التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

اكتساب اللعنة ـ والبهلة بالضمة والفتحة وأصله الترك يقال بهلت الناقة إذا تركتها بلا اصرار وفى اللعينة الترك من الرحمة والبعد من رحمة الله تعالى فى الدنيا والاخرة وذلك يقتضى وقوع العذاب لان العصمة من العذاب لا يتصور الا برحمته ـ وفى كلمة ثم اشارة الى ان اللائق من العاقل التأخير والتراخي فى المباهلة (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١) عطف تفسيرى على نبتهل وبالفاء اشارة الى ان وقوع العنة لا يتراخى عن الابتهال بل يعقبه بلا مهلة قال البغوي فلما قرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الاية على وفد نجران دعاهم الى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فى أمرنا نأتيك غدا فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى قال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبى مرسل وو الله مالا عن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فان أبيتم الا الاقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا لرجل وانصرفوا الى بلادكم ـ فاتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة يمشى خلفه وعلىّ خلفها وهو يقول إذا دعوت فامّنوا ـ فقال اسقف نجران يا معشر النصارى انى لارى وجوها لو سالوا الله ان يزيل جبلا عن مكانه لازاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى الى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم قد راينا ان لا نلاعنك وان نتركك على دينك ونثبت على ديننا ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فان أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فابوا قال فانى أنابذكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ان لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى إليك كل عام الفى حلة الفا فى صفر والفا فى رجب فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك وقال والذي نفسى بيده ان العذاب قد تدلى على اهل نجران ولو تلاعنوا لمسخو قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا وكذا اخرج ابو نعيم فى الدلائل من طرق عن ابن عباس ـ

٦١

واستدل الروافض قبحهم الله بهذه الاية على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى الله عنهم وكون علىّ عليه‌السلام هو الخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا المراد بالأبناء فى هذه الاية الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبانفسنا علىّ (١) فجعل الله سبحانه عليّا نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأراد الله تعالى به كون على رضى الله عنه مساويا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الفضائل وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اولى بالتصرف فى الناس من أنفسهم قال الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فكان علىّ كذلك فهو الامام ـ والجواب عنه بوجوه أحدها ان الأنفس بصيغة الجمع يدل على نفس النبي ونفس من تبعه ولا يدل ذلك على كون نفسهما واحدا مع كونه ظاهر البطلان ـ ثانيها انه جاز ان يكون علىّ ، ايضا مرادا بالأبناء كالحسن والحسين بعموم المجاز فان الختن يطلق عليه الابن عرفا ـ وثالثها انه جاز ان يكون المراد بانفسنا من يتصل به نسبا ودينا كما فى قوله تعالى ولا تخرجون (٢) أنفسكم من دياركم وقوله تعالى تقتلون أنفسكم وقوله تعالى ظنّ المؤمنون والمؤمنات بانفسهم خيرا وقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم فحينئذ لا يلزم المساوات بينهما أصلا ـ ورابعها ان مساوات علىّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جميع الصفات باطل باتفاق الفريقين والمساوات فى بعضها لا يفيد المساوات فيما نحن فيه ـ خامسها انه لو كانت الاية دالة على كون على اولى بالتصرف لزم كونه كذلك فى حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنتم لا تقولون به لكن هذه القصة تدل على كون هؤلاء الكرام أحب الناس الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِنَّ هذا) يعنى ما ذكر من قصص عيسى ومريم (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) هو فصل بين اسم ان وخبرها او مبتدا والقصص خبره والجملة خبر ان وجاز دخول اللام على الفصل لان أصلها ان تدخل على المبتدا ولذا سميت لام الابتداء وجاز دخولها على الخبر إذا لم يكن بينهما ضمير فصل وان كان هناك ضمير فصل دخلت عليه لكونه اقرب الى المبتدا من الخبر (وَما مِنْ إِلهٍ) من مزيدة لتأكيد استغراق النفي ردا على النصارى فى قولهم بالتثليث (إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٢) هذا فى التركيب نظير قوله تعالى (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) يعنى انه تعالى لا يساويه أحد

__________________

(١) فى الأصل لا تخرجوا ـ

(٢) فى الأصل عليا

٦٢

فى العزة والقدرة التامة والحكمة البالغة فكيف يشاركه فى الالوهية. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحجج واعرضوا عن التوحيد (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣) وعيد لهم تقديره فان تولّوا فانّ الله يعذبهم فحذف يعذبهم وأقيم عليم بالمفسدين مقامه اقامة العلة مقام المعلول فان علمه تعالى بافسادهم فى الآفاق باشاعة الكفر والمعاصي وصد الناس عن الايمان وفى أنفسهم بكفر ان المنعم وعصيانه وترك شكره ومخالفة رسوله سبب لتعذيبهم والله اعلم وفيه اشارة الى ان التولي عن الحق إفساد والله اعلم ـ قال المفسرون قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا فى ابراهيم عليه‌السلام فزعمت النصارى انه كان نصرانيا وهم على دينه واولى الناس به وقالت اليهود بل كان يهوديا وهم على دينه واولى الناس به فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا الفريقين برىء من ابراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وانا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود ما تريد الا ان نتخذك ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ربا وقالت النصارى يا محمد ما تريد الا ان نقول فيك ما قالت اليهود فى عزيز فانزل الله تعالى. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) الخطاب يعم اهل الكتابين (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) قال البغوي العرب تسمى كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة (سَواءٍ) مصدر بمعنى مستوية ولم يؤنث لان المصدر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ظرف متعلق بسواء يعنى لا يختلف فيه القران والتورية والإنجيل (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) يعنى لا نشرك به أحدا غيره فى العبادة لا إنسانا ولا صنما ولا ملكا ولا شيطانا محل ان رفع على إضمار هو او جريد لا من الكلمة وقيل نصب بنزع الخافض اى بان لا نعبد (وَلا نُشْرِكَ بِهِ) فى وجوب الوجود (شَيْئاً) كما فعلت اليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله فعبدوهما وقالت النصارى ثالث ثلاثة (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا) اى بعض الناس (بَعْضاً) اى بعضهم (أَرْباباً) يعنى لا يطيع بعض الناس بعضا (مِنْ دُونِ اللهِ) اى بغير اذن من الله تعالى ـ عن عدى بن حاتم انه لما نزلت اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال ا ليس كانوا

٦٣

يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك رواه الترمذي وحسنه فما كان من إطاعة الرسول فهو إطاعة الله لا غير قال الله تعالى ومن يطع الرّسول فقد أطاع الله وكذا ما كان من إطاعة العلماء والأولياء والسلاطين والحكام على مقتضى الشرع قال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وما كان منها على خلاف مقتضى الشرع فهو الاتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله عن على رضى الله عنه لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف رواه الشيخان فى الصحيحين وابو داود والنسائي وعن عمران بن حصين والحكيم بن عمرو الغفاري لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ـ ومن هاهنا يظهر انه إذا صح عند أحد حديث مرفوع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سالما عن المعارضة ولم يظهر له ناسخ وكان فتوى ابى حنيفة رحمة الله مثلا خلافه وقد ذهب على وفق الحديث أحد من الائمة الاربعة يحب عليه اتباع الحديث الثابت ولا يمنعه الجمود على مذهبه من ذلك كيلا يلزم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله روى البيهقي فى المدخل بإسناد صحيح الى عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نختار من قولهم وإذا جاء من التابعين زاحمناهم ـ وذكر عن روضة العلماء قال اتركوا قولى بخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول الصحابة ـ ونقل انه قال إذا صح الحديث فهو مذهبى ـ وانما قلت فى العمل بالحديث ان يكون ذلك الحديث قد ذهب اليه أحد من الائمة الاربعة كيلا يلزم العمل على خلاف الإجماع فان اهل السنة قد افترق بعد القرون الثلاثة او الاربعة على اربعة مذاهب ولم يبق مذهب فى فروع المسائل سوى هذه الاربعة فقد انعقد الإجماع المركب على بطلان قول يخالف كلهم وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجتمع أمتي على الضلالة وقال الله تعالى (وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) وايضا لا يحتمل كون الحديث مختفيا عن للائمة الاربعة وعن أكابر العلماء من تلامذتهم فتركهم قاطبة العمل بحديث دليل على كونه منسوخا او مأوّلا ـ (فائدة) لا يجوز لاحد ان يقول فى امر افتى علماء الشرع على حرمته او كراهته ان مشائخ

٦٤

الصوفية سنوا كذلك ونحن نتبع سنتهم والصحيح ان الصوفية الكرام ما فعلوا قط على خلاف مقتضى الشرع وانما الفساد من جهال اتباعهم (فائدة) لا يجوز ما يفعله الجهال بقبور الأولياء والشهداء من السجود والطواف حولها واتخاذ السرج والمساجد عليها ومن الاجتماع بعد الحول كالاعياد ويسمونه عرسا عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرض طفق يطرح خميصة له على وجهه فاذا اغتم كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ قالت فحذّر عن مثل ما صنعوا متفق عليه وكذا روى احمد والطيالسي عن اسامة بن زيد ـ وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ـ وروى مسلم من حديث جندب بن عبد الملك قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ان يموت بخمس وهو يقول الا لا تتخذوا القبور مساجد انى أنهاكم عن ذلك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعنى اهل الكتاب عن تلك الكلمة العادلة المستقيمة المستوية المتفق عليها الكتب والرسل (فَقُولُوا) ايها النبي والمؤمنون (اشْهَدُوا) يا اهل الكتاب (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) بالكتب السماوية كلها دونكم عن ابن عباس ان أبا سفيان بن حرب أخبره ان هرقل أرسل اليه فى ركب من قريش وكانوا ا تجارا بالشام فى المدة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش فاتوه وهم بايليا فدعاهم فى مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فاذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فان توليت فان عليك اثم الأريسيين و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) متفق عليه (فائدة) قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الاية على وفد نجران وكتابته الى هرقل وتسليمهم وعدم ردهم إياها بالإنكار وبالقول بان هذه الكلمة ليست فى كتبنا

٦٥

حجة قاطعة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكون تلك الكلمة مجمعا عليها الكتب والرسل فظهر ان قولهم بان عزيرا ابن الله وعيسى ابن الله انما كان بناء على آرائهم الفاسدة والتقليد دون الاستناد الى الكتب ومن ثم احتجوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم هل رايت إنسانا من غيراب ـ قال البيضاوي انظر الى ما روعى فى هذه القصة من المبالغة فى الإرشاد وحسن التدرّج فى الحجاج بيّن اولا احوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للالوهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم بقوله مثل عيسى عند الله كمثل آدم فلما راى عنادهم ولجاجهم دعاهم الى المباهلة بنوع من الاعجاز ثم لما راى انهم اعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل والزم بان دعاهم الى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد ذلك ايضا عليهم وعلم ان الآيات والنذر لا يغنى عنهم اعرض عن ذلك وقال اشهدوا بانّا مسلمون والله اعلم ـ روى ابن إسحاق بسنده المتكرر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال أجمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت الأحبار ما كان ابراهيم الا يهوديا وقالت النصارى ما كان الا نصرانيا فانزل الله تعالى. (يا أَهْلَ الْكِتابِ) الخطاب يعم الفريقين (لِمَ تُحَاجُّونَ) تختصمون (فِي) دين (إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) فحدث دين اليهود (وَ) ما أنزلت (الْإِنْجِيلُ) فحدث دين النصارى (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) اى بعد ابراهيم بزمان طويل كان بين ابراهيم وموسى الف سنة وبين موسى وعيسى وهو اخر أنبياء بنى إسرائيل الفا سنة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٥) بطلان قولكم لعلهم كانوا يدعون ان ابراهيم فى فروع الأعمال كان عاملا باحكام التورية او الإنجيل بل ما اخترعه الفريقان بعد موت موسى ورفع عيسى وتحريفهم الكتابين وهذا هو محل النزاع بين الفريقين وظاهر البطلان فان فروع الأعمال ينسخ فى الشرائع بعد مضى الدهور على ما هو عادة الله تعالى نظرا الى مصالح كل عصر فكيف يكون دين ابراهيم اليهودية او النصرانية ـ واما فى اصول الدين وما لا يحتمل النسخ من الفروع كحرمة العبادة لغير الله تعالى والكذب والظلم فالشرائع والملل الحقة كلها متفقة عليها لا يحتمل فيها الاختلاف والله اعلم.

٦٦

(ها أَنْتُمْ) قرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وابو عمرو حيث وقع بالمد من غير همز (١) ـ وورش اقل مد او قنبل بالهمز من غير الف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز ـ فالبزى يقصر على أصله فى المنفصل والباقون على أصولهم فى المد ـ فها للتنبيه على قراءة الكوفيين ومن معهم ـ ابو محمد والبزي وابن ذكوان وعلى قراءة قنبل أصلهءانتم أبدلت همزة الاستفهام هاء كقولهم هرقت فى ارقت فصار هانتم وكذا على قراءة ورش غير انه يبدل الهمزة الثانية الفا كما هو مذهبه عند اجتماع الهمزتين إذا كانتا مفتوحتين وعلى قراءة ابى عمرو وقالون وهشام جاز الأمر ان فان كان أصلهءانتم على الاستفهام أبدلت الهمزة الاولى هاء كما قيل على قراءة قنبل وورش وزيدت الف فاصلا بين الهمزتين على أصلهم ثم حذفت الهمزة الثانية تخفيفا على قراءة ابى عمرو وقالون وبقيت على قراءة هشام ـ وان كان أصله ها أنتم على الخبر فلا تغير فى قراءة هشام وعند ابى عمرو وقالون حذفت الهمزة تخفيفا فالكلام اما استفهام إنكاري ـ او تنبيه عن حالهم الذي غفلوا عنه ـ وأنتم مبتدا و (هؤُلاءِ) خبره وما بعده جملة اخرى مبيّنة للاولى وجاز ان يكون هؤلاء منادى بحذف حرف النداء والجملة التالية خبر لانتم تقديره يا هؤلاء أنتم أو ها أنتم (حاجَجْتُمْ) اى خاصمتم وقيل هؤلاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر لانتم ـ قال نحاة الكوفة جاز وضع اسم الاشارة موضع الموصول يعنىءانتم او ها أنتم الذي جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من امر موسى وعيسى وادعيتم انكم على دينهم وقد علمتم ما كان دينهم من التورية والإنجيل وان كنتم لبستم بعض ما هو فى التورية والإنجيل من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وان دين موسى وعيسى سينسخ بدين محمد النبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان فافتضحتم فيه بإظهاره تعالى ما لبستموه مع علمكم بما فى التورية والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) ايها الحمقاء الغافلون عن ظهور بطلان قولكم (فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من دين ابراهيم وشريعته حيث لم يذكر فى التورية والإنجيل دينه وملته وكان قبلكم بالوف سنين (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما انزل على كل نبى من الاحكام (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٦٦) الا ما علمكم الله فى كتابكم بل أنتم لا تعلمون أصلا حيث تركتم ما انزل الله عليكم ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم حتى لم تؤمنوا بمحمد وقد أخذ الله ميثاقكم فتفتضحون فى تلك

__________________

(١) هكذا فى التيسير للداني ومعناه انه قرا قالون وابو عمرو وابو جعفر بألف بعد الهاء وهمزة مسهلة وهم فى المد على أصولهم وورش لطريق الا رزق بهمزة مسهلة من غير الف ومد وبابدال الهمزة انا مع مد اللازم ـ ابو عبد عفا الله عنه

٦٧

المحاجة بالطريق الاولى إذ لا يصلح محاجة الجاهل العالم ـ وفيه تنبيه على ان محاجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحيحة لكونه عالما بتعليم الله تعالى ثم بين الله تعالى دين ابراهيم فقال. (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) يعنى ما كان دين ابراهيم موافقا لدين موسى وعيسى فى كثير من الفروع (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن العقائد الزائغة وقيل الحنيف الذي يوحد ويضحى ويختن ويستقبل الكعبة ولم يكن ذلك فى اليهود والنصارى (مُسْلِماً) منقاد الله تعالى فيما امر به غير متبع لهواه وأنتم لا تنقادون ما أمركم الله به حيث لا تؤمنون بالنبي الأمي الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية والإنجيل وتشركون بالله فتقولون ثالث ثلاثة وتقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله فكيف تدعون انكم على دين ابراهيم وملته (وَما كانَ) ابراهيم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) بل كان من الموحدين. (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) اولى مشتق من الولي بمعنى القريب يعنى أخصهم وأقربهم دينا (بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمته حيث كانوا على دينه بلا شبهة (وَهذَا النَّبِيُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموافقتهم لابراهيم فى اكثر الشرائع فانهم يوحدون ويضحون ويختتنون ويصلون الى الكعبة ويحجون ويعتمرون ويتمون بكلمات ابتلى بها ابراهيم ربّه فاتمّهنّ (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانهم يومنون بجميع الأنبياء من أولهم الى آخرهم بخلاف اليهود والنصارى ـ قال البغوي روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده انه لما هاجر جعفر بن ابى طالب وأناس من اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الحبشة وهاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة وكان وقعة بدر اجتمعت قريش فى دار الندوة وقالوا ان لنا فى الذين هم عند النجاشي من اصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثار ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا واهدوه الى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوى رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن ابى معيط مع الهدايا الادم وغيره فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجد اله

٦٨

وسلما عليه وقالا له ان قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وانهم بعثوا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم انه رسول الله ولم يتابعه منا أحد الا السفهاء وانا كنا قد ضيّقنا عليهم والجأناهم الى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم قالوا واية ذلك انهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك الناس رغبة عن دينك وسنتك ـ قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بإذن الله وذمته ـ فنظر عمرو بن العاص الى صاحبه فقال الا تسمع كيف يرطنون اى يكلمون ـ منه رح بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك ـ ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له ـ فقال عمرو بن العاص الا ترى انهم يستكبرون ان يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم ان تسجدوا لى وتحيونى بالتحية التي يحيينى بها من أتاني من الآفاق ـ قالوا نسجد لله الذي خلقك وملّكك وانما كانت تلك التحية ونحن نعبد الأصنام فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهى السلام تحية اهل الجنة فعرف النجاشي ان ذلك حق وانه فى التورية والإنجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر انا قال فتكلم قال انك ملك من ملوك اهل الأرض ومن اهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وانا أحب ان أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الاخر فتسمع محاورتنا ـ فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشى سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار قال بل أحرار كرام قال النجاشي نجوا من العبودية ـ ثم قال جعفر سل هما هل اهرقنا دما بغير حق فيقتص مئا قال عمرو لا ولا قطرة قال جعفر سل هل أخذنا اموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي ان كان قنطارا فعلىّ قضاؤه قال عمرو لا ولا قيراطا ـ قال النجاشي فما تطلبون منهم قال عمرو كنا وهم على دين واحد وامر واحد على دين ابائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا فقال النجاشي

٦٩

ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه اصدقنى ـ قال جعفر اما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة واما الذي تحولنا اليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له ـ فقال له النجاشي تكلمت بامر عظيم فعلى رسلك ثم امر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع اليه كل قسّيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم الله الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا ـ قالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى وقال من أمن به فقد أمن بي ومن كفر به فقد كفر بي ـ فقال النجاشي لجعفر ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه قال يقرا علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمر بان نعبد الله وحده لا شريك له قال اقرأ علىّ مما يقرا عليكم ـ فقرا عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع فقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرا عليهم سورة الكهف ـ فاراد عمرو ان يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وامه ـ فقال ما تقولون فى عيسى وامه فقرا عليهم سورة مريم فلما اتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذى العين قال والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا ـ ثم اقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فانتم سيوم كلمة حبشية بمعنى امنون ـ منه رح بأرضى يقول امنون من سبكم او اذاكم غرّم ثم قال ابشروا ولا تخافوا فلاد هورة (١) اليوم على حزب ابراهيم ـ قال عمرو يا نجاشى ومن حزب ابراهيم ـ قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فانكر ذلك المشركون وادعوا فى دين ابراهيم ـ ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال انما هديتكم الىّ رشوة فاقبضوها فان الله ملّكنى ولم يأخذ منى رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا فى خير دار وأكرم جوار وانزل الله تعالى ذلك اليوم على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خصومتهم فى ابراهيم وهو بالمدينة قوله عزوجل انّ اولى النّاس الاية ـ. (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) نزلت فى معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهم حين دعاهم اليهود الى دينهم ـ يعنى تمنت جماعة

__________________

(١) الدهورة جمعك الشيء وقد فك فى مهواة كانه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم والواو زائدة ـ نهاية جزرى منه رحمه‌الله

٧٠

من اليهود (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) عن دينكم ويردونكم الى الكفر ـ لو مصدرية بمعنى ان عاملة فى المعنى دون اللفظ فى محل النصب لودّت ـ او هى للتمنى بيان للوداد (وَما يُضِلُّونَ) أحدا (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعنى انما يعود وبال الإضلال الى أنفسهم فيضاعف لهم العذاب والمسلمون محفوظون من شرهم بحفظ الله تعالى فلا يلزم إضلال الضال (وَما يَشْعُرُونَ) (٦٩) ان اضرارهم يعود إليهم. (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الناطقة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته فى التورية والإنجيل او بالقران (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٧٠) اى تعترفون فيما بينكم على سبيل الكتمان انه نبى حق مذكور نعته فى التورية والإنجيل او أنتم تعلمون بالمعجزات انه نبى حق. (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) اى تخلطون الحق الذي انزل على موسى من آيات التورية بالباطل الذي كتبته ايديكم بالتحريف (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) النازل فى التورية من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١) ذلك وتفعلون ما تفعلون عمدا وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال عبد الله بن الضيف وعدى بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض نؤمن بما انزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى يلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فانزل الله تعالى فيهم يا أهل الكتب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون. (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الى قوله واسع عليم (آمِنُوا) يعنى أظهروا الايمان باللسان (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى بالقران (وَجْهَ النَّهارِ) يعنى اوله فانه أول ما يواجه (وَاكْفُرُوا) به (آخِرَهُ) يعنى اخر النهار وقولوا انا نظرنا فى كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا (١) ليس بذاك وظهر لنا كذبه (لَعَلَّهُمْ) اى المسلمون يشكّون فى دينهم و (يَرْجِعُونَ) (٧٢) عن دينهم ظنّا منهم بانكم رجعتم لخلل ظهر لكم ـ قال البغوي قال الحسن تواطأ على ذلك اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة ـ وكذا اخرج ابن جرير عن السدى ـ وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا فى شأن القبلة لما صرفت الى الكعبة شق ذلك على اليهود وقال كعب بن الأشرف وأصحابه أمنوا بامر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا الى قبلتكم اخر النهار

__________________

(١) فى الأصل محمد ـ.

٧١

(وَلا تُؤْمِنُوا) عطف على أمنوا بالّذى انزل يعنى لا تؤمنوا حقيقة الايمان بمواطاة القلب ولا تصدقوا لاحد (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) اى لاهل دينكم ـ او المعنى لا تظهروا ايمانكم وجه النهار الا لمن كان على دينكم قبل ذلك فان رجوعهم أرجى وأهم ـ وجاز ان يكون لا تؤمنوا بيانا لا كفروا والمعنى واكفروا اخر النهار ولا تؤمنوا اخر النهار الا لاهل دينكم (قُلْ) يا محمد للكفار (إِنَّ الْهُدى) الذي اعطى المسلمين (هُدَى اللهِ) لا تستطيعون ان تطفؤا نور الله بأفواهكم والله متم نوره فلا يضر المؤمنين مكركم ـ او المعنى قل يا محمد لنفسك وللمؤمنين انّ الهدى هدى الله لا يضركم كيد كائد (أَنْ يُؤْتى) قرا ابن كثير بالمد (١) على الاستفهام والباقون بلا مد على الخبر ـ متعلق بمحذوف يعنى مكرتم ذلك المكر حسدا او امكرتم لان يؤتى (أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من الكتاب والحكمة (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على يؤتى منصوب بان والضمير المرفوع عائد الى أحد وهو وان كان مفردا لفظا لكنه جمع معنى بمعونة المقام لانه فى حيز النفي او الاستفهام يعنى او مكرتم لان يغلبكم أحد (عِنْدَ رَبِّكُمْ) يوم القيامة لكونهم على الهدى دونكم يعنى ان الحسد حملكم على ذلك المكر ولا ينبغى ذلك المكر والحسد وجاز ان يكون ان يؤتى متعلقا بلا تؤمنوا وعلى هذا ثلاث تأويلات أحدها ان يكون اللام فى لمن تبع دينكم زائدة كما فى قوله تعالى ردف لكم اى ردفكم والمستثنى منه أحد فاعل يؤتى والمستثنى مقدم عليه واو فى او يحاجّوكم بمعنى الواو لكونه فى حيز النفي نحو لا تطع منهم اثما او كفورا والمعنى لا تصدقوا ولا تقرّوا بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الا من تبع دينكم ولا تصدقوا بان يغلبكم أحد عند ريكم ـ ثانيها ان يكون اللام للانتفاع او زائدة والاستثناء مفرغ واحد فى قوله تعالى ان يؤتى أحد مظهر موضع المضمر ابرز لحذف المرجع من الصدر والمعنى لا تصدقوا أحدا او لا تقروا لاحد اى فى حق أحد الا لمن تبع دينكم يعنى الا من تبع دينكم او الا فى حق من تبع دينكم بان يؤتى ذلك الأحد مثل ما أوتيتم او بان يغلبكم أحد عند ربكم لانكم أصح دينا هذا على قراءة الجمهور واما على قراءة ابن كثير فمعناه أتصدقون وتقرون بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإقرار والتصديق منكم وهذا معنى قول مجاهد وثالثها ان تكون لا تؤمنوا بمعنى لا تظهروا

__________________

(١) اى بالهمزتين محققة ومسهلة والباقون بهمزة واحدة محققة ـ ابو محمد عفا الله عنه

٧٢

واللام صلة والمعنى لا تظهروا ايمانكم بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم الا لمن تبع دينكم يعنى إلا خفية لاشياعكم ولا تفشوه الى المسلمين كيلا يزيد ثباتهم ولا الى المشركين كيلا يدعوهم الى الإسلام ـ ومعناه على قراءة ابن كثير ا تظهرون عند غيركم ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإظهار ـ وعلى هذه التأويلات جملة قل انّ الهدى هدى الله معترضة لبيان ان كيدهم لا يفيدهم ولا يضر بالمسلمين وعلى قراءة الجمهور جاز ان يكون ان يؤتى خبر انّ على ان هدى الله بدل عن الهدى واو فى او يحاجّوكم بمعنى حتى والمعنى ان هدى الله الإيتاء لمن شاء من أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب حتى يغلبوكم يوم القيامة عند ربكم ـ وقيل معناه قالت اليهود لسفلتهم لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم ان يؤتى اى لئلا يؤتى كما فى قوله تعالى يبيّن الله لكم ان تضلّوا اى لئلا تضلوا يعنى لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم بالعلم ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرفتم ان ديننا حق ولم تؤمنوا وهذا معنى قول ابن جريح وهو ابعد التأويلات (قُلْ) يا محمد لليهود (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) لا بايديكم (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وقد اتى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (وَاللهُ واسِعٌ) الفضل (عَلِيمٌ) (٧٣) بمن هو اهل له. (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) ونبوته (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤). (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعنى عبد الله بن سلام وأشباهه مؤمنى اهل الكتاب (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) اى مال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) لاجل ديانتهم وايمانهم قال البغوي قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما ان رجلا أودع عبد الله بن سلام الفا ومائتى اوقية من ذهب فاداه (وَمِنْهُمْ) يعنى كعب بن الأشرف وأشباهه من كفار اليهود كذا قال مقاتل (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) قال البغوي استودع رجل من قريش فخاص بن عازورا من اليهود دينارا فخانه قرا ابو عمرو وابو جعفر بخلاف عنه ـ او محمد وابو بكر وحمزة يؤدّه ولا يؤدّه إليك ونؤته منها فى الموضعين وفى النساء نولّه ونصله وفى الشورى نؤته منها بإسكان الهاء فى السبعة لان الهاء وضعت موضع الجزم وهو الياء الذاهب وقرا قالون وابو جعفر ويعقوب باختلاس كسرة الهاء اعتبروا الياء الساكنة المحذوفة موجودة والهاء بعد الحرف الساكن

٧٣

يختلس حركته وكذا عن هشام بخلاف عنه ـ ابو محمد فى الباب كله وقرا الباقون بإشباع الكسرة لان الأصل فى الهاء بعد المتحرك الإشباع والوقف للجميع بالإسكان (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) قال ابن عباس قائما اى ملحا يقال يقوم عليه يعنى يطالبه بالالحاح والتقاضي والترافع الى الحكام (ذلِكَ) اى عدم الأداء والاستحلال (بِأَنَّهُمْ) اى بسبب ان اليهود الكفار (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) اى فى شأن من ليس باهل الكتاب (سَبِيلٌ) اى سبيل مؤاخذة عند الله قالوا اموال العرب حلال لنا لانهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم فى كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم فى الدين (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ان الله أحل لهم ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) انهم يكذبون. (بَلى) يعنى ليس كما قالوا بل عليهم سبيل فى المؤمنين او عصمة المال بالايمان او عقد الذمة ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله متفق عليه من حديث ابى موسى وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فان هم أبوا يعنى ان كان الكفار أبوا عن الإسلام فسل هم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم متفق عليه فى حديث طويل من حديث سليمان بن بريد عن أبيه (مَنْ) شرطية او موصولة (أَوْفى بِعَهْدِهِ) الضمير المجرور راجع الى من يعنى بعهده الذي عاهد رب المال بأداء الامانة ـ او راجع الى الله تعالى اى عهد الله عهد اليه فى التورية من الايمان بجميع الأنبياء وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقران وأداء الامانة (وَاتَّقى) الكفر والخيانة (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٢) وضع المظهر موضع الضمير اشعارا بان التقوى ملاك الأمر كله وهو يعم الوفاء بالعهد وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي ولذلك العموم ناب مناب الراجع الى من اوفى ـ والجملة مستأنفة مقررة لجملة سدت بلى مسدها عن عبد الله بن عمرو ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ـ متفق عليه وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اية المنافق ثلاث زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا إذا حدث

٧٤

كذب وإذا وعدا خلف وإذ اؤتمن خان ـ والله اعلم ـ روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان فانزل الله تعالى تصديق ذلك. (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الاية ـ فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم ابو عبد الرحمن فقالوا كذا وكذا فقال فىّ نزلت كانت لى بير فى ارض ابن عم لى فاتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بينتك او يمينه قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان كذا روى البغوي بسنده من طريق البخاري وفى رواية ابى داود وابن ماجة وغيرهما عن الأشعث بن قيس قال كان بينى وبين رجل من اليهود ارض فجحدنى فقدّمته الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ألك بينة قلت لا قال لليهودى احلف قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بما لى فانزل الله تعالى هذه الاية وروى البخاري عن عبد الله بن ابى اوفى ان رجلا اقام سلعة وهو فى السوق فحلف بالله لقد اعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الاية قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري لا منافاة بين الحديثين بل يحمل ان النزول كان بالسببين جميعا والمعنى ان الذين يشترون بعهد الله فى أداء الامانة وايمانهم الكاذبة ثمنا قليلا يعنى شيئا من متاع الدنيا قليلا كان او كثيرا فانها بالنسبة الى نعماء الجنة قليل جدا ـ واخرج ابن جرير عن عكرمة ان الاية نزلت فى حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين يكتمون ما انزل الله فى التورية فى شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدلوه وكتبوه بايديهم غيره وحلفوا انه من عند الله لئلا يفوتهم المأكل والرشى التي كانت لهم من اتباعهم ـ قال ابن حجر والاية محتملة لكن العمدة فى ذلك ما ثبت فى الصحيح ـ قلت سياق الكلام يقتضى صحة ما روى ابن جرير عن عكرمة والحديثين المذكورين فى الصحيحين لا ينافيان رواية ابن جرير كما لا يتنافيان لجواز كون اسباب النزول كلها جميعا والله اعلم وعن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة

٧٥

الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبنى على ارض لى فقال الكندي هى ارضى وفى يدى ليس له فيها حق فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحضرمى ألك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول الله ان الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه فليس يتورع من شىء قال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض ـ رواه مسلم وفى رواية هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان ـ وفى رواية لابى داود انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يقطع أحد مالا بيمين الا لقى الله وهو اجزم فقال الكندي هى ارضه وقال البغوي روى انه لما هم الكندي ان يحلف نزلت هذه الاية فامتنع امرا القيس ان يحلف وأقر لخصمه ودفعها اليه (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) اى لا نصيب لهم (فِي) نعيم (الْآخِرَةِ) عن ابى امامة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وان كان قضيبا من أراك رواه مسلم ـ وفى رواية قالها ثلاثا (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قيل معناه لا يكلمهم الله كلاما يسرهم ولا ينظر إليهم نظر رحمة والصحيح ان هذا كناية عن الغضب والاعراض فكانّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث عبد الله والأشعث لقى الله وهو عليه غضبان وفى حديث وائل ليلقين الله وهو عنه معرض تفسير لهذين الجملتين (وَلا يُزَكِّيهِمْ) اى لا يثنى عليهم والظاهر ان معناه لا يغفر الله ذنبه لانه من حقوق العباد وفيه القصاص لا محالة ـ عن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدواوين ثلاثة فديوان لا يعبا الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفر الله اما الديوان الذي لا يغفر الله فهو الشرك واما الديوان الذي لا يعبا الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه او صلوة تركها واما الديوان الذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة رواه الحاكم واحمد وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وابى هريرة والبزار مثله من حديث انس ـ وان كان الاية فى اليهود فى كتمان نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعدم المغفرة لاجل كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧) على ما فعلوه عن ابى ذر

٧٦

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكّيهم ولهم عذاب اليم قال فقراها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا فقال أبو ذر خابوا وخسروا منهم يا رسول الله قال المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطى شيئا الا منة والمنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم واحمد وابو داود والترمذي والنسائي ـ وعن ابى هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لاخذه بكذا وكذا فصدّقه وهو على غير ذلك ورجل بايع اماما لا يبايعه الا للدنيا فان أعطاه منها وفى وان لم يعط منها لم يف ـ متفق عليه ورواه احمد والاربعة وفى رواية متفق عليها عنه مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد اعطى بها اكثر مما اعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ورجل منع فضل مائة فيقول الله اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم يعمل يداك وعن سلمان نحوه بلفظ شيخ زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشترى الا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني والبيهقي وروى الطبراني عن عصمة بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه. (وَإِنَّ مِنْهُمْ) اى من اهل الكتاب (لَفَرِيقاً) طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وحيى بن اخطب وابو ياسر وسفنة بن عمرو الشاعر (يَلْوُونَ) اى يصرفون (أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) اى متلبسا بقراءة الكتاب عن المنزل الى ما حرفوه (لِتَحْسَبُوهُ) اى لتظنوا ايها المؤمنون ذلك المحرف المفهوم من قوله تعالى يلون كائنا (مِنَ الْكِتابِ) المنزل (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) المنزل (وَيَقُولُونَ) اى اليهود تصريحا (هُوَ) اى ذلك المحرف كائن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه تشنيع عليهم (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لما سبق يعنى ما هو من الكتاب (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨) انه كذب تأكيد بعد تأكيد وتسجيل عليهم بتعمد الكذب على الله قال الضحاك عن ابن عباس ان الاية نزلت فى اليهود والنصارى جميعا وذلك انهم حرفوا التورية والإنجيل والحقوا بكتاب الله ما ليس منه ـ اخرج إسحاق وابن جرير

٧٧

وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال قال ابو رافع القرظي (حين اجتمعت أحبار اليهود والنصارى من اهل نجران عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم الى الإسلام) أتريد يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى قال معاذ الله ان امر بعبادة غير الله ما لذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فانزل الله تعالى ما كان لبشر الى قوله مسلمون ـ واخرج عبد فى تفسيره عن الحسن قال بلغني ان رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ا فلا نسجد لك قال لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لاهله فانه لا ينبغى ان يسجد لاحد من دون الله فانزل الله تعالى هذه الاية ـ وقال مقاتل والضحاك كان نصارى نجران يقولون ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا فانزل الله تعالى. (ما كانَ) جائز (لِبَشَرٍ) يعنى لمحمد ولا لعيسى صلى الله عليهما ـ والبشر اسم جنس كالانسان ذكرا كان او أنثى واحدا كان او جمعا وقد يثنى كما فى قوله تعالى أنؤمن لبشرين مثلنا ويجمع ابشارا كذا فى القاموس وقال البغوي البشر جميع ابن آدم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) يعنى الحكمة والسنة او إمضاء الحكم (وَالنُّبُوَّةَ (١) ثُمَّ يَقُولَ) عطف على يؤتى منصوب بان (لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) اى من دون توحيد الله ـ وفيه اشارة الى ان عبادة غير الله تنافى عبادة الله وعبادته منحصر فى توحيده ـ وان فى محل الرفع على انه اسم كان يعنى ما كان إيتاء الكتاب والنبوة وبعد ذلك القول بعبادة غير الله جائزا لبشر لمنافاة بين النبوة التي هى دعاء الناس الى الايمان بالله وحده وهذا القول الذي هو دعاء الى الشرك (وَلكِنْ) عطف على يقول بتقدير القول يعنى ولكن يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وجاز ان يكون ولكن كونوا معطوفا على مفهوم ما سبق فانه يفهم منه لا تكونوا قائلين للناس كونوا عبادا لى ولكن كونوا ربانيين مبلغين ما أتاكم ربكم ـ قال على وابن عباس فى تفسير قوله تعالى كونوا ربانيين كونوا فقهاء علماء وقال قتادة حكماء علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين وقال عطاء علماء حلماء نصحا لله فى خلقه وعن سعيد بن جبير الذي يعمل بعلمه وقال ابو عبيد سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهى العارف بانباء الامة ما كان وما يكون وقيل الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين

__________________

(١) ترك فى الأصل والنبوة لعله من الناسخ ـ ابو محمد عفا الله عنه

٧٨

جمعوا بين العلم والبصارة بين الناس وحاصل الأقوال الرباني الكامل المكمل فى العلم والعمل والإخلاص ومراتب القرب سمى بذلك لانهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين لصغار العلوم قبل كبارها وكل من قام بإصلاح شىء وإتمامه فقد ربه يربه وعن على انه يرب علمه بعمله واحده ربان كما يقال ريان وعطشان ثم ضمت اليه ياء النسبة ـ وقيل هو منسوب الى الرب بزيادة الالف والنون للمبالغة كاللحيانى لعظيم اللحية والرقبانى لعظيم الرقبة وطويلهما إذ لو أريد النسبة الى اللحية والرقبة بدون المبالغة لقيل لحيى ورقبى ـ قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس مات ربانى هذه الامة (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) قرا الكوفيون وابن عامر بالتشديد من التعليم اى يعلمون الناس والباقون بالتخفيف من علم (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩) اى تديمون على قراءة الكتاب ويحفظونه وجاز ان يكون معناه تدرسونه على الناس فيكون بمعنى تعلّمون من التعليم ـ قال فى الصحاح درس الدار معناه بقي اثرها ودرس الكتب والعلم اى تناول اثره بالحفظ ـ ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن ادامة القراءة بالدرس قال الله تعالى ودرسوا ما فيه وبما كنتم تدرسون يعنى تديمون القراءة وتحفظون وقوله بما كنتم متعلق بقوله كونوا وما مصدرية والمعنى كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين الكتاب ومعلميه الناس دائمين على قراءته وحفظه فان فائدة العلم العمل به وإصلاح نفسه وفائدة التعليم إصلاح غيره وذلك فرع إصلاح نفسه لئلا يخاطب بقوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقوله تعالى أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم. (وَلا يَأْمُرَكُمْ) قرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وابن كثير وابو عمرو والكسائي بالرفع على الاستيناف يعنى ولا يأمركم الله وجاز ان يكون حالا من فاعل يقول يعنى يأمركم بعبادة نفسه والحال انه لا يأمركم بل ينهى من (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) وقرا ابن عامر ويعقوب وخلف ـ ابو محمد وعاصم وحمزة لا يأمركم بالنصب عطفا على قوله ثم يقول ويكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي فى قوله ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتب والحكم والنّبوّة ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر ان يتخذ الملائكة والنبيين أربابا كما فعل قريش والصابئون حيث قالوا الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وجاز ان يكون لا غير

٧٩

زائدة والمعنى ليس له ان يأمر بعبادته ولا يأمر بل ينهى باتخاذ اكفائه من الأنبياء والملائكة أربابا (أَيَأْمُرُكُمْ) استفهام على التعجب والإنكار (بِالْكُفْرِ) يعنى بعبادة غير الله تعالى (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠) بالله تعالى ـ ان كان الخطاب مع المسلمين المستأذنين السجود للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه الحسن فلا غبار عليه وكذا ان كان رد القول النصارى ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا لانهم كانوا مسلمين فى زمن عيسى عليه‌السلام واما على تقدير كونه خطابا لليهود والنصارى القائلين أتريد يا محمد ان نعبدك فتأويله ان هذا الخطاب على سبيل الفرض والتقدير يعنى على تقدير ان تسلموا وتنقاد والأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيأمركم حينئذ بالكفر بعد الإسلام ـ. (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) أراد ان الله أخذ الميثاق من كل نبى ان يؤمن بمن بعده ويأمر أمته ان يتبعوه وهذا معنى قول ابن عباس وقال على بن ابى طالب لم يبعث الله نبيّا آدم ومن بعده الا أخذ عليه العهد فى امر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذ العهد على قومه لتؤمنن به ولئن بعث وهم احياء لينصرنه ـ وقيل معناه أخذ الله ميثاق اهل الكتاب ففى الكلام اما حذف مضاف تقديره أخذ الله ميثاق أولاد النبيّين وهم بنو إسرائيل اهل الكتاب واما سماهم نبيين تهكما لانهم كانوا يقولون نحن اولى بالنبوة من محمد لانا اهل الكتاب والنبيون كانوا منا ـ واما اضافة الميثاق الى النبيين اضافة الى الفاعل والمعنى إذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم ويؤيده قراءة ابن مسعود وابى بن كعب وإذ أخذ الله ميثاق الّذين أوتوا الكتب والصحيح هو المعنى الاول المنطوق من القراءة المتواترة فاخذ الله الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن عيسى ان يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن ثم قال عيسى يبنى اسراءيل انّى رسول الله إليكم مصدّقا لمّا بين يدىّ من التّورية ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد والقراءة المتواترة لا ينافى قراءة ابن مسعود لان العهد من المتبوع عهد من التابع (لَما آتَيْتُكُمْ) قرا حمزة بكسر اللام على انها جارة وما مصدرية اى لاجل ايتائى إياكم بعض الكتاب ثم مجيىء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق

٨٠