التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

ابى سعيد انه إذا اشتهى المؤمن فى الجنة الولد كان فى ساعة ولكن لا يشتهى رواه الترمذي والدارمي يعنى لا يشتهى غالبا جمعا بين الروايات ـ وذكر الله سبحانه ما زاد على نعماء الدنيا ولا مزيد عليه وهو رضوان الله فانه هو الفارق البائن بين نعماء الدنيا ونعماء الجنة فان الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ما ابتغى به وجه الله عزوجل وفى رواية الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن مسعود وفى الصغير عن ابى الدرداء وابن ماجة عن ابى هريرة واما نعماء الجنة فهى مرضيات لله تعالى عن ربيعة الحرسي قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل لى فى المنام سيد بنى دارا وصنع مادبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال والله سيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة رواه الدارمي ـ قلت والسر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى لا ينبغى ان يلتفت إليها قال الله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ونعيم الجنة مرضية لله تعالى ممدوح من يطمع فيها قال الله تعالى (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ان مبادى تعينات النشئة الدنيوية غالبا هى الاعدام التي تقررت فى مرتبة العلم واستضاءت بالتقابل بعكوس نقائضها التي هى صفات الكمال لله تعالى كالجهل فى مقابلة العلم والعجز فى مقابلة القدرة ونحو ذلك وسميت ظلالا ولاجل ذلك يسرع الفناء الى هذه النشئة والعدم فى نفسه شر محض لا نصيب له من الحسن والجمال والخير والكمال الا بالتموية بخلاف النشئة الاخروية فان مبادى تعيناتها انما هى صفات الله تعالى الحسناء فحبها حب الله تعالى والانشغاف بها الانشغاف به تعالى كذا ذكر المجدد رضى الله عنه فى سر محبة يعقوب عليه‌السلام بيوسف عليه‌السلام مع ان الأنبياء بل الأولياء لا يلتفتون الى غير الله سبحانه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كنت متخذا خليلا لا تخذن أبا بكر خليلا وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا رواه مسلم قال المجدد رضى الله عنه وذلك ان حسن يوسف عليه‌السلام كان من جنس حسن اهل الجنة فكان حبة والعشق به حب الله تعالى وعشقه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥) هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق واللامم اما للاستغراق اى بصير بجميع العباد محسنهم ومسيئهم فيجازيهم على حسب ما عملوا ـ

٢١

واما للعهد يعنى بصير بالذين اتقوا ولذا أعد لهم الجنات ـ. (الَّذِينَ يَقُولُونَ) مجرور على انه صفة للمتقين او للعباد وجاز ان يكون منصوبا على المدح او مرفوعا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٦) الفاء للسببية وفيه دليل على ان مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة عن معاذ قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ ا فلا ا بشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا متفق عليه. (الصَّابِرِينَ) على خلاف النفس مانعيها عن الجزع فى المصائب وعن اتباع الشهوات والرذائل حابسيها على الطاعات والفضائل (وَالصَّادِقِينَ) فى المقال وادعاء الأحوال وجميع الدعاوى والروايات والشهادات ـ واصدق الصدق شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله (وَالْقانِتِينَ) الدائمين على الطاعات المشتغلين بالله تعالى (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم فى مرضات الله ـ فاستوعب الكلام انواع الطاعات من الأخلاق والأقوال والأعمال البدنية والمالية (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧) يعنى انهم مع ما هم فيه من الطاعات الظاهرة والباطنة خائفون من الله يعترفون على أنفسهم بالتقصير فيستغفرون منه كيف لا وان العباد لا يمكن ان يعبدوا كما ينبغى لكبريائه وعظمته ـ بل العبد إذا لاحظ الى انّ أفعاله مخلوقة لله تعالى وانه تعالى منّ عليه بتوفيقه لعبادته وارتضاه لنفسه حيث لم يتركه الى غيره علم ان كل ما صدر منه ان كان قابلا للقبول فهو مستوجب للشكر والامتنان ولا يتصور أداء شكر نعمائه الا ان يتغمده الله بمغفرته ورضوانه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) ـ (١) (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وخص الاسحار بالاستغفار لكونها اقرب للاجابة عن ابى هريرة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ينزل الله تعالى الى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذي يدعونى فاستجيب له من ذا الذي يسئلنى فاعطيه من ذا الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه وفى رواية لمسلم ثم يبسط يديه ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر قال البغوي حكى عن الحسن ان لقمان قال لابنه يا بنى لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت

__________________

(١) وفى القران بعد (أَنْ أَسْلَمُوا ـ قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ) إلخ ـ

٢٢

بالأسحار وأنت نائم على فراشك وعن زيد بن اسلم انه قال هم الذين يصلون الصبح فى الجماعة وقيد بالسحر لقربه من الصبح وقال الحسن مدوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا قال نافع كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول يا نافع اسحرنا فاقول لا فيعاود الصلاة فاذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وتوسيط واو العطف دليل على استقلال كل واحدة منها فى الكمال وكمالهم فيها او لتغائر الموصوفين بها فالصابرون الصوفية اصحاب القلوب والنفوس الزاكية والغزاة والشهداء والصادقون العلماء الناطقون بالروايات الصادقة والقانتون الزهاد المصلون بطول القنوت الداعون الله خوفا وطمعا والمنفقون الأغنياء الصالحون من المؤمنين يكتسبون الأموال من الوجوه المباحة وينفقونها فى سبيل الله والمستغفرون بالأسحار الذين (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم رواه مسلم ـ وروى احمد وابو يعلى من حديث ابى سعيد نحوه ـ قدم الله سبحانه فى الذكر الا فضل فالافضل ـ. (شَهِدَ اللهُ) اى بيّن بنصب الدلائل العقلية وإنزال الآيات السمعية (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حكى البغوي عن الكلبي قال قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ابصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج فى اخر الزمان فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت احمد قال انا محمد واحمد قالا فانا نسئلك عن شىء فان اخبرتنا أمنا بك وصدقناك فقال سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب الله عزوجل فانزل الله تعالى هذه الاية فاسلم الرجلان قال ابن عباس خلق الله الأرواح قبل الأجساد باربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح باربعة آلاف سنة فشهد بنفسه لنفسه قبل ان خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا ارض ولا بحر ولا بر فقال (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وشهدت (الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) يعنى مؤمنى الانس والجن كلهم أمنوا بالجنان وشهدوا بتوحيد الله تعالى باللسان (قائِماً) بتدبير مصنوعاته منصوب على الحال من الله فاعل شهد وجاز لعدم اللبس يعنى شهد الله

٢٣

فى حال قيامه بتدبير مصنوعاته فان قيامه عليه كذلك دليل واضح على توحيده ـ او على الحال من هو والعامل فيها معنى الجملة اى تفرد قائما ـ او احقه لانه حال مؤكدة ـ او على المدح وعلى هذا يكون مندرجا فى المشهود به ـ وجاز ان يكون مفعولا للعلم اى أولوا المعرفة قائما (بِالْقِسْطِ) اى متلبسا بالعدل فى قسمه وحكمه لا يتصور منه الظلم لانه مالك الملك يتصرف فى ملكه كيف يشاء فلا يجب عليه ثواب المطيع بل ذلك بفضل منه ولا عذاب العاصي فانه يغفر لمن يشاء فلا دليل فيه للمعتزلة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة ادلة التوحيد والحكم به بعد اقامة الحجة (الْعَزِيزُ) فى ملكه (الْحَكِيمُ) (١٨) فى صنعه صفتان لله فاعل شهد او بدلان من هو قدم العزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته ـ. (إِنَّ الدِّينَ) المرضى (عِنْدَ اللهِ) هو (الْإِسْلامُ) قرا الكسائي بفتح انّ على انه بدل الكل ان فسر الإسلام بالايمان قال قتادة شهادة ان لا اله الا الله والإقرار بما جاء به الرسل من عند الله وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يجزى الا به ـ او فسر بما يتضمنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا متفق عليه من حديث عمر فى حديث طويل قصة سوال جبرئيل ـ وبدل اشتمال ان فسر الإسلام بالشريعة المحمدية فانه الدين المرضى عند الله فى هذا الزمان بعد نسخ الأديان المنزلة من الله تعالى سابقا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان موسى حياما وسعه الا اتباع رواه احمد والبيهقي من حديث جابر ـ وقرا الجمهور بكسر انّ على انه كلام مبتدا عن الأعمش انه قام من الليل يتهجد فمر بهذه الاية (شَهِدَ اللهُ) الاية ثم قال وانا اشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهى لى عند الله وديعة (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فلما فرغ من صلاته سئل عنه فقال حدثنى ابو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله ان لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة رواه البغوي بسنده وأخرجه الطبراني والبيهقي فى الشعب بسند ضعيف (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى اليهود والنصارى فى نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقية الإسلام حتى

٢٤

نفاه بعضهم وقال بعضهم انه مخصوص بالعرب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بانّ الدّين عند الله الإسلام حيث بين الله ذلك فى التورية والإنجيل (بَغْياً) منصوب على العلية (بَيْنَهُمْ) ظرف مستقر صفة لبغيا يعنى ما تركوا الحق واختلفوا بشبهة وخفاء فى الأمر بل بعد العلم بكونه حقا لاجل بغى وحسد مستقر بينهم ولاجل طلب الملك والرياسة ـ واخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر انها نزلت فى نصارى نجران ومعناها (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى الإنجيل فى امر عيسى عليه‌السلام حتى قال بعضهم انه ابن الله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بان الله واحد لم يلد وان عيسى عبده ورسوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) اى معاداة لليهود ومخالفة لهم حيث أنكروا نبوته وبهتوا امه بعد ما جاءهم العلم فى التورية انه عبده ورسوله واخرج ابن ابى حاتم عن الربيع ان موسى عليه‌السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بنى إسرائيل فاستودعهم التورية واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الاول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم المراد بقوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من أبناء أولئك السبعين حتى اهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يعنى بيان ما فى التورية (بَغْياً بَيْنَهُمْ) فسلط الله عليهم الجبابرة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) فيجازيه على كفره وعيد لمن كفر منهم. (فَإِنْ حَاجُّوكَ) يا محمد وقالت اليهود والنصارى ان ديننا هو الإسلام وانّما اليهودية والنصرانية نسب (فَقُلْ) لانزاع فى اللفظ بل (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) فتح الياء نافع وابو جعفر ـ ابو محمد عفا عنه وابن عامر وحفص واسكن الباقون (لِلَّهِ) اى انقدت لله تعالى وحده لا أشرك به غيره ولا اتبع هو اى فيما امر به بقلبي ولسانى وجميع جوارحى ـ وانما خص الوجه لانه أكرم جوارح الإنسان او المعنى أخلصت توجهى ظاهرا بالجوارح واللسان وباطنا بالنفس والقلب لله تعالى لا التفت الى غيره ـ او المعنى فوضت وجهى يعنى ذاتى لله تعالى ومقتضى هذا الإسلام والتفويض ان لا يشرك به غيره وان يسارع فى امتثال أوامره وانتهاء نواهيه وان يتبع كل شريعة جاءت من عنده ما لم ينسخ (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على الضمير المرفوع فى أسلمت وحسن للفصل اى واسلم من اتبعنى ـ وجاز ان يكون مفعولا معه ـ اثبت الياء نافع وكذا ابو جعفر وصلا ويعقوب فى الحالين ـ وابو عمرو فى الوصل على الأصل وحذفها الباقون فى الحالين تبعا للخط (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عطف على قل أسلمت يعنى قل

٢٥

لنفسك أسلمت واحضر الإسلام فى قلبك واجعله مطمئنا به (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) الذين لا كتاب لهم كمشركى العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) كما أسلمت بعد ما وضح بالدلائل العقلية وآيات التورية والإنجيل (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) أم أنتم بعد على كفركم ـ فهذا استفهام صيغة وامر معنى كما فى قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) يعنى انتهوا وفيه تعبير لهم بالبلادة او المعاندة (فَإِنْ أَسْلَمُوا) كما أسلمت (فَقَدِ اهْتَدَوْا) فقرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الاية فقال اهل الكتاب اسلمنا فقال لليهود ان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته فقالوا (١) معاذ الله وقال للنصارى أتشهدون ان عيسى عبد الله ورسوله فقالوا معاذ الله ان يكون عيسى عبدا ـ فقال الله تعالى (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام كما أسلمت (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) اى فلا يضرونك انما عليك تبليغ الرسالة دون الهداية وقد بلغت (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠) مؤمنهم وكافرهم يجزئ كل واحد بما عمل ـ. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) يعنى اليهود يكفرون بالقران والإنجيل وآيات التورية التي فيها نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) اى قتل اوائلهم الأنبياء وهم يرضون بفعلهم يريدون ان يفعلوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فعل اوائلهم فقاتلوه وسحروه وجعلوا السم فى طعامه حتى مات به شهيدا حين مات وقد ذكر قصة السحر وللسم فى سورة البقرة (بِغَيْرِ حَقٍ) يعنى فى اعتقادهم والا فقتل النبي لا يكون الا بغير حق وانما حملهم على القتل حب الرياسة ولم يروا منهم ما يجوز به القتل (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) اى بالعدل (مِنَ النَّاسِ) وهم اتباع الأنبياء ـ قرا حمزة يقاتلون من المفاعلة قال ابن جريج كان الوحى يأتى الى أنبياء بنى إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكّرون قومهم فيقتلون ايضا فهم (الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) روى البغوي عن ابى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا او رجل امر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) الى قوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة

__________________

(١) فى الأصل فقال ـ ابو محمد عفا الله عنه

٢٦

وأربعين نبيا من أول النهار فى ساعة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فامروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من اخر النهار فى ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله فى كتابه وانزل الاية فيهم (فَبَشِّرْهُمْ) اى أخبرهم يا محمد ذكر لفظ البشارة تهكما بهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) وجيع قال سيبويه جملة فبشرهم لا يصلح ان يكون خبرا لانّ ولا يجوز عنده دخول الفاء على خبران قياسا على خبر ليت ولعل فعلى هذا خبران اما قوله تعالى. (أُولئِكَ الَّذِينَ) الى آخره ـ وجملة فبشّرهم معترضة نظيره زيد فافهم رجل صالح واما محذوف وأقيم المسبب مقامه والتقدير لهم عذاب اليم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ وقال الجمهور جملة فبشّرهم خبر لانّ فقال البغوي انما ادخل الفاء على خبران على الغاء ان وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم وقال اكثر النحويين يجوز دخول الفاء على خبران لشبه اسمها الموصول بالشرط كالمبتدا الموصول بخلاف اسم ليت ولعل فانهما ينقلان الجملة الخبرية الى الإنشاء فينفيان المشابهة بالشرط فعلى هذا الجملة التالية خبر بعد خبر (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) اى ضاعت (أَعْمالُهُمْ) فلهم اللعنة والخزي (فِي الدُّنْيا وَ) العذاب فى (الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢) يحفظ أعمالهم من الحبط ويدفع عنهم العذاب ـ اخرج ابن المنذر وابن إسحاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم الى الله تعالى فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد قال على ملة ابراهيم ودينه قالا فان ابراهيم كان يهوديا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهلما الى التورية فهى بيننا وبينكم فابيا عليه فانزل الله تعالى. (أَلَمْ تَرَ) استفهام للتقرير والتعجيب (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) يعنى نصيبا حقيرا حيث لا نصيب لهم من بطون الكتاب ولا من الايمان بجميع ما فيه (مِنَ الْكِتابِ) ومن للتبعيض وجاز ان يكون للبيان والمراد بالكتاب التورية او جنس الكتب السماوية (يُدْعَوْنَ) حال من الموصول مفعول (أَلَمْ تَرَ) يعنى يدعوهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلى كِتابِ اللهِ) يعنى التورية على ما ذكرنا من الرواية ـ وكذا على ما قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان رجلا وامراة من اهل خيبر زنيا وكان فى كتابهما الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٧

ورجوا ان يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن او فى وبحرى بن عمر وجرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينى وبينكما التورية قالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتورية قالوا رجل اعور ليسكن فدك يقال له ابن صوريا فارسلوا اليه فقدم المدينة ـ وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشىء من التورية فيه الرجم مكتوب فقال له اقرأ فلما اتى اية الرجم وضع كفه عليها وقرا ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وان كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما فى بطنها فامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فانزل الله تعالى هذه الاية (لِيَحْكُمَ) الكتاب أسند الحكم الى الكتاب لكونه سببا للحكم او ليحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَيْنَهُمْ) على وفق الكتاب (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) عطف على يدعون وفيه استبعاد لتوليتهم مع علمهم بانه الحق من ربهم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) اى هم قوم عادتهم الاعراض عن الحق والجملة حال من فريق وهى نكرة مخصصة بالصفة وقال قتادة معناه ان اليهود دعوا الى حكم كتاب الله يعنى القران فاعرضوا عنه وروى الضحاك عن ابن عباس فى هذه الاية ان الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكم القران على اليهود والنصارى انهم على غير الهدى فاعرضوا عنه. (ذلِكَ) التولي عن كتاب الله بعد العلم به والاعراض عن الحق (بِأَنَّهُمْ) اى بسبب تسهيل امر العقاب على أنفسهم باعتقاد فاسد وهو انهم (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أربعين يوما عدد ايام عبادة ابائهم العجل كما مر فى سورة البقرة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) اى هذا القول او ان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم او ان يعقوب وعده الله تعالى ان لا يعذب أولاده. (فَكَيْفَ) خبر لمبتدا محذوف يعنى فكيف حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) اى جزاء ما عملت من خير او شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

٢٨

الضمير لكل نظرا الى المعنى فان معناه كل انسان لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ـ اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قال ذكر لنا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سال ربه ان يجعل ملك فارس والروم فى أمته وقال البغوي قال ابن عباس وانس بن مالك رضى الله عنهم انه لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وعدامته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم هم اعزوا منع من ذلك الم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع فى ملك فارس والروم فانزل الله تعالى على اختلاف الروايتين. (قُلِ اللهُمَ) الى آخره ويمكن الجمع بينهما ـ وذكر البيضاوي انه روى انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره فجاء واحذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها وبرق برقا أضاء ما بين لابتيها لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون فقال أضاءت لى منها قصور حيرة كانّها أنياب الكلاب ـ ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لى منها القصور الحمر من ارض الروم ـ ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لى قصور صنعاء وأخبرني جبرئيل ان أمتي ظاهرة على كلها فابشروا ـ فقال المنافقون الا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة من ارض فارس وانها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق فنزلت هذه الاية ـ وقد ذكر البيهقي وابو نعيم فى الدلائل هذه القصة من غير ذكر نزول الاية ـ بالتحريك الخوف ـ نهايه منه رح وذكر ابن خزيمة عن قتادة مختصرا وفيه ذكر نزول الاية قوله تعالى (قُلِ) يا محمد والمقولة بعد ذلك (اللهُمَ) أصله يا الله حذف حرف النداء وزيدت الميم عوضا عنه ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص هذا الاسم الرفيع كدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه ـ وقيل أصله يا الله امّنا بخير اى اقصدنا فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته فبقى اللهم وربما خففوا فقالوا لا هم وكل ذلك لكثرة الاستعمال نظيره هلم إلينا كان أصله هل امّ إلينا اى هل قصد إلينا ـ وإذا قيل اللهم اغفر لى فقوله اغفر لى بيان لامّنا بخير وكذا فى قوله اللهم العن رعلا وذكوان فان لعن الأعداء يصلح بيانا لامّنا بخير (مالِكَ الْمُلْكِ) صفة للمنادى وقيل نداء بعد نداء حذف منه ايضا

٢٩

حرف النداء تقديره يا مالك الملك ولا يجوز جعله صفة للمنادى لان المنادى الاول مكفوف كصوت بلحوق كلمة هو ومثله لا يوصف كذا قال سيبويه ونقض بسيبويه النحوي ودفع بان الصوت هنا لم يبق على معناه بجعله جزءا للكلمة بخلاف ما نحن فيه ـ والملك مصدر يشتق منه الملك والمراد به المفعول أريد به عالم الإمكان واللام للاستغراق فان الله تعالى خالقه ومالكه يتصرف فيه كيف يشاء ويهب منه ما يشاء لمن يشاء لا يجوز لاحد ان يتصرف فى شىء من الأشياء الا باذنه وتمليكه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) واللام فى اللفظين للعهد الذهني والمعنى تعطى من الملك ما تشاء من تشاء وتسترد كذلك ـ عدل من الضمير الى الظاهر (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما بالنصر والأدبار والتوفيق والخذلان فى الدنيا والثواب والعذاب فى الاخرة (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) قيل تقديره بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما كما فى قوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) اى الحر والبرد وقيل خص ذكر الخير لسياق الكلام فيه حيث وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ملك فارس والروم وقيل ذكر الخير وحده لانه المقضى بالذات والشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا او لمراعات الأدب فى الخطاب ـ قلت لعل المراد بالخير الوجود فالوجود الحقيقي الذي لاحظّ له من العدم مختص بالواجب لذاته خير محض ليس فيه شائبة من الشر ـ والوجود الظلي الذي به تحقق الممكن فى الخارج الظلي مستفاد من الواجب ـ والعدم الذي هو حصة من الشر فى الممكن ذاتى له غير مستفاد من العلة ـ ومعنى اسناد الشر الى الله تعالى ان الممكن الذي الشر داخل فى مفهومه وبعض افراده اكثر شرا من البعض وحصة الوجود منه مستند الى الوجود الحق واما حصة الشر منه فذاتى له فما اصدق قوله تعالى (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦) ولا يقدر أحد غيرك على شىء أصلا وقدرة العباد انما هى قدرة متوهمة بها يسمى العبد كاسبا والله خلقهم وما يعملون ـ قال البيضاوي نبه بهذه الجملة على ان الشر ايضا بيده ـ قلنا نعم لكن معنى كونه تعالى قادرا على الشر وكون الشر بيده انه تعالى قادر على عدم افاضة الخير فان القدرة معناه ان شاء فعل وان شاء لم يفعل وإذا لم يفعل الخير بقي الممكن على الشر الأصلي ـ. (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يعنى تدخل أحدهما فى الاخر

٣٠

بالتعقيب او الزيادة فى أحدهما بالنقصان فى الاخر (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قرا نافع وابو جعفر ويعقوب وخلف ـ ابو محمد عفا عنه وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الميّت بتشديد الياء هاهنا وفى الانعام ويونس والروم وفى الأعراف لبلد ميّت وفى الفاطر الى بلد ميت ـ وزاد نافع او من كان ميّتا فاحييناه ـ ولحم أخيه ميّتا ـ والأرض الميّتة أحييناها ـ والباقون يخففون الجميع ويعقوب الحىّ من الميت ولحم أخيه ميتا ـ قيل معناه يخرج الحيوان من النطفة والبيضة ويخرج النطفة والبيضة من الحيوان والنبات الطري من الحب اليابس والحب اليابس من النبات كذا قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة والكلبي والزجاج وقال الحسن وعطاء يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر قال الله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) الاية كذا أخرجه ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧) اى من غير تضييق وتقتير بحيث لا يعرف الخلق عدده ومقداره وان كان معلوما عند الله عقب الله سبحانه هذه الجمل الخمس ليستدل بها على قدرة الله على إيتاء الملك من يشاء ونزعه ممن يشاء روى البغوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان فاتحة الكتاب واية الكرسي وايتين من ال عمران شهد الله الى قوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الى قوله (بِغَيْرِ حِسابٍ) مشفعات ما بينهن وبين الله عزوجل حجاب قلن يا رب تهبطنا الى أرضك والى من يعصيك قال الله عزوجل بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادى دبر كل صلوة الا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه والا أسكنته فى حظيرة القدس والا نظرت اليه يعنى كل يوم سبعين مرة وأقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة والا أعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليه واخرج الطبراني عن معاذ ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له الا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك الدين مثل ثبير اداه الله عنك (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الى قوله (بِغَيْرِ حِسابٍ) رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما نعطى من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغننى بها عن رحمة من سواك ـ والله اعلم ـ اخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال كان الحجاج بن عمرو حليفا لعمرو بن الأشرف وابن ابى الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم

٣١

فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم فابى أولئك النفر الا مباطنهم فانزل الله تعالى. (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) نهوا عن موالاتهم بقرابة او صداقة ونحو ذلك او عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الأمور الدينية (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فيه اشارة الى ان ولايتهم لا يجتمع ولاية المؤمنين لاجل منافاة بين ولاية المتعادين ففى ولاية الكفار قبح بالذات وقبح بالعرض بالحرمان عن ولاية المؤمنين ـ وذكر البغوي قول مقاتل انها نزلت فى حاطب بن ابى بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة وذكر قول الكلبي عن ابى صالح انها نزلت فى المنافقين عبد الله بن ابى وأصحابه كانوا يتولون المشركين واليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون ان يكون لهم الظفر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانزل الله تعالى هذه الاية ونهى المؤمنين عن فعل مثل فعلهم ـ (فصل) الحب فى الله والبغض فى الله باب عظيم من أبواب الايمان عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرء مع من أحب متفق عليه وعن انس مرفوعا نحوه بلفظ أنت مع من أحببت متفق عليه وعن ابى موسى قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل الجليس الصالح والسوء (١) كحامل المسك ونافح الكير (٢) فحامل المسك اما ان يحذيك اى يعطيك ـ نهايه منه واما ان تبتاع منه واما ان تجد منه ريحا طيبة ونافح الكير اما ان يحرق ثيابك واما ان تجد منه ريحا خبيثة متفق عليه وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابى ذر يا أبا ذر اىّ عرى الايمان أوثق قال الله ورسوله اعلم قال الموالاة فى الله والحب فى الله والبغض فى الله رواه البيهقي فى الشعب وعن ابى ذر قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان أحب الأعمال الى الله تعالى الحب فى الله والبغض فى الله رواه احمد وابو داود وفى الباب أحاديث كثيرة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اى اتخاذهم اولياء (فَلَيْسَ) الضمير المرفوع عائد الى من يفعل (مِنَ اللهِ) حال من شىء قدم عليه لتنكيره (فِي شَيْءٍ) خبر ليس والتنكير للتحقير يعنى ليس هو كائنا فى شىء حقير من ولاية الله او من دين الله يعنى كما ان ولاية الكفار لا يجتمع ولاية المؤمنين كذلك لا يجتمع ولاية الله ايضا ـ ولو قال

__________________

(١) مثنوى ـ دور شو از اختلاط يار بد

يار بد بدتر بود از مار بد

مار بد تنها همين بر جان زند

يار بد بر جان وبر ايمان زند

 ـ منه رح

(٢) ضارب كير الحداد الذي يجعل من الطين ـ منه رح

٣٢

من دون الله والمؤمنين لافاد ذلك الفائدة مع الاختصار لكن المقصود كمال المبالغة فى البعد عن ولاية الله (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) استثناء مفرغ منصوب على الظرفية وهو من حيث المعنى متعلق بكلا الجملتين السابقتين ومن حيث اللفظ بإحداهما مقدرا للاخرى كما هو داب التنازع يعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا منهم ومن يفعل ذلك ليس هو من اولياء الله فى شىء من الأوقات الا وقت الاتقاء ـ والاتقاء افتعال من الوقاية يعنى وقاية نفسه من شرهم ويلزمه الخوف ولاجل ذلك قيل معناه الا ان تخافوا (مِنْهُمْ تُقاةً) كذا قرا الجمهور وقرا مجاهد ويعقوب تقيّة على وزن فعيلة وعلى التقديرين مصدر من غير باب الفعل يقال توقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى وإذا قلت اتقيت كان مصدره اتقاء ثم المصدر جاز ان يكون بمعناه ويكون منصوبا على المصدرية والمعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا أنفسكم منهم اى من شرهم تقاة وجاز ان يكون بمعنى المفعول فالمعنى الا وقت ان تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ومقتضى الاستثناء اباحة موالاتهم وقت الخوف من شرهم ـ ولا شك ان الضروري يتقدر بقدر الضرورة فلا يجوز حينئذ الا اظهار الموالاة دون ابطانها ولا يجوز حينئذ ان يستحل دما حراما او مالا حراما او ارتكاب معصية او يظهر الكفار على عورات المسلمين او يطلعهم على اسرار المؤمنين ـ وأنكر قوم التقية بعد ظهور الإسلام قال معاذ بن جبل كانت التقية فى جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة الإسلام فاما اليوم فليس ينبغى لاهل الإسلام ان يتقوا من عدوهم ـ ثم بالغ سبحانه فى المنع عن ولاية الكفار وزاد على نفى ولاية المؤمنين ونفى ولاية الله عمن تولى بالكفار بالوعيد فقال (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) اى يخوفكم سخطه وعقابه فى موالاة الكفار وذكر النفس ليعلم ان المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يبالى بما يخاف أحدكم من الكفار فهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهي فى القبح (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) اى مصيركم اليه تعالى لا تقوتونه وهذا وعيد اخر. (قُلْ) يا محمد (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) اى قلوبكم من مودة الكفار وغيرها (أَوْ تُبْدُوهُ) قولا او فعلا (يَعْلَمْهُ اللهُ) لا يخفى عليه شىء والغرض من الكلام تسوية المبدى والمخفي بالنسبة الى علم الله تعالى والا فالعلم بالمخفي يقتصى العلم بالمبدى بالطريق الاولى فلا حاجة الى ذكره او تبدوه (وَيَعْلَمُ ما فِي

٣٣

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) جملة يعلم استيناف غير معطوف على جزاء الشرط وهو فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا لم يخف عليه شىء فكيف تخفى عليه ضمائركم واقتصر فى الذكر على علم ما فى السموات وما فى الأرض لانحصار نظر العوام عليهما والمقصود احاطة علمه تعالى بكل موجود فان وجود كل شىء مستفاد منه فكيف يخفى عليه شىء وفى ذكر احاطة علمه تعالى بكل شىء وقدرته على كل شىء بيان لقوله تعالى ويحذركم الله نفسه لانه متصف بالعلم الشامل والقدرة الكاملة فلا يجوز التجاسر على عصيانه عند العقل ـ وجاز ان يكون المراد انه تعالى لا يخفى عليه شىء يمكن به تعذيبكم فى الدنيا والاخرة وهو على كل شىء قدير فيعذبكم باىّ شىء يريد فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما ولا شك ان موالاة الكفار والمداهنة فى الدين يستلزم التعذيب فى الدنيا ايضا بضرب المذلة وسلب السلطنة والله اعلم ـ. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) الظرف اعنى يوم متعلق بتود وما موصولة ليست بشرطية لاجماع القراء على رفع تود ولو كانت شرطية لذهب بعضهم الى جزمه بناء على جواز الرفع والجزم إذا كان الشرط ماضيا مع ان المروي عن المبرّد ان الرفع شاذ يعنى إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا والموصول مع صلته مفعول لتجدو هى بمعنى تصيب فلا يقتضى الا مفعولا واحدا ومحضرا حال منه وما عملت من سوء معطوف على ما عملت من خير ـ ولعل المراد حينئذ بكل نفس هاهنا نفس مؤمنة خلطت عملا صالحا واخر سيّئا ـ واما من ليس له الا عمل صالح او الا عمل سىء فيظهر حاله بالمقايسة والمفهوم ـ فالله سبحانه برأفته بحضر للمؤمن عمله الصالح على رءوس الخلائق دون عمله السوء بل تجده فى نفسه وتود ان لا يظهره الله او يظهره الله على الإخفاء والتستر كما فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان الله يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستر فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتى قدره بذنوبه وراى فى نفسه انه قد أهلك قال سترتها عليك فى الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته واما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ وان كان تجد بمعنى تعلم فحينئذ محضرا يكون مفعولا ثانيا له محمولا على ما عملت من خير

٣٤

وفيما عطف عليه يقدر مثله كما فى قوله علمت زيدا فاضلا وعمروا يعنى تجد الخير والشر محضرين وكلمة لو مقحمة وان مع اسمها وخبرها مفعول لتودا وهى بمعنى ليت حكاية لودادهم وان مع اسمها وخبرها بمنزلة الاسم مع الخبر لليت وحذف مفعول تود لما يدل عليه ما بعده ـ وجاز ان يكون لو مصدرية وبعدها فعل مقدر فاعلها ان مع اسمها وخبرها وذلك الفعل بتأويل المصدر مفعول لتود وضمير بينه راجع الى اليوم او الى ما عملت من سوء تقدير الكلام حين تصيب كل نفس عملها الخير اى صحيفة عملها او جزاءه حال كونه محضرا وتصيب عملها الشر او تعلم جزاء خيرها وشرها محضرين عندها تود اى تتمنى مسافة بعيدة بينها وبين ذلك اليوم وهو له لما يرى من عملها السوء وان كان ذلك مع ما يرى من صالح عمله فان طمع النفع لا يصير مطمح نظره عند خوف الضرر او بينها وبين عملها السوء او يتمنى ثبوت مسافة بينها وبينه ـ والأمد الاجل والغاية التي ينتهى إليها ـ قال الحسن يسر أحدهم ان لا يلقى عمله السوء ابدا وقيل يود انه لم يعمله وجاز ان يكون يوم متعلقا بقدير ووجه تخصيص القدرة باليوم مع شموله لجميع الازمنة وقوع الثواب او العذاب فى ذلك اليوم والمعنى والله بكل شىء من ثوابكم وعذابكم قدير يوم تجد ـ وجاز ان يكون يوم منصوبا بمضمر فيقدر اذكر ـ والاولى ان يقدر يحذركم الله يوم تجد فلا يكون فى عطف ويحذركم خفاء وعلى هذه الوجوه تود حال مقدرة من الضمير فى عملت من سوء يعنى تجد ما عملت من سوء مقدرا حين ما عملت ذلك الوداد يوم القيامة ـ وجاز ان يكون تود خبرا لما عملت من سوء ويكون الواو فى وما عملت من سوء للاستيناف وتمت الجملة الاولى على ما عملت من خير وجاز ان يكون الواو للعطف وتود بمنزلة المفعول الثاني لتجد محمولا على ما عملت من سوء اى تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء هائلا بحيث تودّ انّ بينها وبينه أمدا بعيدا ـ عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) جملة مستانفة للتحذير عن ترك الواجبات وإتيان السيئات كما ان ما سبق كان للتحذير عن موالاة الكفار فلا تكرار ـ وجاز ان يكون معطوفة على تود اى يهاب من هذه اليوم او من عمله السوء

٣٥

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) بإظهار قهاريته يوم تجد ـ ولو كان الظرف متعلقا با ذكر جاز ان يكون هذه الجملة معطوفة على تجد اى اذكر (يَوْمَ تَجِدُ) ويوم يحذّركم الله بإظهار قهاريته وهذه الجملة لبيان المعاملة مع الكفار وقوله تعالى (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) اى بعباده المؤمنين لبيان المعاملة مع المسلمين وجاز على التأويل الاول ان يكون هذه الجملة فى مقام التعليل للجملة الاولى يعنى انما يحذّركم الله نفسه لانه رؤف بالعباد يريد إصلاحهم ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن مرسلا قال قال أقوام على عهد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله يا محمد انا لنحب ربنا فانزل الله تعالى. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) الاية ـ وروى ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير انها نزلت فى وفد نجران لمّا قالوا انما نعبد المسيح حبّا لله وقال البغوي نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقال الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش وهم فى المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا فى آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال والله يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل فقال قريش انما نعبدها حبّا لله (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فقال الله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) الحب بضم الحاء وكسره وكذا الحباب بهما والمحبة مصادر من أحبه يحبه فهو محبوب على غير قياس ومحبّ قليل وحببته أحبه حبا من ضرب يضرب شاذ ـ وهو عبارة عن اشتغال قلب المحب بالمحبوب وأنسه به بحيث يمنعه عن الالتفات الى غيره ولا يكون له بد من دوام التوجه اليه والاشتغال به وهذا هو المعنى من قولهم العشق نار فى القلوب تحرق ما سوى المحبوب ـ يعنى يقطع عن قلبه التوجه الى غير المحبوب فيجعله نسيا منسيا كان لم يكن فى الوجود غير محبوبه حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فلا يرى نفسه كما لا يرى غيره ومقتضى تلك الصفة ابتغاء مرضات المحبوب وكراهة ما يكرهه طبعا وبالذات بلا ملاحظة طمع فى ثوابه او خوف من عقابه وان اجتمع مع ذلك طمع وخوف ايضا ـ هذا تعريف المحبة من العبد واما محبة الله تعالى لعبده فالله سبحانه منزه عن القلب واشتغاله ولا يمنعه شأن عن شأن فهى فى حقه تعالى عبارة عن الانس الساذج المقتضى لجذب العبد الى جنابه وعدم إهماله وتركه الى غيره ـ

٣٦

وجذب الله العبد الى جنابه سبب للمحبة من العبد لله تعالى فمحبة العبد لله تعالى فرع لمحبة الله تعالى إياه وظل لها قال الله تعالى وألقيت عليك محبّة منّى وقال يحبّهم ويحبّونه قدم يحبهم على يحبونه هذا ما ذكرت هو المحبة الذاتية وما ذكر البيضاوي ان المحبة ميل النفس الى الشيء لكمال أدرك فيه بحيث يحمله على ما يقربه اليه فهو بيان للمحبة الصفاتية وهى بمراحل عن المحبة الذاتية الا ترى ان الام يحب ولدها بلا ملاحظة كمال فيه فذلك قريب من المحبة الذاتية وليست منها لان محبة الام تتفرع على علم انتساب الولد إليها واما محبة الله تعالى فهى اعزوا على من ذلك فقد ورد فى الصحيحين وغيرهما عن ابى هريرة وابن عباس وغيرهما مرفوعا بألفاظ مختلفة ان لله تبارك وتعالى مائة رحمة منها رحمة واحدة قسّمها بين الخلائق يتراحمون بها وادخر لاوليائه تسعة وتسعين ـ واما ما ذكر البغوي ان حب المؤمنين لله تعالى اتباعهم امره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فليس هذا تعريفا للمحبة بل بيان لمقتضاه وما يدل عليه (فَاتَّبِعُونِي) الفاء للسببية وذلك لان المحبة سبب لابتغاء مرضات الله تعالى ـ والمرضى من غير المرضى لا يدرك بالرأى بل بتعليم الله تعالى بتوسط الرسل فثبت ان المحبة سبب لاتباع الرسل والاتباع دليل على وجودها وعدمه دليل على عدمها فمن ادعى المحبة مع مخالفة سنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كذاب يكذبه كتاب الله تعالى (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) جواب للامر تقديره ان تتبعونى يحببكم الله ـ فان قيل مقتضى هذه الاية ان محبة الله تعالى العبد يتفرع على اتباع الرسول المتفرع على محبة من العبد لله تعالى المسبوق بمحبة من الله للعبد فيلزم الدور ـ قلنا هذه محبة اخرى من الله تعالى سوى المحبة السابقة فمحبة العبد لله تعالى محفوف بمحبتين من الله سبحانه سابق ولاحق فالمحبة السابقة ما ذكرناه سابقا والمحبة اللاحقة هى التي تقتضى الرحمة والتفضل الكامل الذي ورد فى الحديث ان جزءا واحدا منها اى من الرحمة قسمها الله بين الخلائق وادخر لاوليائه تسعة وتسعين ـ ولاقتضاء تلك المحبة اللاحقة من الله تعالى المغفرة والرحمة عطف عليه قوله (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١) قال البغوي لما نزلت هذه الاية قال عبد الله بن ابى لاصحابه ان محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا ان نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزل. (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ

٣٧

وَالرَّسُولَ) يعنى ان إطاعة الله والرسول واحد فان إطاعة الرسول من حيث هو رسول الله انما هى إطاعة الله تعالى لا غير ومن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى متفق عليه من حديث ابى هريرة حيث جعل دخول الجنة فرع اطاعته ـ وقال عليه‌السلام من أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري فى حديث طويل عن جابر (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل ان يكون ماضيا وان يكون مضارعا بحذف أحد التاءين أصله فان تتولوا اى تعرضوا عن إطاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢) وضع المظهر موضع الضمير ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على ان التولي كفر والكفر ينفى المحبة وان المحبة مخصوصة بالمؤمنين وجاز ان يكون جزاء الشرط محذوفا وقوله تعالى فانّ الله لا يحبّ الكفرين مسبب له دليل عليه أقيم مقامه تقديره فان تولّوا فانّ الله لا يحبهم لانه لا يحبّ الكفرين والجملة الشرطية تدل على ان التولي عن الاطاعة دليل على عدم محبة الله تعالى إياه ـ ومحبة العبد محفوف بالمحبتين من الله سابق ولا حق والله اعلم. (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) افتعال من الصفوة وهى الخالص من كل شىء يعنى اختار لنفسه ولمحبته ورسالته (آدَمَ) أبا البشر عليه‌السلام حتى اسجد له ملائكته واسكنه فى جنته واخرج من ذريته الأنبياء كلهم وهو أول النبيين المصطفين (وَنُوحاً) حين اختلف الناس وصاروا كفارا بعد ما كانوا على شريعة الحق ودين آدم عليه‌السلام فاختاره الله تعالى على من سواه وأهلك الكفار كلهم بدعائه وجعل ذريته هم الباقين (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) قيل أراد بال ابراهيم وال عمران أنفسهما كما فى قوله تعالى وبقيّة ممّا ترك ال موسى وال هرون يعنى موسى وهارون ـ وقال آخرون أراد بال ابراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وسائر أنبياء بنى إسرائيل ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واما عمران فقال مقاتل هو عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب والد موسى وهارون وقيل عمران بن ماثان من أولاد سليمان بن داود عليهما‌السلام والد مريم أم عيسى وقال الحسن ووهب كذلك لكنهما قالا ابو مريم عمران بن أشهم بن امون من أولاد سليمان بن داود وبين عمرانين الف وثمانون سنة وقيل الف وثمان مائة

٣٨

سنة والظاهر ان المراد بال عمران هاهنا عمران ابو مريم لدلالة سياق الكلام عليه فان قوله تعالى إذ قالت امراة عمرن واقع فى مقام البيان لما سبق من الاصطفاء ـ وانما خص هؤلاء بالذكر لان الأنبياء والرسل كانوا كلهم او أكثرهم من نسلهم (عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣) ان كان ما ذكر شاملا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابراهيم عليه‌السلام كما هو شامل لموسى وعيسى فاصطفاؤهم على العالمين أجمعين ظاهر وبه يستدل على افضلية خواص البشر على خواص الملائكة والا فالمراد بالعالمين عالمى زمانهم ـ قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما قالت اليهود نحن أبناء ابراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فانزل الله تعالى هذه الاية يعنى ان الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام وقال البيضاوي لما أوجب طاعة الرسل وبين انها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك بيان مناقبهم تحريضا عليها وقال بعض الأفاضل لما أمرهم بمتابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل متابعته سببا لمحبة الله وعدم اطاعته سببا لسخطه وسلب محبته أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم ورفعهم وتذليل أعدائهم واعدامهم تخويفا للمتمردين عن متابعته ـ فذكر اصطفاء آدم على من عداه حتى جعله مسجودا للملائكة ولعن عدوه إبليس واصطفاء نوح على أعدائه كفار اهل الأرض أجمعين حتى اهلكهم بالطوفان وجعل ذرّيّته هم الباقين واصطفاء ال ابراهيم على العالمين مع ان العالم كانوا كلهم كافرين فى زمن ابراهيم حتى جعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم واصطفاء موسى وهارون حتى القى السحرة ساجدين وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم أحد مع كثرتهم قلت وجعل متابعى عيسى عليه‌السلام بعد رفعه الى السماء مع كونهم مغلوبين بالكلية غالبين الى يوم القيامة حيث قال (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ولذا خص آدم ونوحا والآلين ولم يذكر ابراهيم ونبينا سيد المرسلين إذ ابراهيم لم يغلب على العالم بالكلية وهذا الكلام لبيان ان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيغلب والله اعلم. (ذُرِّيَّةً) فعّيلة من الذر وهى صغار النمل والياء للنسبة ووجه ذلك انهم استخرجوا من صلب آدم كالذر او فعولة من الذرء بمعنى الخلق أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وكسرت ما قبلها وأدغمت فى الياء

٣٩

ويسمى الأولاد والآباء ذرية فالاولاد ذرية لانه ذراهم والآباء ذرية لانه ذرا الأبناء منهم قال الله تعالى واية لهم انّا حملنا (١) ذرّيّتهم فى الفلك المشحون اى آباءهم ـ ويقع على الواحد والجمع منصوب على الحالية او البدلية من الآلين او منهما ومن نوح (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) مبتدا وخبر فى موضع النصب صفة لذرية يعنى اصطفى نوحا والآلين حال كونهما خلقة مستخرجة كالذر بعضها كائنة من نسل بعض او بعضها من شيعة بعض فى التناصر واتحاد الدين كما فى قوله وانّ من شيعته لابرهيم ولو اعتبر فى الذرية معنى الاشتقاق وقد اعتمد على ذى الحال فلا يبعد ان يقال ان بعضها فاعل له ومن بعض متعلق به يعنى خلقة مخلوقة او مستخرجة بعضها من بعض ـ وجاز ان يكون معنى بعضها من بعض ان عادة الله تعالى اصطفاء واحد (٢) من قوم فلا ينبغى ان يستبعد قريش اصطفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال كونه واحدا منهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع اقوال الناس باستبعاد اصطفاء بعضهم من بعض (عَلِيمٌ) (٣٤) يعلم من يصلح للاصطفاء ـ او سميع بقول امراة عمران عليم بنيتها ـ. (إِذْ قالَتِ) إذ متعلق بعليم او منصوب بإضمار اذكر (امْرَأَتُ عِمْرانَ) ابن ماثان او ابن أشهم وكان بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم واسم امرأة عمران حنّة بنت قاقودا وهى كانت عقيمة وقد أسنت فبينا هى فى ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد وكانت من اهل بيت كانوا من الله بمكان فدعت الله ان يهب لها ولدا فحملت بمريم كذا اخرج ابن جرير عن ابن إسحاق وعن عكرمة نحوه (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) منصوب على الحالية اى معتقا لخدمة بيت المقدس لا اشغله بشىء من الدنيا خالصا مفرغا لعبادة الله تعالى ـ وكان هذا النذر مشروعا فى دينهم فى الغلمان أخرجه ابن جرير عن قتادة والربيع كان إذا حرّر غلام جعل فى الكنيسة يكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير ان أحب اقام فيه وان أحب ذهب حيث شاء ـ ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء الا ومن نسله محرّر لبيت المقدس ولم يكن يحرر الا الغلمان فلعل حنة بنت الأمر على التقدير او طلبت ذكرا (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) فتح الياء نافع وابو جعفر ـ ابو محمد وابو عمرو وأسكنها الباقون يعنى تقبل منى ما نذرته (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لقولى (الْعَلِيمُ) (٣٥) بنيتي فقال لها زوجها ويحك ما صنعت ا رايت

__________________

(١) فى الأصل جعلنا لعله من سباق قلم او من الناسخ

(٢) فى الأصل واحدا ـ ابو محمد عفا الله عنه

٤٠