التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

١

نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وبه على جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين

(سورة ال عمران) مدنية وايها مائتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربّ يسّر وتمّم بالخير اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع بن انس ان النصارى أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخاصموه فى عيسى فانزل (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الى بضع (١) وثمانين اية من ال عمران وقال ابن إسحاق حدثنى محمد بن سهل بن ابى امامة قال لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسئلونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة ال عمران الى رأس الثمانين منها كذا اخرج البيهقي فى الدلائل وكذا قال البغوي عن الكلبي والربيع بن انس وغيرهما نزلت هذه الآيات فى وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم اربعة عشر رجلا من اشرافهم وفى الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤل أمرهم العاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الا بهم وابو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم ـ دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب حبرات جبب وأردية فى جمال رجال لحارث بن كعب يقول من راهم ما راينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلوة فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) قلت الظاهر انها اربعة وثمانون اية الى قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وبعد ذلك قوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) وما بعده نزلت فى رجال ارتدوا كما سيذكر ـ منه برد الله مضجعه الخطبة ١٢ الناشر

٢

دعوهم فصلوا الى المشرق ـ فكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلما فقالا قد اسلمنا قبلك قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاءكما لله ولدا وعبادتكم الصليب وأكلكما الخنزير قالا ان لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا فى عيسى عليه‌السلام فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا لستم تعلمون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يأتى عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شىء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا قال ألستم تعلمون ان الله تعالى (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى عليه‌السلام من ذلك الا ما علم قالوا لا قال فان ربنا صور عيسى عليه‌السلام فى الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم ويشرب ويحدث قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فانزل الله صدر سورة ال عمران الى بضع وثمانين اية منها فقال عز من قائل (الم (١) اللهُ) قرا ابو يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى عن ابى بكر الم مقطوعا بسكون الميم على الوقف كما هو فى سائر المقطعات ثم قطع الهمزة للابتداء وقرا الجمهور بالوصل (١) مفتوح الميم فعند سيبويه فتح الميم لالتقاء الساكنين الميم ولام الله لا يقال ان التقاء الساكنين غير محذور فى باب الوقف لانا نقول ان الوقف ليس مرويا عند الجمهور وانما هو على قراءة ابى يوسف يعقوب كما ذكر وفى صورة الوقف كما قرا يعقوب يتحمل التقاء الياء والميم الساكنين فى كلمه ميم دون التقاء ثلاث ساكنات وحركت الميم بالفتح لكونها أخف الحركات ولم تكسر لاجل الياء وكسر الميم قبلها تحاميا عن توالى الكسرات وقال الزمخشري انما هى فتحة همزة الوصل من الله نقلت الى الميم وانما جاز ذلك مع ان الأصل فى همزة الوصل إسقاطها مع حركتها لان الميم كان حقها الوقف ومقتضى الوقف ابقاء همزة الوصل كما قراء به يعقوب لكنها أسقطت للتخفيف فابقيت حركتها لتدل على انها فى حكم الثابت ونظرا على ان الميم فى حكم الموقوف وليس بموقوف اجمع القراء على جواز المد الطويل فى مد الميم بقدرست حركات والمد القصير بقدر حركتين والله اعلم ـ والله مبتدا وخبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر لا محذوف تقديره لا اله فى الوجود الا هو والمستثنى فى موضع الرفع بدل

__________________

(١) والحق ان الوقف بمد الطويل والوصل بالقصر والمد جائز ان للكل

٣

من موضع لا واسمه (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢) بدل من هو او خبر مبتدا محذوف اى هو الحي القيوم وقد ذكرنا شرح الاسمين فى اية الكرسي ـ اخرج ابن ابى شيبة والطبراني وابن مردوية من حديث ابى امامة مرفوعا اسم الله تعالى الأعظم فى ثلاث سور البقرة وال عمران وطه قال القاسم صاحب ابى امامة فالتمستها فوجدت انه الحي القيوم لاجل اية الكرسي فى البقرة وهذه الاية فى ال عمران وو عنت الوجوه للحىّ القيّوم فى طه وقال الجزري صاحب الحصين وعندى انه لا اله الّا هو الحىّ القيّوم قلت عندى هو لا اله الا هو جمعا بين حديث ابى امامة هذا وحديث اسماء بنت يزيد قالت (١) سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فى هاتين الآيتين اسم الله الأعظم (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) و (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة والدارمي وحديث سعد بن ابى وقاص قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوة ذى النون إذا دعا ربه وهو فى بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يدع بها رجل مسلم فى شىء الا استجاب له رواه احمد والترمذي ـ وفى المستدرك للحاكم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وحديث يزيد ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقول اللهم انى أسئلك بانى اشهد ان لا اله الّا أنت الأحد الصّمد الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ـ فقال دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به اعطى وإذا دعى به أجاب رواه احمد واصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ـ وروى هؤلاء الجماعة كلهم عن انس قال كنت جالسا فى المسجد ورجل يصلى فقال اللهم انى أسئلك بان لك الحمد لا اله الا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حى يا قيوم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى ولم يذكر ابن ابى شيبة يا حى يا قيوم قلت فهذه الأحاديث كلها يقتضى ان الاسم الأعظم انما هو القدر المشترك بينها وذلك هو التهليل النفي والإثبات ـ ولا اله الا هو موجود فى السور الثلاث البقرة وال عمران وكذا فى طه الله لا اله الّا هو له الأسماء الحسنى وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا اله الا الله هو أفضل الذكر رواه الترمذي وغيره من حديث جابر مرفوعا وهو مفتاح الجنة رواه احمد عن معاذ مرفوعا وقد تواتر معناه ـ

__________________

(١) فى الأصل قال ـ ابو محمد عفا الله عنه

٤

((فائدة)) وردت صيغة التهليل فى أحاديث اسم الله الأعظم بلفظ لا اله الّا هو او لا اله الّا أنت وهذا اللفظ ارفع درجة من لفظ لا اله الا الله لان الضمائر وضعت للذات البحت ففى كلمة لا اله الا هو ينتقل الذهن اولا الى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء وصفة من الصفات وشأن من الشئونات وكلمة الله وان كان اسما للذات لكن الذهن هناك ينتقل اولا الى الاسم وثانيا الى المسمى وقد ينتقل الذهن من حيث الاشتقاق الى معنى الالوهية فيكون من اسماء الصفات غير ان صفة الالوهية يستدعى الاتصاف بجميع صفات الكمال والتنزه عن جميع شوائب النقص والزوال فيكون أتم وأشمل من سائر اسماء الصفات ـ والصوفية العلية انما اختاروا كلمة لا اله الا الله لاجل المبتدى فان المبتدى لا سبيل له الى الذات البحت الا بتوسط اسم من الأسماء او صفة من الصفات ـ قلت ولعل وجه كون النفي والإثبات أعظم الأسماء ان اثبات الالوهية له تعالى يقتضى اثبات جميع صفات الكمال له تعالى باقتضاء ذاته وسلب جميع النقائص عنه كذلك فانه من ليس كذلك لا يستحق العبادة ـ ونفى الالوهية عما عداه يقتضى حصر تلك الصفات الايجابية والسلبية فيه تعالى فهو أعظم الأسماء وأشملها والله اعلم. (نَزَّلَ) اى هو نزل (عَلَيْكَ الْكِتابَ) اى القران نجوما فان التفعيل للتكثير (بِالْحَقِ) حال من الكتاب اى متلبسا بالصدق فى اخباره او بالدين الذي هو الحق عند الله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) اى لما قبله من الكتب فكان من حقه ان يؤمن به كل من أمن بما قبله فهو حجة على النصارى واليهود حين كفروا به (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣) جملة ومن ثم عدل هاهنا من التنزيل الى الانزال فان الانزال أعم منه ـ قرا ابو عمرو وابن ذكوان والكسائي التّورية بالامالة فى جميع القران ونافع وحمزة بين بين والباقون بالفتح ـ والتورية اسم عبرانى للكتاب الذي انزل على موسى عليه‌السلام والإنجيل اسم سريانى للكتاب الذي انزل على عيسى عليه‌السلام وليست الكلمتان عربيتان فمن قال انه فوعلة او تفعلة من ورى الزند وافعيل من النجل فقد تكلف. (مِنْ قَبْلُ) اى قبل تنزيل القران حتى يستعد الناس للايمان به (هُدىً لِلنَّاسِ) اى لجميع الناس ولا وجه لتخصيص الناس بقوم موسى وعيسى عليهما‌السلام فان الكتب السماوية كلها تدعوا جميع الناس الى التوحيد والايمان بجميع

٥

الأنبياء وتوجب العلم بالمبدأ والمعاد وتهدى الى سبيل الرشاد من امتثال أوامر الله تعالى والانتهاء عن المناهي ـ وتخبر التورية والإنجيل والزبور عن بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكون بعض الآيات منها منسوخة فى فروع الأعمال فى بعض الأحيان لا ينافى كونها هدى كما ان بعض آيات القران نسخت بالبعض فان النسخ لبيان مدة الحكم فالاية حجة لنا على ان شرائع من قبلنا يلزمنا على انه شريعة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الشافعي لا يلزمنا ـ وقوله هدى حال من التورية والإنجيل حمل عليهما للمبالغة او بتأويل اسم الفاعل ولم يثن لانه مصدر (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ٥ اى جنس الكتب الالهية واللام للاستغراق ـ ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كانّه قال وانزل سائر الكتب الفارقة بين الحق والباطل ـ او المراد به القران وكرر ذكره مدحا وتعظيما واظهار الفضلة فانه يشارك والجميع فى كونه منزلا من الله تعالى يتميز عما عداها باعجاز اللفظ الموجب للفرق بين المحق والمبطل ـ وانما أعاد انزل لبعد المعطوف عليه ولئلا يلتبس بالعطف على هدى مفعولا له او اشارة الى ان للقران انزالا يعنى الى السماء الدنيا ليلة القدر وتنزيلا نجما نجما على حسب الحوادث وقال السدى فى الاية تقديم وتأخير تقديرها وانزل التورية والإنجيل من قبل والفرقان هدى للناس (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) المنزلة فى شىء من الكتب (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم كما يعترف به اهل الكتاب (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يمنعه من التعذيب أحد (ذُو انْتِقامٍ) (٤) لا يقدر على مثله منتقم والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بفتح العين والكسر ـ وعيد بعد تقرير التوحيد والاشارة الى صدق الرسول بمطابقة ما جاء به الكتب السماوية وكونه معجزا ـ. (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) كائن (فِي الْأَرْضِ وَلا) شىء كائن (فِي السَّماءِ) (٥) والمراد به شىء كائن فى العالم كليّا كان او جزئيا ـ وانما عبر عن العالم بهما لان الحس لا يتجاوزهما ـ وانما قدم الأرض على السماء لان المقصود بالذكر انه تعالى يعلم اعمال العباد فيجازيهم عليه ـ وهذه الجملة كالدليل على كونه حيا وما بعده كالدليل على كونه قيوما اى. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) على صور

٦

وألوان وإشكال مختلفة ذكرا او أنثى على ما أراد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يعلم ولا يقدر أحد سواه الا بتعليم وأقداره على كسبه على حسب إرادته (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦) بدل من المستثنى او خبر لمبتدا محذوف اى هو العزيز الحكيم اشارة الى كمال قدرته وتناهى حكمته عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله الملك اليه بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله واجله وشقى او سعيد قال وان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها ـ وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها ـ متفق عليه ـ وعن حذيفة بن أسيد يبلّغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأربعين او بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقى او سعيد فيكتبان فيقول اى رب اذكر او أنثى فيكتبان ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص رواه البغوي. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) اى القران (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) التي أحكمت وأتقنت عباراتها بحيث لا يشتبه على سامع عالم باللغة منطوقه ولا مفهومه ولا مقتضاه اما بلا تأمل كقوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) واما بعد طلب وتأمل من غير حاجة الى بيان من الشارع كقوله تعالى (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) يظهر شموله للطرّار بأدنى تأمل لوجود معنى السرقة فيه مع زيادة وعدم شموله للنباش لنقصان معنى السرقة فيه فان السرقة أخذ مال مملوك لغيره على سبيل الخفية وكفن الميت غير مملوك لاحد فان الميت باعتبار احكام الدنيا ملحق بالجماد لا يصلح للمالكية وحق الورثة لا يتعلق الا بعد التكفين وكقوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فانه بعد التأمل يظهر انه معطوف على المغسولات لضرب الغاية فيه وقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فانه بعد التأمل يظهر ان المراد به الحيضات دون الاطهار لان الطلاق مشروع فى الطهر فلا يتصور عدد الثلاثة بلا نقصان او زيادة الا فى الحيضات وقوله تعالى (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) يظهر

٧

بالتأمل ان المراد كون صفائها كصفاء القوارير كائنا من جنس الفضة فعلى هذا دخل فى المحكم الظاهر والنص والمفسر والمحكم والخفي والمشكل على اصطلاح الأصوليين وما ذكرنا من تفسير المحكم هو للمستفاد من قول ابن عباس وهو المعنى من قول محمد بن جعفر بن الزبير ان المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد وما قيل المحكم ما يعرف معناه ويكون حجة واضحة ودلائله لائحة (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) قال فى القاموس الام الوالدة وأم كل شىء أصله وعماده وللقوم رئيسهم وكل شىء انضمت اليه أشياء قلت الكتاب هاهنا اما بمعنى المكتوب اى المفروض كما فى قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) فالاضافة بمعنى اللام والام بمعنى الوالدة او الأصل يعنى المحكمات هن والدات واصول لما كتب علينا إتيانه او الكف عنه من الفرائض والمحرمات ـ واما بمعنى القران فالاضافة حينئذ اما بمعنى من يعنى انها أم للاحكام من الكتاب يؤخذ منها الاحكام بلا حاجة بيان من الشارع واما بمعنى اللام والمعنى انها عماد للقران وبمنزلة رئيس القوم لسائر الآيات يحتاج إليها غيرها ويضم إليها حتى يستفاد من غيرها المراد منها يردها الى المحكمات وكان القياس ان يقال أمهات الكتاب لكن أورد لفظ المفرد ليدل على ان المحكمات كلها بمنزلة أم واحدة لان الاحكام المفروضة تؤخذ من جميعها لا من كل واحدة منها وكذا مرجع المتشابهات الى مجموعها باعتبار بعضها لا الى كل واحدة منها (وَ) آيات (أُخَرُ) جمع اخرى معدول من الاخر او اخر من ولذا منع من الصرف للعدل والوصف (مُتَشابِهاتٌ) التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد منه بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع بعبارة محكمة فان وجد البيان والتعليم من جهة الشارع وظهر المراد منها سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة والزكوة والحج والعمرة واية الربوا ونحو ذلك وان لم يوجد البيان والتعليم سميت حينئذ متشابها على اصطلاحهم ولا يجوز هذا القسم الا فيما لا يتعلق به العمل كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق وذلك كالمقطعات القرآنية وقوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) و (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقد يظهر مراد تلك القسم من الآيات على بعض العرفاء بتعليم من الله تعالى بالإلهام كما (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) واقتباس أنوار النبوة بعد شرح الصدر وان كان ذلك المراد أحيانا بحيث لا يمكن تعليمه وتعلمه باللسان لعدم شمول خزينة العلم من العوام على مراده ولا على العلم بوضع لفظ بإزائه ـ واما ما يتعلق به التكليف فلا يجوز

٨

تأخير بيانه عن وقت الحاجة كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق ـ فان قيل قال الله تعالى (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) وقال فى موضع اخر كتبا متشابها فكيف فرق هاهنا فقال (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ـ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) قلنا حيث جعل القران كله محكما فمعناه انه متقن محفوظ عن فساد المعنى ودكاكة اللفظ لا يستطيع أحد معارضته والطعن فيه ـ وحيث جعل كله متشابها أراد ان بعضه يشبه بعضا فى الحسن والكمال ـ وفرق هاهنا من حيث وضوح المعنى وخفائه ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) اى ميل عن الحق قال الربيع هم وفد نجران خاصموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عيسى عليه‌السلام وقالوا له ا لست تزعم انه كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا (١) حسبنا فانزل الله تعالى هذه الاية وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الامة واستخراجه بحساب الجمل قال ابن عباس انّ رهطا من اليهود منهم حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حيى بلغنا انه انزل عليك الم فننشدك الله انزل عليك قال نعم قال فان كان ذلك حقا فانى اعلم مدة تلك أمتك هى احدى وسبعون سنة فهل انزل غيرها قال نعم المص قال فهذه اكثر هى احدى وستون ومائة سنة فهل غيرها قال نعم الر قال هذه اكثر هى مائتين واحدى وثلاثون سنة فهل غيرها قال نعم المر قال هذه اكثر وهى مائتان واحدي وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندرى ا بكثيره نأخذ أم بقليلة ونحن مما لا نؤمن بهذا فانزل الله تعالى هذه الاية وقال ابن جريح هم المنافقون وقال الحسن هم الخوارج كذا اخرج احمد وغيره عن ابى امامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان قتادة إذا قرا هذه الاية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) قال ان لم يكونوا الحرورية والسابية فلا أدرى من هم وقيل هم جميع المبتدعة والصحيح ان اللفظ عام لجميع من ذكر وجميع اصناف المبتدعة عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الاية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) الى قوله (أُولُوا الْأَلْبابِ) قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاذا رايت الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سمى الله فاحذروهم رواه البخاري ـ وعن ابى مالك الأشعري انه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما أخاف على أمتي الا ثلاث خلال وذكر منها ان يفتح لهم الكتاب فيأخذه يبتغى تأويله وليس (٢) (يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ

__________________

(١) فى الأصل قال

(٢) وفى القران (وَما يَعْلَمُ)

٩

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) اى يتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع تبعا لهواه من غير رجوع الى المحكمات من الآيات والأحاديث وبلا حملها على ما يطابقها من المحكمات او السكوت مع الايمان والتسليم بمرادها ـ فالواجب رد المتشابهات الى المحكمات مهما أمكن حتى يتبين مراد المجمل فيعمل به كما فى الصلاة والزكوة والربوا او السكوت عن تأويله مع الايمان بها والتسليم بمرادها ـ فلما ثبت بإجماع الامة ومحكم نصوص الأحاديث المتواترة ان المؤمنين يرون الله سبحانه فى الاخرة كما يرون القمر ليلة البدر فلا بد ان يؤمن به ويقول المراد بالروية والنظر فى قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هى النظر بالبصر وما لم يثبت كذلك كما فى قوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) و (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) يسكت فيه مؤمنا به ولا يحمل على ظاهره ويتبع المحكم من قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فيقول بكونه تعالى منزها عن صفات الممكنات ولا يتعب نفسه فى تأويل المقطعات فانه غير ماذون فيه (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) منصوب على العلية من قوله فيتّبعون (١) اى يفعلون ذلك لطلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك (٢) والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه وهذا وظيفة المنافقين كما حكى ان بعض اليهود لما راوا (٣) دولة الإسلام واستعلاءه حسدوا على ذلك وتيقنوا ان ذلك التأييد من الله تعالى للمسلمين لاجل دينهم فنافقوا ودخلوا فى الإسلام ظاهرا واتبعوا المتشابهات بتأويلات زائغة وأظهروا المذاهب الباطلة فصاروا حرورية ومعتزلة وروافض ونحو ذلك ابتغاء الفتنة (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) عطف على ابتغاء الفتنة اى طلبوا ان

__________________

(١) فى الأصل يبتعون.

(٢) اخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال انه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القران فخذوهم بالسنن فان اصحاب السنن اعلم بكتاب الله وعن ابى هريرة قال كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسئل عن القران ا مخلوق هو او غير مخلوق فقام عمر فاخذ بمجامع ثوبه حتى قاده الى على بن ابى طالب فقال يا أبا الحسن اما تسمع ما يقول هذا قال وما يقول قال جاءنى يسئل عن القران ا مخلوق هو او غير مخلوق فقال على هذه كلمة سيكون لها ثمرة ولو وليت من الأمر ما وليت ضربت عنقه واخرج الدارمي عن سليمان بن يسار ان رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسئل من متشابه القران فارسل اليه عمر وقدا عدله عراجين النخل قال له ومن أنت قال انا عبد الله صبيغ فقال انا عبد الله عمر فاخذ عرجونا من تلك العراجين فضرب به حتى دمئ رأسه فقال يا امير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجدني رأسى وعن ابى عثمان النهدي ان عمر كتب الى بصرة ان لا تجالسوا صبيغا ـ قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا وعن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب الى ابى موسى الأشعري بان لا تجالس صبيغا وان تحرم عطاءه ورزقه قال الشافعي حكمى فى اهل الكلام حكم عمر فى صبيغ ان يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم فى العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واقبل على علم الكلام ـ منه رحمه‌الله.

(٣) فى الأصل راى ـ ابو محمد عفا الله عنه.

١٠

يأولوه على ما يشتهونه وقد يكون ابتغاء التأويل بناء على الجهل فقط وذلك من بعض المتأخرين من المبتدعة واما من الأوائل المنافقين منهم فكان الداعي على اتباع المتشابهات غالبا مجموع الطلبين (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) اى بيان المتشابه من الآيات على ما هو المراد منه عند الله تعالى (إِلَّا اللهُ) اى لا يجوز ان يعلمه غيره تعالى الا بتوقيف منه ولا يكفى لمعرفته العلم بلغة العرب ـ فالحصر إضافي نظيره قوله تعالى (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ـ يعنى لا يعلم الغيب غيره تعالى الا بتوقيف منه ـ فهذه الاية لا تدل على ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الكمل من اتباعه لم يكونوا عالمين بمعاني المتشابهات ـ كيف وقد قال الله تعالى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) فانه يقتضى ان بيان القران محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب ضرورى لا يجوز ان يكون شىء منها غير مبين له عليه‌السلام والا يخلوا الخطاب عن الفائدة ويلزم الخلف فى الوعد ـ والحق ما حققناه فى أوائل سورة البقرة ان المتشابهات هى اسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول ومن شاء افهامه من كمل اتباعه بل هى مما لا يمكن بيانها للعامة وانما يدركها أخص الخواص بعلم لدنى مستفاد بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة ـ (وَالرَّاسِخُونَ) اى الذين رسخوا اى ثبتوا وتمكنوا (فِي الْعِلْمِ) بحيث لا تعترضه شبهة وهم اهل السنة والجماعة الذين عضوا بالنواجذ على محكمات الكتاب والسنة واقتفوا فى تفسير القران اجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين هم خيار الامة ورد والمتشابهات الى المحكمات وتركوا الأهواء والتلبيسات ـ وقيل الراسخون فى العلم مؤمنوا اهل الكتاب ـ قلت لا وجه لتخصيصهم ـ وقالت الصوفية العلية الراسخون فى العلم هم المنسلخون عن الهواء بالكلية بفناء القلب والنفس والعناصر المتفوضون فى التجليات الذاتية حيث لا يعتريهم شبهة المترنمون بما قالوا لو كشفت الغطاء ما ازددت يقينا اخرج الطبراني وغيره عن ابى الدرداء ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الراسخين فى العلم قال من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين فى العلم قلت هذا شأن الصوفية ثم اختلف العلماء فى نظم هذه الاية فقال قوم الواو للعطف والمعنى ان تأويل المتشابه يعلمه الله

١١

ويعلمه الراسخون فى العلم فعلى هذا قوله تعالى (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حال منهم يعنى قائلين امنّا نظيره قوله تعالى (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الى ان قال (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) ثم قال (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهذا قول مجاهد والربيع ـ وروى عن ابن عباس انه كان يقول فى هذه الاية انا من الراسخين فى العلم وعن مجاهد انا ممن يعلم تأويله ـ وذهب الأكثرون الى ان الواو للاستيناف وتم الكلام عند قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) فعلى هذا الراسخون فى العلم مبتدا وما بعده خبره وهو قول أبيّ بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير ورواية طاءوس عن ابن عباس وبه قال الحسن واكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ومما يؤيد هذا القول قراءة عبد الله بن مسعود ان تأويله الّا عند الله والرّاسخون فى العلم يقولون امنّا به وقراءة أبيّ بن كعب ويقول الرّاسخون فى العلم امنّا به ومن هاهنا قال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين فى العلم بتأويل القران الى ان قالوا أمنا به (كُلٌ) من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا المراد منه وما لم نعلم (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) قلت فحال الراسخين فى العلم يبائن حال الزائغين قلوبهم من الأهواء المتبعين الآراء كلّما أضاء لهم ووافق النصوص آراءهم مشوا فيه وأمنوا به (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) تأويلات النصوص ولم يوافق آراءهم قاموا ولم يؤمنوا به قال البغوي هذا القول أقيس فى العربية وأشبه بظاهر الاية يعنى القول باستيناف الكلام وعدم العطف قلت وجه كون هذا القول أقيس وأشبه ان الاستثناء من النفي اثبات بإجماع اهل العربية واللام فى الراسخون للاستغراق فلو كان قوله الراسخون فى العلم معطوفا على الله لزم ان يعلم تأويل المتشابهات كل راسخ فى العلم وليس كذلك على ما يشهده البداهة والرواية (وَما يَذَّكَّرُ) أصله يتذكر اى ما يتعظ بما فى القران (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) ذووا العقول السليمة فان سلامة العقل يقتضى ان يفوضوا ما لا علم لهم به الى المتكلم العليم الحكيم ولا يقعوا فى الجهل المركب وهم فى كل واد يهيمون ـ قالت الأكابر لا أدرى نصف العلم ـ. (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) ولا تملها عن الحق كما ازغت قلوب الذين فى قلوبهم

١٢

زيغ ـ جاز ان يكون هذا من مقال الراسخين تقديره يقولون امنّا به ويقولون ربّنا إلخ وجاز ان يكون تعليم مسئلة من الله تعالى عند البلوغ الى المتشابه بتقدير قولوا (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بانزال كتابك ووفقتنا بالايمان بالمحكم والمتشابه وبعد منصوب على الظرفية وإذ فى موضع الجر بإضافته اليه وقيل إذ هاهنا بمعنى ان المصدرية (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) توفيقا وتثبيتا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) لكل مسئول فيه دليل على ان الهدى والضلالة من الله تعالى بتوفيقه او خذلانه وانه المتفضل على عباده لا يجب عليه شىء عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من قلب الا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء ان يقيمه اقامه وان شاء ازاغه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن جل جلاله يرفع قوما ويضع آخرين الى يوم القيامة رواه البغوي وروى نحوه احمد والترمذي من حديث أم سلمة ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي وابن ماجة من حديث انس ـ وفى الصحيحين من حديث عائشة وعن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا ببطن رواه احمد. (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) اى لقضاء يوم وقيل اللام بمعنى فى اى فى يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) اى لا شك فى وقوعه ووقوع ما فيه من الجزاء (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) مفعال من الوعد فالخلف فى الوعد محال لكونه رذيلة ينافى الالوهية واما فى الوعيد فيجوز عندنا المغفرة وان لم يتب ـ وقالت الوعيدية من المعتزلة لا يجوز الخلف فى الوعيد ايضا الا بعد التوبة محتجا بهذه الاية قلنا وعيد الفساق كما هو مشروطة بعدم التوبة باتفاق بيننا وبينكم كذلك مشروطة بعدم العفو لاطلاق قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) وقوله تعالى (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ونحو ذلك وفى الباب أحاديث لا يحصى ـ. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعم المشركين واهل الكتاب (لَنْ تُغْنِيَ) اى لا تجزى (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) اى بدلا من رحمته او طاعته

١٣

(شَيْئاً) من الإغناء فهو منصوب على المصدرية دون المفعولية لان الإغناء غير متعد الا ان يقال معناه على التضمين لا تدفع عنهم من الله اى من عذابه شيئا فعلى هذا منصوب على المفعولية والجار والمجرور ظرف مستقر حال منه (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠) اى حطبها عطف على لن تغنى. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) دأب مصدر من داب فى العمل إذا كدح فيه والجار والمجرور فى محل الرفع خبر مبتدا محذوف تقديره دأبهم كدأب ال فرعون ومعناه فعلهم وصنيعهم فى الكفر وتكذيب الرسل كفعل ال فرعون كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ـ وقيل هو منقول من معنى الفعل الى معنى الشأن ـ وقال ابو عبيدة معناه كسنة ال فرعون وقال الأخفش كامر ال فرعون وشأنهم وقال النصر بن شميل كعادة ال فرعون يعنى عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم وشأنهم فى تكذيب الرسل ونزول العذاب كشأن ال فرعون وطريقتهم وسنتهم وجاز ان يكون الجار والمجرور متصلا بما قبله يعنى توقد بهم النار كما توقد بال فرعون فوقود النار بهم بضم الواو شأنهم كما هو شان ال فرعون ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم كما لم يغن بال فرعون فيكون شأنهم كشأنهم عند حلول العذاب (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل عاد وثمود وقوم لوط معطوف على ال فرعون وحينئذ قوله تعالى (كَذَّبُوا) اما حال بتقدير قد او استيناف لبيان حالهم كانّه فى جواب ما شأنهم وجاز ان يكون الموصول مبتدا وما بعده خبره (بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) وعاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ) اى بسبب ذنوبهم (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١) شديد عقابه ـ روى ابو داود فى سننه وابن جرير والبيهقي فى الدلائل من طريق ابن إسحاق عن محمد بن ابى محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال لما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اهل بدر ما أصاب ورجع الى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع وقال يا معشر يهود اسلموا قبل ان يصيبكم مثل ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك ان قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا (١) لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس وانك لم تلق مثلنا فانزل الله. (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى اليهود (سَتُغْلَبُونَ) الى قوله لاولى الابصار فقد صدق الله تعالى وعيده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم

__________________

(١) الأغمار جمع غمر بالضم وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور ـ نهايه منه رح

١٤

وقال مقاتل نزول هذه الاية قبل وقعة بدر والمراد بهم مشركوا مكة يعنى قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر فلما نزلت هذه الاية قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ان الله تعالى غالبكم وحاشركم الى جهنم وقال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان يهود المدينة قالوا لمّا هزم الله تعالى المشركين يوم بدر هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له رأية وأرادوا اتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا الى وقعة اخرى فلما كان يوم أحد ونكب اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكّوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وقد كان بينهم وبين اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد الى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف فى ستين راكبا الى مكة يستنفرهم فاجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانزل الله تعالى فيهم هذه الاية قرأ حمزة وخلف ـ ابو محمد والكسائي سيغلبون بالياء على ان الله تعالى امر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم وكذا قوله (وَتُحْشَرُونَ) فى الاخرة (إِلى جَهَنَّمَ) وقرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب على انه مقولة قل (وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢) اى الفراش اى جهنم هذا من تمام ما يقال لهم او استيناف اى بئس ما مهّدوه لانفسهم او بئس ما مهّد لهم ـ. (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الخطاب لليهود على تقدير كون الاية السابقة فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر اليهود اية اى دليل (١) واضح على صدق ما أقول لكم انكم ستغلبون او خطاب للمشركين على تقدير كون الاية فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر الكفار اية معجزة ودليل (٢) على النبوة (فِي فِئَتَيْنِ) اى فرقتين انما يقال الفرقة فئة لان فى الحرب يفىء بعضهم الى بعض (الْتَقَتا) يوم بدر للقتال (فِئَةٌ) مؤمنة يعنى رسول الله وأصحابه (تُقاتِلُ) العدو (فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعة الله كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبع وسبعون رجلا من المهاجرين وصاحب رأيتهم على بن ابى طالب وهو الصحيح وقيل مصعب بن عمير ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رأيتهم سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس لمقداد (٣) بن عمرو فرس لمرثد بن ابى مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ست اذرع وثمانية سيوف وفئة (أُخْرى كافِرَةٌ) وهم مشركوا مكة

__________________

(١) فى الأصل دليلا واضحا

(٢) فى الأصل دليلا

(٣) فى الأصل للمقداد

١٥

كانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة بثمانية عشر شهرا فى رمضان سنه (يَرَوْنَهُمْ) قرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد ويعقوب بالتاء على الخطاب فان كان الخطاب لليهود فالمعنى يا معشر اليهود ترونهم يعنى كفار مكة (مِثْلَيْهِمْ) اى مثلى المسلمين وذلك ان جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من يكون الدبرة فراوا المشركين مثلى عدد المسلمين وراوا النصرة مع ذلك للمسلمين فان قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم قلنا لعل المراد كثرتهم وتكرار أمثالهم دون التثنية كما فى قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يعنى كرة بعد اخرى ـ وان كان الخطاب للمشركين فالمعنى ترونهم يا معشر الكفار اى المسلمين مثليهم وذلك حين القتال ولا تناقض بين هذا وبين قوله تعالى فى سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) لانهم قلّلوا فى أعينهم قبل القتال حتى اجترءوا عليهم فلما تلاقوا وشرعوا فى الحرب كثر المسلمون فى أعينهم حتى جبنوا وغلبوا وقرا الجمهور بالياء على الغيبة وعلى هذا فالضمير المرفوع جاز ان يكون راجعا الى المشركين والمعنى يرى المشركون المسلمين مثلى المشركين او مثلى المسلمين وجاز ان يكون راجعا الى المسلمين يعنى يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين حيث قللهم الله تعالى فى أعينهم حتى راوهم مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم وتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى فى قوله (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثم قللهم الله تعالى حتى راوهم مثل عدد أنفسهم قال ابن مسعود نظرنا الى المشركين فرايناهم يضعّفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رايناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى ايضا فى أعيننا حتى رايناهم عددا يسيرا اقل من أنفسنا حتى قلت لرجل الى جنبى نراهم سبعين قال أراهم مائة والروية هاهنا بمعنى العلم حتى يكون مثليهم مفعولا ثانيا له إذا المعنى لا يساعد كونه حالا فعلى هذا قوله تعالى (رَأْيَ الْعَيْنِ) مبنى على المبالغة فى علمهم بكونهم مثليهم وتشبيه لهذا العلم بالعلم الحاصل بروية العين فاطلق رأى العين وأريد به العلم الحاصل به مجازا تسمية المسبب باسم السبب فهو منصوب على المصدرية وجاز ان يكون منصوبا بنزع الخافض اى كرأى العين (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من التقليل والتكثير

١٦

وغلبة القليل عديم القدرة على الكثير شاكى السلاح (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) اى لذوى العقول ـ وقيل لمن راى الجمعين ـ. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) الزين ضد الشين وهو كون الشيء ذا حسن وجمال مستحقا للمدح محبوبا وذا قد يكون بصفات نفسانية كالعلم والعقل ونحو ذلك او بدنية كالقوة والقامة وحسن المنظر او خارجية كاللباس والمركب والمال والجاه ـ والتزيين جعل الشيء كذلك اما فى الحقيقة كما فى قوله تعالى (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) او فى اعتقاد من زين له سواء كان الاعتقاد مطابقا للواقع كما فى قوله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) او غير مطابق له كما فى قوله تعالى (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) والشهوة هى توقان النفس وكمال رغبتها الى الشيء والمراد بالشهوات هاهنا المشتهيات فانها هى المزينات المحبوبات حقيقة لكن سميت بالشهوات وجعل موردا لتزيين حب الشهوات دون أنفسها مبالغة فى التوبيخ وايماء على انهم انهمكوا فى محبتها حتى أحبوا شهواتها بل حب شهواتها كانّ تقدير الكلام حبب الى الناس حب محبة النساء ونحوها نظيره أحببت حبّ الخير وقال صاحب الكشاف سميت شهوات مبالغة فى التنفير عنها لان الشهوات علم فى الخسة شاهد على البهيمية إذ المقام مقام التنفير عنها والترغيب فيما عند الله وقال بعض الأفاضل بل مبالغة فى التحذير عن مخالطتها وكمال التوجه إليها فانها لكمالها فى كونها مشتهيات تشغل اللاهي بكليته الى أنفسها وتقطعه عما عند الله والمزين هو الله تعالى لانه الخالق للجواهر والاعراض والافعال الاختيارية للعباد والدواعي كلها ـ ولعله زينه ابتلاء (١) قال الله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ولكونه سببا لمجاهدة المؤمنين وباعثا لشكر النعمة ووسيلة الى السعادة الاخروية وموجبا لفضل البشر على الملائكة ـ وسببا لخذلان الكافرين وموجبا لاضلالهم يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء وايضا فى التزيين حكمة التعيش وبقاء النوع قال الله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) وقيل المزين هو الشيطان فان الاية فى معرض الذم وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء تارة الى نفسه باعتبار الخلق حيث قال كذلك (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) و (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) و (زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وتارة

__________________

(١) همه انداز من بتوانيست

كه تو طفلى وجامه رنگين است

: منه رح

١٧

الى الشيطان باعتبار كسبه إلقاء الوسوسة فى القلوب والإلهاء حيث قال (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) وقوله (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) وزيّن لهم الشّيطن أعمالهم فصدّهم عن السّبيل (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار وهو المال الكثير بعضه على بعض سمى قنطارا من الاحكام يقال قنطرت الشيء إذا أحكمته ومنه سميت القنطرة ـ وقال معاذ بن جبل الف ومائتا اوقية وقال ابن عباس الف ومائتا مثقال او اثنا عشر الف درهم او الف دينار وقال سعيد بن جبير وعكرمة هو مائة الف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وعن السدى اربعة آلاف مثقال وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض وقيل ملا مسك ثور (١) واختلف فى انه فعلال او فنعال (الْمُقَنْطَرَةِ) مأخوذة من القنطار للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة يعنى الكثيرة المنضمة بعضها الى بعض وقال الضحاك المحصنة المحكمة وقال يمان المدفونة وقال السدىّ المضروبة وقال الفراء المضعفة فالقناطير أريد به جمع القنطار وبالمقنطرة جمع الجموع (مِنَ الذَّهَبِ) قيل سمى به لانه يذهب (وَالْفِضَّةِ) قيل سمى بها لانها تنفض اى تتفرق (وَالْخَيْلِ) جمع فرس لا واحد له من لفظه (الْمُسَوَّمَةِ) قال مجاهد يعنى المطهمة الحسان اى محكم الخلق حسن الجمال وتسويمها حسنها وقال سعيد بن جبير هى الراعية اى السائمة وقال الحسن وابو عبيدة هى المعلمة من السيماء اى العلامة ثم منهم من قال سيماها الشية واللون وهو قول قتادة وقيل الكي (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم والنعم جمع لا واحد له من لفظه ويطلق على الإبل والبقر والغنم وقال ابو حنيفة رحمه‌الله يطلق على الدواب الوحشي ايضا ولذا فسر قوله (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) اى مثل ما قتل من النعم الوحش (وَالْحَرْثِ) اى الزرع (ذلِكَ) المذكورات (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) اى يتمتع بها فى الدنيا ثم يفنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤) اى المرجع الحسن الذي كانه عين الحسن ففيه كمال التحريض على استبدال ما فى الدنيا من الشهوات الفانية بما عند الله من المستلذات القوية (٢) الباقية ـ. (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) المذكورات فيه توبيخ للكفار واشارة الى

__________________

(١) اخرج الحاكم وصححه عن انس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال القنطار الف اوقية .. واخرج احمد وابن ماجة عن ابى هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اثنا عشر الف اوقية ـ منه رح

(٢) عن قتادة فى هذه الاية ذكر لنا ان عمر بن الخطاب كان يقول اللهم زينت لنا الدنيا وانبأتنا ان ما بعدها خير منها فاجعل حظنا فى الذي هو خير وأبقى ـ منه رح

١٨

ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانه متردد فى ان ينبئهم شفقة عليهم وامتثالا لامر الله تعالى او لا ينبئهم لملاحظة بعدهم عن قبول الحق وتقرير لما سبق اليه الاشارة من ان ثواب الله خير من مستلذات الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) مبتدا والظرف خبر مقدم عليه والجملة استيناف لبيان ما هو خير ويجوز ان يكون الظرف متعلقا بخير او يكون ظرفا مستقرا صفة لخير واختصاص المتقين لانهم هم المنتفعون به وجنات خبر مبتدا محذوف اى هو جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة لجنات (خالِدِينَ فِيها) اى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) مما يستقذر من النساء كالحيض والنفاس والبول والغائط (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) قرا ابو بكر عن عاصم بضم الراء فى جميع القران غير الحرف الثاني فى المائدة ورضوانه سبل السّلم والباقون بالكسر وهما لغتان كالعدوان والعدوان ـ قيل ذكر الله سبحانه من جنس ما يشتهونه الجنات التي هى من جنس الحرث والأزواج المطهرة التي هى من جنس النساء ولم يذكر البنين لان المقصود منهم فى الدار الفانية الاعانة وبقاء النوع ـ ولا الخيل ولا الانعام ولا الذهب والفضة لانهم مستغنون عن مشاق ركوب الخيل والانعام لنيل المقاصد وعن البيع والشراء المحوج الى الأثمان وزاد لهم ما لا زيادة عليه وهو رضوان الله ونكر الرضوان اشارة الى انه امر لا يحيط العلم بإدراكه عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان الله تبارك وتعالى يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب واىّ شىء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه وعندى ان ذكر الجنان واقع فى مقابلة جميع ما يشتهونه لقوله تعالى (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) فان الأبناء والأقارب كلهم تجتمعون فى الجنة ويدوم لقاؤهم ابدا قال الله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لاهل الجنة فقال المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله وضعه وسنه فى ساعة كما يشتهى رواه الترمذي وحسنه والبيهقي وهناد فى الزهد عن ابى سعيد والحاكم فى التاريخ والاصبهانى فى الترغيب ـ واما قناطير

١٩

الذهب والفضة فان الله تعالى خلق الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك ـ رواه البزار والطبراني والبيهقي عن ابى سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى الحديث المرفوع جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما متفق عليه من حديث ابى موسى ـ واما الخيل والانعام فقد قال أعرابي يا رسول الله انى أحب الخيل أفي الجنة خيل قال ان دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوت له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت رواه الترمذي عن ابى أيوب وروى الترمذي والبيهقي نحوه عن بردة مرفوعا والطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعا ـ واخرج ابن المبارك عن شفى بن مانع ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من نعيم الجنة انهم يتزاورون على المطايا والبخت وانهم يؤتون فى يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله ـ واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ والاصفهانى عن على مرفوعا قال ان فى الجنة شجرة تخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل بلق من ذهب سرجها وزمامها الدر والياقوت وهن ذوات الاجنحة خطوّها مد البصر لا تروث ولا تبول فيركبها اولياء الله فيطير بهم حيث شاءوا فيقول (١) الذي أسفل منهم قد اطفؤوا نورنا من هؤلاء فقال انهم كانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجلسون واخرج ابن المبارك عن ابن عمران فى الجنة عتاق الخيل وكرام النجائب يركبها أهلها واخرج ابن وهب عن الحسن البصري ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ان ادنى اهل الجنة منزلة الذي يركب فى الف الف من خدم من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت احمر لها اجنحة من ذهب واما الحرث فقد روى البخاري عن ابى هريرة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ان رجلا من اهل الجنة استأذن ربه فى الزرع فقال له ا لست فيما شئت قال بلى ولكنى أحب ان ازرع قال فيزرع فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله تعالى دونك يا ابن آدم فانه لا يشبعك شىء واخرج الطبراني وابو الشيخ نحوه وفيه حتى تكون سنيلة اثنا عشر ذراعا ثم لا يبرح مكانه حتى يكون منه ركام أمثال الجبال ـ ولعل وجه تخصيص الأزواج من بين نعيم الجنة بالذكر اما شدة ما كان بالعرب من شهوة النساء واما ان الأزواج تكون لكل من يدخل الجنة أجمعين واما البنون ونحو ذلك فلمن كان له بنون فى الدنيا او لمن يشتهيهم فيها وهم لا يشتهون ذلك غالبا لما روى عن

__________________

(١) فى الأصل شاء

٢٠