التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ان كان نزول الآيتين معا فيكون الّذين قال لهم النّاس بدلا من الّذين استجابوا وان كان نزولهما على التعاقب والتفرق فالموصول هاهنا ايضا اما منصوب على المدح او خبر مبتدا محذوف تقديره هم الذين قال لهم الناس او مبتدا خبره فانقلبوا قال اكثر المفسرين المراد بالناس هاهنا الركب من عبد القيس الذين جاءوا من ابى سفيان والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حمراء الأسد كما مرّ ذكره وقال مجاهد وعكرمة المراد بالناس هاهنا نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء فى المدينة بخبر ابى سفيان والمشركين والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يتجهزون لغزوة البدر الصغرى للموعد واطلق عليه الناس لانه من جنسه كما يقال فلان يركب الخيل وما له الا فرس واحد او لانه انضم اليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه ـ والظاهر عندى ان نزول هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى والمراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي والاية الاولى نزلت فى غزوة حمراء الأسد وبينهما سنة ووجه قولى ان الظاهر نزول هذه الاية فى بدر الصغرى ان قوله (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يدل على حدوث جمعهم الان بعد ما لم يكن وذا لا يتصور الا فى بدر الموعد واما حين انصرافهم من المدينة بعد وقعة أحد فهم كانوا مجتمعين فلا يناسبه قوله قد جمعوا لكم والله اعلم وكذا قال الامام الرازي حيث قال مدح الله تعالى المؤمنين على غزوتين يعرف أحدهما بغزوة حمراء الأسد وهى المذكورة فى الاية المتقدمة والثانية بغزوة البدر الصغرى وهى المذكورة فى هذه الاية والله اعلم (إِنَّ النَّاسَ) يعنى أبا سفيان وغيره من المشركين (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) جموعا وآلات (١) الحرب (فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) عطف على قال لهم النّاس والضمير المستكن لله تعالى او للمقول او لمصدر قال او لفاعله ان أريد به نعيم وحده ـ والبارز راجع الى الموصول والمعنى انهم لم يلتفتوا ولم يضعفوا وأظهروا حمية الإسلام وبهذا العمل اقتربوا الى الله سبحانه وصعدوا مدارج الرفعة وزيادة الايمان بزيادة مدارج القرب ومن قال ان الايمان لا يزيد ولا ينقص فنظره مقصور على الايمان المجازى (وَقالُوا) عطف على زادهم (حَسْبُنَا اللهُ) حسب مصدر بمعنى الفاعل اى محسبنا وكافينا من احسبه إذا كفاه ويدل على انه بمعنى المحسب انه لا يستفيد بالاضافة تعريفا فى قولك هذا رجل حسبك كما لا يستفيد اسم الفاعل (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) اى نعم الموكول اليه الأمور هو المخصوص بالمدح محذوف وفى عطف

__________________

(١) فى الأصل والآلات الحرب ـ

١٨١

نعم الوكيل وهو إنشاء على جملة حسبنا الله وهو خبر مبارزة بين الفحول فقيل العطف من الحاكي ولا عطف فى الكلام المحكي تقديره قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل يعنى قالوا هذا القول وهذا القول والظاهر ان المحكي هو المشتمل على العطف لما روى عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم حين القى فى النار وقالها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قالوا انّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل رواه البخاري فان افراد الضمير فى قوله قالها ابراهيم يدل على ان الواو من المحكي ولو كان من الحكاية لقال حسبنا الله ونعم الوكيل قالهما ابراهيم بضمير التثنية فقال بعض الأفاضل فى توجيه العطف ان قولهم حسبنا الله كناية عن قولهم اعتمدنا على الله وقولهم نعم الوكيل كناية عن قولهم انا وكلنا أمورنا الى الله ـ والصحيح عندى ان الجمل التي لا محل لها من الاعراب جاز ان يعطف بعضها على بعض من غير مبالاة بالاختلاف خبرا وإنشاء وقد ورد فى الحديث انه جاءت امراة فقالت يا رسول الله ان ابى زوجنى ابن أخيه ونعم الأب هو الحديث وقال الله تعالى (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ). (فَانْقَلَبُوا) فانصرفوا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) بما ذهبوا به معهم من المدينة من الايمان والعافية والأموال والعز (وَفَضْلٍ) زيادة فى الايمان بكثرة الثواب وزيادة فى الأموال بربح فى التجارة وزيادة فى العز حيث ذهبوا القتال العدو وفشل عدوهم وزيادة الأموال انما يتصور فى غزوة بدر الصغرى فانهم واقفوا هناك سوقا فاتجروا وربحوا كما ذكرنا واما فى غزوة حمراء الأسد فلم يكن هناك تجارة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) الجملة حال من فاعل لم يصبهم اى فى حال لم يصبهم أذى من جراحة او قتل او نهب (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو مناط الفوز بخير الدارين قال البغوي قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤) فيه تحسر للمتخلف وتخطية رأيه. (إِنَّما ذلِكُمُ) يعنى نعيما او أبا سفيان (الشَّيْطانُ) خبر وما بعده بيان شيطنته او ما بعده صفة على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى او الشيطان صفة والخبر ما بعده وجاز ان يكون ذلكم اشارة الى قولهم (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) والشيطان خبره بتقدير المضاف يعنى ذلك القول فعل الشيطان القى فى أفواههم ليرهبوكم وتجبنوا عنهم (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ)

١٨٢

القاعدين عن الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاز ان يكون أولياءه منصوبا بنزع الخافض والمفعول محذوف تقديره يخوفكم باوليائه وكذلك قراءة أبيّ بن كعب وقال السدى يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم لما قرا ابن مسعود يخوفكم أولياءه وعلى هذين الوجهين أولياءه ابو سفيان وأصحابه (فَلا تَخافُوهُمْ) إذ لا قوة لاحد الا بالله الضمير المنصوب للناس الثاني على الوجه الاول وللاولياء على الوجهين الأخيرين (وَخافُونِ) ان لا اجعلهم غالبين عليكم كما جعلت يوم أحد فان الغلبة من عندى فلا تخالفوني فى امرى ونهيى وجاهدوا مع رسولى ـ اثبت الياء فى الوصل فقط ابو عمرو ـ وكذا ابو جعفر وفى الحالين يعقوب ـ ابو محمد وحذفها الباقون فى الحالين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥) فان مقتضى الايمان ان يخاف الله ولا يخاف غيره قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سالت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشىء لا ينفعونك الا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ان يضروك بشىء لا يضرونك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رواه احمد والترمذي عن ابن عباس ـ. (وَلا يَحْزُنْكَ) قرا نافع بضم الياء وكسر الزاء من الافعال هذا وقوله تعالى ليحزننى وليحزن حيث وقع الا فى الأنبياء لا يحزنهم الفزع وقرا ابو جعفر من الافعال فى الأنبياء خاصة لا غير والباقون بفتح الياء وضم الزاء فى الكل (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) قال الضحاك هم كفار قريش وقال غيره هم المنافقون يسارعون فى الكفر بمظاهرة الكفار وهو الأصح يعنى لا يحزنك مسارعتهم فى الكفر لا خوفا على الإسلام والمسلمين لما (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) اى اولياء الله بمسارعتهم فى الكفر وانما يضرون بها أنفسهم (شَيْئاً) يحتمل المفعول والمصدر ولا ترحما على الكافرين لانه (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) نصيبا (فِي) ثواب (الْآخِرَةِ) حيث كانوا مخلوقين أشقياء وكان مبادى تعيناتهم مستندة الى اسمه المضل ونحوه فلذلك خذلهم حتى سارعوا فى الكفر (وَلَهُمْ) مع الحرمان عن الثواب (عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦). (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) يعنى استبدلوا الكفر بالايمان وهم اهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مجيئه فاذا جاء بالبينات اختاروا الكفر وتركوا الايمان حرصا على الدنيا وعنادا (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَ) قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٨٣

تعريضا بالذين كفروا لانهم هم الحاسبون دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم او لكل من يحسب والباقون بالياء على الغيبة فعلى قراءة الجمهور فاعله (الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله تعالى (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) مفعول قائم مقام المفعولين والاملاء الامهال وإطالة العمر وتخليتهم وشأنهم وعلى قراءة حمزة الّذين كفروا مفعول وما بعده بدل منه وهو ينوب عن المفعولين او هو المفعول الثاني على تقدير مضاف فى أحد المفعولين يعنى لا تحسبن الذين كفروا اصحاب ان الاملاء خير لانفسهم او لا تحسبن حال الذين كفروا ان الاملاء خير لهم وما مصدرية كان حقها ان يفصل فى الخط ولكنها وقعت فى الامام متصلة فاتبع (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) استيناف لبيان علة ما تقدم من الحكم (لِيَزْدادُوا إِثْماً) اللام لام الارادة والاية حجة لنا على المعتزلة فى مسئلتى الأصلح وارادة المعاصي وعند المعتزلة اللام لام العاقبة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة وقال عطاء فى قريظة والنضير عن ابى بكر قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اىّ الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قيل فاىّ الناس شر قال من طال عمره وساء عمله رواه احمد والترمذي والدارمي ـ وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادى مناد يوم القيامة اين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) رواه البيهقي فى الشعب ـ. (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) اللام لتأكيد النفي (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من اختلاط المخلصين بالمنافقين والخطاب لعامة المخلصين والمنافقين المختلطين فى عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى يَمِيزَ) قرا حمزة (١) والكسائي هاهنا وفى الأنفال بضم الياء وكسر (٢) الميم واسكان الياء مخففة من الافعال والباقون بفتح الياء من ماز يميز يقال مزت الشّيء ميزا إذا فرقته يعنى يفرق (الْخَبِيثَ) الكافر (مِنَ الطَّيِّبِ) اى المؤمن اما بالوحى الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال الله تعالى (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) او بالوقائع مثل واقعة أحد حيث تميز فيه المنافقون بالانخذال عن المؤمنين (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتى تعرفوا المنافقين من المؤمنين قبل التميز من الله تعالى

__________________

(١) الصحيح قرا حمزة والكسائي ويعقوب وخلف ـ ابو محمد عفا الله عنه

(٢) الصحيح بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء الثانية مشددة من التفعيل إلخ ابو محمد عفا الله عنه

١٨٤

(وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على البعض من علوم الغيب أحيانا كما اطلع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على احوال المنافقين بنور الفراسة نظير هذه الاية قوله تعالى فى سورة الجن (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وقد ذكرنا بحث الاطلاع على علم الغيب فى تفسير تلك الاية ـ قال البغوي قال السدىّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرضت علىّ أمتي فى صورها فى الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد انه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام على المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام طعنوا فى علمى لا تسئلونى عن شىء فيما بينكم وبين الساعة الا نبأتكم به فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من ابى يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقران اماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل أنتم منتهون هل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فانزل الله تعالى هذه الاية ـ قال الشيخ جلال الدين السيوطي لم اقف على هذه الرواية قلت لو صحت هذه الرواية فوجه مناسبة الاية برد قولهم ان الرسول مجتبى بالاطلاع على الغيب ليس له ان يشارك غيره معه فى هذا العلم الا بإذن الله فيما يأذنه فهو يعرف كفركم ولا يظهر لاجتبائه بتلك المعرفة (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (١) بصفة الإخلاص كيلا تفضحوا (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بالإخلاص (وَتَتَّقُوا) النفاق والمعاصي (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩). (وَلا يَحْسَبَنَ) قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم او لكل من يحسب والباقون بالياء وضمير الفاعل راجع الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم او الى كل من يحسب وقوله (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) اى يبخلون بالزكاة مفعوله الاول بتقدير المضاف اى لا تحسبن بخل الذين ليطابق المفعولين (هُوَ) ضمير الفصل (خَيْراً لَهُمْ) مفعوله الثاني وجاز ان يكون الموصول فاعلا للفعل على قراءة الجمهور والمفعول الاول محذوفا وجاز ان يكون الضمير المرفوع اعنى هو هو المفعول الاول وضع موضع الضمير المنصوب والمعنى على التقديرين لا يحسبن الذين يبخلون بالزكاة بخلهم خيرا لهم او إيتاء الله المال خيرا لهم او ما أتاهم الله خيرا لهم وهذا التقدير أوفق بقوله تعالى سيطوّقون ما بخلوا به (بَلْ هُوَ) يعنى البخل او إيتاء الله المال او ما أتاهم الله (شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ

__________________

(١) وفى الأصل ورسوله ـ

١٨٥

ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) نزلت الاية فى ما نعى الزكوة كذا قال ابن مسعود وابن عباس وابو وائل والشعبي والسدىّ ـ عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم تأخذ بلهزمتيه يعنى شدقيه ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الاية رواه البخاري ـ وعن ابى ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما من رجل يكون له ابل او بقر او غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطاه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاءت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس متفق عليه ـ وروى عطية عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فى أحبار اليهود كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم وبقوله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) انهم يحملون أوزارهم واثامهم (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى انه الباقي بعد فناء خلقه وهم يموتون ويتركون الأموال فيعطى أموالهم لمن يشاء من ورثتهم او من غيرهم ويبقى عليهم الحسرة والعقوبة فمالهم يبخلون ولا ينفقون أموالهم فى سبيل الله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) قرا ابن كثير وابو عمرو بالياء للغيبة والضمير راجع الى الذين يبخلون والباقون بالتاء خطابا للناس أجمعين او للذين يبخلون على الالتفات (خَبِيرٌ) (١٨٠) فيجازى عليه ـ اخرج محمد بن إسحاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس انه كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ابى بكر الصديق رضى الله عنه الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الإسلام واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل ابو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا الى رجل منهم يقال له فخاص بن عازورا وكان من علمائهم ومعه حبر اخر يقال له اشيع فقال ابو بكر لفخاص اتق الله واسلم فو الله انك لتعلم ان محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية فامن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فخاص يا أبا بكر تزعم ان ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان الله إذا لفقير ونحن اغنياء وانه ينهاكم عن الربوا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربوا فغضب ابو بكر وضرب وجه فخاص ضربة شديدة وقال والذي نفسى بيده لو لا العهد بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فخاص الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال

١٨٦

يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابى بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله ان عدو الله قال قولا عظيما زعم ان الله فقير وانهم اغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فخاص فانزل الله تعالى ردا على فخاص وتصديقا لابى بكر. (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) كذا قال عكرمة والسدى ومقاتل واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أنت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قالت اليهود ان الله فقير يستقرض منا وذكر الحسن ان قائل هذا الكلام حيى بن اخطب (سَنَكْتُبُ) فى كتاب الحفظة يعنى يكتب الكرام الكاتبون بامرنا نظيره وانّا له كتبون (ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ) قرا حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء على البناء للغائب المجهول وقتلهم بالرفع والباقون بالنون وضم التاء على البناء للمتكلم المعروف وقتلهم بالنصب (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) يعنى رضاءهم بفعل ابائهم الذين قتلوا الأنبياء بغير حق ضم الى قولهم ذلك قتلهم الأنبياء تنبيها على ان هذا ليس أول جريمة منهم (وَنَقُولُ) فى الاخرة على لسان الملائكة جزاء لما قالوا وما فعلوا قرا الجمهور بالتكلم على نسق سنكتب وحمزة بالغيبة يعنى يقول الله (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١) فعيل بمعنى الفاعل يعنى عذاب النار المحرق كما فى عذاب اليم او الاضافة بيانية ومعناه العذاب المحرق يقال لهم ذلك إذا القوا فيها والذوق ادراك الطعوم ويستعمل فى ادراك سائر المحسوسات مجازا ـ ولما كان كفر اليهود لما كلهم الرشى من اتباعهم لاجل تلك المناسبة ذكر فى الجزاء الذوق. (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من القتل وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس لان اكثر الأعمال المحسوسة بهن وافعال القلوب واللسان يلزمها ويظهرها اعمال الجوارح (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٧) عطف على ما قدمت ووجه سببية نفى الظلم من الله تعالى لتعذيب الكفار ان نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى اثابة المحسن ومعاقبة المسيء فان قيل نفى الظلم لازم لذاته تعالى لان الظلم من القبائح التي يجب تنزيه الله تعالى عنه وإذا كان نفى الظلم مستلزما للعدل المستلزم لاثابة المحسن ومعاقبة العاصي يلزم وجوب الاثابة والمعاقبة وذلك مذهب المعتزلة خلافا لاهل السنة قلنا الظلم فى اللغة وضع الشيء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان او بزيادة واما بعدول عن وقته او مكانه وذلك غير متصور من الله تعالى لانه يستلزم

١٨٧

التصرف فى غير ملكه بغير اذن المالك او على خلاف ما امره به والله سبحانه لو عذب اهل السموات والأرض بغير جرم منهم لا يكون ذلك ظلما لانه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء فالظلم المنفي فى هذا المقام ليس بمعناه الحقيقي بل أريد هاهنا فعله تعالى بعبده ما يعد ظلما لو جرى فيما بينهم وان لم يكن ذلك ظلما لو صدر منه تعالى ونفى الظلم بهذا المعنى ليس بواجب عليه سبحانه بل هو مبنى على الفضل وجاز ان يقال معنى الاية ان عدم انتقام الأنبياء من الذين قتلوهم وظلموهم وكذبوهم فى صورة الظلم على الأنبياء وذلك وان لم يجب على الله تعالى فى ذاته لكن مقتضى فضله على الأنبياء الانتقام من أعدائهم وتعذيبهم فالمراد بالعبيد هاهنا الأنبياء وفيه منقبة لهم بكمال انقيادهم وعبوديتهم طوعا مثل انقياد جميع الأشياء له تعالى يسرا وكرها ـ وهاهنا توجيه اخر وهو ان يقال ان فيه اشارة الى ان الكفار استحقوا العذاب بحيث لو لم يعذبهم الله تعالى لكان ظلما عليهم ومنعا لحقهم فهذه الجملة كانها تأكيد لوقوع العذاب عليهم ـ قال الكلبي ان كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهود او زيد بن التابوت وفخاص بن عازورا وحيى بن اخطب أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا يا محمد تزعم ان الله بعثك رسولا إلينا وانزل عليك كتابا وانّ الله عهد إلينا فى التورية الّا نؤمن لرسول يزعم انه من عند الله حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار فان جئتنا به صدقناك فانزل الله تعالى. (الَّذِينَ قالُوا) محله الجر بدلا من الموصول السابق او الرفع بناء على انه خبر مبتدا محذوف اى هم الذين قالوا (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) يعنى أمرنا واوصانا فى التورية (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) اى لا نصدق رجلا يدّعى الرسالة من عند الله (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) ـ القربان فى الأصل كل ما يتقرب به العبد الى الله عزوجل من نسيكة وصدقة وعمل صالح فعلان من القربة ثم صار اسما للذبيحة التي كانوا يتقربون بها الى الله تعالى وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبنى إسرائيل فكانوا إذا قربوا قربانا او غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها لها دوى وحفيف فيأكل ويحرق ذلك القربان والغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم تقبل بقيت على حالها ـ قال السدى ان الله تعالى امر بنى إسرائيل من جاءكم يزعم انه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد فاذا أتياكم فامنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى اقامة للحجة عليهم (قُلْ) يا محمد

١٨٨

(قَدْ جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات سوى القربان (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان كزكريا ويحيى وسائر من قتلوهم من الأنبياء (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) يعنى كذّبهم أسلافهم وقتلوهم واتبعهم أولادهم الذين كانوا فى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيبهم والرضاء بالكفر بهم فلذلك توجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) شرط حذف جزاؤه يعنى ان كنتم صادقين فى انّ امتناعنا عن الايمان بك لاجل ذلك العهد فلم لم تؤمنوا بزكريا ويحيى وأمثالهما فاذا لم تؤمنوا بهم ظهران امتناعكم عن الايمان ليس لاجل هذا بل عنادا وتعصبا. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فلا تحزن (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فعلى هذا التأويل جزاء الشرط محذوف أقيم سببه مقامه وجاز ان يكون المعنى فان كذبوك فتكذيبك تكذيب لرسل من قبلك حيث أخبروا ببعثك (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات (وَالزُّبُرِ) كصحف ابراهيم (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤) كالتورية والإنجيل وعلى التأويل الاول تسلية للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنى فاصبر كما صبروا وعلى التأويل الثاني الزام لليهود فان تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام تكذيب للذين جاءوا بالقربان ـ قرا هشام بالزّبر وبالكتب المنير بزيادة الباء فيهما وهكذا خطّ هشام عليهما فى كتابه عن أصحابه عن ابن (١) عامر وقرا ابن ذكوان بزيادة الباء فى بالزبر وحده والباقون بغير باء فيهما ـ والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا احسنته ـ. (كُلُّ نَفْسٍ) مؤمنة او فاجرة (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قال البغوي فى الحديث انه لمّا خلق الله آدم اشتكت الأرض الى ربها لما أخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد الا ويدفن فى التربة التي خلق منها والحاصل انه ليست الحيوة الدنيا ونعماؤها جزاء للطاعات (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) اى جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا فاجازيك على الصبر والطاعة وأجازي الكفار على تكذيب الحق ـ وهذه الاية ايضا تسلية للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولفظا التوفية يشعر بانه قد يكون بعض الأجور قبلها قال الله تعالى وآتيناه يعنى ابراهيم (أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ـ وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حقر النار رواه الترمذي

__________________

(١) فى الأصل ابى عامر ـ

١٨٩

ورواه الطبراني فى الأوسط عن ابى هريرة (فَمَنْ زُحْزِحَ) اى ابعد (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) اى ظفر بالمطلوب ونال المراد (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) اى العيش فيها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥) المتاع ما يتمتع وينتفع به والغرور اما مصدر من غرّه يغرّه غرا وغرورا فهو مغرور وغرّه اى خدعه وأطمعه بالباطل او جمع غار شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به البايع على المستام ويغرّه حتى يشتريه يعنى (١) متاعا نظرا الى الظاهر ولا حقيقة لها وذلك لان لذاتها مشوبة بالمكاره والالام ومع ذلك لا بقاء لها كالاحلام ـ قال قتادة هى متاع متروكة يوشك ان تضمحل باهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور الباطل وقال الحسن هى كخضر النبات ولعب النبات لا حاصل له عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرءوا ان شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا ان شئتم وظلّ ممدود ولموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرءوا ان شئتم (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) رواه البغوي بسنده والفصل الاول متفق عليه عنه وكذا الفصل الثاني والثالث فى الصحيحين غير قوله اقرءوا ان شئتم ظلّ ممدود اقرءوا ان شئتم فمن زحزح الاية ـ. (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بالأمور التكليفية من الزكوة والصدقات والصوم والصلاة والحج والجهاد وبالمصائب من الجوائح والعاهات والخسران والأمراض وموت الأحباب (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من هجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطعن فى الدين وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها لتؤطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال وتستعدوا للقائها ـ رومى ابن المنذر وابن ابى حاتم فى مسنده بسند حسن عن ابن عباس انها نزلت فيما كان بين ابى بكر وفخاص من قوله (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) كذا قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريح ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر الى فخاص بن عازورا سيد بنى قينقاع ليستمده وكتب اليه

__________________

(١) فى الأصل متاع

١٩٠

كتابا وقال لابى بكر لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فجاء ابو بكر وهو متوشح بالسيف فاعطاه الكتاب فلما قرا قال قد احتاج ربك الى ان نمده فهم ابو بكر ان يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فكف ونزلت هذه الاية ـ وذكر عبد الرزاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك انها نزلت فى كعب بن الأشرف فانه كان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فى شعره ويشبب بنساء المسلمين ـ قلت وذلك بعد وقعة بدر لما راى دولة الإسلام وقتل صناديد قريش وذهب الى مكة ينتدب المشركين لقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت قريش ا ديننا اهدى أم دين محمد قال بل دينكم وهجاه حسان بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفى الصحيح فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لى بابن الأشرف فانه قد أذى الله ورسوله شعره وقوى المشركين علينا فقال محمد بن مسلمة الأنصاري رضى الله عنه انا لك يا رسول الله هو خالى انا اقتله قال أنت افعل ان قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب الا ما تعلق نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تركت الطعام والشراب قال يا رسول الله قلت قولا ولا أدرى هل أفي به أم لا فقال انما عليك الجهد وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاور سعد بن معاذ فقال توجه اليه وأشك له الحاجة وسله ان يسلفك طعاما فاجتمع محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وابو نائلة سلكان بن سلامة وكان أخا كعب من الرضاعة والحارث بن عبس والحارث بن أوس بن معاذ بعثه عمه سعد بن معاذ وابو عبس بن حبر فقالوا يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل بيننا فانه لا بدلنا ان نقول فيك قال قولوا ما بدا لكم وأنتم فى حل من ذلك فقدّموا بانائلة فجاءه فتحدث معه وتناشدوا الشعر وكان ابو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف انى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها فاكتم علىّ قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس فقال كعب لقد كنت أخبرتك ان الأمر سيصير الى هذا فقال ابو نائلة ان معى أصحابا أردنا ان تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن فى ذلك قال ترهنونى ابناءكم قالوا انا نستحيى ان نعير أبناءنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال

١٩١

ترهنونى نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك واية امرأة تمتنع منك لجمالك ولكنا نرهنك الحلقة يعنى السلاح وقد علمت حاجتنا الى السلاح قال نعم ان فى السلاح لوفاء وأراد ابو نائلة ان لا ينكر السلاح إذا راه فواعده ان يأتيه فرجع ابو نائلة الى أصحابه فاخبرهم فاجمعوا أمرهم على ان يأتوه إذا امسى لميعاده ـ ثم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشاء فاخبروه روى ابن إسحاق واحمد بسند صحيح عن ابن عباس ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشى معهم الى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى بيته فى ليلة مقمرة مثل النهار ليلة اربع عشرة من شهر ربيع الاول ـ فمضوا حتى انتهوا الى حصن ابن الأشرف ليلا وقال ابو نائلة لاصحابه انى فاتل شعره فاذا رايتمونى استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه فهتف به ابو نائلة وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس فوثب فى ملحفه فاخذت امرأته بناحيتها وقالت انك امرؤ محارب وان اصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة وانى اسمع صوتا يقطر منه الدم فكلّمهم من فوق الحصن فقال انه ميعاد علىّ وانما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعى ابو نائلة لو وجدوني نائما ما أيقظوني وان الكريم إذا دعى الى طعنة بليل أجاب ـ فنزل إليهم متوشحا بملحفة يفوح منها ريح الطيب فتحدث معهم ساعة ثم قالوا يا ابن الأشرف هل لك فى ان نتماشا الى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه قال ان شئتم فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة فقال ابو نائلة نجد منك ريح الطيب قال تحتى فلانة من أعطر نساء العرب ـ قال فتأذن لى ان أهم قال نعم فادخل ابو نائلة يده فى رأس كعب ثم شم يده فقال ما رايت كالليلة طيبا أعطر قط وكان كعب يدهن بالمسك الغتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد فى صدغيه وكان جعدا جميلا ـ ثم مشى ابو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمان اليه وسلسلت يده فى شعره ـ ثم عاد فاخذ بقرون رأسه حتى استمكن وقال لاصحابه اضربوا عدو الله فاختلف أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا (١) فى سيفى فاخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن الا أوقدت عليه نار قال فوضعته فى تندؤته ثم تحاصلت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله ـ وعند ابن سعد فطعن ابو عيس فى

__________________

(١) المغول بالكسر شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه وقيل هو حديدة دقيقة لها حد ماض وقفا ـ وقيل هو سوط فى جوفه سيف دقيق يشده العاتك على وسطه ليقال به الناس ـ نهايه منه رح

١٩٢

خاصرته فجزوا رأس كعب وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح فى رأسه أصابه بعض اسيافنا ـ فخرجنا نشتد نخاف من يهود الارصاد وقد ابطا علينا صاحبنا الحارث بن أوس لجرح فى رأسه ونزفه الدم فناداهم اقرءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منى السلام فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد اخر الليل كبروا وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى ـ فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف ان قد قتلوه ـ ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا على باب المسجد ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افلحت الوجوه ـ قالوا ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله تعالى على قتله ـ ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جرحه فلم يؤذه ـ فرجعوا الى منازلهم ـ فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على شغينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله ـ وكان خويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة ـ فلما قتله جعل خويصة يضربه ويقول اى عدو الله قتلته اما والله لربّ شحم فى بطنك من ماله ـ قال محيصة والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ـ قال لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى قال نعم قال والله ان دينا بلغ بك هذا العجب فاسلم خويصة ـ فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ـ ولم ينطقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيّت ابن الأشرف ـ وعند ابن سعد فاصبحت اليهود مذعورين فجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا قتل سيدنا عيلة فذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنيعه وما كان يحض عليه ويحرض فى قتاله ويؤذيه ثم دعاهم ان يكتبوا بينهم وبينه صلحا فكان ذلك الكتاب مع على رضى الله عنه (مسئلة) احتج الشافعي بهذه القصة على جواز قتل من سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار او انتفصه او أذاه سواء كان بعهد او بغير عهد ـ وقال ابو حنيفة لا يقتل المعاهد بسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لان سبّه كفر والكفر لا ينافى العهد وعند ابى حنيفة انما قتل ابن الأشرف لانه نقض العهد وذهب الى مكة لتحريض المشركين على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عاهده ان لا يعين عليه أحدا وقد اعانهم (مسئلة) لا يجوز ان يقال

١٩٣

ان هذا كان غدرا من محمد بن مسلمة وابو نائلة رضى الله عنهما وقد قال ذلك رجل فى مجلس امير المؤمنين على رضى الله عنه فضرب عنقه وانما يكون الغدر بعد أمان ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته رضى الله عنهم بحال وانما كلمه فى امر البيع والرهن الى ان تمكن منه (فائدة) وقع فى الصحيح ان الذي خاطب كعبا محمد بن مسلمة واكثر اهل المغازي على انه ابو نائلة ويمكن الجمع بينهما بان يكون كل منهما كلمه فى ذلك (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما ابتليتم به (وَتَتَّقُوا) مخالفة امر الله تعالى (فَإِنَّ ذلِكَ) الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) مصدر بمعنى المفعول اى من معزومات الأمور التي يجب عليها العزم او مما عزم الله عليه اى امر به وبالغ فيه والعزم فى الأصل ثبات الرأى على الشيء نحو إمضائه وقال عطاء يعنى من حقيقة الايمان ـ قلت والمراد بالصبر عدم الجزع والانقياد عند ابتلاء الله العبد وترك الاعتراض عليه وذا لا ينافى الانتقام من الكفار إذا آذوا المسلمين كما دل عليه قصة ابن الأشرف لعنه الله والله اعلم ـ. (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) اى اذكر وقت أخذ الله (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اى العلماء منهم أخذ منهم العهد فى التورية (لَتُبَيِّنُنَّهُ) اى الكتاب (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) قرا ابن كثير وابو عمرو وابو بكر بالياء على الغيبة فيهما والباقون بالتاء على الخطاب (فَنَبَذُوهُ) اى الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) يعنى ضيعوه وتركوا العمل به وكتموا ما فيه من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاشْتَرَوْا بِهِ) اى أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) يعنى المأكل والرشى (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧) ما يختارون لانفسهم قال قتادة هذا ميثاق اخذه الله تعالى على اهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فانه هلكة ـ وقال ابو هريرة يوما أخذ الله على اهل الكتاب ما حدثتكم بشىء ثم تلا هذه الاية (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سئل عن علم يعلمه فكقمه الجم يوم القيامة بلجام من النار ـ رواه احمد والحاكم بسند صحيح ـ وأخرجه ابن ماجة من حديث انس ـ قال البغوي قال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد ان ترك الحديث فالفيته على بابه فقلت ان رايت ان تحدثنى فقال ا ما علمت انى تركت الحديث فقلت اما ان تحدثنى واما ان أحدثك فقال حدّثنى فقلت حدثنى الحكم بن عيينة عن يحيى الجزار قال سمعت

١٩٤

على بن ابى طالب رضى الله عنه يقول ما أخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ عن اهل العلم ان يعلموا قال فحدثنى أربعين حديثا ـ ورواه الثعلبي فى تفسيره من طريق الحارث عن ابى اسامة وهو فى مسند الفردوس من حديث على مرفوعا ـ. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) اى بما فعلوا من إضلال الناس والتدليس وكتمان الحق او من مطلق المعاصي (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الوفاء بالميثاق واظهار الحق والاخبار بالصدق وغير ذلك من الحسنات وجه فرحهم كون ما فعلوا بتمسكاتهم فى تكذيب نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاز ان يكون المراد بالموصول المنافقين الذين لم يفعلوا الطاعات على الحقيقة ويظهر ونهار ياء ويحبون ان يحمدوا بانهم زهاد مطيعين لله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) قرا الكوفيون لا تحسبنّ فلا تحسبنّهم بالتاء على الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبفتح الباء على الافراد فعلى هذا المفعول الاول للفعل الاول الموصول والثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للفعل الاول وفاعله ومفعوله الاول وقرا ابن كثير وابو عمرو بالياء للغيبة فيهما وضم الباء فى لا يحسبنّهم لان الضمير راجع الى الذين فعلى هذا الفاعل للفعل الاول الموصول ومفعولاه محذوفان تدل عليهما مفعولا مؤكده او المفعول الاول محذوف ومفعوله الثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للاول وفاعله ومفعوله الاول يعنى لا يحسبنّ الّذين يفرحون أنفسهم بمفازة وقرا نافع وابن عامر بالياء للغيبة فى الاول على ان مفعوليه (١) محذوفان يدل عليهما المفعولان للفعل الثاني وبالتاء خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فى الفعل الثاني (مِنَ الْعَذابِ) فى الدنيا بالفضيحة والذم والرد (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨) فى الاخرة روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف ـ وكذا روى البغوي من طريق البخاري عن علقمة بن وقاص ان مروان قال لبوابه اذهب يا رافع الى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما اوتى وأحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذ بن أجمعين فقال ابن عباس ومالكم ولهذه انما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود فسالهم عن شىء فكتموه إياه فاخبروه بغيره فخرجوا قد أروه انهم اخبروه بما سالهم عنه واستجدوا بذلك اليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سالهم عنه ثم قرا ابن عباس (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الى قوله (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ

__________________

(١) فى الأصل مفعولاه

١٩٥

يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ـ واخرج الشيخان عن ابى سعيد الخدري ان رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاذا قدم اعتذروا اليه وحلفوا وأحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الاية ـ واخرج عبد فى تفسيره عن زيد بن اسلم ان رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان فقال مروان يا رافع فى اىّ شىء نزلت هذه الاية (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) قال رافع أنزلت فى ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذروا وقالوا ما حبسنا عنكم الا الشغل فلود دنا انا كنا معكم فانزل الله فيهم هذه الاية وكانّ مروان أنكر ذلك فخرج رافع من ذلك فقال لزيد أنشدك بالله هل تعلم ما أقول قال نعم قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بينهما بانها نزلت فى الفريقين ـ وحكى الفراء انها نزلت فى قول اليهود ونحن اهل الكتاب الاول والصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى ابن ابى حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه ابن جرير ولا مانع ان تكون نزلت فى ذلك ايضا ـ قال البغوي قال عكرمة نزلت فى فخاص واشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون باضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم الى العلم وليسوا باهل علم ـ وقال مجاهدهم اليهود فرحوا بما اعطى الله ال ابراهيم وهم براء من ذلك ـ وقال قتادة ومقاتل أتت يهود خيبر نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وانّا على رأيكم ونحن لكم ردء وليس ذلك فى قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فانزل الله هذه الاية. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩) فيقدر على عقابهم ـ وفى هذه الاية رد لقولهم انّ الله فقير ـ اخرج الطبراني وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أتت قريش اليهود فقالوا بما جاءكم موسى من الآيات قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين ـ وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى قالوا (١) كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى ـ فاتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما

__________________

(١) فى الأصل قال ـ

١٩٦

من العجائب وافاضة الوجود على ماهيات لا يقتضى لذواتها وجودها (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما على نسق بديع ونظام حكيم وما يتعاقبان عليه (لَآياتٍ) دلائل واضحة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته وإرادته وحكمته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) لذوى العقول المنزهة عن شوائب الأوهام ووساوس الشيطان عن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويل لمن قراها ولم يتفكر فيها أخرجه ابن حبان فى صحيحه ـ وعن ابن عباس انه وقد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فراه استيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول انّ فى خلق السّموت والأرض حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث رواه مسلم. (الَّذِينَ) صفة لاولى الألباب فان مقتضى العقل الاتصاف بالذكر والفكر والتسبيح والايمان والاستغفار والدعاء والتضرع اليه ـ ومن لم يتصف بها فهو كالانعام بل أضل منها فان الانعام يسبحون الله نوع تسبيح (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) قال البغوي قال على رضى الله عنه وابن عباس رضى الله عنهما والنخعي وقتادة هذا فى الصلاة يصلى قائما فان لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب ونظير هذه الاية فى سورة النساء (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) وحديث عمران بن حصين رضى الله عنه قال كانت بي بواسير فسالت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلوة المريض فقال صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب أخرجه البخاري واصحاب السنن الاربعة زاد النسائي فان لم يستطع فمستلقيا لا يكلّف الله نفسا الّا وسعها ـ وعن على عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يصلى المريض قائما ان استطاع فان لم يستطع صلى قاعدا فان لم يستطع ان يسجد أومأ وجعل سجوده اخفض من ركوعه فان لم يستطع يصلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة فان لم يستطع ان يصلى على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلى القبلة رواه الدار قطنى وفى اسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسن المغربي وهو متروك ومن هاهنا قال الشافعي ان المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا وإذا عجز عن القعود يضطجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة

١٩٧

فان لم يستطع استلقى على ظهره ويستقبل رجليه الكعبة حتى يكون ايماؤه فى الركوع والسجود الى القبلة وبه قال مالك واحمد غير انه لو صلى مستلقيا وهو قادر على الصلاة على جنبه الايمن جاز عندهما خلافا للشافعى ـ وقال ابو حنيفة إذا عجز عن القعود صلى مستلقيا ورجلاه الى الكعبة فان لم يستطع ان يصلى مستلقيا صلى على جنبه ـ قال ابو حنيفة ان هذه الاية والتي فى سورة النساء ليستافى صلوة المريض بل المراد بها عند عامة المفسرين المداومة على الذكر فى عموم الأحوال لان الإنسان قلما يخلوا عن هذه الحالات الثلاث ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب ان يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله رواه ابن ابى شيبة والطبراني من حديث معاذ ولو سلمنا ان الاية فى صلوة المريض فهى لا تنفى صلوة المستلقى ولا تدل على الترتيب الذي ذكره الشافعي وكذا ما فى الصحيح من حديث عمران بن حصين قال ابن همام كان مرض عمران بن حصين البواسير وهو يمنع الاستلقاء ولذا لم يذكر الا ان ما رواه النسائي وزاد فيه صلوة المستلقى لو صح لكان حجة للشافعى وحديث على ضعيف لا يصلح للاحتجاج ـ ثم وجه قول ابى حنيفة فى تقديم الاستلقاء على الصلاة على جنبه ان المقصود الأهم فى الصلاة الركوع والسجود ولذا قال ابو حنيفة من لم يستطع الركوع والسجود ويقدر على القيام الأفضل ان يصلى قاعدا بالإيماء فان ايماءه اقرب الى السجود خلافا للجمهور ـ وايماء المستلقى على ظهره إذا كان رجلاه الى الكعبة يقع الى الكعبة بخلاف ايماء من يصلى على جنبه مستقبلا الى القبلة يقع الى جهة رجليه فكان الاستلقاء اولى ـ وقال الشافعي ومالك واحمد القيام كالركوع والسجود فى كونه مقصودا فلا يجوز الصلاة قاعدا لمن يقدر على القيام وان لم يقدر على الركوع والسجود بل عليه ان يصلى قائما بالإيماء ولا شك ان مدة القيام فى الصلاة اكثر من مدة الركوع والسجود فمن صلى مستلقيا يكون غالب حاله التوجه الى السماء لا الى جهة الكعبة ومن صلى على جنبه يكون غالب حاله التوجه الى الكعبة وذلك هو المأمور به فى قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) والله اعلم (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما أبدع فيهما وما أودع فيهما ليستدل بها على وجود صانع قادر عليم حكيم واحد لا شريك له عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا عبادة كالتفكر أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وابن حبان

١٩٨

فى الضعفاء وضعفاه ـ وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر الى السماء والنجوم فقال اشهد ان لك ربا وخالقا اللهم اغفر لى فنظر الله اليه فغفر له رواه ابو الشيخ (١) ابن حبان والثعلبي ـ والفكر عبارة عن ترتيب امور معلومة لتحصيل مجهول فى القاموس هو اعمال النظر فى الشيء قال الجوهري فى الصحاح الفكرة قوة مطرقة للعلم الى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للانسان دون الحيوان ولا يقال الا فيما يمكن ان يحصل له صورة فى القلب ولهذا روى تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله لكون الله تعالى منزها بان يوصف بصورة ـ وقال بعض العلماء الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر فى المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول الى حقيقتها انتهى كلام الجوهري ـ قلت ورد فى الحديث تفكروا فى كل شىء ولا تفكروا فى ذات الله تعالى فان بين السماء السابعة الى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك رواه ابو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس وعنه بلفظ تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق فانكم لا تقدرون قدره وعن ابى ذر نحوه بلفظ تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله فتهلكوا وروى ابو نعيم فى الحلية عن ابن عباس تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله ـ وروى ابو الشيخ والطبراني فى الأوسط وابن عدى والبيهقي بسند ضعيف بلفظ تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله فهذه الأحاديث تدل على المنع عن التفكر فى مرتبة الذات واقتصاره فى مراتب الافعال والصفات والأسماء ـ وبهذا يظهر امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت (٢) الذات بلا شائبة الأسماء والصفات وقال المجدد رضى الله عنه العلم الحضوري ايضا ساقط من تلك المرتبة العليا لان جولانه الى نفس العالم وما هو عينه يعنى الى مرتبة العينية والاتحاد وذلك كفر الحقيقة والله سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا فهو سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء فى جانب القرب لا فى جانب البعد فلا سبيل للعلم الحضوري ايضا الى تلك المرتبة الأسنى ـ فدوام الحضور والعلم اللدني البسيط الحاصل للصوفى المتعلق بحضرت الذات وراء العلمين لا يدرى ما هو ولا يجوز اطلاق التفكر عليه الا مجازا كما اطلق عليه بعض الصوفية ـ وقد ورد فى الشرع التعبير عنه بالذكر كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله فى كل احيانه انما هو ذلك لا الذكر اللساني فانه لا يمكن استدامته ـ ولما

__________________

(١) فى الأصل ابو الشيخ وابن حبان

(٢) مسئلة امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت الذات بل العلم المتعلق بالذات وراء العلم الحضوري ايضا ـ

١٩٩

كان دوام الذكر أهم وأسنى وانما الفكر طريقا إليها وصف الله سبحانه اولى الألباب اولا بدوام الذكر وبعد ذلك بالتفكر الموصل الى علم هو كالظل له حيث قال (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) يعنى يديمون الذكر فى جميع الأحوال (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ وايضا فى تقديم الذكر على الفكر تنبيه بان العقل غير مستقل بافادة الاحكام الحقة ما لم يستضئ بنور الذكر والهداية من الله سبحانه (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) على ارادة القول اى يتفكرون قائلين ذلك ـ والباطل ضد الحق كذا فى القاموس والحق قد يطلق على موجود متاصل الوجود لا يحتاج فى تحققه ووجوده ولا فى شىء من الأشياء الى غيره وهو الله سبحانه وقد يطلق على موجود فى الخارج بلا نحت الوهم والخيال وان كان مقتبسا تحققه من الوجود الحق ـ وقد يطلق على موجود يشتمل وجوده على حكم ومصالح لا يكون عبثا ضائعا من غير حكمة ذاهبا بلا فائدة يترتب عليه ـ والباطل ضد الحق على المعاني كلها فباعتبار المعنى الاول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا احسن القول قول لبيد كل شىء ما خلا الله باطل وجاز اعتبار المعنى الثاني فى البيت يعنى كل معبود ما خلا الله باطل الحقيقة له منحوت للوهم والخيال وباعتبار المعنى الثالث اطلق الباطل على الشيطان قال الله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) والباطل هاهنا ان كان بالمعنى الثاني فمعنى الاية ما قال اهل الحق أساسا للاستدلال على الصانع (خلافا للسوفسطائية) ان حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق ـ وان كان بالمعنى الثالث فالمعنى ما خلقت الخلق عبثا بل لحكمة عظيمة دليلا على معرفتك باعثا على شكرك وطاعتك ـ وهذا اشارة الى السموات والأرض وتذكيره بارادة المتفكر فيه او لانهما فى معنى المخلوق او الى الخلق على انه أريد به المخلوق من السموات والأرض او أريد به التخليق وجاز ان يراد به التفكر فى خلق كل جزء من اجزائها فهذا اشارة الى هذا الجزء ـ وباطلا منصوب على الحالية من هذا وجاز ان يكون باطلا بمعنى هازلا حالا من فاعل خلقت فعلى هذا قوله تعالى (سُبْحانَكَ) مؤكد للحال يعنى انه تعالى منزه عن الهزل لكونه رذيلة وعلى التأويل الاول اعتراض (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١) للاخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه ـ والفاء تدل على ان خلق السموات والأرض للاستدلال والشكر والطاعة يقتضى ثواب المطيع وعذاب العاصي غالبا

٢٠٠