التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما من عبد مؤمن وفى رواية ما من رجل يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ثم يستغفر الله الا غفر الله له رواه ابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وزاد الترمذي ثم قرا (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الاية (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) استفهام بمعنى النفي حتى صح المفرغ يعنى لا يغفر الذنوب أحد الا الله فان العافين عن الناس من الناس انما يعفون حقوقهم دون الذنوب والمعاصي التي هى حقوق الله تعالى او يقال العافي عن الناس منهم يعفوا رجاء لمغفرة الله تعالى فهو المتجر وغافر الذنب بلا غرض ومنفعة انما هو الله تعالى والجملة معترضة بين المعطوفين لبيان سعة رحمة الله وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة وجاز ان يكون حالا بتقدير القول يعنى قائلين ومن يغفر او معطوفة على مفعول ذكروا يعنى ذكروا الله وذكروا مغفرته وتوحده فى تلك الصفة (وَلَمْ يُصِرُّوا) الإصرار التقعد فى الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع كذا فى الصحاح يعنى لم يقيموا (عَلى ما فَعَلُوا) من الذنوب وبهذا يظهر ان العزم على ترك الفعل شرط للاستغفار كالندم على الفعل فلا بد للاستغفار من العزم على الترك وان صدر منه بعد ذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة ـ رواه ابو داود والترمذي من حديث ابى بكر الصديق وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس (مسئلة) الإصرار على الصغيرة تكون كبيرة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار رواه الديلمي فى مسند الفردوس (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥) حال من الضمير فى لم يصروا يعنى تركوا الإصرار على المعصية لعلمهم كونها معصية خوفا من الله تعالى لا لكسالة او تنفر طبعى (١) او خوف من العباد او عدم تيسر فان الجزاء انما هو على كف النفس بنية الطاعة دون عدم الفعل مطلقا لكن عدم الفعل مطلقا مانع من الجزاء المترتب على المعصية فان من العصمة ان لا تقدر وقال الضحاك وهم يعلمون الله يملك مغفرة الذنوب وقال

__________________

(١) فى الأصل طبيعى

١٤١

الحسين بن الفضل وهم يعلمون ان له ربا يغفر الذنوب وقيل وهم يعلمون ان الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وان كثرت ـ وقيل يعلمون انهم ان استغفروا غفر لهم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان عبدا أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فقال ربه اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى فليفعل ما شاء متفق عليه وعن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قال الله عزوجل من علم انى ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح. (أُولئِكَ) ان كانت الجملة مستانفة فالمشار إليهم المتقون والتائبون جميعا وان كان هذا خبرا للموصول فالمشار إليهم هم التائبون (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وتنكير جنات للدلالة على ان ما لهم أدون مما للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة فى الاية المقدمة ولذا فصل آيتهم ببيان انهم محسنون مستوجبون لمحبة الله تعالى حافظون على حدود الشرع وفصل هذه الاية بقوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) فان المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيله بعض ما فوت على نفسه لكن كم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير ـ ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة والمخصوص بالمدح محذوف اى نعم اجر العاملين المغفرة والجنات قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس والقشيري فى الرسالة وابن النجار عن علىّ (فائدة) ولا يلزم من اعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم ان لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من اعداد النار للكافرين جزاء لهم ان لا يدخلها غيرهم ـ وجاز ان يقال العصاة المصرون على الكبائر يدخلهم الله الجنة بعد تطهيرهم من الذنوب بالمغفرة اما بعد العذاب بالنار فان النار فى حق المؤمن كالكير يدفع خبث الفلز واما بالمغفرة

١٤٢

بلا تعذيب فحينئذ يلحق العاصي بالتائب فى التطهّر ـ قال ثابت البناني بلغني ان إبليس بكى حين نزلت هذه الاية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الى آخرها ـ. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧) السنة الطريقة المتبعة فى الخير او الشر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شىء وجاز ان يكون فى الكلام حذف المضاف اى اهل سنن وقيل السنن بمعنى الأمم والسنة الامة قال الشاعر ما عاين الناس من فضل كفضلهم ولا راوا مثلهم فى سالف السنن ومعنى الاية قد مضت قبلكم طرق من الخير والشرا واهل طرق فانظروا كيف كان عاقبة طريقة التكذيب وما ال اليه امر المكذبين من الهلاك وقال مجاهد قد مضت وسلفت منى سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بامهالى واستدراجى إياهم حتى بلغ الكتاب اجله الذي اجلته لاهلاكهم ثم أهلكتهم ونصرت انبيائى ومن تبعهم فسيروا وانظروا لتعتبروا وقال عطاء السنن الشرائع وقال الكلبي مضت لكل امة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضى الله عنهم ومن كذبه ولم يتبعه أهلكه الله فانظر ما عاقبة المكذبين. (هذا) اى القران او قوله قد خلت او مفهوم قوله فانظروا (بَيانٌ لِلنَّاسِ) عامة (وَهُدىً) من الضلالة (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨) خاصة فانهم هم المنتفعون به ـ وقيل هذا اشارة الى ما لخص من امر المتقين والتائبين وقوله قد خلت اعتراض للحث على الايمان والتوبة ـ. (وَلا تَهِنُوا) اى لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح يوم أحد وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سبعون رجلا (وَلا تَحْزَنُوا) على من قتل منكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) والحال انكم أعلى شأنا منهم فانكم ترجون من الاجر والثواب على ما أصابكم ما لا يرجوه الكفار وقتلاكم فى الجنة وقتلاهم فى النار نظيره قوله تعالى (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) قال الكلبي

١٤٣

امر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح يوم أحد فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الاية ـ او المعنى أنتم الأعلون عاقبة الأمر بالنصر من الله والظفر قال ابن عباس انهزم اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الشعب فاقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا الا بك ـ وبات نفر من المسلمين رماة فصعد والجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموا فذلك قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) يعنى ان صح ايمانكم فلا تهنوا ولا تحزنوا فان مقتضى الايمان رجاء الثواب وقوة القلب بالتوكل على الله او المعنى ان صح ايمانكم فانتم الأعلون فى العاقبة فانه حقّ علينا نصر المؤمنين. (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) يوم أحد قرا حمزة والكسائي وأبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء والباقون بالفتح وهما لغتان معناهما عض السلاح ونحوه مما يخرج البدن كذا فى القاموس وقال الفراء القرح بالفتح الجراحة وبالضم الم الجراحة (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) اى قوم الكفار من قريش (قَرْحٌ مِثْلُهُ) يوم بدر وهم لم يضعفوا عن معاودتكم للقتال فانتم اولى بذلك نزلت هذه الاية تسلية للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن وليجتروا على عدوهم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) يعنى اوقات النصر (نُداوِلُها) نصرفها (بَيْنَ النَّاسِ) يعنى كذلك جرت عادتنا فيكون النصر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء والأيام صفة لتلك وهو مبتدا خبره نداولها او الأيام خبر ونداولها حال والعامل فيه معنى الاشارة عن البراء بن عازب قال جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرجالة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال ان رايتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وان رايتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم قال وانا والله رايت النساء يشتددن قد بدت خلا خلهن واسوقهن رافعات ثيابهن ـ فقال اصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة اى قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا والله لناتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين فذاك قوله تعالى (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) إذ يدعوهم الرسول

١٤٤

فى أخراهم فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير اثنى عشر رجلا فاصابوا منا سبعين ـ وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال ابو سفيان ا فى القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان يجيبوه ثم قال ا فى القوم ابن ابى قحافة ثلاث مرات ثم قال ا فى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال اما هؤلاء قد قتلوا فما ملك عمر رضى الله عنه نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله ان الذين عددت لاحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك فقال يوم بيوم بدر والحرب سجال انكم ستجدون فى القوم مثلة لم آمر بها ولا تسؤنى ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل قال ان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم رواه البخاري وغيره وفى رواية فقال ابو سفيان قد أنعمت هلم يا عمر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر آته فانظر ما شأنه فجاءه فقال ابو سفيان أنشدك الله يا عمر ا قتلنا محمدا قال اللهم لا انه يسمع كلامك الان قال أنت عندى اصدق من ابن قمية وابر وقد قال ابن قمية لهم انى قتلت محمدا ثم قال ابو سفيان الا ان موعدكم بدر الصغرى على رأس الحول فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل نعم هو بيننا وبينكم موعد وانصرف ابو سفيان الى أصحابه وأخذ فى الرحيل وروى هذا المعنى عن ابن عباس وفى حديثه قال ابو سفيان يوم بيوم وان الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ـ قال الزجاج الدولة يكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) وانما كانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على علة محذوفة وفائدة الحذف الإيذان بان العلة المحذوفة متعددة يطول ذكرها واللام متعلق بنداولها اى نداولها لحكم ومصالح لا يحصى وليعلم الله المؤمنين ممتازين عند الناس بالصبر والثبات على الايمان من غيرهم وجاز ان يقال المعطوف عليه غير محذوف بل هو المفهوم من قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها) كانه قال داو لنا بينكم الأيام لان هذه عادتنا وليعلم والخلق

١٤٥

والافناء من قبيل مداولة الأيام ـ والقصد فى أمثاله ونقائضه ليس الى اثبات علمه تعالى ونفيه بل الى اثبات المعلوم فى الخارج ونفيه على طريقة البرهان لان علم الله تعالى لازم للمعلوم وبالعكس ونفى المعلوم مستلزم لنفى العلم كيلا ينقلب العلم جهلا فاطلق الملزوم وأريد به اللازم فمعنى الاية ليتحقق امتياز المؤمنين من غيرهم عند الناس ـ وقيل معناه ليعلم الله علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) اى يكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد ـ او المعنى وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بالثبات والصبر على الشدائد ـ اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال لما ابطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فاذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امراة ما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالا حى قالت فلا أبالي يتخذ الله من عباده شهداء ـ فنزل القران على ما قالت (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠) الكافرين المنافقين الذين لم يظهر منهم الثبات على الايمان جملة معترضة بين المعطوفين وفيه تنبيه على ان الله لا ينصر الكافرين على الحقيقة وانما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين. (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) التمحيض التطهير والتصفية (الَّذِينَ آمَنُوا) من الذنوب (وَيَمْحَقَ) المحق نقض الشيء قليلا قليلا (الْكافِرِينَ) (١٤١) يعنى ان كانت الدولة على المؤمنين فللتميز والاستشهاد والتمحيص وان كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو اثارهم. (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم منقطعة بمعنى بل احسبتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) والاستفهام للانكار (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) يعنى ولما يتحقق الجهاد من بعضكم (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) نصب بإضمار ان والواو للجمع كما فى نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن او جزم للعطف على يعلم الله وحركت الميم لالتقاء الساكنين بالفتح لفتحة ما قبلها ـ اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان رجالا من الصحابة كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل اصحاب بدر او ليت لنا يوما ليوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلى فيه خيرا او نلتمس الشهادة والجنة والحيوة والرزق فاشهدهم الله أحدا فلم يلبثوا الا من شاء الله منهم فانزل الله تعالى. (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) فى سبيل الله

١٤٦

او المراد به الحرب فانه سبب للموت (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) تشاهدوه وتعرفوا شدته (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣) حال من فاعل رايتموه وفائدته بيان ان المراد بالروية روية البصر دون العلم يعنى عاينتم الموت حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم وفيه توبيخ على انهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها او على تمنى الشهادة فانها يستلزم تمنى غلبة الكفار ـ اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبى الله قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال ناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم او تلحقوا به واخرج ابن المنذر عن عمر قال تفرقنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول قتل محمد فقلت لا اسمع أحدا يقول قتل محمدا لاضربت عنقه فنظرت فاذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس يتراجعون ـ واخرج البيهقي فى الدلائل عن ابى نجيح ان رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط فى دمه فقال له أشعرت ان محمدا قتل فقال ان كان محمد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت على هذه الروايات. (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) (١) يعنى ليس هو ربّا يستحيل عليه الفناء والموت وما هو يدعوا الناس الى عبادته ـ فى القاموس الحمد الشكر والرضاء والجزاء وقضاء الحق والتحميد حمد الله مرة بعد مرة ومنه محمد كانّه حمد مرة بعد مرة قلت الى ما لا نهاية لها قال البغوي محمد هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الأمد فى الكمال قال حسان بن ثابت ((شعر)) ا لم تر ان الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وامجد وشقه من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد (قَدْ خَلَتْ) مضت وماتت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيموت هو ايضا (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى

__________________

(١) اخرج البخاري عن ابن عباس ان أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمرو قال ابو بكر اما بعد من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ـ ومن كان يعبد الله فان الله حىّ قال الله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الى الشّكرين قال فو الله لكانّهم لم يعلموا ان الله انزل هذه الاية حتى تلاها ابو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما اسمع بشرا من الناس الا يتلوها وروى عن ابى هريرة وعروة وغيرهما نحو ذلك قال ابراهيم قال أبو بكر لو منعونى عقالا اعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجاهدتهم ثم تلا (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ـ منه رحمه‌الله

١٤٧

أَعْقابِكُمْ) اى رجعتم الى دينكم الاول من الكفر انكار على ارتدادهم بموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد علمهم بموت من سبقه من الأنبياء وبقاء دينهم ـ وقيل الفاء للسببية والهمزة لانكار ان يجعل موته سببا لارتدادهم (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) اى يرتد عن دينه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بارتداده بل يضر نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١) (١٤٤) على نعمة الإسلام بالثبات عليه ـ ذكر اصحاب المغازي انه نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشعب من أحد فى سبعمائة وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة كما ذكرنا من حديث البراء بن عازب فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن ابى جهل ومعهم النساء يضر بن بالدفوف ويقلن الاشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب العدو حتى يثخن فاخذ ابو دجانة سماك بن حرسة الأنصاري رضى الله عنه فلما اخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انها لمشية يبغضها الله الا فى هذا الموضع فعلق به هام المشركين الهام الرأس وهام القوم اشرافهم ـ منه رح وحمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم وانزل الله تعالى نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوا المشركين بالسيف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا ـ وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة وكانت الرماة يحمى ظهور المسلمين ويرشقون اى يرمون ـ منه رح خيل المشركين بالنبل فلا يقع الا فى فرس او رجل فتولى هو ارب ـ وقتل على بن ابى طالب طلحة بن طلحة صاحب لواء المشركين وكبر المسلمون وشددوا على المشركين يضربونهم حتى اختلت صفوفهم قال الزبير بن العوام فرايت هندا وصواحبها هاربات مصعدات فى الجبل باديات خدامهن ما دون أخذهن شيئا ـ فلما نظر الرماة اصحاب عبد الله بن جبير الى القوم قد انكشفوا اذهبوا الى عسكر المشركين ينتهبون كما ذكرنا من حديث البراء لم يبق مع أميرهم عبد الله بن جبير الا دون العشرة نظر خالد الى الجبل وقلة اهله واشتغال المسلمين بالغنيمة وراى ظهورهم خالية صاح فى خيله من المشركين ثم حملهم من خلفهم وتبعه عكرمة فهزموهم وقتلوهم

__________________

(١) عن على رضى الله عنه فى قوله (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) قال الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان على يقول ابو بكر امير الشاكرين ـ منه رحمه‌الله

١٤٨

وثبت أميرهم عبد الله بن جبير رضى الله عنه فقالت حتى قتل فجردوه ومثلوا به أقبح المثل فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم حمل خالد بن الوليد على اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم قتلا ذريعا وتفرق المسلمون من كل وجه وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا وكانت الريح أول النهار صباء فصارت دبورا وكرّ الناس منهزمين فصاروا أثلاثا ثلثا جريحا وثلثا منهزمين وثلثا قتيلا ـ روى البيهقي عن المقداد والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكانه شبرا واحدا وانه لقى وجه العدو وتفيء اليه طائفة من أصحابه وتفترق مرة فربما رايته قائما يرمى عن قوسه ويرمى بالحجر وثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة عشر رجلا ثمانية من المهاجرين ابو بكر وعمر وعلى وطلحة وزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وابو عبيدة بن الجراح وسبعة من الأنصار الحباب بن منذر وابو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن صمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة رضى الله عنهم أجمعين ـ روى عبد الرزاق مرسلا عن الزهري قال ضرب وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعون ضربة بالسيف وقاه الله شرها كلها ورمى عتبة بن وقاص لعنه الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باربعة أحجار فكسر منها رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى قال الحافظ المراد السن الذي بين الثنية والناب قال حاطب بن (١) بلتعة فقتلت عتبة بن وقاص وجئت برأسه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسره ذلك ودعا لى رواه الحاكم وشجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن شهاب الزهري واسلم بعد ذلك وسال الدم حتى اخضل الدم لحيته الشريفة ورماه عبد الله بن قمية فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته واقبل عبد الله بن قمية يريد قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذبه مصعب بن عمر وهو صاحب رأية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتله ابن قمية وهو يرى انه قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع وقال انى قتلت محمدا وصارخ صارخ الا ان محمدا قد قتل ويقال ان ذلك الصارخ إبليس لعنه الله ـ روى الطبراني عن ابى امامة انه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن قمية أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة اى استاصلك الله ـ منه رح

__________________

(١) الصحيح حاطب بن ابى بلتعة ـ

١٤٩

قطعة ـ ونهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين در عين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب طلحة ـ ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجد عن الاذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا ونقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع ان تسيغها فلفظتها وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الناس الىّ عباد الله فاجتمع اليه ثلاثون رجلا كل يقول وجهى دون وجهك ونفسى دون نفسك وعليك السلام فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن ابى وقاص حتى اندقت ستة قوسه ونثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنانته فقال له ارم فداك ابى وأمي رواه البخاري وكان ابو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين او ثلاثا وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول انثرها لابى طلحة وكان إذا رمى استشرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينظر الى موضع نبله ـ وأصيب يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى ابو داود الطيالسي وابن حبان عن عائشة قالت قال ابو بكر ذلك اليوم كله لطلحة ـ وذكر محمد بن عمر انّ طلحة أصيب يومئذ فى رأسه فنزف الدم حتى غشى عليه فنضح ابو بكر الماء فى وجهه حتى أفاق فقال ما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال خيرا هو أرسلني إليك فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل ـ وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعادت كاحسن ما كانت ـ فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدركه ابى بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت وان نجوت فقال القوم يا رسول الله الا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوه حتى إذا دنا منه (وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول عندى رمكة اعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل انا أقتلك ان شاء الله) فلما دنا منه تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه فى عنقه وخدشه خدشة فتد هداه عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلنى محمد فحمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس قال بلى لو كانت

١٥٠

هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لى انا أقتلك فلو بزق علىّ بعد تلك المقالة قتلنى فلم يلبث الا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف ـ روى البخاري فى الصحيح عن ابن عباس قال اشتد غضب الله على من قتله نبى واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا وفشا فى الناس ان محمدا قد قتل فقال بعض المسلمين ليت لنا رسولا الى عبد الله بن أبيّ فياخذ لنا أمانا من ابى سفيان وبعض الصحابة جلسوا والقوا بايديهم وقال أناس من اهل النفاق ان كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الاول فقال انس بن النضر عم انس بن مالك رضى الله عنه يا قوم ان كان قد قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فان رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموتوا على ما مات ثم قال اللهم انى اعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعنى المسلمين وابرا إليك مما جاء به هؤلاء يعنى المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ـ ثم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق الى الصخرة وهو يدعو الناس فاول من عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن مالك قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت با على صوتى يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشار الىّ ان اسكت فانحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الفرار فقالوا يا نبى الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا انك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فانزل الله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الاية ـ. (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) اى الا بمشية الله وقضائه او باذنه لملك الموت فى قبض روحه (كِتاباً) مصدر مؤكد اى كتب كتابا (مُؤَجَّلاً) صفة له اى موقتا لا يتقدم ولا يتاخر فيه تحريض وتشجيع على القتال (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) اى من الدنيا تعريض بمن شغلهم الغنائم عن القتال يعنى نؤته منها ما نشاء مما قدرناه له (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) اى من الاخرة يعنى ثوابها (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥) قلت لعل المراد بهذه الجملة انه من يرد بعمله نفس الشكر لا يريد به ثواب الدنيا ولا ثواب الاخرة سيجزيه الله تعالى جزاء

١٥١

لا يدركه فهم ولا يتطرق اليه وهم يدل عليه إبهام الجزاء يعنى يكون جزاؤه ذاته (١) تعالى فى القاموس الشكر عرفان الإحسان ونشره عن انس بن مالك ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من كانت نيته طلب الاخرة جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها الا ما كتب له رواه البغوي ـ وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله والى رسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امراة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه متفق عليه. (وَكَأَيِّنْ) قرا ابن كثير بالمد والهمز على وزن كاعن وبتلين الهمزة ابو جعفر والباقون بهمزة مفتوحة والتشديد ومعناه كم من نبىّ قتل قرا الكوفيون وابن عامر من المفاعلة على البناء للفاعل والباقون قتل من المجرد على البناء للمفعول (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة جموع كثيرة وقال ابن مسعود الرّبّيّون الألوف وقال للكلبى الربية الواحدة عشرة آلاف وقال الضحاك الربية الواحدة الف وقال الحسن فقهاء علماء وقيل هم الاتباع فالربانيون الولاة والربيون الرعية ـ وقيل منسوب الى الرب وهم الذين يعبدون الرب ـ واسناد قتل على قراءة اهل الحجاز والشام (٢) الى الربيون لا الى ضمير النبي ويكون معه ربيون حالا عنه لانه يستلزم حينئذ الإضمار ويكون تقدير الكلام ومعه ربيون كثير ولما قال سعيد بن جبير ما سمعنا ان نبيا قتل فى القتال وكلمة كايّن تدل على الكثرة فالمعنى كايّن من نبىّ قتل معه اى فى عسكره وفى قتاله ربيون ـ وكذا على قراءة الباقين اسناد القاتلة الى ربيون بالمطابقة ويفهم منه قتال النبي استلزاما (فَما وَهَنُوا) اى ما وهن من بقي منهم بعد القتل وما جبنوا (لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) من الجروح والشدائد وقتل الاصحاب (وَما ضَعُفُوا) عن الجهاد (وَمَا اسْتَكانُوا) يعنى ما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وما ذلوا وما تضرعوا ولكن صبروا على امر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم واصل استكن من السكون فان الخاضع الذليل يسكن لصاحبه فيفعل به ما يريد وهذا

__________________

(١) هر كس كه ترا شناخت جان را چه كند

فرزند وعيال خان ومان را چه كند

ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى

ديوانه تو هر دو جهان را چه كند

منه رحمه‌الله

(٢) هو سباق قلم والصحيح اهل البصرة ـ ابو محمد عفا عنه

١٥٢

تعريض لمن طلب الامان عن ابى سفيان او جبنوا عن الحرب (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦) فينصرهم ويعظم قدرهم. (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) خبر كان (إِلَّا أَنْ قالُوا) اسمه وانما جعل اسما لكونه اعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدوث (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الصغائر (وَإِسْرافَنا) اى تجاوزنا عن حد العبودية (فِي أَمْرِنا) فى شأننا يعنى الكبائر (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) على صراطك المستقيم وعلى الجهاد فى مقابلة العدو (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧) يعنى ما كان غير هذا القول مقالتهم بعد ما أصابهم الشدائد ووجه هذه المقالة ان الله سبحانه وعد للمؤمنين النصر والغلبة حيث قال حقّا علينا نصر المؤمنين وقال انّ جندنا لهم الغالبون وان ما يصيبهم من ضر ومصيبة فانما هو لاجل ذنوبهم وإسرافهم فى أمرهم حيث قال الله تعالى (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فيجب على المؤمن عند إصابة الضر الاعتراف بذنبه ليحصل الندم والاستغفار ثم دعاء النصر منه تعالى وطلب التثبت (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) والدعاء بعد الاستغفار والتطهر من الذنوب اقرب الى الاجابة. (فَآتاهُمُ اللهُ) ببركة هذا القول (ثَوابَ الدُّنْيا) من النصر والغنيمة والملك وحسن الذكر (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) من الجنة ومراتب القرب ورضوان من الله اكبر وخص ثوابها بالحسن لانه المعتد به عنده ولفضله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨) وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بانهم هم المحسنون لان الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه يعنى بكمال الحضور وطرد الغفلة فمقتضاه هذا القول وهذه المعرفة يعنى معرفة ان السراء والضراء انما هو من الله تعالى وان الكريم (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة فحينئذ يغير ما بهم من النعمة ويذيقهم بعض النقمة كى يتنبهوا ويستغفروا وكى يتطهروا عن الذنوب باستيفاء جزائها فى الدنيا ـ. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال على رضى الله عنه يعنى المنافقين فى قولهم للمؤمنين عنه الهزيمة ارجعوا الى إخوانكم وادخلوا فى دينهم ولو كان محمد نبيا ما قتل ـ وقيل معناه ان تطيعوا أبا سفيان ومن معه وتستكينوا لهم وتستأمنوهم (يَرُدُّوكُمْ

١٥٣

عَلى أَعْقابِكُمْ) يعنى يرجعوكم الى ما كنتم عليه قبل الإسلام من الشرك (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (١٤٩) مغبونين خسران الدنيا والاخرة. (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) محبكم وناصركم وحافظكم على دينه فلا تتولوا غيره تعالى (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠) فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره ـ روى ان أبا سفيان والمشركين لمّا ارتحلوا يوم أحد ١٦ شوال متوجهين الى مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم الا الشريد تشرد البعير إذا نفر وذهب فى الأرض ـ منه رح تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك قذف الله فى قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به وانزل الله تعالى. (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى أبا سفيان وأشياعه (الرُّعْبَ) اى الخوف قرا ابن عامر والكسائي وابو جعفر ويعقوب بضم العين حيث وقع والباقون بسكونها ـ وجاز ان يكون إلقاء هذا الرعب حين أراد المشركون نهب المدينة عند الارتحال الى مكة ولو كان نزول الاية بعد تلك الوقعة فالسين لمجرد التأكيد مجردا عن التسويف وصيغة المضارع حكاية عن الحال الماضي (بِما أَشْرَكُوا) اى بسبب اشراكهم (بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) اصل السلطنة القوة والمراد به الحجة والمعنى أشركوا بالله الهة لم يقم على اشراكها حجة وبرهانا بل اقام الله الحجج والبراهين العقلية والنقلية على التوحيد (وَمَأْواهُمُ) اى المشركين (النَّارُ) عطف على سنلقى (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١) النار فالمخصوص بالذم محذوف ووضع المظهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل ـ قال محمد بن كعب لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من أحد الى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه عليه‌السلام من اين هذا وقد وعدنا الله النصر فانزل الله تعالى. (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) بالنصر بشرط التقوى والصبر حين نصركم فى ابتداء القتال كما ذكرنا (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) متعلق بصدقكم اى تقتلونهم قتلا ذريعا من احسه إذا أبطل حسه وقال ابو عبيدة الحسن الاستيصال بالقتل (بِإِذْنِهِ) اى بقضائه (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) اى جبنتم وضعفتم وقيل معناه ضعف رأيكم وملتم الى الغنيمة فان الحرص من ضعف العقل (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) كما مرّ انه تنازع اصحاب عبد الله بن جبير حين راوا غلبة المؤمنين وانهزام المشركين فقال أكثرهم انهزم القوم فما مقامنا فقال

١٥٤

عبد الله أنسيتم ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لم يرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا النأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة وقال عبد الله ومن معه لا تجاوز امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَصَيْتُمْ) امر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل الواو زائدة ومعناه إذا فشلتم تنازعتم وهذا ليس بشىء لانه يقتضى تقدم الفشل على التنازع والواقع ان الفشل اى الجبن انما وجد بعد التنازع والعصيان فانهم اجترءوا أول الأمر حيث كروا على عسكر المشركين للنهب وقيل فى الكلام تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم فى الأمر وعصيتم فشلتم فلا إشكال على كون الواو زائدة ـ والأظهر ان الواو ليست بزائدة وجواب إذا محذوف يعنى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم منعكم نصره والقاكم فيما أصابكم والواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا يقتضى تقديم الفشل على التنازع والعصيان (مِنْ بَعْدِ) متعلق بفشلتم (ما أَراكُمْ) الله (ما تُحِبُّونَ) من الظفر والغنيمة (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعنى تركوا المركز واقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعنى ثبتوا مع عبد الله بن جبير ـ قال عبد الله بن مسعود ما شعرت ان أحدا من اصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الاية يعنى لم يرد أحد من اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدنيا الا هؤلاء النفر فى ذلك اليوم فقط حتى نزلت فيهم هذه الاية (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) ايها المسلمون بشوم عصيانكم (عَنْهُمْ) اى عن الكفار بالهزيمة حتى حالت الحالة فغلبوكم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) اى ليمتحنكم حتى يظهر المؤمنين من المنافقين او المعنى لينزل البلاء عليكم بما صنعتم وبهذا يظهر انه قد يبتلى العامة بمعصية بعضهم فيكون ذلك عقوبة للعاصى وسببا لمزيد الاجر للمطيع (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة تفضلا او بعد ما ندمتم على المخالفة (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢) يتفضل عليهم بالعفو إذا شاء او يتفضل عليهم فى الأحوال كلها فان إنزال المصيبة بالمؤمنين بعد معصيتهم ايضا تفضل من الله تعالى حيث يمحصهم من الذنوب ـ روى البغوي بسنده عن على بن ابى طالب قال الا أخبركم بأفضل اية من كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير وسافسرها لك يا علىّ ما أصابكم من مرض او عقوبة او بلاء فى الدنيا فبما كسبت ايديكم

١٥٥

والله عزوجل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفا الله عنه فى الدنيا فالله احكم من ان يعود بعد عفوه ـ. (إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بصرفكم او بيبتليكم او عفا عنكم او بمقدر كاذكر ـ قرا ابو عبد الرحمن السلمى والحسن وقتادة تصعدون بفتح التاء من المجرد والقراءة المجمع عليها بضم التاء من الافعال ـ قال المفضل صعد واصعد وصعّد بمعنى واحد ـ وقال ابو حاتم اصعدت إذا مضيت حيال وجهك يعنى فى مستوى الأرض وصعدت إذا ارتقيت فى جبل وقال المبرد اصعد ابعد فى الذهاب قال البغوي كلا الامرين وقعا فكان منهم مصعد وصاعد (وَلا تَلْوُونَ) أعناقكم (عَلى أَحَدٍ) يعنى لا يلتفت بعضكم الى بعض لشدة الدهش (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) يقول الىّ عباد الله فانا رسول الله من يكر فله الجنة ـ الجملة فى موضع الحال (فَأَثابَكُمْ) فجازاكم عن فشلكم وعصيانكم عطف على صرفكم جعل الاثابة وهو من الثواب موضع العقاب على طريقة قوله تعالى فبشّرهم بعذاب اليم اشارة الى انه تعالى عاقبكم على ما فعلتم مكان ما كنتم ترجون من الثواب (غَمًّا بِغَمٍ) اى غما متصلا بغم من الاغتمام من القتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قيل الغم الاول فوت الغنيمة والثاني ما نالهم من القتل والجرح والهزيمة ـ وقيل الغم الاول ما أصابهم من القتل والجرح والثاني ما سمعوا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل فانساهم الغم الاول ـ وقيل الغم الاول اشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين والثاني اشراف ابو سفيان عليهم وذلك ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى الى اصحاب الصخرة فلما راوه وضع رجل سهما فى قوسه فاراد ان يرميه فقال انا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين راى من يمتنع به فاقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فاقبل ابو سفيان وأصحابه حتى وقفوا على باب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا انهم يميلون عليهم فيقتلونهم فانساهم هذا ما نالهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس لهم ان يعلونا اللهم ان تقتل هذه العصابة لا تعبد فى الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى انزلوهم ـ قلت لعل

١٥٦

قوله تعالى (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) صار نازلا فى هذا المقام حيث القى الرعب فى قلب ابى سفيان ومن معه ـ قلت وجاز ان يكون الغم الثاني ما روى انه لمّا أخذ ابو سفيان وأصحابه الرحيل الى مكة اشفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون من ان يغير المشركون على المدينة فيهلك الذراري والنساء فبعث رسول الله صلى الله عليا وسعد بن ابى وقاص لينظرا فقال ان ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن وان ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فانهم يريدون المدينة فهى الغارة والذي نفسى بيده لان ساروا عليها لا سيرن إليهم ثم لاناخرنهم فسار على وسعد وراءهم فاذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل بعد ما تشاوروا فى نهب المدينة فقال صفوان بن امية لا تفعلوا وقيل معنى الاية فاثابكم غما بسبب غم اذقتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم له (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الفتح والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والجرح والهزيمة ولا زائدة ومعناه لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم ـ وقيل معنى الاية اثابكم غما بغم لتمتروا على الصبر فى الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا على ضر لا حق ـ قلت وجاز ان يكون المعنى فاثابكم الله غما بغم يعنى اعطاكم الله ثواب غم متصلا بغم وأخبركم بذلك على لسان نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم بل تفرحوا بثوابه ـ وقيل الضمير المرفوع فى اثابكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اى فاساءكم فى الاغتمام من اسيته بمالى اى جعلته أسوتي فيه ـ والباء للسببية او البدلية يعنى اغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٥٣) عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها. (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) يا معشر المسلمين (مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) يعنى اطمينانا فى القلوب وسكينة يدركه الصوفي عند نزول الرحمة (نُعاساً) بدل اشتمال من امنة ـ وجاز ان يكون مفعولا لا نزل وامنة حال منه مقدم عليه ولعل النعاس هاهنا عبارة عن استغراق يحصل للصوفى عند نزول الرحمة بحيث يغفل عما سواه لكمال مشابهته بالنعاس (يَغْشى) قرا حمزة وخلف ابو محمد والكسائي بالتاء ردا الى الامنة والباقون بالياء ردا الى النعاس (طائِفَةً مِنْكُمْ)

١٥٧

وهم المؤمنون حقا ـ روى البخاري وغيره عن انس ان أبا طلحة قال غشينا النعاس ونحن فى مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفى يسقط من يدى واخذه ويسقط واخذه ـ وقال ثابت عن انس عن ابى طلحة قال رفعت رأسى يوم أحد فجعلت ما ارى أحدا من القوم الا وهو يميل تحت جحفته من النعاس (وَطائِفَةٌ) مبتدا وهم المنافقون (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) صفة لطائفة يعنى ألقتهم أنفسهم فى الهموم وكانوا محرومين عن نزول الامنة والسكينة عليهم ـ او المعنى ما كان همهم الإخلاص أنفسهم (يَظُنُّونَ) خبر لطائفة (بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) منصوب على المصدرية اى يظنون غير الظن الحق اى الذي يحق ان يظن به تعالى يعنى انه لا ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ او انه لو كان محمد نبيا ما قتل (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من غير الحق او منصوب بنزع الخافض يعنى كظن اهل الجاهلية والشرك والجملة صفة اخرى لطائفة او حال او استيناف على وجه البيان لما قبله ـ وجملة وطائفة إلخ حال من فاعل يغشى او من مفعوله (يَقُولُونَ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم او فى أنفسهم بدل من يظنون (هَلْ لَنا) استفهام بمعنى الإنكار (مِنَ الْأَمْرِ) الذي وعد الله من النصر (مِنْ شَيْءٍ) يعنى ما لنا من ما وعد نصيب قط ـ قيل اخبر ابن أبيّ بقتل بنى الخزرج فقال ذلك والمعنى انا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شىء ـ او هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شىء اخرج ابن راهويه انه قال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رايتنى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم فما منا أحد إلا وذقنه فى صدره ـ والله انى لا سمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا فحفظتها فانزل الله فى ذلك (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الى قوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْأَمْرَ) اى الحكم (كُلَّهُ لِلَّهِ) يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ـ او امر الغلبة الحقيقية لله وأوليائه (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) وان كان فى بعض الأحيان لم يظهر ذلك لحكمة ـ قرا ابو عمر (١) وكلّه بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والباقون بالنصب على التأكيد والجملة معترضة (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) حال من ضمير يقولون اى يقولون مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر ويقولون مخفين بعضهم الى بعض غير ذلك (يَقُولُونَ) بدل من يخفون او استيناف على وجه البيان يعنى يقولون مخفين منكرين لقولك

__________________

(١) فى الأصل ابو عامر ـ

١٥٨

انّ الأمر كلّه لله (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كما وعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم او زعم انّ الأمر كلّه لله ولاوليائه ـ أولو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح المدينة كما كان يقول ابن أبيّ وغيره (ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) فى اللوح المحفوظ وقدّر الله عليهم القتل (إِلى مَضاجِعِهِمْ) اى يخرجون الى مصارعهم ولم ينفعهم الاقامة بالمدينة بل لا يستطيعون الاقامة (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) اى ليمتحن ما فى صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق معطوف على محذوف متعلق بقوله برز تقديره لبرزوا الى مضاجعهم لنفاذ القضاء ولمصالح كثيرة وللابتلاء ـ او متعلق بفعل محذوف والجملة معطوفة على جملة سابقة يعنى ثمّ انزل عليكم تقديره وفعل ذلك ليبتلى او معطوف على قوله كيلا تحزنوا (وَلِيُمَحِّصَ) اى ليكشف ويميز (ما فِي قُلُوبِكُمْ) او المعنى يخلص ما فى قلوبكم ايها المؤمنون من الوساوس (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٢) قبل إظهارها وغنى عن الابتلاء وانما فعل ذلك لتمرين المؤمنين واظهار حال المنافقين واقامة الحجة عليهم ـ. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) اى انهزموا منكم يا معشر المسلمين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وقد انهزم أكثرهم ولم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا ثلاثة عشر كما ذكرنا ولا مع عبد الله بن جبير الا عشرة (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) اى طلب زلتهم او حملهم على الزلة يعنى المعصية بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم قيل ازل واستزل بمعنى واحد (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) اى بشوم ذنوبهم قال بعضهم بتركهم المركز وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم وسوسة الشيطان (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) هذا هو الذي قال ابن عمر لمّا وقع بعض اهل المصر فى عثمان رضى الله عنه وذكر فراره يوم أحد وغيبته عن بدر وعن بيعة الرضوان فقال اما فراره يوم أحد فاشهد ان الله عفا عنه واما تغيبه عن بدر فانه كانت تحته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان لك اجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه واما تغييه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه فبعثه الى مكة وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان الى مكة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده اليمنى هذا يد عثمان فضرب بها على يده وقال هذه لعثمان ثم قال ابن عمر اذهب بها الان معك رواه البخاري فلا يجوز لاحد الطعن

١٥٩

فى الصحابة لاجل هذا الفرار وايضا كان هذا الفرار قبل ورود النهى عنه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى المنافقين عبد الله بن ابى وأصحابه فانه من تشبه بقوم فهو منهم رواه ابو داود عن ابن عمر مرفوعا والطبراني عن حذيفة مرفوعا لا سيما إذا كان وجه المشابهة موجبا للكفر كما فى ما نحن فيه فان ذلك القول انكار للقدر وهو كفر (وَقالُوا) كلمة قالوا صيغة ماض لكنه بمعنى الاستقبال بدليل جعل ظرفه إذا دون إذ وإذا للمستقبل وان دخل على الماضي وانما أورد صيغة الماضي لتدل على تحققه قطعا كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت (لِإِخْوانِهِمْ) فى النسب او فى النفاق قال بعض المفسرين يعنى قالوا لاجل إخوانهم وفيهم لان قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا يدل على انهم لم يكونوا مخاطبين قلت وجاز ان يكون جعل القول لاخوانهم باعتبار بعضهم الحاضرين وضمير لو كانوا إليهم باعتبار بعضهم المقتولين او الأموات والاسناد الى الجميع باعتبار البعض شائع وتفسير الاخوة باخوة النفاق لا بتصور الا فى المخاطبين والا فالذين كانوا غزّى لم يكونوا منافقين غالبا (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) اى ذهبوا فيها وأبعدوا للتجارة او غيرها وإذا متعلق بقالوا ويعتبر ذلك الزمان ممتدا وقع فيه الضرب والموت والقول ـ قال البيضاوي وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جىء على حكاية الحال الماضي واعترض عليه بان الماضي مع إذا كلمة استقبال لا يكون للحال فكيف يصح حكاية عن الحالة الماضية بفرض وجود ذلك الزمان الان او بفرضك متكلما فى الماضي فالاولى ما قلنا ان قالوا للاستقبال (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غازى كعاف وعفّى يعنى كانوا على سفر او غزّى فماتوا او قتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) مقولة قالوا ـ وانما قالوا ذلك لعدم ايمانهم بالقدر فكذلك القدرية (لِيَجْعَلَ اللهُ) اللام للعاقبة كما فى قوله تعالى ليكون لهم عدوّا وحزنا (ذلِكَ) الاعتقاد الذي دل عليه القول (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قوله ليجعل اما متعلق بقالوا فالمعنى يصير عاقبة قولهم واعتقادهم ذلك حسرة واما متعلق بلا تكونوا والمعنى لا تكونوا مثلهم فى النطق بهذا القول والاعتقاد وذلك اشارة الى ما دل عليه النهى والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة فى قلوبهم فان مخالفتكم إياهم يغمهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) لا تأثير للسفر والجهاد فى الموت ولا لضدهما فى الحيوة فانه قد يموت المقيم القاعد دون المسافر الغازي (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦) تهديد للمؤمنين على مما ثلتهم على قراءة الخطاب وقرا ابن كثير وحمزة وخلف ابو محمدو الكسائي يعملون بالياء

١٦٠