القواعد العامة في فقه المقارن

السيّد محمّد تقي الحكيم

القواعد العامة في فقه المقارن

المؤلف:

السيّد محمّد تقي الحكيم


المحقق: وفي الشناوة
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة
المطبعة: نگار
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8889-93-2
الصفحات: ٢٩٦

١
٢

٣
٤

كلمة المركز

بسم الله الرحمن الرحيم

على الرّغم من أنّ القواعد الفقهيّة تسهم إسهاما كبيرا في تسهيل وتنظيم وتفعيل عملية الاستنباط ، إلا أنّها ظلّت من جملة العلوم التي لم تكن الدراسات المتوجّهة إليها متناسبة ومتناسقة كما ولا كيفا مع شأنها ومكانتها ودورها المهمّ.

ومن هذا المنطلق فإنّ علم القواعد الفقهية بات في حاجة ماسة إلى فتح نوافذ جديدة في البحث عنه ، وتقديم أطروحات علمية أكثر حول قابلياته ، وطرق استحصال هذه القابليات.

وممّا يؤسف له أنّه لم يحاول التركيز على تفعيل قابليات القواعد الفقهية والتوسّع في البحث عن زواياها وأبعادها كعلم سوى نزر يسير من العلماء.

ومن هذا النزر اليسير يبرز اسم العلّامة محمد تقي الحكيم رحمه‌الله الذي بات يمثّل أحد عناصر ذلك الطيف من العلماء المخلصين الذين استوعبوا هموم الرسالة

٥

وتبليغها بصدق وتفان ، وتحمّلوا الصعاب في سبيل ضخّ العمل الفقهي برؤيا تجديدية مواكبة والواقع المعاش.

فهو لم يكتسب موقعه من كتابة مؤلّفاته في مجال الفقه والأصول ، بقدر ما اكتسبه من تطلّعاته على الصعيد التقريبي ، إذ كان رحمه‌الله يتعاطى مع الواقع الثقافي بكلّ إملاءاته العلمية برؤيا موضوعية وتقريبية تنمّ عن نظرته الخاصة تجاه فكر وثقافة الآخرين ، وعدم انحيازه في طرح أفكاره ومناقشتها إلى جهة دون أخرى ، بل حاول أن يواكب مناهج المصلحين في تقديم النموذج العلمي الذي من شأنه تعزيز الوعي التقريبي الحرّ ، من خلال كتاباته القيّمة بشأن القواعد الفقهية ، وتعاطيه معها على أنّها علم قائم بذاته.

ولعلّ أروع ما يستوقف القارئ الكريم في شخصية وقلم هذا الرجل شيئان :

١. أدب الاعتراض الذي تحلّى به قلمه ، فهو يلتزم الحوار والنقاش العلميين ، بعيدا عن كلّ ألوان الانحياز والحساسيات المفرطة ، وكلّ العواطف الشخصية والطائفية في تناوله للمسائل والموارد الأصولية. فلم يطعن ولا يخدش أمرا إلّا بدليل معتبر ، ولا يردّ دعوى حتّى يثبت له خلافها.

٢. احترامه المصلحة الاسلامية ، حيث فرض على نفسه سلوكا خاصا من شأنها تعزيز مكانة الوحدة الاسلامية في نفوس المسلمين ، وتكريس الواقع الذي يزيد من قوة وتماسك الوشائج الاجتماعية ، لا الواقع الذي ينهش في جسد الأمة ، ويصعد من وتيرة آلامها وشقائها.

ولمّا كان لهذا الكتاب الذي دوّنته يراعته الكريمة من أهمية في تقوية وتعميق هذا العلم وفي حركة الفقه والتقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، كان

٦

حقيقا علينا أن نسلّط الضوء على بعض النقاط التي يمكن أن تستفاد منه ، ويكتشفها الباحث في تضاعيف الكتاب ؛ كي يطّلع القارئ العزيز عليها من كتب :

منها : قد ركّز المؤلّف على إثبات كون القواعد تشكّل منظومة متجانسة ، وليست هي شذرات متناثرة هنا وهناك ، وإنّما هي مجموعة واحدة وسلسلة متّصلة ومتّسقة فيما بينها ، وهذا الاتّساق الشمولي يعكس مكانة كلّ قاعدة ، وعلاقتها بغيرها من القواعد الأخرى.

ومن هاهنا درس المؤلّف في هذا الكتاب كلّ قاعدة على أنّها جزء من تلك المنظومة التي تعمل في إنجاز وظيفتها الفقهية ؛ ولذا بيّن في بحثه ما يلابسها من القواعد.

وبتعبير آخر كان يرى أنّ القواعد الفقهية انطلاقا من كونها تمثّل نظما خاصا من العلاقات بين الأحكام الفقهية ، ارتكزت ونشأت على أساس وجود ارتباط وثيق بينها ، بحيث تندرج بعضها تحت البعض.

ولذا فعند ما يطرح قاعدة قاعدة «لا ضرر» يحاول أن يجمع تحتها طيفا واسعا من القواعد ذات العلاقة بها ، فأورد قواعد عدّة مبتنية على قاعدة «لا ضرر».

كما أنّه قسّم هذه القواعد التي عدّها ذات صلة بقاعدة «لا ضرر» إلى طوائف ثلاثة : فيعتبر بعضها مبنيّا على قاعدة «لا ضرر» ، وبعضها الآخر ما يبيّن دائرة المفهوم والمصداق للقاعدة ، وبعضا ثالثا يصفه بقواعد تنفع الفقيه في مرحلة تطبيق هذه القاعدة.

٧

ولأجل هذه النظرة الفاحصة في حقيقة القواعد الفقهية كان من الضرورة بمكان أن ينظر كلّ باحث في القواعد التي تذكرها المذاهب ؛ لاكتشاف تلك العلاقة ، وإلّا خرجت عن منظومتها المتكاملة التي أعدّت لها ، وعن وظيفتها الشرعية التي جاءت لإنجازها.

ومنها : كانت القواعد الفقهية محصورة ومنزوية في إطارها المذهبي الذي يدور عليه كلّ مذهب بحسب المباني التي يتّكئ عليها ، إلّا أنّ العلّامة الحكيم أخرجها من إطارها الضيّق والبودقة التي هي فيها ، وأرجعها إلى نصابها الصحيح : من أنّها أحكام شرعية لا تختصّ بمذهب دون مذهب ، شأنها كشأن أيّ معلم إسلامي آخر.

ومنها : قد جسّد المؤلّف في كتابه هذا اسلوب المقارنة في البحث ، وذلك بعرض القواعد الفقهية من طريق الروايات التي هي في مجاميع الكتب الإسلامية ، والتي لا تختصّ بمذهب معيّن دون آخر ، وبهذا يضع أساسا محكما ، وهو : وحدة المصادر الإسلامية التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية ، وهذا إن دلّ على شيء ، فإنّه يدلّ على أنّ هناك محطات أساسية يمكن الفقهاء أن ينطلقوا منها في مسيرتهم الوحدوية التي يدعون إليها ، ضدّ من يريد أن يكون سدّا مانعا من الوصول إلى الغاية المنشودة من الوحدة والائتلاف ، ويجعل وحدة كلمتهم التي يطلقونها جوفاء لا معنى لها.

ومنها : استطاع العلّامة المؤلّف من طريق القواعد الفقهية أن يعرض آراء الفقهاء

٨

بما هي آراء لعلماء المسلمين ، لا بما هي انعكاسات مذهبية ، وبهذا أوجد خطابين حضاريّين :

خطاب حضاري عالمي على مستوى وضع القوانين والقواعد التي تلائم كلّ عصر ، وتلبّي حاجات الإنسان التي تكفّل الإسلام بها.

وخطاب حضاري آخر في داخل البيت الإسلامي ؛ إذ لا ريب في أنّ عرض الآراء ومناقشتها إن استحقّت ذلك ، يفتح أفقا جديدا أمام الفقهاء في تحليل المسائل وتلاقح الأفكار ، ممّا يؤدّي إلى الأخذ بالرأي الصائب في عملية الاستنباط بعد تمحيص تلك الآراء.

ومنها : أنّ التنظير للقواعد الفقهية المقارنة سوف يفتح باب الاجتهاد ولو على مستوى الدراسة المقارنة ، وهي خطوة أولى جديرة باهتمام الفقهاء والعلماء ؛ لفتح باب الاجتهاد أمامهم على مصراعيه ، فيشمل كلّ الحقول الإسلامية.

فالعالم والمجتهد الحصيف إذا ما تجذّر فيه الوعي التقريبي ، فسوف يضحى وسيلة فاعلة في تكريس التعايش الفكري والاجتماعي ، ويمكن أن يعبّر عن الموقف الحقيقي التي تراه المرجعية الدينية في الظروف الفعلية الراهنة التي تعيشها الأمة الاسلامية.

ومن هنا ندعو الفقهاء والعلماء ، ورجال التقريب الأفذاذ ، والنّخبة الواعية من المثقّفين ، أن لا يقفوا في بحوثهم عند نوع معيّن منها ، بل لتشمل المجالات المعرفية والفكرية ؛ كي تكون لغة الخطاب في إبراز الحضارة الإسلامية

٩

لغة حضارية تستطيع أن تخاطب العالم كلّه ، كما كانت الرسالة الاسلامية إبّان انبثاقها ، ممّا جعلها تبزغ ليس على الجزيرة العربية فحسب ، بل على كلّ بقاع المعمورة.

ومن هذا المنطلق صار اهتمام مركزنا العلمي الأغرّ بهذا الأثر النفيس الذي كان المؤلّف قدس سرّه قد جعله الرقم (٢) ضمن بحوث أسماها ب «المدخل لدراسة الفقه المقارن» ، والعناية به توثيقا وتعليقا ، وطباعة ونشرا ، لا لشيء إلّا لإحساسه بالمسئولية تجاه العلم والثقافة الإسلامية الأصيلة ، وأيضا تجاه الأمة ووحدتها ، وتحسير كلّ مظاهر التعصّب والتمذهب غير المرغوب فيهما.

ونحن إذ ندعو الله أن يتغمّد روح فقيدنا الغالي العلّامة المبجّل السيّد محمد تقي الحكيم في فسيح جنّاته ، وأن يحشره مع أجداده أهل بيت النبوّة والكرامة ؛ لما قدّمه في سبيل الإسلام ووحدة المسلمين من كتب قيّمة أنارت الطريق للأجيال القادمة ، سواء على صعيد الدراسات المقارنة أم غيرها ، نشكر الأخ الفاضل (وفي الشناوة) على مساهمته في التوثيق والتعليق على ما جاء في متن هذا الكتاب ، ونشكر أيضا قسم الفقه والأصول التابع لمركز التحقيقات والدراسات العلمية بكلّ أفراده ، الذي يسعى إلى إنجاز أعماله على أحسن ما يكون ، نقدّم كذلك فائق الشكر والامتنان إلى كل العاملين والمسئولين في هذا المركز الأغرّ الذين بذلوا جلّ طاقاتهم في سبيل طبع ونشر هكذا كتب ودراسات تقريبية تصبّ في خدمة المسلمين ، وفي وحدة كلمتهم.

ويسرّنا أن ننتهز هذه الفرصة في تقديم شكرنا وامتناننا إلى سماحة الشيخ

١٠

التسخيري (حفظه الله) لما بذله من جهد على مستوى تقديم الملاحظات الهامة المتعلّقة بهذا الكتاب ، ولم ينجل عنّا من تقديم ما يلزم في سبيل إنجازه.

نسأل الله العليّ القدير أن يثبّت خطى علمائنا الأحياء ، ويرحم الماضين منهم ، ويوفّقنا إلى تقديم الأفضل ، لما ينفع طلبتنا وحوزاتنا العلمية إنّه سميع مجيب.

أحمد المبلّغي

مسئول مركز التحقيقات والدراسات العلمية

التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

١١
١٢

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

من خلال عملنا في هذا الكتاب أمكننا أن نتعرّف بعض الملامح لمنهج العلّامة الحكيم رحمه‌الله ، والأسس التي يرتكز عليها منهجه العامّ في طريقة البحث ، وأسلوب التعامل مع كافة المدارس الإسلامية على المستوى القواعد الفقهية والأصول العامّة بمختلف اتّجاهاتها المذهبية والعقائدية. وهذا الأسلوب كوّن اتّجاها خاصّا في كيفية تناول آراء المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى ؛ لذلك نجد من الضروري أن نشير إلى بعض خصائص هذا الاتّجاه.

العلّامة الحكيم وعلم القواعد الفقهية

قد صحّ لنا أن نتساءل عن تعريف علم القواعد الفقهية وموضوعه وغايته ، مثلما صحّ ذلك في تعريف علم الاصول ؛ ولذا انبرى العلّامة الحكيم رحمه‌الله لذلك معتمدا على طريقة التعريف المدرسي والكلاسيكي في تعريف علم القواعد الفقهية ، وهي طريقة اعتمدها علماء الأصول في تعريف العلم وبيان موضوعه وغايته ، فجعل لعلم القواعد الفقهية تعريفا وموضوعا وغاية ، كما هو الأمر في علم الأصول وغيره ، وإليك بيان ذلك :

١٣

تعريف علم القواعد الفقهية

تطرّق العلّامة الحكيم في تعريفه للقاعدة الفقهية إلى تعريفين : أحدهما قديم ، والآخر حديث ، ثمّ أتى بتعريف ثالث قام هو بصناعته :

الأوّل : ما ذكره الحموي (غمز عيون البصائر ١ : ٥١) بقوله : «حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته». وهو تعريف قديم لهذا العلم.

والثاني : ما ذكره الشيخ مصطفى الزرقا (المدخل الفقهي العامّ ٢ : ٩٦٥) بقوله :

«أصول فقهية كلّية في نصوص موجزة دستورية ، تتضمّن أحكاما تشريعية عامّة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها». وهو تعريف أضفى عليه صبغة دستورية وقانونية.

والثالث : ما ذكره هو نفسه رحمه‌الله بقوله : «كبرى قياس يجري في أكثر من مجال فقهي لاستنباط حكم شرعي فرعي جزئي أو وظيفة كذلك».

وهذا التعريف يشبه تعريف المحقّق النائيني للقاعدة الأصولية التي تمتاز به من المسألة والقاعدة الفقهية ، فكما أنّ المسألة والقاعدة الأصولية تقع كبرى في قياس الاستنباط ، كذلك القاعدة الفقهية تقع كبرى في قياس الاستنباط ، غاية الأمر أنّ الكبرى الأصولية تنتج حكما كلّيا ، والكبرى الفقهية تنتج حكما جزئيا. وبذلك يكون قد حصلنا على تعريف لعلم القواعد الفقهية يكون جامعا لمصاديقه ، ومانعا لأغياره.

وهذا العلم لم يكن معروفا سابقا بملامحه التي بها يكون جامعا مانعا : جامعا لكلّ ما ينطبق عليه ضابط القاعدة الفقهية ، ومانعا لكلّ ما لا ينطبق عليه هذا الضابط ، كما هو المتوقّع في تعريف أيّ علم.

وقد ألّفت كتب كثيرة في القواعد الفقهية ، لكنّها لم تكتب على أنّ القواعد علم قائم بذاته ، بل هي كتابات في قواعد فقهية أو دراسات متناثرة ، تتعلّق بمجالات شتّى

١٤

في الفقه والأصول ، جلبت أنظار الفقهاء إليها ؛ لعمومها وسريانها في أبواب فقهية كثير ومختلفة ، مع أنّ لتلك القواعد تعريفا خاصّا بها ممّا يستدعي فصلها عن علم الأصول أو الفقه ، وتحديد دراستها في ضمن علم خاصّ بها.

موضوع علم القواعد الفقهية

إنّ لكلّ علم موضوعا يبحث فيه عن عوارضه التي تتّصل به ؛ ليمتاز كلّ علم من غيره ، وحدّ المشهور هذا الموضوع بما كان البحث فيه عن عوارضه الذاتية ، ولا يكون شاملا للعوارض الغريبة عن الموضوع.

بيد أنّ العلّامة الحكيم يوسّع الموضوع حتى يشمل العوارض الذاتية والعوارض الغريبة (الأصول العامّة للفقه المقارن : ١٠ ـ ١١) ، خروجا عن المشهور الذي خصّص الموضوع بالعوارض الذاتية له ، ممّا أدّى إلى الإشكال بخروج كثير من مباحث العلم عن موضوعه الذي يبحث فيه عن عوارضه التي تتّصل به ؛ لكونها ليست من العرضي الذاتي لذلك العلم ، فتجشّموا كثيرا في دفع إشكال خروج بعض المباحث الأصولية المهمّة عن موضوع علم الأصول ، مع أنّ هذه المباحث تقع في طريق الاستنباط في علم الأصول.

وبذلك يبتعد العلّامة عن مثل هذه الإشكالات ؛ لعدم قبوله أساسا أن يكون موضوع علم الأصول أو موضوع أيّ علم آخر مختصّا بعوارضه الذاتية ، بل يعمّ كلّ عارض ، سواء كان ذاتيا أم غريبا ، إذا كان يتحقّق به الهدف والغاية التي لأجلها دوّن ذلك العلم.

فعند ما يأتي إلى موضوع علم القواعد الفقهية يحدّه بقوله : «كلّ ما يصلح أن يقع وسطا في القياس الجاري في أكثر من مجال فقهي لانتاج حكم جزئي أو وظيفة كذلك». وبذلك يكون قد حدّد الركيزة الأساسيّة لعلم له خصوصياته ومقوّماته ؛ لكي

١٥

يمكن الباحث أن يميّز بين مسائل هذا العلم وبين مسائل العلوم الأخرى التي لا يمكن أن تقع وسطا في ذلك القياس.

ويعتبر العلّامة الاستقراء هو الأساس للوصول إلى مسائل هذا العلم في ضوء الضابط الموضوعي لموضوع علم القواعد الفقهية.

وهذه خطوة مهمّة في تحديد ملامح وركائز هذا العلم ، وفي ضوئها يتميّز موضوع علم القواعد الفقهية من موضوع علمي الفقه والأصول ، ولم نجد في حدود اطّلاعنا تحديدا دقيقا لموضوع علم القواعد الفقهية له مقوّماته وخصائصه كالذي ذكره العلّامة الحكيم رحمه‌الله.

فمعظم الكتب التي كتبت في القواعد الفقهية لم تتطرّق إلى بيان ذلك ، فقد تعرّضوا للقواعد الفقهية في طيّ كتب الفقه والأصول ، أو في كتب مستقلّة تصنّف في ضمن علم الفقه ، مع أنّ لعلم القواعد الفقهية موضوعه الخاصّ به الذي يختلف به عن موضوع علم الفقه الاستدلالي ؛ إذ إنّ ضابط القاعدة الفقهية يختلف عن ضابط المسألة الفقهية ، فالقاعدة الفقهية تقع وسطا في قياس الاستنباط الذي يستنتج منه حكم فرعي جزئي ، لكنّها تجري في أكثر من مورد أو باب فقهي ، في حين المسألة الفقهية وإن كانت تقع وسطا في القياس ، ولا يستنتج منه حكم عامّ ، فإنّها لا تجري في أكثر من مورد أو مجال فقهي ، ولا تتعدّاه إلى غيره.

الغاية من دراسة علم القواعد الفقهية

لكلّ علم غاية وهدف لأجلها يدوّن ذلك العلم ، فكما أنّ لعلم الفقه غاية ، وهي : الاطّلاع التفصيلي على الأحكام الشرعية ، أو تحديد الوظيفة العملية للمكلّف ، كذلك لعلم القواعد الفقهية هدف وغاية ، واعتبر العلّامة الحكيم غاية علم القواعد الفقهية هي نفس الغاية من دراسة الفقه الاستدلالي.

١٦

وبذلك يكون قد شكّل الملامح الرئيسة لعلم القواعد الفقهية ، فهو أعطى القاعدة الفقهية تعريفا جامعا مانعا ، تعريفا يشتمل على الشروط المهمّة التي يجب تحقّقها عند أصحاب المنطق في التعريف ، وحدّد لنا بشكل واضح موضوع علم القواعد الفقهية ، الذي يمتاز به من سائر العلوم ، والغاية التي من أجلها دوّن هذا العلم ، وبذلك يتكوّن لنا علم ثالث لا يقلّ أهمّية عن أخويه : علم الأصول ، وعلم الفقه الاستدلالي.

المنهج المقارن عند العلّامة الحكيم

والمنهج الذي يعتمده العلّامة قدس‌سره في دراسة القواعد الفقهية هو تقسيم تلك القواعد إلى قسمين على أساس التقسيم المعمول به في علم الأصول : من تقسيم الحكم الشرعي إلى حكم واقعي يكون ثابتا للشيء بما هو في نفسه ، وحكم ظاهري يكون ثابتا للشيء بما أنّ حكمه الواقعي مجهول. فقسّم القواعد الفقهية إلى قواعد واقعية وظاهرية ، وكان من مصاديق الأولى قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وما لابسها من القواعد ، وقاعدة (نفي العسر والحرج) وما لابسها من القواعد ، وقاعدة (إنّما الأعمال بالنيّات) وما لابسها من القواعد. ومن مصاديق الثانية قاعدة (الصحّة) وقاعدة (الفراغ والتجاوز).

ولا بدّ من التنبيه على أنّ الكتاب الذي بين أيدينا يقتصر البحث فيه على القسم الأوّل من القواعد الفقهية ، وهي القواعد الواقعية.

واتّسم هذا المنهج بأسلوب البحث المقارن الذي يجمع في طيّاته الآراء والأفكار التي تنتمي إلى كافّة المذاهب الإسلامية الأخرى ، ويستوعب الاختلافات الناجمة عن الاجتهاد وتبدّل الرأي ، والاختلاف في فهم النصوص وتقييم الأدلّة.

وهذه هي المحاولة الثانية له لدراسة الفقه المقارن ، بعد المحاولة في بحث أصوله في كتابه (الأصول العامّة للفقه المقارن).

١٧

وكان الغرض من إيجاد هذا المنهج المقارن هو : الدخول إلى المدارس الفقهية والأصولية عند المذاهب الإسلامية والاطّلاع عليها من كثب ، ونكون بذلك قد ابتعدنا عن الخطأ في نسبة الآراء الفقهية أو الأصولية إلى مذهب من المذاهب.

مضافا إلى أنّ هذا المنهج يساعد على إثراء الفكر ، ويفتح أبواب التلاقح الفكري بين المذاهب الإسلامية على مستوى الفقه وأصوله وقواعده ، ممّا يهيّئ المناخ المناسب المساعد على تجذير الوعي الفكري والموضوعي للآراء والأفكار ، بعيدا عن أيّ موقف تعصّبي سلبي سابق تجاه المذهب الآخر.

وللمنهج المقارن شروط وضوابط يجب توفّرها فيه ؛ لكي يثمر في تحقيق الأهداف المرجوّة منه ، وهذه الشروط يلخّصها العلّامة الحكيم فيما يلي :

١ ـ الموضوعية : لا بدّ للمنهج المقارن من تحقّق شرط الموضوعية في تمحيص الآراء والأفكار المختلفة ، ومن دون ذلك لا يكون منهجا علميا ، ولا يحقّق الأهداف المرجوّة منه.

وعلى هذا الأساس كان يتعامل العلّامة الحكيم مع المدارس والأفكار الأخرى ، وابتعد كثيرا عن الإيحاء إلى مذهب صاحب الرأي الفقهي أو الأصولي ، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالمباحث الخلافية ، كالقياس والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وفتح الذرائع وسدّها ، والإجماع ؛ اعتمادا على التثبّت من نسبة رأي أو فكرة ما إلى جماعة أو مذهب أو مدرسة ما.

ويعتبر من الظلم أن نفترض لأنفسنا آراء سابقة فيها ، ثمّ نحاول أن نجعلها منطلقا للمقارنة ، أو أن نصدر الحكم على أساسها ، من دون أن نتعرّف وجهات نظر الآخرين فيها ، وربّما كان الحقّ معهم في الكثير منها.

واشترط في الباحث أيضا أن يكون متحرّرا ومهيّأ نفسيا للتحلّل من رواسبه

١٨

السابقة ، والخضوع لما تدعو إليه الحجّة عند المقارنة ، سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من آراء سابقة أم خالفها (الأصول العامّة للفقه المقارن : ١٢) ؛ لأنّه من دون ذلك سوف يجد الباحث نفسه في صراع مع ما كان يمتلكه من آراء سابقة ، ومع المنهج المقارن الذي يفترض أن يكون البحث فيه مبنيا على أساس الموضوعية.

وكان يشترط رحمه‌الله للموضوعية أن يكون النظر في البحث المقارن مبتنيا على بحث الأصول والمباني العامّة ـ التي كان يرتكز عليها المجتهدون في استنباطهم للأحكام ـ على أساس من المقارنة (الأصول العامّة للفقه المقارن : ١٦) ، وإلّا لا يمكن أن يكون البحث المقارن موضوعيا ؛ لأنّه سوف ينطلق من أفكار وآراء سابقة في تلك الأصول والمباني ، ويبني أساس أحكامه عليها ، ممّا يعني فقدان المنهج المقارن لقيمته العلمية ، وعدم وصوله إلى نتائج حقيقية.

ولقد كان العلّامة الحكيم موفّقا لتحقيق تلك الموضوعية في منهجه المقارن في كتابه الأوّل (الأصول العامّة للفقه المقارن) وكذلك في هذا الكتاب الذي بنى منهجه على أساس الأخذ من آراء المذاهب الإسلامية كافّة ، فأخذ من السيوطي الشافعي المتوفّى سنة ٩١١ ه‍ ، ومن ابن نجيم الحنفي المتوفّى سنة ٩٧٠ ه‍ ، ومن الطوفي الحنبلي المتوفّى سنة ٧١٦ ه‍ ، كما أخذ من القرافي المالكي المتوفّى سنة ٦٨٤ ه‍.

وفي الوقت الذي تناول أحاديث من سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واردة في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، استقى أحاديث من سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أهل بيته الطاهرين واردة في الكافي وتهذيب الأحكام.

كلّ ذلك يدعم منهجه الموضوعي المقارن للفقه الإسلامي بين المذاهب كافّة ، ويجعل منه المنهج الصحيح والأفضل في البحوث المقارنة.

٢ ـ معرفة أسباب الخلاف : لكي ينتج المنهج المقارن ثماره لا بدّ للباحث في هذا

١٩

المجال من الاطّلاع الكامل على أسباب الخلاف بين الفقهاء وعلماء الأصول ، وتحرير محلّ النزاع في المسائل الخلافية التي يكثر الكلام فيها ؛ لكي لا يصدر الباحث أحكامه جزافا ، وينسب الآراء إلى غير أصحابها والقائلين بها ، وما أكثر الآراء التي تنسب إلى غير أصحابها جزافا!

فلا بدّ أن يعي الباحث هذه المسئولية ، وأن يحافظ على قدر من التوازن في أحكامه ، مع الاطّلاع الكامل على مبتنيات كلّ مدرسة.

ولقد كان العلّامة الحكيم موفّقا لاكتساب هذه المعرفة المطلوبة للمنهج المقارن ، فهو كما خطا خطوات مهمّة في كتابه الأوّل (الأصول العامّة للفقه المقارن) ، وأسّس معالم ذلك المنهج ، وطبّقه عمليا ، كذلك فعل هنا في كتابه هذا ، فقام بوضع المنهج العامّ في دراسة القواعد الفقهية الرئيسة ، مع عرض لآراء المجتهدين وفقهاء المذاهب الإسلامية ، ثمّ تقييم تلك الآراء وتمحيصها بحسب الضوابط العلمية الموضوعية المتّبعة.

٣ ـ الخبرة بأصول الاحتجاج : مجرّد المعرفة بأسباب الخلاف لا تكفي ما لم يكن الباحث في المنهج المقارن خبيرا في دراسة الآراء والمباني العامّة عند المذاهب الإسلامية ومدارسها الفكرية ، ومعرفة مفاهيم الحجج وأدلّتها ، ومواقع تقديم بعضها على بعض.

وهذه الخبرة لا تتأتّى إلّا من الخوض في المسائل الخلافية عمليا ؛ فإنّ تحرير الاختلاف بين الآراء ليس أمرا سهلا يقدر عليه كلّ باحث ما لم يكن قد اكتسب خبرة طويلة في سبر آراء المذاهب الإسلامية ، ونال قدرا من الاستيعاب في هذا المجال.

ومن يطالع هذا الكتاب يجد أنّ مؤلّفه يتحلّى بقدر من الاستيعاب والخبرة ، فقد استطاع أن يأتي بالآراء في الأصول والقواعد الفقهية ، ويعرض مبتنيات هذه الآراء ،

٢٠