التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

ان كان ما فى بطنك أنثى لا يصلح لذلك فوقعا من ذلك فى هم فهلك عمران وحنة حامل بمريم. (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير لما فى بطنها وتأنيثه لانه كان فى الواقع أنثى او على تأويل النفس او الحبلة (قالَتْ) تحسرا وقد كانت ترجوا غلاما (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) او قالت اعتذارا الى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) قرا ابن عامر وابو بكر ويعقوب بإسكان العين وضم التاء على التكلم على انه من كلام امراة عمران تسلية منها لنفسها اى لعل لله تعالى فيه سرا والأنثى كان خيرا والباقون بفتح العين واسكان التاء على الغيبة فهو استيناف من الله تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بشأنها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) جاز ان يكون هذه الجملة من قولها اعتذارا الى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت يعنى ليس الذكر فى خدمة الكنيسة لقوته وصلاحيته كالانثى لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس فاللام فى الكلمتين للجنس ـ وجاز ان يكون من كلام الله تعالى اى ليس الذكر الذي طلبت كالانثى التي وهبت بل هى أفضل من الذكر واللام فيهما للعهد وهذا التأويل اولى من الاولى إذ لو كان على وجه الاعتذار لقالت وليست الأنثى كالذكر (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على ما قبلها من مقالتها وما بينهما اعتراض ـ ومعناه العابدة فى لغتهم قالت ذلك لان يجعلها الله تعالى كاسمها عابدة وفى تقديم المسند اليه اشارة الى تخصيصها بالتسمية يعنى ليس لها اب فهى يتيمة وفيه استعطاف (وَإِنِّي) فتح الياء نافع وأسكنها الباقون (أُعِيذُها) أجيرها (بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٧) المطرود اصل الرجم الرمي بالحجارة عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه الا مريم وابنها متفق عليه يعنى ببركة هذه الاستعاذة ـ وعنه قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بنى آدم يطعن الشيطان فى جنبيه بإصبعيه غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فظعن فى الحجاب ـ قلت وقد صح ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لفاطمة حين زوجها عليا اللهم انّى أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطين الرجيم وكذا قال لعلى حينئذه رواه ابن حبان من حديث انس ودعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اولى بالقبول من دعاء

٤١

امراة عمران فارجو عصمتها وأولادها من الشيطان وعدم مسه إياهم ـ وحصر عدم المس فى مريم وابنها الثابت بالحديث على هذا يكون حصرا إضافيا بالنسبة الى الأعم الأغلب ـ. (فَتَقَبَّلَها) بمعنى قبلها يعنى مريم من حنة مكان الذكر او المعنى استقبلها اى أخذها فى أول أمرها حين ولدت كتعجل بمعنى استعجل (رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) القبول هاهنا ليس بالمعنى المصدري والا يقال قبولا حسنا بل هو اسم لما يقبل به الشيء كالسعوة واللدود اى بوجه حسن يقبل به النذائر والقبول الحسن هو قبول المرادين اهل الاجتباء دون قبول المريدين اهل الهداية فان الله تعالى اصطفاها لنفسه وفضلها على نساء العالمين وطهرها من الذنوب ومن الحيض من غير سابقة عمل منها واجتهادها ـ وان كان القبول بالمعنى المصدري فتقديره بامر ذى قبول حسن وذلك الأمر هو الاختصاص وكون مبدا تعينها من مبادى نعينات اهل الاصطفاء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) مصدر من غير باب الفعل والمعنى أنبتها فنبتت نباتا حسنا فكانت تنبت فى اليوم كما ينبت المولود فى العام ـ اخرج ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدى ان حنة لما ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها الى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة فقالت دونكم هى النذيرة فتنافس فيها الأحبار لما كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا انا أحقكم بها عندى خالتها وهى أشياع بنت قاقودا أم يحيى عليه‌السلام فابوا الا القرعة فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين رجلا الى نهر جار قال السدى هو نهر الأردن فالقوا أقلامهم فى الماء على ان من ثبت قلمه فى الماء وصعد فهو اولى بها قيل كانوا يكتبون التورية فالقوا أقلامهم التي كانت بايديهم فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت فى النهر قاله محمد بن إسحاق وقال السدى وجماعة بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كانه فى طين وجرت أقلامهم ـ وقيل جرى قلم زكريا مصعدا الى أعلى الماء وجرى أقلامهم مع جرى الماء فذهب بها الماء ـ فسهمهم وقرعهم زكريا وكان رأس الأحبار ونبيهم (وَكَفَّلَها) قرا حمزة وخلف ـ ابو محمد والكسائي وعاصم بتشديد الفاء من باب التفعيل والفاعل هو الله تعالى لتقرره فى الأذهان او الضمير المرفوع

٤٢

مستتر فيها راجع الى ربها والباقون بالتخفيف والفاعل زكريّاء بالمد عند الجمهور مرفوع لفظا وقرا حمزة وخلف ـ ابو محمد والكسائي وحفص عن عاصم بالقصر منصوب المحل بالمفعولية وابو بكر عن عاصم بالمد منصوبا لفظا والمعنى على قراة الجمهور قام بامرها زكريا وعلى قراءة الكوفيين ضمها الله بالقرعة زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليهم‌السلام فبنى زكريا لها بيتا واسترضع لها ـ وقال محمد بن إسحاق ضمها الى خالتها أم يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد وجعل بابه فى وسطها لا يرقى إليها الا بالسلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) بالمد والقصر كما مر فى سائر القران لم يعطف هذه الجملة لكونها مقررة لما قبلها اعنى تقبلها بقبول حسن او لعدم الجامع باعتبار المسند او المسند اليه ـ وكلما ظرف زمان فيه معنى الشرط منصوب بما وقع جوابه اعنى وجد (الْمِحْرابَ) اى الغرفة التي بنى لها والمحراب اشرف المجالس ومقدمها ـ ويقال ايضا للمسجد المحراب لانه محل محاربة مع الشيطان ـ قال المبرد لا يكون المحراب الا ان يرتقى اليه بدرج اخرج ابن جرير عن الربيع بن انس قال كان إذ اخرج اغلق عليها سبعة أبواب فاذا دخل عليها غرفتها (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) اى فاكهة فى غير حينها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف (قالَ) زكريا استبعادا (يا مَرْيَمُ أَنَّى) اى من اين وقيل من اىّ جهة (لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) اخرج ابن جرير عن ابن عباس ان رزقها كان ينزل من الجنة ـ وقال الحسن حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط وكان يأتيها رزقها من الجنة وقد تكلمت وهى صغيرة كعيسى (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) بغير تقدير لكثرته او بغير استحقاق تفضلا منه يحتمل ان يكون من كلامها او من كلام الله تعالى ـ وهذه القصة دليل على كرامة الأولياء ـ وجعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه حيث قال انى لك هذا اخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث جابر ان فاطمة رضى الله عنها أهدت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بهما إليها وقال هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فاذا هو مملو بالخبز واللحم فقال (أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل ثم جمع عليا

٤٣

والحسن والحسين وجميع اهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فاوسعت على جيرانها ـ. (هُنالِكَ) اى فى ذلك المكان او ذلك الوقت حين راى زكريا كرامة مريم وسعة رحمة الله وراى ان اهل بيته قد انقرضوا وليس له ولد يرثه العلم والنبوة وخاف مواليه اى بنى أعمامه ان يضيعوا الدين بعده دخل المحراب وغلق الأبواب و (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ) يا (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) اى من عندك وعلى خرق عادة جرت منك (حيث كانت امرأته عاقرا وهو كان شيخا كبيرا) كما تهب الرزق لمريم على خرق العادة (ذُرِّيَّةً) اى ولدا يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى (طَيِّبَةً) انّثها نظرا الى لفظ الذرية يعنى صالحا معصوما طاهرا من الذنوب (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨) اى مجيبه. (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قرا حمزة وخلف ـ والكسائي فناديه بالألف والامالة على التذكير لان الفاعل اسم ظاهر مؤنث غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث لفظ الملائكة وكونها جمعا مكسرا ـ عن ابراهيم قال كان عبد الله يذكّر الملائكة فى القران ـ قال ابو عبيد اختار ذلك خلافا للمشركين فى قولهم الملائكة بنات الله وكان المنادى جبرئيل وحده أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود فوجه إيراد صيغة الجمع اى الملائكة قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيسا يجوز الاخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه وكان جبرئيل رئيس الملائكة وقلما يبعث الا ومعه جمع فجرى على ذلك وقيل معنى نادته الملائكة اى من جنسهم كقولك زيد يركب الخيل (وَهُوَ) اى زكريا (قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) اى فى المسجد وذلك ان زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخل أحد حتى يأذن لهم فى الدخول ـ فبينا هو قائم يصلى فى المسجد عند المذبح والناس ينتظرون ان يأذن لهم فى الدخول إذا هو برجل شابّ عليه ثياب بيض ففزع منه وهو جبرئيل فناداه يا زكريا (أَنَّ اللهَ) قرا حمزة وابن عامر انّ بكسر الهمزة على إضمار القول تقديره فنادته الملئكة فقالت انّ الله والباقون بالفتح اى نادته بان الله (يُبَشِّرُكَ) قرا حمزة يبشرك بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وكذا بابه بالتخفيف حيث وقع فى كل القران من بشر يبشر وهى لغة تهامة الا قوله فبم تبشّرون فانهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا فى موضعين وفى سبحان والكهف وعسق ووافقهما ابن كثير وابو عمرو فى عسق والباقون بضم الياء وفتح الباء وتشديد الشين من التفعيل

٤٤

(بِيَحْيى) سمى به لان الله تعالى أحيا به عقرامه كذا قال ابن عباس وقال قتادة لان الله تعالى أحيا قلبه بالايمان والطاعة حتى لم يعص ولم بهم بمعصية (مُصَدِّقاً) حال مقدرة (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) يعنى بعيسى عليه‌السلام سمى به لان الله تعالى قال له كن من غيراب فكان فوقع عليه اسم الكلمة لانه بها كان ـ وقيل سمى عيسى كلمة لانه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله ـ قالت الصوفية كان مبدا تعينه صفة الكلام وكان يحيى أول من أمن بعيسى وصدّقه وكان يحيى اكبر من عيسى بستة أشهر ـ وفى الصحيحين فى حديث المعراج انهما كانا ابني خالة وقد ذكر فيما سبق ان يحيى كان ابن خالة لمريم ـ وعلى تقدير صحة تلك الرواية فالقول بانهما كانا ابني خالة مبنى على التجوز كما قال عليه الصلاة لفاطمة اين ابن عمك يعنى عليا وهو ابن عم لابيها ـ وقد قتل يحيى قبل رفع عيسى الى السماء ـ وقال ابو عبيدة أراد بكلمة من الله كتاب الله وآياته (وَسَيِّداً) يسود (١) قومه ويفوقهم فى العلم والعبادة والورع وجميع خصال الخير قال مجاهد الكريم على الله وقيل الحليم الذي لا يغضبه شىء وقال سفيان الذي لا يحسد وقيل هو القانع وقيل هو السخي وقال جنيد هو الذي جار بالكونين عوضا عن المكون (وَحَصُوراً) أصله من الحصر وهو الحبس والمنع فقيل كان لا يأتى النساء فقيل كان عنينا كما جاء فى الحديث قلت وان كان عنينا فليس المراد هاهنا كونه عنينا لانه ليس بمدح والمقام مقام المدح فالاولى ان يقال انه كان منوعا حابسا نفسه عن اتباع الشهوات والملاهي ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من عبد لله يلقى الله الا أذنب الا يحيى بن زكريا فان الله يقول وسيّدا وحصورا قال وانما كان ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بانمله ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انما كان ذكره مثل هدبة الثوب ليس بيانا لكونه حصورا بل بيانه ما سبق اعنى كونه معصوما وهذا بيان للواقع وأخرجه ابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وابن ابى حاتم من وجه اخر عن ابن عمر موقوفا وهو أقوى اسنادا من المرفوع ـ واخرج ابن ابى حاتم وابن عساكر عن ابى هريرة ان نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه ان شاء يعذبه وان شاء يرحمه الا يحيى بن زكريا فانه كان سيّدا وحصورا

__________________

(١) قال فى النهاية للجزرى السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم ـ وأصله من ساد يسود فهو سيؤد فقلبت الواو ياء لاجل الباء الساكنة قبلها فادغمت ـ منه رح

٤٥

ونبيّا من الصّلحين ثم أهوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى قذاة من الأرض فاخذها وقال كان ذكره مثل هذه القذاة ـ اخرج عبد الرزاق فى تفسيره عن قتادة موقوفا وابن عساكر فى تاريخه عن معاذ بن جبل مرفوعا ان يحيى عليه‌السلام مر فى صباه بصبيان فدعوه الى اللعب فقال ما للعب خلقنا (وَنَبِيًّا) ناشيا (مِنَ) أصلاب (الصَّالِحِينَ) (٣٩) يعنى النبيّين المعصومين او كائنا من عداد من لم يأت صغيرة ولا كبيرة ـ. (قالَ) زكريا مناجيا الى الله سبحانه من غير التفات الى جبرئيل (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) صدر هذا القول منه بمقتضى الطبع استبعادا عن مقتضى العادة او استعظاما وتعجبا كل ذلك بمقتضى الطبع فان مقتضى الطبع قد يغلب على مقتضى العقل والا فالعقل والعلم يحكمان بانه لا استبعاد فى قدرة الله تعالى ولا تعجب كما ان موسى عليه‌السلام اعترض على خضر بعد ما عهد منه وقال ستجدنى ان شاء الله صابرا ولا اعصى لك امرا ـ وقال عكرمة والسدى انه لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال يا زكريا هذا الصوت ليس من الله انما هو من الشيطان ولو كان من الله لاوحاه إليك فقال ذلك دفعا للوسوسة وقال الحسن انه قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه يعنى باىّ وجه يكون لى غلام بان تجعلنى وامراتى شابين وتزيل عقمها او تهب لى الولد من امراة اخرى او تهبه إيانا مع كوننا على حالتنا الاولى (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) هذا مقلوب اى قد بلغت الكبر وشخت او المعنى أدركني كبر السن وضعفنى وكان يومئذ ابن سنتين وتسعين سنة كذا قال الكلبي وقال الضحاك كان ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) لا تلد يستوى فيه المذكر والمؤنث (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٣٠) خبر مبتدا محذوف اى الأمر كذلك اى يولد لك مع كونك شيخا وامرأتك عاقرا او خبر والمبتدا الله يعنى كذلك الله وبيانه يفعل ما يشاء من العجائب او الله مبتدا والجملة بعده خبره وكذلك فى محل النصب على المصدرية يعنى الله يفعل ما يشاء فعلا كذلك الفعل اى مثل ما وعدناك وان كان على خلاف العادة او على الحالية من ما يشاء. (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي) فتح الياء نافع وابو عمر وابو جعفر ـ ابو محمد أسكنها الباقون (آيَةً) اى علامة اعلم بها وقت حمل امراتى فازيد فى العبادة شكرا لك (قالَ آيَتُكَ

٤٦

أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) يعنى لا تقدر على التكلم مع الناس مع قدرتك على الذكر (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) اى الا اشارة بنحو يد او رأس وأصله التحريك والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على ما فى الضمير وقال عطاء أراد به صوم ثلاثة ايام لانهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا الا رمزا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) يعنى حين يظهر لك الاية شكرا (وَسَبِّحْ) اى صل (بِالْعَشِيِ) اى من الزوال الى ذهاب بعض الليل يعنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء (وَالْإِبْكارِ) (٤١) من صلوة الفجر الى الضحى. (وَإِذْ قالَتِ) عطف على إذ قالت امراة عمرن (الْمَلائِكَةُ) يعنى جبرئيل عليه‌السلام شفاها (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اى اختارك لنفسه بالتجليات الذاتية الدائمية التي عبرها الصوفية بكمالات النبوة وهى بالاصالة للانبياء عليهم‌السلام وبالتبعية والوراثة للصديقين وكانت هى صديقة قال الله تعالى وامّه صدّيقة (وَطَهَّرَكِ) عن الذنوب بالحفظ والمغفرة وعدم تطرق الشيطان إليها كما مر من حديث ابى هريرة برواية الشيخين وقيل طهرها من مسيس الرجال وقيل من الحيض (وَاصْطَفاكِ) اى فضلك (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) اى عالمى زمانهم عن على قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة متفق عليه وفى رواية قال ابو كريب وأشار وكيع الى السماء والأرض وعن انس ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امراة فرعون رواه الترمذي وعن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران وآسية امراة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام متفق عليه ـ قلت لعل معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكمل من النساء من الأمم السابقة الا مريم وآسية يدل عليه قوله عليه‌السلام وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فان هذه الجملة تدل على فضل عائشة على مريم وآسية ـ وفى الصحيحين من حديث عائشة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة

٤٧

نساء اهل الجنة او نساء المؤمنين وروى ابو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل نساء اهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد واخرج احمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن حذيفة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نزل ملك من السماء فاستأذن الله ان يسلم علىّ فبشرنى ان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة فهذه الأحاديث تدل على ان فاطمة أفضل من مريم لان نساء اهل الجنة عام لا يحتمل التخصيص بزمان دون زمان بخلاف قوله تعالى اصطفيك على نساء العلمين فانه يحتمل ان يكون المراد منه عالمى زمانها كما قلنا لكن ورد فيما روى ابو يعلى وابن حبان والحاكم والطبراني عن ابى سعيد الخدري ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فاطمة سيدة نساء اهل الجنة الا ما كان من مريم وروى الترمذي عن أم سلمة عن فاطمة قالت أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انى سيدة نساء اهل الجنة الا مريم بنت عمران فهذين الحديثين يدلان على استثناء مريم من المفضولية ولا يدلان على كونها أفضل من فاطمة عليها‌السلام وما فى الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة بضعة منى وعند احمد والترمذي والحاكم عن ابن الزبير نحوه يقتضى فضل فاطمة على جميع الرجال والنساء كما قال مالك لا نعدل ببضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا لكن عند جمهور اهل السنة خص منه من علم فضلهم قطعا من الأنبياء وبعض الصديقين وبقي من سواهم فى العموم والله اعلم. (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) اى أطيلي القيام فى الصلاة شكرا (لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) اى مع المصلين بالجماعة ولم يقل مع الراكعات لان النساء تتبع الرجال دون العكس فيكون أشمل ـ. (ذلِكَ) مبتدا اى ما ذكر من القصص (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) اى اخباره خبره (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر بعد خبر وجاز ان يكون أحدهما خبرا والاخر حالا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) للاقتراع تقرير لما سبق من كونه وحيا على سبيل التهكم لمنكريه لان اسباب العلم منحصرة فى الثلاثة العقل او سماع الخبر او الحس وكون القصص غير مدرك بالعقل بديهي وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اميّا وكون الاخبار منقطعة فبقى ان يكون باحتمال العيان ولا يظن به عاقل فبيان القصص منه صلى الله

٤٨

عليه وسلم على ما هو الواقع المعلوم عدل اهل العلم بالأخبار معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودليل قطعى على كونه نبيا وكون ما يتلو عليهم وحيا من الله تعالى والله اعلم (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) جملة استفهامية متعلقة بمحذوف دل عليه ما قبله اى يلقون أقلامهم يقولون ايّهم يكفل مريم او ليعلموا ايّهم يكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٣) فى كفالتها ـ. (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) بدل من إذ قالت الاولى وما بينهما معترضات ذكرت منة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالايحاء اليه وتنبيها للكفار على جهلهم وعنادهم (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ) مبتدا والضمير فيه الى الكلمة نظرا الى المعنى فان معناه مذكر يعنى عيسى عليه‌السلام (الْمَسِيحُ) خبر لاسمه والجملة فى موضع صفة لكلمة قال فى القاموس المسيح ان يخلق الله الشيء مباركا او ملعونا من الاضداد والمسيح عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى لبركته والدجال لشومه وملعونيته انتهى ـ وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وقيل سمى عيسى مسيحا لانه مسح منه الاقذار وطهر من الذنوب وقال ابن عباس سمى عيسى مسيحا لانه ما مسح ذا عاهة الا برئ وقيل سمى بذلك لانه كان يسيح فى الأرض ولا يقيم فى المكان ـ فى القاموس المسيح الكثير السياحة وقال ابراهيم النخعي المسيح الصديق وهو عيسى والمسيح الكذاب وهو الدجال فهو من الاضداد كذا فى القاموس وفى الصحاح قال بعضهم المسيح هو الذي مسح احدى عينيه وقد روى ان الدجال لعنه الله ممسوح اليمنى وقيل فى عيسى ممسوح اليسرى ومعنى القولين ان الدجال قد مسحت وأزيلت عنه الخصال المحمودة من الايمان والعلم والعقل والحلم وسائر الأخلاق الحميدة وان عيسى قد مسحت وأزيلت عنه الخصال الذميمة بالكلية من الجهل والشرة والحرص والبخل وغير ذلك قال صاحب القاموس ذكرت ولاشتقاق لفظ المسيح خمسين قولا فى شرحى لمشارق الأنوار وغيره (عِيسَى) لفظ عبرانى قيل هو معرّب اليشوع بمعنى السيد خبر بعد خبر وجاز ان يكون خبر مبتدا محذوف اى هو عيسى وهذا علمه والمسيح لقبه والاسم أعم منهما ومن الكنية فانه عبارة عن كل ما يميز الشيء عما عداه (ابْنُ مَرْيَمَ) لما كانت صفة تميز له تميز الأسماء نظمت فى سلكها ـ ولم يقل

٤٩

أسماؤه المسيح عيسى ابن مريم لان الاسم اسم جنس مضاف للاستغراق والاستغراق وان كان بمعنى كل فرد لكن يجوز حمل للمتعدد على مجموع يتضمنه الاستغراق بمعنى كل واحد نحو ما (١) من دابّة الّا امم أمثالكم وجاز ان يكون ابن مريم خبر مبتدا محذوف اى هو ـ ولا يجوز ان يكون ابن مريم صفة لعيسى فى التركيب لان اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم وانما قال ابن مريم والخطاب لها تنبيها على انه يولد من غير اب إذ الأولاد ينسب الى الآباء ولا ينسب الى الام الا إذا فقد الأب والله اعلم (وَجِيهاً) حال مقدرة لكلمة وهى وان كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره لتذكير المعنى اى شريفا رفيقا ذا جاه وقدر (فِي الدُّنْيا) بالنبوة وكونه مطاعا للخلائق (وَالْآخِرَةِ) بالشفاعة للامم وعلو درجته فى غرف الجنة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) لله تعالى بالقرب الذاتي والتجليات الذاتية الدائمية عطف على وجيها. (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) يعنى رضيعا حال من الضمير المرفوع ليكلم (وَكَهْلاً) معطوف عليه يعنى يكلم الناس رضيعا وكهلا على نسق كلام الأنبياء بلا تفاوت من أول عمره الى آخره ـ وفيه اشارة الى انه يعمر ولا يموت حتى يكهل والى ان سنه لا يتجاوز الكهولة قال الحسن بن الفضل وكهلا يعنى بعد نزوله من السماء فانه رفع الى السماء قبل سن الكهولة وقال مجاهد معناه حليما والعرب يمدح الكهولة لانه الحالة الوسطى فى استحكام العقل وجودة الرأى والتجربة فان قبل ذلك يقل التجربة اولا يبلغ العقل الى كماله وبعد ذلك يضعف العقل ـ وقوله ويكلّم النّاس عطف على ومن المقرّبين ـ وفى ذكر يكلّم النّاس فى المهد تسلية لمريم من خوف لوم الناس إياها على إتيانها بولد من غير زوج (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٧) جاز ان يكون معطوفا على كهلا ـ وان يكون معطوفا على يكلم الناس اى كائنا من الصالحين لا يتطرق اليه نوع من النقص والفساد فى الدين وذلك شأن الأنبياء فكانّ معناه ومن النبيين. (قالَتْ) مريم (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) تعجب او استبعاد عادى او استفهام من ان يكون بتزوج او غيره (قالَ) الله على لسان جبرئيل (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) اى قدّر ان يكون شىء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧) يعنى كما انه تعالى قادر على ان يخلق الأشياء بالتدريج

__________________

(١) وفى القران (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)

٥٠

بأسباب عادى ومواد قادر ان يخلقها دفعة بلا اسباب. (وَيُعَلِّمُهُ) قرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة عطفا على يخلق او على يبشرك والباقون بالنون على التكلم عطفا على ما ذكر على طريقة الالتفات ـ او ابتدا تطييبا لقلبها وازاحة لهمها من خوف اللوم لما علمت انها تلد من غير زوج (الْكِتابَ) اى الكتابة والخط فكان احسن الناس خطا فى زمانه وقيل المراد به جنس الكتب المنزلة يعنى يعلمه علوم الكتب السماوية المنزلة وخص الكتابان لمزيد الاهتمام حيث كان الواجب عليه الاقتداء بهما فى فروع الأعمال واما فى اصول الدين فمقتضى الكتب كلها واحد (وَالْحِكْمَةَ) الفقه (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً) منصوب بمضمر معطوف على يعلمه والتنوين للتعظيم تقديره ونجعله رسولا عظيما (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ٥ قيل كان رسولا فى حالة الصبا وقيل انما أرسل بعد البلوغ ـ وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه‌السلام وآخرهم عيسى عليه‌السلام (أَنِّي) منصوب بنزع الخافض متعلق برسولا اى رسولا بانى او بالعطف على الأحوال المتقدمة متضمنا معنى النطق يعنى ناطقا بانى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) اى معجزة دالة على رسالتى وانما قال باية وقد جاء بايات لان الكل فى الدلالة على صدقة كايه واحدة (مِنْ رَبِّكُمْ) جاز ان يكون ظرفا مستقرا صفة لاية وان يكون ظرفا لغوا متعلقا بجئتكم (أَنِّي) فتح الياء نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وابن كثير وابو عمرو وأسكنها الباقون وقرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بالفتح فيجوز نصبه على انه بدل من انّى قد جئتكم ويجوز جره على انه بدل من اية ويجوز رفعه على تقدير المبتدا اى هى انّى (أَخْلُقُ) اصور واقدر (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) صورة (كَهَيْئَةِ) الهيئة الصورة المهياة (الطَّيْرِ) قرا ابو جعفر الطّائر هاهنا وفى المائدة (فَأَنْفُخُ فِيهِ) اى فى الطين او الضمير راجع الى الكاف فى كهيئة اى فى ذلك المماثل (فَيَكُونُ طَيْراً) قرا الأكثرون بالجمع لانه خلق طيرا كثيرا وقرا نافع ويعقوب وابو جعفر طائرا على الافراد لان كل واحد منها كان طائرا ـ قال البغوي لم يخلق غير الخفاش وانما خص الخفاش لانها أكمل الطير خلقا لان لها ثديا وأسنانا وهى تحيض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز ما لصنع العبد فيه مدخل مما لا مدخل فيه (بِإِذْنِ اللهِ) اى بامره وقوله كن نبه به على ان إحياءه من الله تعالى لا منه (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) الذي ولد

٥١

أعمى او الممسوح العين كذا قال ابن عباس وقال الحسن والسدى هو الأعمى وقال عكرمة هو الأعمش يعنى ضعيف البصر مع سيلان الدمع كثيرا وقال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار دون الليل (وَالْأَبْرَصَ) الذي به وضح وهذان الداءان يعجز عنهما الأطباء وكان فى زمن عيسى الطب غالبا فاراهم المعجزة من جنس ذلك كما كان فى زمن موسى السحر غالبا فارى عجز كل سحار عليم وفى زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان البلاغة فى الكلام فاعجزهم القران وقال فأتوا بسورة من مثله قال وهب بن منبه ربما اجتمع على عيسى من المرضى فى اليوم الواحد خمسون الفا من أطاق ان يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى اليه عيسى وكان يدعو للمرضى والزمنى والعميان وغيرهم بهذا الدعاء اللهم أنت اله من فى السماء واله من فى الأرض لا اله فيهما غيرك وأنت جبّار من فى السموات وجبّار من فى الأرض لا جبّار فيهما غيرك وأنت ملك من فى السماء وملك من فى الأرض لا ملك فيهما غيرك وقدرتك فى الأرض كقدرتك فى السماء سلطانك فى الأرض كسلطانك فى السماء أسئلك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم انك على كل شىء قدير قال وهب هذا الفزع والجنون يقرا عليه ويكتب ويسقى ماؤه ان شاء الله تعالى يبرا (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) كرر قوله بإذن الله دفعا لتوهم الالوهية فان الاحياء ليس من جنس الافعال البشرية قال البغوي قال ابن عباس قد أحيا اربعة انفس عازر وابن العجوز ـ وابنه العاشر ـ وسام بن نوح عليه‌السلام اما عازم فكان صديقا له فارسلت أخته الى عيسى عليه‌السلام ان أخاك عازر يموت وكان بينه وبين عيسى مسيرة ثلاثة ايام فاتاه هو وأصحابه فوجده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقي بنا الى قبره فانطلقت معهم الى قبره فدعا الله فقام عازم وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له واما ابن العجوز مرّ به ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع الى اهله فبقى وولد له ـ واما ابنة العاشر فكان والدها يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله عزوجل فاحياها وبقيت وولدت ـ واما سام بن نوح فان عيسى جاء الى قبره فدعاه باسم الله الأعظم

٥٢

فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون فى ذلك الزمان فقال قد قامت القيامة قال لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له مت قال بشرط ان يعيذنى الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) مما لم اعائنه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء قال السدى كان عيسى فى الكتاب يحدث الغلمان بما صنع اباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا فينطلق الصبى الى اهله ويبكى عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقال لا تلقوا مع هذا الساحر فجمعوهم فى بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا ليسوا هاهنا فقال فما فى هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عنهم فاذاهم خنازير ففشا ذلك فى بنى إسرائيل فهمت به بنوا إسرائيل فلما خافت عليه امه حملته على حمير لها وخرجت هاربة الى ارض مصر ـ وقال قتادة انما هذا فى المائدة وكانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى فامروا ان لا يخونوا ولا يخبؤا فخانوا وخبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من الأمور الخارقة للعادة (لَآيَةً) على صدق عيسى فى دعوى النبوة (لَكُمْ) لتهتدوا بها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩) اى موفقين للايمان فامنوا ـ. (وَمُصَدِّقاً) عطف على رسولا او منصوب بفعل مقدر دل عليه قد جئتكم اى وجئتكم مصدقا (لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) وهكذا شأن الأنبياء يصدقون الكتب السماوية كلها ويصدق بعضهم بعضا (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) اى انسخ حرمة بعض ما فى التورية من اللحوم والشحوم المحرمة فيها والنسخ لا ينافى التصديق كما ان القران ينسخ بعضه بعضا مقدر بإضمار جئتكم او مردود على قوله بانّى قد جئتكم باية او معطوف على معنى مصدقا اى لا صدق ولا حل (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) جاز ان يكون المراد بالآية هاهنا آيات الإنجيل وجاز ان يقال انه تكريرا للتأكيد ـ ولتقريبها الى الحكم ولذلك رتب عليه قوله (فَاتَّقُوا اللهَ) اتقوا عذاب الله

٥٣

فى مخالفتى وتكذيبى (وَأَطِيعُونِ) (٥٠) فيما أمركم به من توحيد الله وطاعته. (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) تفصيل لما أجمل من قوله فاتّقوا الله وأطيعون فان فى قوله انّ الله ربّى وربّكم اشارة الى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد أقرّ اولا فى هذه الجملة بالعبودية على نفسه سدّا لباب الفتنة التي يأتى من قومه من قولهم ابن الله وثالث ثلاثة وفى قوله فاعبدوه اشارة الى استكمال القوة العملية بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي ثم أكد الجملتين بقوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١) يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير وهو المعنى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل امنت بالله ثم استقم فى جواب من قال مر لى فى الإسلام لا اسئل منه بعدك رواه اصحاب السنن واحمد والبخاري فى التاريخ ـ. (فَلَمَّا) ظرف زمان فيه معنى الشرط جوابه قال من انصارى (أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ) اى من بنى إسرائيل (الْكُفْرَ) يعنى سمع منهم تكذيبه والقول بمثل عزير ابن الله وابصر منهم ما يدل على الكفر وفى الكلام حذف اختصار يدل على المحذوف ما مر من البشارة تقديره فولدت مريم عيسى وكلم عيسى قومه فى المهد وبلغ الكمال حتى صار نبيا عالما بالتورية والإنجيل ودعا الناس الى الهدى والتي بالمعجزات المذكوران وأنكره بنو إسرائيل وكذبوه وأتوا بما يدل على الكفر فلما أحس عيسى منهم ذلك (قالَ مَنْ أَنْصارِي) فتح الياء نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وأسكنها الباقون (إِلَى اللهِ) الى هاهنا بمعنى مع كما فى قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) او بمعنى فى او بمعنى اللام يعنى من انصارى مع الله او فى الله يعنى فى سبيل الله او لله ـ او هو بمعناه ويعتبر فى النصرة معنى الاضافة يعنى من الذين يضيفون أنفسهم الى الله فى نصرى فعلى هذه الوجوه الجار والمجرور ظرف لغو ـ وجاز ان يكون ظرفا مستقرا على انه حال من الياء اى من انصارى ملتجيا الى الله او ذاهبا الى ما امر به اوضا ما اليه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) حوارى الرجل خالصته من الحور بمعنى البياض الخالص قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ندب الناس يوم الخندق ثلاثا فانتدب كل مرة زبير بن العوام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان لكل نبى حواريّا وحوار بي الزبير متفق عليه

٥٤

وفى القاموس الحوارى الناصر او ناصر الأنبياء والقصار والحميم سمى اصحاب عيسى به لخلوص نيتهم فى الدين ولكونهم ناصرا له كذا قال الحسن وسفيان وقيل كانوا ملوكا استنصر بهم عيسى من اليهود سموا بها لما كانوا يلبسون الثياب البيض واخرج ابن جرير عن ابى ارطاة كانوا قصارين يحورون الثياب اى يبيضونها وقال الضحاك سموا بها لصفاء قلوبهم يعنى لتطهرهم من الذنوب وقال ابن المبارك سموا به لما عليهم اثر العبادة ونورها ـ واصل الحور عند العرب شدة البياض وقال الكلبي وعكرمة الحواريون الأصفياء وكانوا اثنى عشر رجلا قال روح بن القاسم سالت قتادة عن الحواريين قال هم الذين يصلح لهم الخلافة وعنه قال الحواريون الوزراء وقال مجاهد والسدى كانوا صيادين السمك وقيل كانوا ملاحين (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) اى أنصار دينه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ) يا عيسى يوم تشهد الرسل لقومهم وعليهم (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢) فيه دليل على ان الايمان والإسلام واحد. (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الكتب الإنجيل وغيره. (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى عليه‌السلام فى كل ما أمرنا به (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣) بوحدانيتك ولانبيائك بالصدق وقال عطاء مع النبيين لان كل نبى شاهد لامته وقال ابن عباس مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته لانهم يشهدون للرسل على البلاغ. (وَمَكَرُوا) اى الذين أحس عيسى منهم الكفر حيث أراد واقتله ـ قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس استقبل عيسى رهطا من اليهود فلما راوه قالوا قد جاء الساحرين الساحرة فقذفوه وامه فلعنهم عيسى ودعا عليهم فمسخهم الله خنازير فلما راى ذلك يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وبادروا اليه ليقتلوه فبعث الله جبرئيل فادخله خوخة فى سقفها روزنة فرفعه الله الى السماء من تلك الروزنة فامر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطيانوس ان يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل القى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا انه عيسى فقتلوه وذلك قوله تعالى (وَمَكَرَ اللهُ) والمكر فى الأصل حيلة يجلب بها غيره الى مضرة فلا يسند الى الله تعالى

٥٥

الا على سبيل المقابلة والازدواج قال الزجاج مكر الله عزوجل مجازاتهم على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء لانه فى مقابلته (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) اى أقواهم وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب .. (إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لمكر الله او لمضمر مثل وقع ذلك (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) اى الى محل كرامتى ومقر ملائكتى قال الحسن والكلبي وابن جريج معناه انى قابضك ورافعك الى من الدنيا من غير موت قال البغوي لهذا المعنى تأويلان أحدهما انى رافعك الى وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت كذا اى استوفيته إذا أخذته تاما ـ والاخر انى متسلمك من قولهم توفيت منه كذا اى تسلمته ـ واخرج ابن جرير عن الربيع بن انس المراد بالتوفى النوم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما الى السماء فيحنئذ معناه انى منيمك ورافعك الى كما قال هو الّذى يتوفّيكم باللّيل ـ وقال بعضهم المراد بالتوفى الموت روى على بن ابى طلحة عن ابن عباس معناه انى مميتك قال البغوي فعلى هذا ايضا له تأويلان أحدهما ما قاله وهب توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه اليه وقال محمد بن إسحاق النصارى يزعمون الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه كذا اخرج ابن جرير عنه ـ ثانيهما ما قاله الضحاك معناه انى متوفيك بعد انزالك من السماء ومؤخرك الى أجلك المسمى عاصما إياك من قتل اليهود ورافعك الى قبل ذلك والواو للجمع المطلق لا للترتيب وهذا التأويل يأباه قوله تعالى فى المائدة فلمّا توفّيتنى كنت أنت الرّقيب عليهم فانه يدل على انه قومه انما تنصروا بعد توفيه ولا شك انهم تنصروا بعد رفعه الى السماء فظهر ان المراد بالتوفى اما الرفع الى السماء واما التوفى قبل الرفع والظاهر عندى ان المراد بالتوفى هو الرفع الى السماء بلا موت يشهد به الوجدان بعد ملاحظة قوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولولا نفى الموت عنه لما كان من نفى القتل فائدة إذ الغرض من القتل الموت والله اعلم ـ عن ابى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد

٥٦

حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم قال ابو هريرة فاقرءوا ان شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الاية متفق عليه وفى رواية لهما كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وفى رواية لمسلم وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون الى المال فلا يقبله أحد ـ وعنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نزول عيسى قال ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام ويهلك الدجال فيمكث فى الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون ـ كذا قال البغوي وروى ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل عيسى بن مريم الى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى قاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين ابى بكر وعمر ـ وعن جابر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعالى صل لنا فقال لا ان بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة رواه مسلم وفى حديث المعراج ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راى عيسى بن مريم فى السماء الثانية متفق عليه (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعنى يعلونهم بالحجة والسيف فى غالب الأحوال ـ ومتبعوه الحواريون ومن كان من بنى إسرائيل على دينه الحق قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون من امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين صدقوه واتبعوا دينه فى التوحيد ووصيته باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد ـ وقيل أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود الى يوم القيامة الى الان لم يسمع غلبة اليهود عليهم وذهب ملك اليهود فلم يبق لهم ملك ودولة والملك والدولة من بنى إسرائيل فى النصارى فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ضمير المخاطب لعيسى ومن تبعه ومن كفر به وغلّب المخاطبين على الغائبين

٥٧

(فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥) من امر الدين ثم فصّل ذلك الحكم فقال. (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والاسر وضرب الجزية والذل (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٥٢) يمنعهم من عذابنا. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ) قرا حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم (أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٥٧) اى لا يرحم الكافرين وإذا لم يرحمهم عذبهم على ما اقتضاه كفرهم ـ قال اهل التاريخ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدت عيسى بمضىء خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على ارض بابل واوحى الله الى عيسى وهو ابن ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت مريم بعد رفعه ست سنوات (١) وفى رواية انه لمّا قتل وصلب من شبه بعيسى جاءت مريم وامراة اخرى كان عيسى دعالها فابّراها الله من الجلون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما علام تبكيان ان الله رفعنى ولم يصبنى الأخير وان هذا شىء شبّه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال الله عزوجل لعيسى اهبط على مريم المحد لابنها فى جبلها فانه لم يبك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها ـ ثم لتجمع لك الحواريون فتثبهم فى الأرض دعاة الى الله عزوجل فاهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون فبثهم فى الأرض دعاة ثم رفعه الله اليه وتلك الليلة هى التي تدّخر فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم. (ذلِكَ) مبتدا خبره (نَتْلُوهُ) يعنى الذي ذكر من امر عيسى ومريم والحواريين نتلوه (عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) حال من الضمير المنصوب فى نتلوه ـ وجاز ان يكون نتلوه حالا من المشار اليه والعامل فيه معنى الاشارة والخبر من الآيات ـ وان يكونا خبرين وان ينتصب ذلك بمضمر يفسره نتلوه ـ والمراد بالآيات اما آيات القران او المعجزات الدالة

__________________

(١) فى بالأصل سنة

٥٨

على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دعوى نبوته فانه لم يكن عالما بتلك القصص واخبر على ما كان عند اهل العلم منهم (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨) اى القران ذى الحكمة وقال مقاتل الحكيم المحكم الممنوع من الباطل وقيل الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء طوله ما بين السماء الأرض. (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) يعنى شأنه الغريب (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) كشأنه ثم فسره وبين وجه التشبيه فقال (خَلَقَهُ) اى صور قالبه يعنى آدم (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ) اى لذلك القالب (كُنْ) بشرا حيّا (فَيَكُونُ) (٥٩) حكاية عن الحال الماضية او المعنى قدر خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وجاز ان يكون ثم لتراخى الخبر عن الخبر دون المخبر يعنى اخبر اولا انه خلق آدم من تراب ثم اخبر بانه انما خلقه بان قال له كن فكان يعنى لم يكن هناك اب ولا أم ولا حمل ولارضاع ولا فطام ـ فشأن عيسى فى الغرابة شابه شأن آدم من حيث كونه بلا اب فقط وشأن آدم اغرب منه بوجوه فشبه الغريب بالاغرب وما هو خارق للعادة بالاخرق ليكون اقطع لنزاع الخصم واحسم لمادة الشبهة ـ نزلت الاية فى وفد نجران لما قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك تشتم صاحبنا قال ما أقول قالوا تقول انه عبد قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى العذراء البتول فغضبوا وقالوا وهل رايت إنسانا قط من غير اب فانزل الله تعالى لالزامهم واقحامهم هذه الاية ـ واخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه واخرج عن الحسن قال اتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راهبا نجران فقال أحدهما من ابو عيسى وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتعجل حتى يأمره ربه فنزل عليه ذلك نتلوه عليك الى قوله من الممترين فانهم كانوا يعترفون بخلق آدم بغير اب وأم من تراب ـ وما أجهل النصارى لعنهم الله قالوا هل رايت إنسانا قط من غير اب وما تفكّروا فى أنفسهم انهم هل راوا إنسانا تلد شاة او شاة تلد إنسانا مع اتحاد الجنس فى الحيوانية واختلافهما فى النوع فكيف حكموا بان الله الأحد الصمد القديم لذاته الذي ليس كمثله شىء ولد عيسى جسما مخلوقا حادثا يأكل الطعام وينام ويموت بل هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (فائدة) فى هذه الاية دلالة على

٥٩

حجية القياس لان الله سبحانه نبه على الحكم بجواز خلق عيسى من غير اب قياسا على خلق آدم ـ. (الْحَقُ) خبر مبتدا محذوف او فاعل لفعل محذوف يعنى هو الحق او جاء الحق وجاز ان يكون مبتدا خبره (مِنْ رَبِّكَ) اى الحق المذكور من الله وعلى التقديرين الأولين من ربّك متعلق بجاء المحذوف او حال من الضمير فى الحق (فَلا تَكُنْ) ايها المخاطب المنكر (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٧٠) الشاكّين فى امر عيسى عليه‌السلام كما افترت اليهود حتى بهتوا امه وافترت النصارى حتى قالوا انه ابن الله. (فَمَنْ) شرطية وجاز ان يكون استفهامية لانكار وجود من يحاجه من بعد ان النصارى عجزوا من المخاصمة (حَاجَّكَ) اى جادلك من النصارى (فِيهِ) اى فى عيسى او فى الحق (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بان عيسى عبد الله ورسوله ـ وفى ذكر هذا القيد للمباهلة تنبيه على ان المسلم لا ينبغى ان يباهل الا بعد كمال اليقين (فَقُلْ) يا محمد (تَعالَوْا) امر من التفاعل من العلو قال الفراء معناه كانه قال ارتفعوا قلت كانه يطلب منه ان يظهر على مكان عال ليبصر ما خفى عن بصره ثم استعير وغلب استعماله فى طلب التأمل والتوجه من المخاطب بالرأى فيما خفى عنه ـ فحاصل المعنى هلموا بالرأى والعزم ـ وقد يستعمل للدعاء الى مكان قريب من الداعي (نَدْعُ) مجزوم فى جواب الأمر (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) يعنى ندع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله من الأبناء والنساء فنضمهم الى أنفسنا حتى يعم ما نزل بالكاذب من العذاب اجمعهم وقدمهم على النفس لان الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم ولان الأصل فى الدعاء المغائرة بين الداعي والمدعو والمغائرة بين الرجل وبين ابنائه ونسائه حقيقى وبينه وبين نفسه اعتباري فقدم الحقيقي على الاعتباري ـ روى مسلم والترمذي عن سعد بن ابى وقاص قال لما نزلت هذه الاية دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء اهل بيتي (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) افتعال ومعناه التفاعل واختير الافتعال هاهنا على التفاعل لان المقصود منه جلب اللعنة الى نفسه ان كان كاذبا ودفعها الى خصمه ان كان صادقا وجلب الشر الى نفسه اسرع وقوعا من دفعه الى غيره فكان الغرض منه

٦٠