التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

على الغيبة على انه وعيد للذين كفروا. (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) فى سبيله ـ قرا نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم متّم متّ متنا حيث وقع من مات يمات على وزن خاف يخاف وابن كثير وابو عمرو ابن عامر وابو بكر بالضم حيث وقع من مات يموت على وزن قال يقول وحفص بالضم فى هذين الحرفين خاصة وفى الباقي بالكسر (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٥٧) قرا حفص بالياء على الغيبة ـ والباقون بالتاء على الخطاب جواب للقسم سار مسد الجزاء للشرط يعنى ان السفر والجهاد لا تأثير له فى الموت ولا لضده فى الحيوة فان الله هو يحيى ويميت ولئن كان له نوع تأثير فى الموت على سبيل جرى العادة فما يترتب على ذلك الموت من مغفرة من الله ورحمته خير مما يجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم يموتوا فليطلب ذلك الخير ولا يجوز التحسر على ما فات من الدنيا. (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) على اى وجه كان (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨) لا الى غيره فعليكم بذل الجهد فى تحصيل الانس به تعالى والمحبة حتى يكون حشركم الى المحبوب وخلاصا عن سجن الفراق ـ. (فَبِما رَحْمَةٍ) تقديم الجار والمجرور للحصر وما مزيدة للتأكيد ومزيد الدلالة على الحصر كائنة (مِنَ اللهِ) عليك وعلى أمتك (لِنْتَ لَهُمْ) اى للمؤمنين ورفقت بهم واغتممت لاجلهم بعد ما خالفوك بتوفيق الله تعالى وحسن الهامه ثم بين وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سىء الخلق جافيا (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسية (لَانْفَضُّوا) تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ) ولم يسكنوا إليك وحينئذ يتخلعوا عن ربقة الإسلام واستحقاق الجنة ويقل أجرك بقلة اتباعك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما كان حقك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فى حقوق الله تعالى (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) امر الحرب وغيره مما يتعلق بالمشاورة (١) وليس فيه عندك علم من الله تعالى استظهارا برأيهم وتطيبا لنفوسهم وتمهيد السنة المشاورة للامة ـ روى البغوي بسنده عن عائشة قالت ما رايت رجلا اكثر استشارا (٢) للرجال من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِذا عَزَمْتَ) على شىء بعد المشاورة (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) اى فوض أمرك اليه واعتمد عليه وكان هذا شأنه عليه الصلاة والسلام ولذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد لا ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل يعنى بعد المشاورة اعتمد على الله تعالى لا على رأيك وآراء المتشاورين (٣) لان بناء

__________________

(١) روى عن ابن عباس وشاورهم فى الأمر أبا بكر وعمرو فى رواية عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى ابى بكر وعمر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما ـ وعن ابن عمر كتب ابو بكر الى عمر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يشاور فى الحرب فعليك به ـ وعن الضحاك قال كان عمر بن الخطاب يشاور حتى المرأة ـ منه رحمه‌الله

(٢) فى الأصل استشارة ـ

(٣) فى الأصل مستشارين ـ

١٦١

المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الافكار بناء على جرى العادة ولا يعلم ما فى الواقع من الغيب الا الله تعالى ـ وقد يتخبط العقول فى النظر وقد يفعل الله تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء ـ والتوكل ان يلتجىء الى الله خاصة ويطلب منه ان يجعل عاقبة سعيه خيرا ويحسن الظن به فى ذلك قيل التوكل ان لا تعصى الله من أجل رزقك وهذا القول مستلزم للالتجاء ولا التجاء فى المعصية وقيل معناه ان لا يطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره ـ قلت وتخصيص الالتجاء والطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلون الجنة سبعون الفا من أمتي بغير حساب قيل يا رسول الله من هم قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون متفق عليه وكذا روى البغوي عن عمران بن حصين ـ وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو اخماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وابن ماجة ـ فان قيل الظاهر من حديث ابن عباس ان التوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء والاستراق ـ قلت لابل ترك الاعتماد على الأسباب الا ترى الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فالله سبحانه امر بالاستشارة ثم امر بترك الاعتماد عليه وقوله عليه الصلاة والسلام فى الحديث وعلى ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون ولا يسترقون فان العطف يقتضى المغائرة ـ ولعل ذلك السبعون الف لا يتشبّثون بالأسباب غالبا ـ او المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة كيف وتشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فان الاكل والشرب من اسباب الحيوة عادة والصلاة والصوم من اسباب دخول الجنة غالبا والواجب إتيانها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩) عليه وكونه محبوبا لله تعالى هو المقصد الأسنى ـ وايضا التوكل على الله يفضى الى ان ينصرهم الله ويهديهم الى الصلاح قال الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وقال فى الحديث القدسي انا عند ظن عبدى بي. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أحد إذ يستحيل ان يكون المنصور من الله مغلوبا فانه يستلزم عجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ومنعكم نصره (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) يعنى لا أحد ينصركم لان افعال العباد مخلوقة لله تعالى فلا يتصور حقيقة النصر من أحد على تقدير خذ لانه منه تعالى (مِنْ بَعْدِهِ) اى من بعد خذ لانه او المعنى بعد ما جاوزتم الله فى الاستنصار لا يتصور النصر من غيره ـ فهذه الاية برهان على وجوب التوكل على الله عقلا بعد ما ثبت

١٦٢

وجوبه سمعا بصيغة الأمر (وَعَلَى اللهِ) خاصة (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠) لعلمهم وايمانهم بانه لا ناصر سواه. (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قرا ابن كثير وابو عمرو وعاصم يغلّ بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول ـ والغلول الخيانة فى الغنائم فعلى القراءة الاولى قال محمد بن إسحاق هذا فى الوحى والمعنى انه ما كان لنبى ان يكتم شيئا من الوحى رغبة او رهبة او مداهنة ـ وقيل ان الأقوياء ألحوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسئلونه فى المغنم فانزل الله تعالى وما كان لنبىّ ان يغلّ فيعطى قوما ويمنع آخرين بل عليه ان يقسم بينهم بالسوية ـ واخرج ابو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها فانزل الله تعالى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) يعنى ان الاخذ من الغنيمة لا يحل للنبى وهو غلول ـ وقال الكلبي ومقاتل نزلت فى غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا نخشى ان يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ شيئا فهو له وان لا يقسمها كالم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا فى الغنائم فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الم اعهد إليكم لن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل ظننتم انا تغل فلا نقسم لكم فانزل الله تعالى هذه الاية واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلايع فغنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الاية فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ـ وعلى القراءة الثانية لها وجهان أحدهما ان يكون المعنى ما كان للنبى ان ينسب الى الغلول ويكون مرجع القراءتين واحدا ـ وثانيهما ان يكون معناه ما كان لنبى ان يخان يعنى ان يخونه أمته ـ قال قتادة ذكر لنا انها نزلت فى طائفة غلت من أصحابه ـ واخرج الطبراني فى الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشا فردت رأيته ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب فنزلت هذه الاية وما كان لنبىّ ان يغلّ (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال الكلبي يمثل له ذلك الشيء فى النار فيقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فاذا بلغ موضعه وقع فى النار ثم كلف ان ينزل اليه فيخرجه يفعل ذلك به عن ابى هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام خيبر فلم يغنم ذهبا ولا فضة الا الأموال والثياب والمتاع قال فوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبدا اسود يقال له مدعم قال فخرجنا

١٦٣

حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءه سهم عائر فاصابه فقتله ـ فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا والذي نفسى بيده ان الشملة التي أخذ يوم خيبر من الغنائم لم يصبها المقاسم يشتعل عليه نارا فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك او شراكين الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شراك او شرا كان من ناد رواه البغوي ـ وفى الصحيحين عنه هذا الحديث بلفظ اهدى رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما يقال له مدعم الحديث نحوه ـ وعن يزيد بن خالد الجهني انه قال توفى رجل يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزعم يزيد (١) ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم يزيد ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ان صاحبكم قد غل فى سبيل الله قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز اليهود ما يساوى درهمين رواه مالك وابو داود والنسائي وعن ابى حميد الساعدي قال استعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا اهدى لى فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله واثنى عليه ثم قال اما بعد فانى استعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله فيأتى أحدكم فيقول هذا لكم وهذا اهدى لى أفلا جلس فى بيت أبيه وامه حتى يأتيه هديته ان كان صادقا ـ والله لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه الا لقى الله يحمله يوم القيامة فلا اعرفن أحدا منكم لقى الله تعالى يحمل بعيرا له رغاء او بقرة لها خوار او شاة يتعر متفق عليه وفى رواية ثم رفع يديه ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ـ وعن عدى بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة رواه مسلم وعن ابى هريرة قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعظّم الغلول وقال الا لا القين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني أقول لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك ثم ذكر على رقبته فرس على رقبته شاة على رقبته صامت فذكر نحوه متفق عليه ـ وعن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه رواه ابو يعلى والبزار ـ وورد نحو هذا من حديث سعد بن عبادة وهلب عند احمد وابن عمرو عائشة عند البزار وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن مسعود عند الطبراني كلهم فى سعاة الصدقة إذا غلوا منها وعن ابى مالك الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون

__________________

(١) فى الأصل زيد ـ ابو محمد عفا الله عنه

١٦٤

الرجلين جارين فى الأرض او فى الدار فيقطع أحدهما من حق صاحبه ذراعا إذا يقطعه طوّقه من سبع ارضين يوم القيامة ـ وروى عن قيس بن ابى حازم عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى اليمن قال لا تصيبن شيئا بغير اذنى فانه غلول ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيمة وروى عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا وجد ثم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه ـ وروى عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه رواه ابو داود عن عبد الله بن عمرو قال كان على ثقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو فى النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها رواه البخاري وعن ابن عباس قال حدثنى عمر قال كان يوم خيبر اقبل نفر من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا انى رايته فى النار فى بردة غلها او عباءة ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ابن الخطاب اذهب فناد فى الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا قال فخرجت فناديت الا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا رواه مسلم (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) يعطى جزاء ما كسبت وافيا كاملا كان المناسب بما سبق ثم يوقى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١) فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد فى عقاب عاصيهم. (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) بالطاعة وهم المهاجرون والأنصار (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بالمعاصي والغلول وهم المنافقون وبعض الفساق (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦٢) جهنم. (هُمْ) يعنى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله (دَرَجاتٌ) شبهو بالدرجات لما بينهم من التفاوت فى الثواب والعقاب او المعنى هم أولوا درجات متفاوتة (عِنْدَ اللهِ) بعض المؤمنين اقرب الى الله من بعض وبعض الكفار والعصاة فى درك أسفل من النار من بعض (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣) عالم بأعمالهم فيجازيهم على حسبها ـ. (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قيل المراد من أمن من قومه خاصة ـ وتخصيصهم مع ان نعمة البعثة عامة لسائر المؤمنين لزيادة انتفاعهم به واكتسابهم مزيد الفضل بسببه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس تبع لقريش مؤمنهم لمؤمنهم وكافرهم لكافرهم متفق عليه ـ وقال عليه‌السلام لا يزال هذا الأمر يعنى الخلافة فى قريش ما بقي منهم اثنان متفق عليه ـ وقيل أراد به مؤمنوا العرب كلهم لانه ليس حى من احياء العرب إلا وله فيهم نسب الا بنى تغلب

١٦٥

قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) ومعنى كونه من أنفسهم يعنى من جنسهم عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونون واقفين على حاله فى الصدق والامانة مفتخرين به ـ عن سلمان قال قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله قال تبغض العرب فتبغضنى رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن ـ وقيل أراد به جميع المؤمنين كما فى قوله تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعنى من الانس دون الملائكة حتى يتحقق التأثير والتأثر لكمال المناسبة قال الله تعالى (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً). (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعنى القران بعد ما كانوا جهالا (وَيُزَكِّيهِمْ) اى يطهر قلوبهم عن العقائد الفاسدة والاشتغال بغير الله ونفوسهم عن الرذائل وأبدانهم عن الأنجاس والاخباث والأعمال القبيحة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يعنى العلوم المستنبطة من الكتاب او ما يصلح ان يكتب فى الصحف (وَالْحِكْمَةَ) العلوم الحقة المستحكمة التي يستفيدها الحكيم من الحكيم بلا توسط كتاب ولا بيان (وَإِنْ كانُوا) مخففة من المثقلة واسمه ضمير الشأن يعنى انه كانوا (مِنْ قَبْلُ) بعثته (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤) اى ظاهر. (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يوم أحد من قتل سبعين والهزيمة (قَدْ أَصَبْتُمْ) يوم بدر من الكفار (مِثْلَيْها) روى احمد والشيخان والنسائي عن البراء قال أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا ـ قلت جعل الله سبحانه الأسير مثل القتيل لكونهم قادرين على قتلهم وكان قتلهم هو المرضى من الله تعالى وانما كان عدم القتل باختيارهم الفداء من عند أنفسهم ـ والظرف يعنى لما متعلق بقوله تعالى (قُلْتُمْ) متعجبين انّى هذا الهزيمة والقتل علينا ونحن مسلمون وفينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهمزة لانكار هذا القول والمنع عنه والجملة معطوفة على ما سبق من قصة أحدا ما على قوله (لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ) يعنى لقد صدقكم الله وعده وقلتم انى هذا حين المصيبة واما على قوله (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) ويحتمل العطف على قوله (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) يعنى وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه منه تعالى عليكم وأنتم تريدون ان تنسبوا اليه المصيبة وتجعلوها بسببه او معطوف على محذوف تقديره انما وعدكم النصر بشرط الصبر والتقوى لم تصبروا ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا او تقديره أتنازعتم

١٦٦

وعصيتم الرسول وفشلتم ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا وجاز ان يكون معطوفا على القول المحذوف اشارة الى ان قولهم كان غير واحد تقديره أقلتم أقوالا غير واحد لا ينبغى ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا (قُلْ) يا محمد (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) اى بما اقترفتم من المعصية بترك المركز فان الوعد كان مشروطا بالصبر والتقوى وقيل يعنى باختياركم الفداء عن أسارى بدر اخرج ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب قال عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفرّ اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسر رباعيته وهشّمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فانزل الله تعالى (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الاية وقال البغوي روى عبيدة السلماني عن على قال جاء جبرئيل عليه‌السلام الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ان الله كره ما صنع قومك فى أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك ان تخيّرهم بين ان يقدموا فيضرب أعناقهم وبين ان يأخذوا الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لابل نأخذ فداهم فتقوى به على قتال عدونا ويستشهد مناعدتهم فقتل يوم أحد سبعون عدد أسارى اهل بدر فهذا قوله هو من عند أنفسكم (فائدة) روى سعيد بن منصور عن ابى الصخر مرسلا قال قتل يوم أحد سبعون اربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار وروى ابن حبان والحاكم عن أبيّ بن كعب قال أصيب يوم أحد من الأنصار اربعة وستون ومن المهاجرين ستة ـ قال الحافظ وكان الخامس سعد مولى حاطب بن بلتعة (١) والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي ـ وروى البخاري عن قتادة قال ما نعلم حيا من احياء العرب اكثر شهيدا من الأنصار ـ قال قتادة حدثنا انس قال قتل منهم يوم أحد سبعون ويوم بير معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون ـ ونقل الحافظ محب الطبري عن مالك ان شهداء أحد خمسة وسبعون منها أحد وسبعون من الأنصار ـ وعن الشافعي انهم اثنان وسبعون ـ وسرد فى العيون اسماء شهداء أحد فبلغ ستة وتسعين من المهاجرين أحد عشر ومن الأوس ثمانية وثلاثون ومن الخزرج سبعة وأربعون ـ وفى العيون عن الدمياطي مائة واربعة او خمسة وكتاب الله يدل على كونهم سبعين (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من النصر والخذلان وغيرهما (قَدِيرٌ) (١٦٥). (وَما أَصابَكُمْ) من المصيبة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين

__________________

(١) الصحيح ابن ابى بلتعة ـ

١٦٧

يعنى يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) فهو قد حصل بقضاء الله وقدره وسماه اذنا لانه بالأمر التكويني فى قوله كن فيكون والمستحيل فى ما لا يشرع هو الأمر التكليفي دون الأمر التكويني (وَلِيَعْلَمَ) يعنى لمصالح كثيرة وليعلم (الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٦). (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) ممتازين عند الناس يعنى يتحقق امتيازهم عند الناس فيعرفوا ايمان هؤلاء وكفر هؤلاء (وَقِيلَ لَهُمْ) اى للمنافقين عطف على نافقوا او كلام مبتدا (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) هذا مقولة القول يعنى قاتلوا الكفار فى سبيل الله ان استطعتم والا فادفعوهم بتكثيركم سواد المؤمنين فاستقيموا ولا تفروا او المعنى قاتلوا فى سبيل الله بالإخلاص ان كنتم مؤمنين حقا او ادفعوا الأعداء عن ذراريكم ان لم تقاتلوا الله تعالى (قالُوا) يعنى المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه فى جواب المؤمنين حين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) هذه المصادمة قتالا (لَاتَّبَعْناكُمْ) لكنه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس فى التهلكة او المعنى انه لو تكونوا على الحق ونعلمه قتالا فى سبيل الله لاتبعناكم او المعنى او نعلم انه قتال معنا لاتبعناكم لكن ليس هذا قتالا معنا ولا قصد للمشركين الا قتالا معكم او المعنى لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه انما قالوه استهزاء بهم (هُمْ) اى المنافقون (لِلْكُفْرِ) اللام بمعنى الى اى الى الكفر (يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) اى الى الايمان يعنى ان المنافقين كانوا مترددين بين الايمان والكفر كالشاة العائرة بين الغنمين ان أصابهم فى الإسلام خير اطمأنوا به وان أصابتهم فتنة انقلبوا الى الكفر فلما كان يوم أحد يوم الفتنة صاروا اقرب الى الكفر فانه أول يوم ظهر فيه كفرهم ونفاقهم ـ وقيل معناه هم لاهل الكفر اقرب نصرة منهم لاهل الايمان فان انخزالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيل للمؤمنين (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) يعنى يظهرون الإسلام بأفواههم (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) واضافة القول الى الأفواه تأكيد لنفى صدوره عن الاعتقاد وتحقير لهم يعنى ليس لهم من الايمان الا مجرد القول وهذه الجملة بيان لحالهم مطلقا لا فى هذا اليوم ولذا فصل عما سبق (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) من النفاق منكم. (الَّذِينَ قالُوا) مرفوع بدلا من الضمير المرفوع فى يكتمون او منصوب على الذم او الوصف للذين نافقوا ـ او مجرور بدلا من الضمير فى بأفواههم او قلوبهم (لِإِخْوانِهِمْ) اى لاجل إخوانهم فى النسب وفى حقهم عمن قتل يوم أحد (وَقَعَدُوا) حال بتقدير قد اى قالوا قاعدين عن القتال (لَوْ أَطاعُونا) فى القعود (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل قرا هشام ما قتّلوا بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف (قُلْ) لهم يا محمد (فَادْرَؤُا) فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨)

١٦٨

ان الحذر يدفع القدر ـ روى الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن خزيمة وصححه والبغوي عن جابر بن عبد الله قال لقينى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لى يا جابر مالى أراك منكسرا قلت يا رسول الله استشهد ابى وترك عيالا ودينا قال أفلا أبشرك بما لقى الله به أباك قلت بلى يا رسول الله قال ما كلم الله تعالى أحدا قط الا من وراء الحجاب وأحيا أباك وكلمه كفاحا قال يا عبدى تمن علىّ أعطيك قال يا رب أحيني فاقتل فيك الثانية قال الرب تبارك وتعالى انه قد سبق منى انهم لا يرجعون قال فانزلت فيهم. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) الاية ـ وروى مسلم واحمد وابو داود والحاكم والبغوي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عزوجل أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح فى الجنة حيث شاءت وتأوى الى قناديل من ذهب تحت العرش ـ فلما راوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم وراوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا راوا ما نحن فيه من النعمة وما صنع الله بنا كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه فقال الله تعالى عزوجل انا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فانزل الله تعالى وروى ابن المنذر عن انس قال لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا يا ليت مخبرا يخبر إخواننا الذي صرنا اليه من كرامة الله فاوحى إليهم ربهم انا رسولكم الى إخوانكم فانزل الله تعالى (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) الى قوله تعالى (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) وقيل ان اولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء وقالوا نحن فى النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا فى القبور فانزل الله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) قرا هشام لا يحسبنّ بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرا ابن عامر قتّلوا هنا وفى الحج بتشديد التاء فيهما لكثرة المقتولين ـ والباقون بالتخفيف والخطاب لاولياء الشهداء او للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاز ان يكون خطابا للمنافقين الذين قالوا لو أطاعونا ما قتلوا ويكون حينئذ داخلا تحت قل وعلى قراءة هشام الضمير راجع الى اولياء الشهداء وجاز اسناده الى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم او الضمير راجع الى المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا وجاز اسناده الى الذين قتلوا او المفعول محذوف لانه فى الأصل مبتدا جائز الحذف عند القرينة وانما لا يجوز حذف أحد المفعولين بلا قرينة لانه شطر الجملة (فِي سَبِيلِ اللهِ) يعنى فى الجهاد لفظ فى سبيل الله عام يشتمل من مات فى شىء من امور الخير غير ان لفظ القتل لا يشتمله عبارة لكن بدلالة النص يدخل فيه بالطريق الاولى او

١٦٩

بالمساوات او بالقياس من جاهد فى الله مع نفسه جهادا اكبر فانه أشد وأشق من الجهاد الأصغر (أَمْواتاً) غير مشتعرين باللذات والنعماء (بَلْ أَحْياءٌ) روى ابو حاتم عن ابى العالية فى قوله تعالى بل احياء قال فى صور طير خضر يطيرون فى الجنة حيث شاءوا قال البغوي أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة روى ابن مندة عن طلحة بن عبد الله رضى الله عنه قال أردت مالى بالغابة فادركنى الليل فاويت الى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت احسن منها فجئت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عبد الله الم تعلم ان الله قبض أرواحهم فجعلها فى قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فاذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم الى مكانها التي كانت فيها ـ وعلى هذا القول يكتسب الشهيد الدرجات وثواب الطاعات بعد الموت ايضا ـ والشهيد لا يبلى فى القبر ولا يأكله الأرض وهذا ايضا اثر من اثار حياته روى البيهقي من طرقه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما وابن سعد والبيهقي من طرق اخر عنه ومحمد بن عمرو عن شيوخه عن جابر قال استصرخنا الى قتلانا يوم أحد حين اجرى معاوية العين فاتيناهم فاخرجناهم رطابا تثنى أطرافهم قال شيوخ محمد بن عمرو وجدوا والد جابر ويده على جرحه فاميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت الى مكانها فسكن الدم قال جابر فرايت ابى فى حفرته كانه نائم والنمرة التي كفن فيها كما هى والخرمة على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة وأصابت المسحاة رجل رجل منهم (١) قال الشيوخ وهو حمزة فانبعث الدم قال ابو سعيد الخدري لا ينكر بعد هذا منكر ولقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا نثرة من التراب فاح عليهم ريح المسك ـ قال البغوي قال عبيد بن عمير مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشهد ان هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة الا فاتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد الى يوم القيامة الا ردوا عليه وروى الحاكم والبيهقي عن ابى هريرة والبيهقي عن ابى ذر وابن مردوية عن خباب بن الأرت ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بمصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الاية ثم قال لقد رايتك بمكة وما بها ارق حلة ولا احسن لمة منك ـ

__________________

(١) فى الأصل فيهم

١٧٠

(مسئلة) هل يبلغ غير الشهيد درجة الشهيد قلت نعم وما ورد فى فضائل الشهداء لا يقتضى نفى الحكم عمن عداهم وقد روى ابو داود والنسائي عن عبيد بن خالد ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخي بين رجلين فقتل أحدهما فى سبيل الله ثم مات اخر بعد جمعة او نحوها فصلوا عليه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قلتم قالوا دعونا الله ان يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله او قال صيامه بعد صيامه لما بينهما ابعد مما بين السماء والأرض ـ وقد ذكرنا بحث مقر الأنبياء والشهداء والصديقين والمؤمنين وغيرهم فى تفسير سورة المطففين ومسئلة حيوة الشهداء فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ)(عِنْدَ رَبِّهِمْ) اى ذو زلفى وقرب منه تعالى قربا بلا كيف قال الشيخ الشهيد شيخى وامامى رضى الله عنه ورضى عنا بسره السامي انه يرى بنظر الكشف تجليات ذاتية على الشهداء لما بذلوا ذواتهم فى سبيل الله قال الله تعالى (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) فهم قدموا لانفسهم بدل الذوات فجزاهم الله تعالى بالتجليات الذاتية الصرفة (يُرْزَقُونَ) (١٦٩) من الجنة تأكيد لكونهم احياء. (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أبهم الله سبحانه ما أتاهم لكونه بحيث لا يدركه فهم ولا يحيط بتفصيله عبارة روى ابن ابى شيبة وعبد الرزاق فى المصنف واحمد ومسلم وابن المنذر عن مسروق قال سالنا عبد الله يعنى ابن مسعود عن هذه الآيات فقال قد سالنا عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أرواحهم فى جوف طير خضر ولفظ عبد الرزاق أرواح الشهداء كطير خضر لها قناديل من ذهب معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ففعل ذلك ثلاث مرات وفى رواية فقال سلونى ما شئتم فقالوا يا رب كيف نسئلك ونحن نسرح فى الجنة فى ايها شئنا ـ فلما راوا انهم لم تتركوا من ان يسئلوا شيئا قالوا يا ربنا نريد ان ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقاتل فى سبيلك مرة اخرى فلما راى ان ليس لهم حاجة تركوا (وَيَسْتَبْشِرُونَ) يسرون ويفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) الذين تركوهم احياء فى الدنيا على مناهج الايمان والطاعة والجهاد او المعنى لم يلحقوا بهم فى الدرجة (مِنْ خَلْفِهِمْ) زمانا او رتبة (أَلَّا خَوْفٌ) بدل اشتمال من الذين اى بان لا خوف (عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠) قيل معناه يحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ان لا خوف عليهم يعنى على الشهداء من جهتهم اى من جهة الاخوان لاجل حقوق العباد فى ذمتهم ومخاصمتهم معهم لانه تعالى سيرضيهم

١٧١

منهم ويمنعهم عن المخاصمة ـ قلت ويحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم وأحبائهم الذين لم يلحقوا بهم فى درجتهم ان لا خوف على إخوانهم ولا هم يحزنون لما اعطى الله للشهداء درجة الشفاعة فى إخوانهم واحبابهم اخرج ابو داود وابن حبان عن ابى الدرداء قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الشهيد يشفع فى سبعين من اهل بيته واخرج احمد والطبراني مثله من حديث عبارة بن الصامت والترمذي وابن ماجة مثله من حديث المقدام بن معد يكرب ـ واخرج ابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ـ وأخرجه البزار وزاد فى آخره ثم المؤذنون ـ قلت لعل المراد بالعلماء الذين سبقوا على الشهداء فى الشفاعة العلماء الراسخون علماء الحقيقة ـ (يَسْتَبْشِرُونَ) كرره للتأكيد او يقال الاول بشارة بدفع الضرر وهذا بشارة بجلب النفع. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ثوابا لاعمالهم (وَفَضْلٍ) زيادة عليه من الله تعالى وذلك رؤية الله ومراتب قربه وتنكيرهما للتعظيم (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١) قرا الجمهور بفتح انّ عطفا على فضل فهو من جملة المستبشر به ـ عن ابى هريرة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تكفل الله لمن جاهد فى سبيل الله لا يخرجه من بيته الا الجهاد فى سبيله وتصديق كلمته ان يدخله الجنة او يرجعه الى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من اجر وغنيمة وقال والذي نفسى بيده لا يكلم أحد فى سبيل الله والله اعلم بمن يكلم فى سبيله الا جاء يوم القيامة وجرحه تبعث دما اللون لون الدم والريح ريح المسك رواه ((١)) وعنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشهيد لا يجد الم القتل الا كما يجد أحدكم الم القرصة (٢) رواه الدارمي والترمذي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب ورواه النسائي بسند صحيح ورواه الطبراني فى الوسط عن ابى قتادة بسند صحيح ـ والاية تدل على عدم ضياع اجر المؤمنين عامة شهيدا كان او غيره كانّ الشهداء يستبشرون بحال جميع المؤمنين ـ وقرا الكسائي على انه استيناف معترض دال على ان ذلك اجر لهم على ايمانهم ومن لا ايمان له اعماله محبطة لا اجر عليها ـ وقيل هذه الاية نزلت فى شهداء بدر كانوا اربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وهذا القول ضعيف وقراءة قتّلوا بالتشديد يأبى عنه لدلالتها لكثرة المقتولين ـ وقال قوم نزلت هذه الاية فى شهداء بير معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق

__________________

(١) هكذا بياض فى الأصل ـ وفى حاشية نقل البغوي ـ ابو محمد عفا عنه ـ

(٢) القرص أخذك لحم الإنسان بإصبعيك حتى تولمه ولسع البراغيث ـ قاموس ـ منه رح

١٧٢

وعبد الله بن ابى عن انس رضى الله عنه وغيره قال قدم عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الا سنة العامري على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واهدى له فرسين وراحلتين فابى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان يقبلها وقال لا اقبل هدية مشرك فاسلم ان أردت ان اقبل هديتك فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد ان الذي تدعوا اليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك الى اهل نجد رجوت ان يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انى أخشى عليهم اهل نجد فقال ابو براء أنالهم جار فبعث المنذر بن عمر رضى الله عنه أخا بنى ساعدة فى سبعين رجلا من خيار المسلمين من الأنصار يسمون القراء وفيهم عامر بن فهيرة مولى ابى بكر فى صفر سنة اربع حتى نزلوا بير معونة وهى ارض بين ارض بنى عامر وحرة بنى سليم فبعثوا حرام بن ملحان رضى الله عنه بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى عامر بن الطفيل فى رجال من بنى عامر فقال حرام بن ملحان انى رسول رسول الله إليكم انى اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله فامنوا بالله ورسوله فخرج اليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به فى جنبه حتى خرج من الشق الاخر فقال الله اكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل عليهم ببني عامر فابوا ان يجيبوه الى ما دعاهم اليه وقالوا لا تخفروا جوار ابى براء فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية ورعل وذكوان فاجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فاحاطوا بهم فى رحالهم فقاتلوهم حتى قتلوا كلهم الا كعب بن زيد تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق وأخذوا عمرو بن امية أسيرا فلما أخبرهم انه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واخبر له الخبر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا عمل ابى براء فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه روى محمد بن إسحاق كان يقول عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رايته رفع بين السماء والأرض حتى رايت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن ابى براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله ـ وفى الصحيحين عن قتادة عن انس ان رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزعموا انهم اسلموا واستمدوا على عدوهم فامدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء فى زمانهم كانوا يحطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقنت شهرا يدعو فى الصبح على احياء من احياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان ـ وروى احمد والشيخان والبيهقي عن انس والبيهقي عن ابن مسعود والبخاري عن عروة ان أناسا

١٧٣

جاءوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا ابعث معنا رجالا يعلمون القران والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل ان يبلغوا المكان قالوا اللهم بلغ نبينا وفى لفظ إخواننا انا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فاوحى الله انا رسولهم إليكم انهم قد رضوا ورضى عنهم قال انس فقرأنا فيهم بلغوا عنا قومنا انا قد لقينا ربنا فرضى عنا وارضانا ثم نسخ ـ فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين صباحا على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان الذين عصوا الله ورسوله ـ قال البغوي فى قول انس فرفعت بعد ما قراناها زمانا وانزل الله عزوجل (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الاية ـ قلت والاختلاف وان وقع فى سبب نزول هذه الاية كما ذكرنا لكن بحسب عموم اللفظ جميع الشهداء داخلون فى حكم هذه الاية والله اعلم ـ ((مسئلة)) اجمعوا على ان الشهيد لا يغسل لان شهداء أحد لم يغسلوا وامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ان ينزع الحديد والجلود وان يدفنوا بدمائهم وثيابهم رواه ابو داؤد وابن ماجة عن ابن عباس وروى النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن ثعلبة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زملوهم بدمائهم فانه ليس كلم يكلم فى سبيل الله الا هو يأتى يوم القيامة بدماء لونه لون الدم وريحه ريح المسك وفى الباب حديث جابر رمى رجل بسهم فى صدره فمات فادرج فى ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه ابو داؤد بإسناد على شرط مسلم (مسئلة) واختلفوا فى مجنب استشهد هل يغسل أم لا فقال ابو حنيفة واحمد يغسل وقال مالك والشافعي لا يغسل لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زملوهم بدمائهم ولنا قصة حنظلة بن ابى عامر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انى رايت الملائكة يغسل حنظلة بن ابى عامر بين السماء والأرض بماء المزن فى صحاف الفضة قال ابو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا اليه فاذا رأسه يقطر ماء فرجعت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخبرته فارسل الى امرأته فسالها فاخبرته انه خرج وهو جنب فولده يقال بنو غسيل الملائكة رواه ابن الجوزي من حديث محمد بن سعد مرسلا ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده ـ قال الحافظ ظاهره ان الضمير فى قوله عن جده يعود على عباد فيكون الحديث من مسند الزبير وهو الذي يمكنه السماع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الحال ـ ورواه الحاكم فى الإكليل من حديث ابى أسيد وفى اسناده ضعف ورواه

١٧٤

الحاكم فى المستدرك والطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وفى اسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن متروك وفى اسناد الطبراني حجاج مدلس وفى اسناد البيهقي ابو شيبة الواسطي ضعيف ـ ((مسئلة)) اختلفوا فى الصلاة على الشهيد فقال الشافعي لا يصلى عليه وقال ابو حنيفة ومالك يصلى عليه وعن احمد كالمذهبين قلنا الصلاة اما لمغفرة الذنوب او لرفع الدرجات تكريما للميت والشهيد اولى بالتكرمة ولو كان التكريم فى ترك الصلاة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اولى به وقد صلى عليه اجماعا ـ والأصل هو الصلاة احتج الشافعي بحديث جابر بن عبد الله ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد فى الثوب الواحد ثم يقول أيهما اكثر قراتا فاذا أشير الى أحدهما قدمه فى اللحد وقال انا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وامر بدفنهم فى ثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا رواه البخاري والنسائي وابن ماجة وابن حبان وحديث انس ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوم أحد يكفن الرجلين والثلاثة فى الثوب الواحد ودفنهم ولم يصل عليهم رواه احمد وابو داؤد والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وصححه وقد أعله البخاري وقال انه غلط فيه اسامة بن زيد فقال عن الزهري عن انس ورجح رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر يعنى هو الحديث الاول والله اعلم ـ وأجيب عن احتجاج الشافعي بانه يحتمل ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل على شهداء أحد لما كان به من الم الجراح وكسر الرباعية ولعله صلى عليهم غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيد هذا الاحتمال ما روى ابو داؤد فى المراسيل والحاكم والطحاوي من حديث انس ايضا قال مر النبي صلى الله عليه على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره زاد الطحاوي قال عليه‌السلام انا شهيد عليكم يوم القيامة ـ فان قيل روى هذا الحديث الدارقطني وقال لم يقل هذه الزيادة غير عثمان بن عمرو وليست محفوظة قلنا قال ابن الجوزي عثمان مخرج عنه فى الصحيحين والزيادة من الثقة مقبولة قال الطحاوي لو كان ترك الصلاة على الشهيد سنة لما صلى على حمزة فظهر انه صلى على حمزة لفضله ولم يصل على غيره لما كان به من وجع وقد ورد ما يعارض ما تقدم عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها حديث جابر قال فقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل رايته عند تلك الشجرة فلما راه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جىء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون الى جانب حمزة فيصلى عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء

١٧٥

كلهم وقال حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه الا ان فى سنده مفضل بن صدقة ابو حماد الحنفي قيل هو متروك وضعفه النسائي ويحيى لكن قال الأهوازي كان عطاء بن مسلم يوثقه وكان احمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما وقال ابن عدى ما ارى به بأسا فالحديث لا يسقط عن درجة الحسن ومنها حديث ابن عباس قال امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم اتى بالقتلى فيوضعون الى حمزة فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلوة رواه ابن إسحاق قال حدثنى من لا اتهمه عن مقسم مولى ابن عباس عنه وفى مقدمة مسلم عن شعبة عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عنه ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى على قتلى أحد فسالت الحكم فقال لم يصل عليهم قال السهيلي الحسن بن عمارة ضعيف ـ وقال الحافظ وروى هذا الحديث الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله قال الحافظ يزيد فيه ضعف يسير وقال ابن الجوزي قال ابن المبارك ارم به وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك ـ ومنها حديث ابن مسعود نحوه يعنى صلى على حمزة سبعين صلوة رواه احمد والحديث ضعيف وقال ابن همام لا ينزل عن درجة الحسن ـ ومنها حديث ابى مالك الغفاري أخرجه ابو داؤد فى المراسيل انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة فى كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلوة قال الحافظ رجاله ثقات وابو مالك تابعي اسمه غزوان ـ وقد اعل الشافعي هذا الحديث بأنه متدافع لان الشهداء كانوا سبعين فاذا اتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات وأجيب بان المراد انه صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم وعند اجتماع هذه الأحاديث يثبت انه قد صلّى على قتلى أحد ووجه التطبيق بين ما روى انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل عليهم وما روى انه صلى عليهم وانه لم يصل بنفسه الشريفة الا أول مرة على حمزة ثم امر الناس بالصلوة على كلهم وصلى على حمزة الصلاة مع كل من القتلى انه من أسند الصلاة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتلى أحد كلهم فمعناه انه امر بالصلوة فاسند اليه مجازا ومن نفى عنه الصلاة فهو على الحقيقة نظرا الى الأكثر ومن فصّل وقال صلى على حمزة لا غير فقد اتى بما هو الواقع وفى الباب ما رواه النسائي والطحاوي عن شداد بن الهاد مرسلا ان رجلا من الاعراب جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فامن به واتبعه وقال أهاجر معك فاوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الصحابة

١٧٦

فلما كانت غزوة غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها أشياء فقسم وقسم له الحديث وفيه فقال الاعرابى ما على هذا اتبعك ولكن اتبعك على ان ارمى هاهنا وأشار الى حلقه بسهم فاموت فادخل الجنة الحديث وفيه فاتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اهو هو قالوا نعم قال صدّق الله فصدقه وكفنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته عليه اللهم ان هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك فقتل شهيدا انا اشهد عليه وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة ((فصل)) روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين يعنى قبيل وفاته عليه‌السلام وحمله البيهقي على الدعاء وليس بشىء لان الدعاء لم يكن مرة بعد ثمانى سنة وانما هى صلوة الجنازة وقد ورد فى بعض ألفاظه خرج يوما فصلى على اهل أحد صلاته على الميت رواه الطحاوي وغيره ـ فان قيل الحنفية لا يجيزون الصلاة على الميت بعد ثلاثة ايام قلت انما لا يجيزون لان الميت ينفسخ فى القبر فى ثلاثة ايام واما الشهيد فقد ثبت انه لا يأكله الأرض وهو ابدا كيوم دفنه فلا بأس بالصلوة عليه وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله اعلم ـ روى الفرياني والنسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس انه قال لما رجع المشركون عن أحد قالوا لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا فسمع بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فندب المسلمين فانتدبوا الحديث قال محمد بن عمرو لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد يوم السبت ١٥ باتت وجوه الأوس والخزرج على بابه خوفا من كرة العدو فلما طلع الفجر من يوم أحد ١٦ اذّن بلال وخرج ينتظر خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما خرج أخبره رجل مزنّى قول ابى سفيان حين بلغوا الروحاء ارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن امية يأبى ذلك عليهم ويقول يا قوم لا تفعلوا فان القوم قد حربوا وأخاف ان يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا والدولة لكم فانى لا أمن ان رجعتم ان تكون الدولة عليكم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارشدهم صفوان وما كان برشيد والذي نفسى بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كامس الذاهب ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما فقالا يا رسول الله اطلب العدو ولا يقمحون الاقماح رفع الراس وغمض البصر ـ نهايه مندوح على الذرية ـ فامر بلالا ان ينادى ان رسول الله

١٧٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا الا من شهد القتال أمس قال أسيد بن حضير وبه تسع جراحات يريد ان يداويها لما سمع النداء سمعا وطاعة لله ورسوله ولم يعرج على دواء جرحه وخرج من بنى سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا وبخراش بن الصمة عشر جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا وبعطية بن عامر تسع جراحات ووثب المسلمون الى سلاحهم وما عرجوا على دواء جراحاتهم قال ابن عقبة واتى عبد الله بن أبيّ فقال يا رسول الله انا اركب معك قال لا قال ابن إسحاق ومحمد بن عمرو اتى جابر بن عبد الله فقال يا رسول الله ان مناديك نادى ان لا يخرج معنا الا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصا على الحضور ولكن ابى خلفنى على أخوات لى سبع وفى لفظ تسع وقال لا ينبغى لى ولك ان نترك هذه النسوة ولا رجل معهن ولست بالذي او ثرك بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعل الله تعالى يرزقنى الشهادة وكنت رجوتها فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة فأذن لى يا رسول الله أسير معك فاذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيرى استأذنه رجال لم يحضروا القتال فابى ذلك عليهم قال ابن إسحاق ومتابعوه انما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم انه خرج فى طلبهم فيظنوا بهم قوة وان الذي أصابتهم لم يوهنهم عن عدوهم فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه ابو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابو عبيدة بن الجراح فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد موضع من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا وساق جزرا لتفحر فنحروا فى يوم الاثنين ٧ او يوم الثلاثاء ١٨ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهم فى النهار بجمع الحطب فاذا امسوا أمران توقد النيران فتوقد كل رجل نارا فاوقدوا خمسمائة نار ولقى معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك وجزم ابو عمرو وابن الجوزي بإسلامه ـ وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك من أصحابك ولوددنا ان الله كان قد عفاك ثم خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقى أبا سفيان بالروحاء وقد اجمعوا للرجعة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا لقد أصبنا جلة أصحابهم وقادتهم لتكرن

١٧٨

على بقيتهم فلنفرغنّ عنهم فلما راى ابو سفيان معبدا قال وماوراءك قال محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم ار مثله قط يتخرقون عليكم تخرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الخنق عليكم شىء لم ار مثله قط قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل قال فو الله لقد اجمعنا الكرة عليهم لنستاصل بقيتهم قال فانى والله أنهاك عن ذلك فثنى ذلك مع كلام صفوان أبا سفيان ومن معه وقت أكبادهم فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب ـ ومر بابى سفيان ركب من عبد القيس فقال اين تريدون قالوا نريد المدينة للميرة فقال فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة واحمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا ووافيتمونا قالوا نعم قال فاذا جئتموه فاخبروا انا قد اجمعنا اليه والى أصحابه لنستأصلهم بقيتهم ـ وانصرف ابو سفيان الى مكة ومر الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحمراء الأسد فاخبروه بالذي قاله ابو سفيان فقال رسول الله صلى الله حسبنا الله ونعم الوكيل فاقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هناك الاثنين ١٧ والثلاثاء ١٨ والأربعاء ١٩ وانزل الله تعالى. (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) دعاءه بالخروج للقتال (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) الجراح يوم أحد الموصول منصوب على المدح او مبتدا خبره الجملة الواقعة بعده (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا) من للبيان والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل دون التقييد لان المستجيبين كلهم كانوا محسنين متقين (أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢) وجاز ان يكون الموصول صفة للمؤمنين وتم الكلام على قوله (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) وما بعده ابتداء وقال مجاهد وعكرمة خلافا لاكثر المفسرين انه نزلت هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى وذلك ان أبا سفيان يوم أحد حين أراد ان ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى القابل ان شئت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بيننا وبينك ان شاء الله فلما كان العام المقبل خرج ابو سفيان من مكة فى قريش وهم الفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل مجنة فى ناحية مر الظهران ثم القى الله الرعب فى قلبه فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الا شجعى وقد قدم معتمرا فقال له ابو سفيان يا نعيم انى وأعدت محمدا وأصحابه ان نلتقى بموسم بدر الصغرى وان هذه عام جدب ولا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لى ان لا اخرج إليها واكره ان يخرج محمد ولا اخرج انا فيزيدهم ذلك جرءة ولان الخلف من قبلهم أحب

١٧٩

الىّ من ان يكون من قبلى فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم انى فى جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندى عشرة من الإبل أضعها على يدى سهيل بن عمرو ويضمنها فضمنها سهيل ـ واتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد ابى سفيان فقال اين تريدون فقالوا واعدنا أبا سفيان بموسم بدر الصغرى ان نقتتل بها فقال بئس الرأى رايتم أتوكم فى دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره بعض اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج واستبشر المنافقون واليهود وقالوا محمد لا يفلت من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى خشى ان لا يخرج معه أحد وجاء ابو بكر وعمرو قد سمعا ما سمعا وقالا يا رسول الله ان الله مظهر دينه ومعزّ نبيه وقد واعدنا القوم موعدا لا نحب ان نتخلف فسر لموعدهم فو الله ان ذلك لخير فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسى بيده لاخرجن ولو وحدي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصحابه وأتوا بدر الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسئلونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون ان يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم فى الجاهلية يجتمعون إليها يقوم لهلال ذى القعدة الى ثمان ليال خلون منه فاذا مضت ثمان ليال تفرق الناس الى بلادهم فاقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر أبا سفيان وقد انصرف ابو سفيان من مجنة الى مكة فلم يلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أحد من المشركين وواقفوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين وانقلبوا الى المدينة سالمين غانمين فحينئذ نزل قوله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) إلخ والصحيح هو القول الاول واقتضاه صنيع البخاري ورجحه ابن جرير قلت ويؤيد القول الاول سياق الاية حيث قال الله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) مدحهم بانهم خرجوا للجهاد واستجابوا لله والرسول مع كونهم مجروحين متالمين بالجراحات وليس ذلك الا فى غزوة حمراء الأسد واما غزوة بدر الصغرى فكانت بعد سنة وحينئذ كانوا أصحاء سالمين وبعدية إصابة القرح ان لم يحمل على الفور فلا وجه لتخصيص هذه الاية بغزوة بدر الصغرى بل يصدق على غزوة الخندق وغيرها ايضا والله اعلم.

١٨٠