوع ، من الحظر ، بمعنى المنع ، فكأنّ القاعدة تقول : إنّ كلّ ضرر يلزم من وجوده خطر لا يتسامح به عادة ، فإنّ الشارع يسمح لك برفعه من طريق ارتكاب المحرّم إذا كان ذلك ممّا يرفعه ، وكنت ملجأ إليه.

وفحوى هذه القاعدة أنّ الشارع لا يتسامح في ارتكاب المحرّم إلّا إذا بلغ ارتكابه مبلغ الإلجاء والاضطرار لدفع خطر ما عن الدين أو النفس أو العرض أو المال. وقد مثّلوا له بجواز أكل الميتة عند المخمصة ، وإساغة اللقمة بالخمر ، والتلفّظ بكلمة الكفر للإكراه. (٣)

حجّيتها من الكتاب العزيز

والذي يصلح أن يكون دليلا عليها من النصوص المأثورة :

أولا : الآيات الكريمة التي عرضت لأحكام المضطرّ إلى أكل الميتة ، مثل قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(٤) ، وقوله تعالى استثناء من محرّمات

__________________

١ ـ البقرة : ١٧٣.

٢ ـ لسان العرب ٤ : ٤٨٤ مادة «ضرر».

٣ ـ راجع : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١١ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٨٥.

٤ ـ البقرة : ١٧٣.

١٢١

الميتة : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ). (١)

ولكنّ هذه الآيات وردت للتّرخيص بمحرّمات خاصة ؛ فلا يمكن تعميمها إلى جميع المحرّمات ، إلّا بدعوى استفادة عموم العلّة ، ولو كان ذلك من جهة مناسبة الحكم والموضوع ، ولا يبعد ذلك ؛ إذ لا تفهم الخصوصيّة الموجبة للاستثناء من الميتة خاصة ليقتصر عليها.

ثانيا : ما ورد من رواية سماعة عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

«وليس شيء ممّا حرم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٢).

ودلالة هذه الرواية على التعميم وافية ؛ فلا تحتاج إلى إيضاح.

ثالثا : ما ورد في حديث الرفع عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، ...» (٣) الحديث.

مناقشة ورأي

ومقتضى هذا الحديث أنّ الشارع رفع الحكم أو المؤاخذة على ارتكاب الشيء المضطرّ إليه ، ولا معنى لرفع الشيء المضطر إليه ، أي الفعل ؛ إذ الفعل لا يقع تحت طائلة التشريع ؛ لأنّه من الأمور الواقعيّة التكوينيّة ، والمشرّع لا يتناول إلّا الأمور الاعتباريّة ،

__________________

١ ـ الأنعام : ١١٩.

٢ ـ جاءت هذه الفقرة في عدّة روايات من الوسائل ، فقد جاءت في ذيل روايات «حكم من لا يستطيع القيام للصلاة» ٥ : ٤٨٢ ، ٤٨٣ أبواب القيام ، باب (١) وجوبه في الفريضة مع القدرة ح ٦ و ٧. وجاءت في ذيل روايات «حكم حلف الرجل تقية» ٢٣ : ٢٢٨ كتاب الأيمان ، باب (١٢) جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقية ح ١٨.

٣ ـ الخصال : ٤١٧ ، باب التسعة ح ٩.

١٢٢

فالإخبار عن رفعه إذا إمّا إخبار عن رفع حكمه أو عن رفع المؤاخذة من قبله على مخالفة الحكم امتنانا.

ولعلّ الأقرب هو رفع الإلزام بالحكم لا أصل الحكم ، ولا المؤاخذة ، وإن كان رفع المؤاخذة من لوازم رفع الإلزام ؛ إذ لا معنى لأن يعاقب الشارع على مخالفة الحكم مع ترخيصه بذلك.

والذي يقرّب ذلك أنّ المستفاد من أمثال هذه القواعد ـ بحكم كونها امتنانية ـ هو جعل الرخصة من قبل الشارع في مخالفة حكمه ، لا نفي أصل الحكم ؛ لوضوح أن مفسدة الحرام لا يزيلها الاضطرار إلى ارتكاب متعلّقها وإن رخّص به لدفع مفسدة أعظم. (١)

فمفاد أمثال هذه الأدلّة هو الترخيص بارتكاب المحظور ، لا نفي ملاكه ، ولا ينافي ذلك الإلزام بارتكابه أحيانا ، كما إذا اضطر إلى شرب الخمر مثلا لدفع خطر الموت عنه ، فإنّه يكون واجبا أي ملزما بفعله ، ولكن هذا الإلزام بالفعل لا ينافي بقاء ملاك التحريم ؛ فإنّ هذا الوجوب إنّما استفيد من دليل آخر لا من أدلّة الاضطرار ، فإنّ هذه الأدلّة كما يقتضيه التعبير في بعضها «إلّا وأحلّه» (٢) لا تقتضي أكثر من الترخيص.

ومن هنا يتضح أنّ القاعدة التي تتكفّل شئون ارتكاب الحرام هي لا ترخّص إلّا في حالات الضرورة ، فمجرّد الضرر وحده لا يرخّص في ارتكاب الحرام إذا لم يبلغ الاضطرار.

__________________

١ ـ ذكر الشيخ الطوسي بأنّه «إذا اضطرّ إلى شرب الخمر للعطش أو الجوع أو التداوي فالظاهر أنّه لا يستبيحها أصلا ، وقد روي أنّه يجوز عند الاضطرار إلى الشرب أن يشرب ، فأمّا الأكل والتداوي فلا ، وبهذا التفصيل قال أصحاب الشافعي». الخلاف ٦ : ٩٧ كتاب الأطعمة ، مسألة رقم (٢٧).

٢ ـ الوارد في الروايات قوله : «إلّا وقد أحلّه». وسائل الشيعة ٥ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ أبواب القيام ، باب (١) وجوبه في الفريضة مع القدرة ح ٦ و ٧.

١٢٣

القواعد التي تلابس

قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»

ذكرت على ألسنة الفقهاء عدّة قواعد تلابس هذه القاعدة وترتبط بها ارتبطا مباشرا أو غير مباشر ، نعرض أهمّها :

أوّلا : قاعدة «الحاجة تنزّل منزلة الضرورة ، عامّة كانت أم خاصّة»

مصدر القاعدة

وهذه القاعدة لم نجد لها نصّا في المأثور عن الشارع المقدّس ، ولعلّها من صياغة بعض الفقهاء. (١)

مفردات القاعدة

الحاجة : «ما يترتّب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة». (٢)

__________________

١ ـ انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٨ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٩١.

٢ ـ المدخل الفقهي العام ٢ : ١٠٠٥.

١٢٤

الضرورة : اسم لمصدر الاضطرار ، والاضطرار : الإلجاء (١) ، وليس للشارع اصطلاح معيّن فيها ، وإنّما استعمله بنفس مدلولها اللغوي ، وما نفهم من هذا المدلول أنّ الضرورة أضيق من الضرر.

أقسام الحاجة

وقد قسّموا الحاجة إلى نوعين : (٢)

(١) حاجة خاصّة : ويعنون بها الحاجة التي تولد في بيئة خاصّة ، وفي ظرف خاصّ.

(٢) حاجة عامة : ويعنون بها الحاجة النوعية التي تشمل ويحتاج إليها نوع الناس.

مناقشة ورأي

والواقع أنّني لم أجد في حدود ما اطّلعت عليه من أدلّتها ما يعطيها سمة القاعدة العامّة ، وكلّ ما ذكروه أحكام أثرت عن الشارع المقدّس فيها ترخيص ، وقد جاءت على خلاف القاعدة ، أمثال : بيع السلم مع كونه بيع معدوم ، وجواز دخول الحمام مع جهالة مدّة المكث فيه ، ومقدار ما يستعمله الداخل إليه من مائه ، وأمثالها من الأحكام الغررية ، مع أنّ الشارع نهى عن الغرر ، فجوازها في حدود ما أدركوه إنّما كان مستندا إلى الحاجة ؛ لذا نزّلوا الحاجة منزلة الضرورة وأعطوها أحكامها ، وبنوا على ذلك جملة من الفتاوى ، أمثال ما جاء : «في القنية والبغية يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح» (٣) أي تحليل الربا عند الحاجة.

__________________

١ ـ لسان العرب ٤ : ٤٨٣ مادة «ضرر».

٢ ـ راجع : المدخل الفقهي العام ٢ : ١٠٠٥.

٣ ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم : ٩٢.

١٢٥

والواقع أنّ هذه الأحكام التي وردت استثناء من الشارع غير معلّلة بالحاجة لتسري العلّة من طريق القياس إلى غيرها ممّا يشبهها (١) ، واحتمال كونها مقصورة على موضعها ـ لو أمكن استنباطها ـ غير بعيد ، وإلّا فما معنى قصر الشارع الاستثناء على الاضطرار في رفع الأحكام التحريميّة إذا كانت الحاجة ـ وهي دون الضرورة ـ كافية في رفع اليد عنها ، والترخيص في ارتكابها؟ وكان بوسعه أن يذكر الحاجة اكتفاء بها ؛ لأنّ ذكرها ـ لو كان هو الأساس ـ يغني عن ذكر الضرورة كما هو واضح.

ثانيا : قاعدة «الضرورات تقدّر بقدرها» (٢)

هذه القاعدة في الواقع عقلية ، تقتضيها مناسبة الحكم والموضوع ، وقريب منها ما ورد على ألسنة بعض الفقهاء أمثال القواعد :

__________________

١ ـ ولذا ذكر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بأنّ هذه القاعدة لا تصحّ على أصول مذهب الإمامية ؛ فإنّ قاعدة «نفي الضرر» وإن كانت ترفع الأحكام الواقعية ، مثل : وجوب الغسل ، والوضوء ، والصوم ، وسلطنة الناس على أموالهم ، ولكنّها لا تشرّع حكما ، ولا تجعل الباطل صحيحا ، وإنّما ترفع الحرمة التكليفية بالضرورة ، أي العقوبة فقط ، لا سائر الآثار. فلو كان بعض البيوع باطلا وحراما ـ كالربا ـ فالضرورة لا تجعله عقدا صحيحا كسائر البيوع وإن أحلّته لمن اضطرّ إليه ، فلو ارتفعت الضرورة وجب ردّ كلّ مال إلى صاحبه مع الإمكان.

وذكر البعض من أنّ غير المنصوص ، بل المنصوص على عدم مشروعيته ، وحظره من وسائل الحياة ، يجوز سلوك الطريق المنصوص على حظره عند الحاجة إليها.

وكان هذا الباب مفتوحا على مصراعيه عند فقهاء المذاهب الأربعة المشهورة ويسمّونه : باب المصالح المرسلة.

أمّا عند فقهائنا الإمامية فهذا الباب موصد بكلّ ما يتّسع له المجال من الإقفال ، وعندنا «إنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة». تحرير المجلّة ١ : ١٤٨ ـ ١٥٠. بتصرّف.

٢ ـ وردت هذه القاعدة في بعض كتب القواعد الفقهية بصيغة : «ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها». راجع : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٢ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٨٦ ، والمنثور في القواعد ٢ : ٧٠.

١٢٦

ثالثا : قاعدة «ما جاز لعذر بطل بزواله» (١)

رابعا : قاعدة «إذا زال المانع بطل الممنوع» (٢)

ومؤدّى ذلك كلّه أنّ الحكم لا يمكن أن يكون أوسع من موضوعه ، ولا المعلول أوسع من علّته ، فإذا أبيح الشيء لضرورة أو أجيز لعذر ، أو منع لمانع معيّن ، فبزوال الضرورة أو العذر أو المانع يزول ما رتّب عليه من الحكم بالوجدان.

فمن اضطرّ لإساغة اللّقمة إلى جرعة من خمر مثلا ، لا يسوغ له أخذ جرعتين ؛ لأنّ الاضطرار «إنّما يبيح من المحظورات مقدار ما يدفع الخطر ، ولا يجوّز الاسترسال ، ومتى زال الخطر عاد الحظر» (٣) ... وهكذا بالنسبة لزوال العذر أو المانع.

وممّا يترتّب على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات ما ذكر من :

خامسا : قاعدة «الاضطرار لا يبطل حقّ الغير»

والسرّ في ذلك أنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها بحكم العقل كما مرّ ، فمن أتلف مال غيره اضطرارا سقط عنه الحكم التكليفي المانع عن الإتلاف ؛ لأنّه هو الذي اضطرّ إلى

__________________

١ ـ راجع : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٤ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم ٨٦ ، وشرح القواعد الفقهية : ١٨٩ ، وتحرير المجلّة ١ : ١٤٤. وفيها «بعذر» بدل «لعذر».

٢ ـ القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بصيغة : «إذا زال المانع عاد الممنوع» ، المادة (٢٤) ، راجع : درر الحكّام ١ : ٣٩ ، وشرح القواعد الفقهية : ١٩١ ، والمدخل الفقهي العام ٢ : ١٠١٨.

٣ ـ المدخل الفقهي العام ٢ : ١٠٠٤ ـ ١٠٠٥.

١٢٧

مخالفته. أمّا الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ فلا ضرورة لإسقاطه ، بل لا مسقط له ؛ لأنّه لم يضطرّ إليه (١) ، وقاعدة «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» تبقى محكّمة ، ويترتّب أثرها عليها.

والقول بأنّ الإذن الشرعي ينافي الضمان (٢) لا مأخذ له على إطلاقه ، وعلى الأخصّ في الترخيص المتولّد من العناوين الثانويّة كالضرر أو الضرورة وأمثالهما ؛ لوضوح أنّ الضرورة المتعلّقة بأكل مال الغير ـ مثلا ـ إنّما يرفعها خصوص الأكل ، لا عدم تعويض صاحبه عمّا سبّبه من إتلاف ماله ، وإذن الشارع بأكله للضرورة لا يستلزم إذنه بإلغاء الضمان لنأخذ به.

__________________

١ ـ ذكر السيد مير فتاح المراغي : «بأنّ فتوى الأصحاب بضمان الضارّ والمتلف وغير ذلك في جميع موارد الضرر أو أكثرها موافق لنفس قاعدة الضرر». العناوين ١ : ٣٢٢.

٢ ـ نسب هذا القول إلى الشافعي ، راجع : فقه السنّة ٣ : ٢٤٨. وذكر الغرناطي هذا القول في القوانين الفقهية : ١٩٦ ، ولم ينسبه إلى أحد.

١٢٨

المبحث الثالث

تزاحم الأضرار وقواعده

والحديث حول تزاحم الأضرار والقواعد التي عرضها الفقهاء لأساليب علاجه يدعونا لأن نتحدّث عن :

أولا : معنى التزاحم والمرجّحات التي عرضها الأصوليّون لتقديم بعض الأدلّة المتزاحمة على البعض الآخر.

ثانيا : القواعد الفقهيّة التي ذكرت على ألسنتهم تفريعا على قواعد الضرر والضرورة لمعالجة حالات الضرر أو الاضطرار عند تزاحمها ، ونلتمس موقعها من تلكم المرجّحات.

وعلى هذا فالحديث يقع في هذا المبحث في ثلاثة مطالب :

* تحديد التزاحم وعرض مرجّحاته لدى الأصوليّين

* القواعد التي تتعرّض لمبادئ في الترجيح

* القواعد التي تتعرّض لمبادئ في التطبيق

١٢٩
١٣٠

المطلب الأول

تحديد التزاحم وعرض مرجّحاته

لدى الأصوليّين

١٣١
١٣٢

تحديد التزاحم وعرض مرجّحاته

تحديد التزاحم

يطلق التزاحم ويراد به صدور حكمين من الشارع وتدافعهما في مقام الامتثال اتّفاقا ؛ إمّا لعدم القدرة على الجمع بينهما ، أو لقيام الدليل من الخارج على عدم إرادة الشارع الجمع بينهما. (١)

الفرق بين التزاحم والتعارض

ومن هذا التحديد ندرك الفرق بينه وبين التعارض بين الأدلّة ، فالتعارض ملاكه أن يعلم أنّ الصادر من الشارع حكم واحد ، ولكن توجد عنه حكايتان متدافعتان ، وبما أنّا نعلم أنّ الشارع لا يتناقض على نفسه ، فلا بدّ أن تكون إحداهما غير صحيحة.

بينما ملاك باب التزاحم هو العلم بصدور الحكمين من الشارع ، والقصور عن استيعابهما معا إنّما كان منشؤه عدم توفّر القدرة لدى المكلّف على استيعابهما غالبا ، أو عدم إرادة الشارع لذلك كما تقدّم. (٢)

__________________

١ ـ القيد الأخير أضافه المحقّق النائيني إلى قيد عدم القدرة على الجمع بين الدليلين في باب التزاحم. فوائد الأصول ٤ : ٧٠٥ ـ ٧٠٧.

٢ ـ راجع : المصدر السابق : ٧٠٥.

١٣٣

لذلك لا بدّ أن يلتمس علاجا لمشكلة هذا التزاحم بالتماس المرجّحات لتعيين أحد الحكمين وامتثاله دون الآخر.

مرجّحات باب التزاحم

وقد عرض الأصوليّون بحوثا مطوّلة تحدّثت بإسهاب عن هذه المرجّحات ، بخاصّة في كتب الأصوليّين من علماء الإمامية ١ ـ وأهمّ هذه المرجّحات كما سبق أن عرضناها في كتابنا : الأصول العامّة للفقه المقارن ، مبحث الاستحسان : (٢)

أولا : تقديم الحكم المضيّق على الحكم الموسّع ، إذا كان في التكليفين مضيّق وموسّع.

ومثاله : ما لو تزاحم الأمر بالصلاة ـ وكانت في أوّل أوقاتها ـ مع الأمر بإزالة نجاسة ما عن المسجد الحرام (٣) ، وكانت الأولى موسّعة ، فإنّ إزالة النجاسة تكون مقدّمة على الصلاة.

ثانيا : تقديم ما ليس له بدل على ما كان له بدل ، كما لو تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة كاد يؤدي بها الظمأ ، والأمر بالوضوء مع فرض وجود ماء لا يتّسع لهما معا. وبما أنّ الوضوء له بدل وهو التيمّم ، وإنقاذ النفس لا بدل له ، فلا بدّ من تقديم الإنقاذ.

ثالثا : تقديم ما كان أمره معيّنا على ما كان مخيّرا ، كتقديم الوفاء بالنذر على الكفّارة ، فيما لو نذر مسلم عتق رقبة مؤمنة ، وتحقّق نذره ، وكان مطالبا بكفّارة إفطار عمدي في شهر رمضان وكان لديه رقبة واحدة ، فهو مطالب بعتقها للنذر من ناحية ،

__________________

١ ـ راجع : نهاية الأفكار ٤ ق ٢ : ١٣٢ ، وفوائد الأصول ٤ : ٧٠٩ ، ومصباح الأصول ٣ : ٣٥٧ وما بعدها ، ومنتهى الأصول ٢ : ٧١٥ وما بعدها ، وأصول الفقه للمظفّر ٢ : ٢١٧ وما بعدها.

٢ ـ ذكر المصنّف في ص ٣٥٠ أنّ المراد بالاستحسان هو ما أخذ في بعض التعاريف «من العمل أو الأخذ بأقوى الدليلين» ، وهذا التعريف بعمومه شامل لما كان فيه الدليلان لفظيين أو غير لفظيين أو أحدهما لفظي والآخر غير لفظي.

٣ ـ لا وجه لتخصيص «المسجد الحرام» به بل الحكم يعمّ كلّ مسجد.

١٣٤

ومطالب ـ من ناحية ـ أخرى بعتقها لكفّارة إفطار عمدي في شهر رمضان باعتبارها إحدى خصال الكفّارة ، وحيث يمكن تعويضها بالخصال الأخرى في الكفّارة ، فلا بدّ من عتقها للوفاء بالنذر.

رابعا : تقديم ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية ، كتقديم الأمر بوفاء الدين على الأمر بالحج ؛ لأخذ الاستطاعة فيه شرطا بلسان الدليل.

والقدرة إن أخذت بلسان الدليل سمّيت شرعيّة ؛ لأن أخذها بلسانه يكشف عن مدخليّتها في الملاك. (١) وإن لم تؤخذ بلسانه سمّيت عقليّة.

وإنّ الدليل الذي لا يأخذ القدرة بلسانه يكشف عن وجود ملاكه حتّى مع عدمها ، وتكون القدرة بالنسبة له دخيلة في تحقّق الامتثال ، لا في أصل الملاك.

ولهذا قدّم ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعيّة لتوفّر ملاكه.

خامسا : تقديم ما كان مهمّا على غيره ، ومقياس الأهمّية : إحساس المجتهد بأنّ أحد الحكمين أقرب إلى اهتمام الشارع من غيره ، كتقديم وجوب الصلاة التي لا تترك بحال على أيّ وجوب آخر.

سادسا : تقديم أسبقهما في زمان امتثاله مع تساويهما من حيث الأهمّية ، كتقديم صلاة الظهر على صلاة العصر ، فيما لو انحصرت قدرته على الأداء في الإتيان بإحدى الصلاتين مثلا.

والأنسب ـ فيما أخال ـ هو حصر المقياس في التقديم بالمرجّحين الأخيرين ، والمرجّحات الأخرى ـ ممّا ذكر أو يمكن أن تذكر ـ لا يزيد ما يتمّ منها على كونه منقّحا لصغريات إدراك العقل ؛ للأهمّية في أحد الأمرين ذاتا أو عرضا ، إذ إنّ إدراك

__________________

١ ـ انظر : فوائد الأصول ١ : ٣٢٢.

١٣٥

الإنسان للأهمّية في تقديم أحدهما قد يكون منشؤه المحافظة على التكليفين معا ، كتقديم المضيّق على الموسّع ، والمعيّن على المخيّر ، وما ليس له بدل على ما له البدل ، إذ يمكنه إذ ذاك الجمع بين التكليفين معا ، وهو أهمّ في نظر الشارع من ترك أحدهما والاقتصار على الآخر ، وقد يكون منشؤه غير ذلك وهو ما أشارت له بقية الصور. (١)

__________________

١ ـ راجع : الأصول العامة للفقه المقارن : ٣٥٠ وما بعدها.

١٣٦

المطلب الثاني

القواعد التي تتعرّض لمبادئ في الترجيح

ويتضمّن :

* قاعدة : درء المفاسد أولى من جلب المصالح

* قاعدة : الضرر الأشدّ يزال بالضرر الأخفّ

* قاعدة : يختار أهون الشرّين

* قاعدة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفّهما

* قاعدة : الضرر لا يزال بمثله

١٣٧
١٣٨

قاعدة

درء المفاسد أولى من جلب المصالح (١)

معنى القاعدة

وتعني هذه القاعدة أنّ الأحكام التي تبنى على أساس من المصلحة ، إذا زاحمتها الأحكام المبنية على دفع المفاسد الكامنة في متعلّقاتها ، قدّمت الأحكام المحرّمة التي يتحقّق بامتثالها دفع المفاسد على الأحكام التي يجلب امتثالها المصالح للمكلّفين.

حجّيتها من السنّة النبوية

وكأنّ مستند القاعدة ما لوحظ من اهتمام الشارع بالمنهيّات أكثر من اهتمامه بالمأمورات (٢) ؛ ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». (٣)

__________________

١ ـ ذكر الشيخ آل كاشف الغطاء أنّ هذه القاعدة نظير القاعدة المشهورة عند الأصوليين من الإمامية وهي «أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة». تحرير المجلّة ١ : ١٤٧.

٢ ـ انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٧ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٩٠.

٣ ـ صحيح البخاري ٩ : ٧٤٩ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ح ٢٠٩٥ مع تقديم وتأخير في ألفاظ الحديث.

١٣٩

مناقشة ورأي

والإشكال وارد على هذا الاستدلال ، لعدم كونه واردا مورد البيان لهذه الجهة ، أي أنّ جهة المزاحمة ليست ملحوظة للدليل ليتمسّك بها ، ودعوى : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فاجتنبوه» فيه إطلاق يشمل صورة المزاحمة ؛ لأنّ الشارع يريد الاجتناب عن المحرّم على كلّ حال ، غير واضحة ؛ للعلم بأنّ الشارع رخّص في كثير من المحرّمات إذا زوحمت بمفسدة أو بمصلحة أهمّ «من ذلك الصلاة مع اختلال شرط من شروطها من : الطهارة والستر والاستقبال ، فإنّ في كلّ ذلك مفسدة لما فيه من الإخلال بجلال الله في ألّا يناجى إلّا على أكمل الأحوال ، ومتى تعذّر شيء من ذلك جازت الصلاة بدونه ، تقديما لمصلحة الصلاة على هذه المفسدة. ومنه الكذب فهو مفسدة محرّمة ، ومتى تضمّن جلب مصلحة تربو عليه جاز ، كالكذب للإصلاح بين الناس ، وعلى الزوجة لإصلاحها». (١)

والحقيقة أنّ هذا الحديث لم يرد لبيان هذه الجهة ليتمسّك بإطلاقه.

حجّيّتها من بناء العقلاء

وقد يستدلّ لها ببناء العقلاء القائم على اهتمامهم بدرء المفاسد عن أنفسهم أكثر من جلب المصالح لها ، وبخاصة في مجال المزاحمة المدّعى إمضاؤه من قبل الشارع قطعا ، فيكون سنّة بالإمضاء.

مناقشة ورأي

والإشكال وارد على هذا الاستدلال أيضا ، فالمعهود أنّ العقلاء يتسامحون في

__________________

١ ـ الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٨.

١٤٠