التفسير المظهري - المقدمة

التفسير المظهري - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

لتؤمنن به ولتنصرنه ـ او موصولة يعنى اخذه للذى اتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له والباقون بفتح اللام توطية للقسم لان أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما حينئذ يحتمل ان يكون شرطية ولتؤمنن به ساد مساد جواب القسم وجزاء الشرط جميعا والمعنى أخذ الله ميثاق النبيين واستحلفهم لئن اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتومنن به ـ ويحتمل ان يكون موصولة مبتدا بمعنى الذي وخبره لتؤمنن به يعنى للذى اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به قرا نافع وابو جعفر ـ ابو محمد آتيناكم على التعظيم كما فى قوله تعالى واتينا داود زبورا والآخرون بالإفراد (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) اى سنة او فقه فى الدين (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما) للكتاب الذي جاء (مَعَكُمْ) جملة ثم جاء عطف على الصلة والعائد فيه الى الموصول مظهر وضع موضع المضمر وهو لما معكم تقديره مصدقا له ـ قيل المراد بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لكونه مبعوثا الى كافة الأنام وهو المستفاد من قول ابن عمرو ما ذكر من قول على ـ والصحيح عندى ان اللفظ عام ولا دليل على التخصيص ولا شك ان الايمان بجميع الأنبياء والقول بلا نفرّق بين أحد من رسله واجب على جميع الأمم السابقة واللاحقه وقد قال الله تعالى شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والّذى أوحينا إليك وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه وقول على وابن عباس رضى الله عنهما بتخصيص ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لالزام اهل الكتاب المعاندين فان الكلام معهم انما كان فى امر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا غير وليس المقصود من قولهما نفى الحكم عما عداه وجاز ان يكون تخصيص العهد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاظهار فضله وفى قوله تعالى مصدّقا لما معكم اشارة الى ان تكذيبه يستلزم تكذيب ما معكم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) اى بالرسول (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) بانفسكم ان أدركتموه او بامركم بالنصر لمن أدركه من اتباعكم ان لم تدركوه ـ قال البغوي حين استخرج الله الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج أخذ عليهم الميثاق فى امر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالَ) استيناف بيان لاخذ الميثاق كانه قيل كيف أخذ الله الميثاق ـ او ناصب لاذ اى قال إذ أخذ الله الميثاق وعلى الاول ناصبه إذ كرع (أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) اى عهدى استفهام تقرير (قالُوا) اى الأنبياء أو هم والأمم جميعا يوم الميثاق

٨١

(أَقْرَرْنا قالَ) الله للرسل (فَاشْهَدُوا) على أنفسكم وعلى اتباعكم بالإقرار يوم القيامة (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١) عليكم وعليهم وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى لملائكته فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور. (فَمَنْ تَوَلَّى) من اتباع الرسل (بَعْدَ ذلِكَ) الإقرار وهم اليهود والنصارى (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٨٤) الخارجون من الايمان الى الكفر هذا صريح فى ان الميثاق كان على النبيين والأمم أجمعين واكتفى بذكر المتبوعين عن الاتباع ـ. (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) معطوف على فاولئك هم الفاسقون والهمزة توسطت للانكار او على محذوف تقديره أيفسقون فغير دين الله يبغون ـ او تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وتقديم المفعول للتخصيص والإنكار للمخصص تقديره أتخصصون غير دين الله بالطلب وفيه اشارة الى ان طلب دين الله لا يجامع طلب غير دينه ـ قرا ابو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة نظرا الى قوله فاولئك هم الفاسقون والجمهور بالتاء على الخطاب نظرا الى قوله اتيتكم وقيل تقديره قل لهم أفغير دين الله تبغون قال البغوي ادعى كل من اليهود والنصارى انه على دين ابراهيم واختصموا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عليه‌السلام كلا الفريقين برىء من دين ابراهيم فغضبوا وقالوا لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فانزل الله تعالى أفغير دين الله يبغون (وَلَهُ) اى لله (أَسْلَمَ) اى خضع (١) وانقاد ـ والجملة حال من الله الواقع فى حيز المفعول (مَنْ فِي السَّماواتِ) اى الملائكة (وَالْأَرْضِ) اى الجن والانس (طَوْعاً) اى طائعين باختيارهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين انقادوا باختيارهم فيما أمروا به من الأوامر التكليفية والافعال الاختيارية ورضوا بقضاء الله سبحانه وأحبوا ما اجرى عليهم محبوبهم من الأوامر التكوينية (وَكَرْهاً) اى كارهين (٢) بالسيف او معاينة

__________________

(١) اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى له اسلم من فى السّموت والأرض طوعا قال اما من فى السموات فالملائكة واما من فى الأرض فمن ولد على الإسلام واما كرها فمن اتى به من سبايا الأمم فى السلاسل والاغلال يقادون الى الجنة وهم كارهون ـ منه رحمه‌الله

(٢) قيل هذا يوم الميثاق حين قال الست بربّكم قالوا بلى فقاله بعضهم طوعا وبعضهم كرها وقال قتادة المؤمن اسلم طوعا فنفعه والكافر اسلم كرها فى وقت اليأس فلم ينفعه ـ وقال الشعبي هو استعاذتهم بالله عن اضطرارهم قال الله تعالى فاذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ـ منه رح

٨٢

ما يلجئ الى الإسلام كنتق الجبل وادراك الغرق والاشراف على الموت فى الأوامر التكليفية او مسخرين بلا اختيارهم فى الأوامر التكوينية (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) قرا حفص ويعقوب بالياء للغيبة على ان الضمير راجع الى من والجمهور بالتاء للخطاب على نسق تبغون وكذا قرا ابو عمرو مع انه قرا يبغون بالغيبة على طريقة الالتفات او لان الباغين هم المتولون والراجعون جميع (١) الناس ـ. (قُلْ) يا محمد (آمَنَّا) امر رسوله ان يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له ـ أو أمره ان يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالايمان وجاز ان يكون الخطاب لكل مخاطب منهم امر كل واحد ان يخبر عن نفسه وإخوانه المؤمنين بالله وحده (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنى القران فان كان الكلام اخبارا عن جميع المؤمنين فنزوله عليهم بتوسط تبليغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم او يقال المنسوب الى واحد من الجمع قد ينسب إليهم والنزول قد يعدى بالى كما فى سورة البقرة لانه ينتهى الى الرسل وقد يعدى بعلى لانه من فوق (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) يعنى الأنبياء من أولاد يعقوب من الكتب والصحف (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) خصهما بالذكر بعد دخولهما فى الأسباط اما لمزيد فضلهما واما لان المنازعة كانت غالبا مع اليهود والنصارى فلدقع توهم مخالفة موسى وعيسى خصهما بالذكر او المراد بما اوتى الوحى الخفي وبما انزل الوحى الجلى ـ او المراد بما اوتى من المعجزات والفضائل (وَالنَّبِيُّونَ) كرر فى البقرة ما اوتى ولم يكرر هاهنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ) عند (رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب (وَنَحْنُ لَهُ) اى لله (مُسْلِمُونَ) (٨٤) منقادون ـ. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) غير التوحيد والانقياد لحكم الله او المراد غير دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناسخ لجميع الأديان (دِيناً) تميز وجاز ان يكون مفعولا ليبتغ وغير الإسلام حالا منه مقدما عليه لتنكيره (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لانه غيرما امر الله به وارتضاه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) لانه معرض عن الإسلام وطالب لغيره فهو فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرة السليمة قال

__________________

(١) اخرج البيهقي فى الدعوات عن ابن عباس إذا استصعب دابة أحدكم او كان سموسا فليقرأ هذه الاية فى أذنيها أفغير دين الله يبغون الاية ـ منه رحمه‌الله

٨٣

البغوي نزلت هذه الاية وما بعدها فى اثنى عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري. (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) الى الجنة والثواب استفهام للانكار يعنى لا يهدى الله واستبعاد لهم عن الهداية (قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) كما فعل هؤلاء الرجال اثنى عشر (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) عطف على ما فى ايمانهم من معنى الفعل يعنى بعد ان أمنوا وشهدوا ـ ولك ان تجعل الفعل بمعنى المصدر كما فى قوله تسمع بالمعيدي خير من ان تراه يعنى بعد ايمانهم وشهادتهم وان تقدر زمانا مضافا الى الفعل يعنى بعد ايمانهم وزمان شهدوا ـ وجاز ان يكون معطوفا على كفروا لان العطف بالواو لا يقتضى الترتيب ـ وجاز ان يكون الجملة حالا بإضمار قد ـ وفيه دليل على ان الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) اى الدلائل الواضحة كالقران وسائر المعجزات (وَاللهُ لا يَهْدِي) طريق الجنة (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦) اى الكافرين. (أُولئِكَ) مبتدا (جَزاؤُهُمْ) بدل اشتمال من المبتدا او مبتدا ثان وما بعده خبره والمجموع خبر المبتدا (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) اى غضبه المستلزم لبعده من رحمته (وَالْمَلائِكَةِ) اى الدعاء منهم بالبعد من الرحمة (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٨٧) المراد به المؤمنون منهم او المراد مؤمنهم وكافرهم أجمعين فان الكفار ايضا يلعنون منكرى الحق وان كانوا لا يعرفون الحق بعينه او هم يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة قال الله تعالى يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا. (خالِدِينَ فِيها) اى فى اللعنة او فى النار وان لم يجر ذكرها لدلالة الكلام عليها حال من الضمير فى عليهم (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٨٨) اى يمهلون. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الارتداد (وَأَصْلَحُوا) عطف تفسيرى على تابوا اى صاروا صالحين اى مسلمين او أصلحوا ايمانهم وأنفسهم إذ أصلحوا ما أفسدوا فى الأرض (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يقبل توبتهم ويغفر ما فرطوا فى حقوق الله تعالى (رَحِيمٌ) (٨٩) بهم يدخلهم الجنة ـ روى النسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال كان رجل من الأنصار اسلم ثم ارتد ثم ندم فارسل الى قومه ان أرسلوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لى توبة

٨٤

فنزلت قوله تعالى كيف يهدى الى قوله فانّ الله غفور رحيم فارسل اليه قومه فاسلم ـ واخرج ابن المنذر فى مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فاسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم كفر فرجع الى قومه فانزل الله فيه القران كيف يهدى الله قوما كفروا الى قوله رحيم فحملها اليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث انك والله ما علمت لصدوق وان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا صدق منك وان الله لا صدق الثلاثة فرجع فاسلم فحسن إسلامه ـ. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال قتادة والحسن نزلت فى اليهود كفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل بعد ايمانهم بموسى والتورية ثمّ ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقران ـ وقال ابو العالية نزلت فى اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رواه بعد ايمانهم بنعته وصفته فى كتبهم ثمّ ازدادوا كفرا اى ذنوبا فى حال كفرهم ـ وقال مجاهد نزلت فى الكفار أجمعين أشركوا بعد إقرارهم بان الله تعالى خالقهم ثمّ ازدادوا كفرا اى أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه وقال الحسن كلما نزلت اية كفروا به فازدادوا كفرا ـ وقال الكلبي نزلت فى اصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث الى الإسلام اقام بقيتهم على الكفر بمكة ـ وقال بعض الأفاضل المراد بالّذين كفروا ثمّ ازدادوا كفرا المنافقون فان كفرهم زائد على كفر المجاهدين بالكفر لانهم احتملوا مشقة إخفاء الكفر ومشقة الصلاة والصوم مع كمال كراهتهم وهذا نهاية محبة الكفر (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ان كان المراد بالّذين كفروا ما قالوا صاحب الأقوال المتقدمة فمعناه لن تقبل توبتهم من الذنوب ما داموا على الكفر لكن توبتهم من الكفر مقبولة ما لم يغر غرفانه لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة فمن دخل من اصحاب الحارث بن سويد فى الإسلام قبلت توبته وان كان المراد به المنافقون على ما قال بعض الأفاضل فمعناه لن تقبل توبتهم باللسان مع إصرارهم على الكفر بالجنان (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠) عن سبيل الحق. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ) لم يتوبوا من الكفر حتى (ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ) يوم القيامة ـ ادخل الفاء فى خبر ان شبه الذين بالشرط وإيذانا بكون الموت على الكفر سببا لعدم القبول (مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ) اى قدر

٨٥

ما يملؤها (ذَهَباً) منصوب على التميز يعنى لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا فرضنا انه تصدق به فى الدنيا وعدم قبول ما دونها يعلم منه بالطريق الاولى فان الايمان شرط لقبول الصدقات والعبادات بل العبادة لا يكون عبادة الا بالنية المترتبة على الايمان والإخلاص (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) اى يملا الأرض ذهبا فى الاخرة فرضا لا يقبل منه ايضا وجاز ان يكون معناه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يفتدى به من عذاب يوم القيامة ولو افتدى بمثله معه كقوله تعالى ولو انّ للّذين ظلموا ما فى الأرض جميعا ومثله معه ـ والمثل يحذف ويراد كثير الان المثلين فى حكم شىء واحد ـ وقيل الواو فى ولو افتدى به زائدة مقحمة والمعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو افتدى به وكون لو هاهنا للوصل لا يستقيم لانه يقتضى كون نقيض الشرط اولى بالجزاء فيكون تقديره لن يقبل من أحدهم ملء الأرض لو لم يفتد به ولو افتدى به كما فى قوله تعالى يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار يعنى يضىء لو مسه النار ولو لم تمسسه وقد يوجه بان المراد من قوله لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لا يقبل منه فدية أصلا لان غاية ان يفتدى ملء الأرض ذهبا وذلك لا يقبل منه فكيف ما هو اقل منه فالمعنى لا يقبل منه فدية أصلا لو لم يفتد بملا الأرض بل باقل منه ولو افتدى به (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مبالغة فى التحذير واقناط لان من لا يقبل منه الفداء قلّما يعفى تكرما (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١) فى دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق عن انس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يقول الله تعالى لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شىء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت الا ان تشرك بي ـ متفق عليه. (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) فى القاموس البر الصلة والجنة والخير والاتساع فى الإحسان والصدق والطاعة ـ قلت البر المضاف الى العبد الطاعة والصدق والاتساع فى الإحسان وضده الفجور والعقوق والبر المضاف الى الله الرضاء والرحمة والجنة وضده الغضب

٨٦

والعذاب فقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد المراد هاهنا الجنة وقال مقاتل بن حبان التقوى وقيل الطاعة وقيل الخير وقال الحسن لن تكونوا أبرارا يعنى كثير الخير والمتسع فى الإحسان والطاعة ـ قال البيضاوي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير او لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضاء والجنة ـ فاللام على الاول للجنس وعلى الثاني للعهد ـ عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر والبر يهدى الى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فان الكذب يهدى الى الفجور والفجور يهدى الى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا رواه مسلم واحمد والترمذي ـ وعن ابى بكر الصديق مرفوعا عليكم بالصدق فانه مع البر وهما فى الجنة وإياكم والكذب فانه مع الفجور وهما فى النار الحديث رواه احمد وابن ماجة والبخاري فى الأدب (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ٥ كلمة من للتبعيض والمراد بما تحبون اصناف المال كلها فان الناس يحبونها ويؤثرونها ويميل اليه القلوب فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكوة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا ـ فبهذه الاية ثبت فرضية انفاق البعض من كل صنف من المال وثبت انه من كان عنده مال طيب ومال خبيث لا يجوز له الانفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى يايّها الّذين أمنوا أنفقوا من طيّبت ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الّا ان تغمضوا فيه والقدر القليل جدا لا يجزى عن الواجب اجماعا ولان عنوان الاحبية لا يقتضى ذلك ـ فالاية مجملة فى مقدار الواجب من كل مال والتحق الأحاديث الواردة فى مقادير الزكوة بيانا لها بقي الكلام فى ان الاية تدل على وجوب الزكوة فى كل مال ناميا كان او لا بالغا قدر النصاب او لا فاضلا عن الحاجة الاصلية او لا حال عليه الحول او لا لكن ثبت بالآيات والأحاديث (مثل قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) ـ وقوله عليه الصلاة والسلام ليس فى العوامل ولا الحوامل ولا العلوفة صدقة ـ وقوله عليه الصلاة والسلام فى جواب من قال هل علىّ غيرها قال (١) لا الا ان تطوع وقوله عليه الصلاة

__________________

(١) فى الأصل لا بغير قال ـ

٨٧

والسلام لا صدقة الا عن ظهر غنى وغير ذلك ـ) انه لا زكوة الّا فى السوائم او النقدين او عروض التجارة إذا بلغت نصابا وحال عليه الحول والا فى الزرع والثمار وانعقد عليه الإجماع ـ فقلنا ان هذه الاية مخصوصة بالبعض ـ فالمراد بالآية الزكوة كذا روى الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد والكلبي هذه الاية نسختها اية الزكوة وليس هذا القول بشىء لجواز حملها على الزكوة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ ـ ولو كان المراد هاهنا وجوب الانفاق من أحب الأموال كما قيل فذلك لا يقتضى عدم الوجوب فى غير ذلك الأموال ولا على وجوب مقدار سوى مقدار الزكوة فكيف يتصور النسخ على ان هذه الاية مدنية وآيات الزكوة مكيات والله اعلم وفى تعبير الأموال بما تحبون اشارة الى ان كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه فى سبيل أفضل وبدلالة النص يثبت ان الواجب وان كان انفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب اليه من الأموال كان ابر الناس وأطوع والله اعلم ـ وقال الحسن كل انفاق يبتغى به المسلم وجه الله تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر ومقتضى قول الحسن ان الانفاق هاهنا يشتمل الانفاق الواجب والمستحب غير ان نفى البر واطلاق الفجور لا يجوز الا عند فقد الانفاق مطلقا حتى الزكوة المفروضة ـ وقال عطاء لن تنالوا البر يعنى شرف الدين والتقوى حتى تنتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء عن انس بن مالك قال كان ابو طلحة اكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله اليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال انس فلما نزلت لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون قام ابو طلحة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ان الله تعالى يقول فى كتابه لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وان أحب أموالي الىّ بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها انى ارى ان تجعلها فى الأقربين فقال ابو طلحة افعل يا رسول الله فقسمها ابو طلحة فى أقاربه وبنى عمه ـ متفق عليه وجاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال هذا فى سبيل الله فحمل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسامة بن زيد فقال زيد انما أردت ان أتصدق به فقال

٨٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان الله قد قبله منك أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا وفيه ان الفرس يقال له سبيل ـ ورواه ابن جرير عن عمر بن دينار مرسلا وعن ابى أيوب السجستاني معضلا قال البغوي روى عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى ابى موسى الأشعري ان يبتاع له جارية من سبى جلولا يوم فتحت فدعا بها فاعجبته فقال ان الله عزوجل يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فاعتقها عمر ـ وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الاية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني الله عزوجل فما كان اعجب حينئذ شىء الىّ من فلانة هى حرة لوجه الله تعالى وقال لو لا انى أعود فى شىء جعلته لله لنكحتها هذه الأحاديث والآثار تدل على ان الانفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الاعادة والاقراض والاعتاق ونحو ذلك مما يبتغى به وجه الله ايضا وعلى ان الأفضل الانفاق على اقرب الأقارب (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) محبوب او غيره ومن لبيان ما (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢) يعنى ان الله يجازيه على حسب العمل والنية ذكر السبب اعنى العلم موضع المسبب اعنى الجزاء او الثواب للدلالة على ان علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء والثواب لا محالة وفيه غاية المبالغة فى علمه تعالى حيث لم يقل وما أنفقتم بصيغة الماضي وذكر صيغة المستقبل للدلالة على انه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الانفاق او كبيرا ـ وفيه اشارة الى انه تعالى غنى عن إبداء الانفاق وتحريض على الإخفاء ـ قال البغوي قالت اليهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انك تزعم انك على ملة ابراهيم وكان ابراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك حلالا لابراهيم فقالوا كلّ ما نحرّمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وابراهيم حتى انتهى إلينا وكانوا ينكرون نسخ الاحكام فانزل الله تعالى. تكذيبهم (كُلُّ الطَّعامِ) مصدر بمعنى المفعول معناه تناول الغذاء والمراد هاهنا الغذاء واللام للعهد يعنى كل مطعوم من الطيبات التي حرم فى التورية بظلم من الذين هادوا فلا يشتمل ذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث كالسباع ونحوها (كانَ حِلًّا) مصدر يقال حل الشيء حلّا نعت به فيستوى فيه المذكر والمؤنث والجمع والواحد

٨٩

قال الله تعالى لاهنّ حلّ لهم يعنى كان ذلك المطعومات حلالا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) اى لاولاد يعقوب كما كان حلالا على يعقوب وأبويه ابراهيم وإسحاق (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) يعنى يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) وهى لحوم الإبل وألبانها وذلك لانه كان به عرق النساء فنذر ان شفى الله له لم يأكل أحب الطعام اليه وكان ذلك أحبه اليه أخرجه احمد والحاكم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح ـ وكذا ذكر البغوي عن ابى العالية وعطاء ومقاتل والكلبي وذكر البغوي رواية جويبر عن ابن عباس انه لما أصاب يعقوب عرق النساء وصف له الأطباء ان يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه وقال البغوي قال الحسن حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبد الله عزوجل فسال ربه ان يجيز ذلك له فحرمه الله على ولده وقال عطية انما كان ذلك محرما عليهم بتحريم إسرائيل فانه كان قد قال ان عافانى الله لم يأكله ولد لى ولم يكن محرما عليهم من الله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) الظرف لا يجوز ان يتعلق بحرم إسرائيل كما هو الظاهر إذ لا فائدة حينئذ فى التقييد فان تحريم إسرائيل لا يتصور بعد نزول التورية ولو جعل متعلقا بكان حلا لزم قصر الصفة قبل تمامها فهو متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق وهو كانه فى جواب متى كان حلّا وتقديره كان حلّا من قبل ان تنزّل التّورية فلما نزّل التورية حرم عليهم الطيبات بظلمهم قال الله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) وقال الكلبي كانت بنوا إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا اوصب عليهم رجزا وهو الموت ـ وقال الضحاك لم يكن شىء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله فى التورية وانما حرموه على أنفسهم اتباعا لابيهم ثم أضافوا تحريمه الى الله عزوجل فكذبهم الله ـ وهذا ليس بشىء حيث قال الله تعالى (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) لما فى الصحيحين انه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها

٩٠

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣) امر الله سبحانه رسوله بمحاجتهم بكتابه وتبكيتهم بما فيه من انه قد حرم عليهم بظلمهم ما لم يكن محرما قبل ذلك فبهتوا ولم يأتوا بالتورية ـ وفيه دليل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونه على ملة ابراهيم عليه‌السلام ورد على اليهود فى منع النسخ. (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وقال ان الله حرم ذلك على نوح وابراهيم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) اى من بعد لزوم الحجة عليهم بالتورية (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين يكابرون الحق بعد الوضوح ـ. (قُلْ) يا محمد (صَدَقَ اللهُ) فى قوله انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبىّ والّذين أمنوا وكذب اليهود والنصارى فى ادعائهم انهم على دين ابراهيم وانه كان هودا او نصارى (فَاتَّبِعُوا) يا هؤلاء الذين يبتغون دين ابراهيم (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يعنى الإسلام دين محمد وأمته فانه هو ملة ابراهيم اما بناء لكمال مشابهته به او لانه هو ملته فى زمنه ـ ولم يقل فاتّبعوا ابراهيم لان الواجب اتباع هذا الدين من حيث انه يتبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا من حيث انه يتبع ابراهيم إذ لم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا لتبليغ شريعة موسى عليه‌السلام ـ والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا بها الى مدارج القرب وصلاح الدارين والفرق بينه وبين الدين ان الملة لا يضاف الا الى النبي الذي يسند اليه ولا يضاف الى الله ولا الى احاد الامة ولا يستعمل الا فى جملة الشرائع دون احاده فلا يقال ملة الله ولا ملتى ولا ملة زيد ولا يقال للصلوة ملة الله كما يقال دين الله ـ واصل الملة من أمللت الكتاب كذا فى الصحاح (حَنِيفاً) حال من ابراهيم اى مائلا من الأديان الباطلة الى الدين الحق ـ والاولى ان يقال مائلا من الافراط والتفريط الى الاعتدال فانه كان فى دين اليهود الافراط والشدة وفى دين النصارى التفريط (وَما كانَ) ابراهيم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥) تعريض على اليهود والنصارى فانهم كانوا يشركون ومع ذلك كانوا يدعون انهم على دين ابراهيم قال البغوي قالت اليهود للمسلمين بيت المقدس قبلتنا أفضل من الكعبة واقدم وهو مهاجر الأنبياء وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فانزل الله تعالى. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ

٩١

وُضِعَ لِلنَّاسِ) اى وضعه الله تعالى لهم قبلة ـ وقيل وضع للناس يحج اليه ـ وقال الحسن والكلبي معناه ان أول مسجد ومعبد (١) وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) يعنى المساجد (لَلَّذِي) اى للبيت الذي (بِبَكَّةَ) قيل هى مكة نفسها والعرب يعاقب بين الباء والميم يقال نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم وقيل بكة بالباء موضع البيت او هو مع المطاف ومكة بالميم اسم البلد سميت بكة لان الناس يتباكون فيها اى يزدحمون ـ وقال عبد الله بن زبير لانها تبك أعناق الجبابرة اى يدقها فلم يقصده جبار بسوء الا قصمه الله كاصحاب الفيل واما مكة سميت بها لقلة الماء واختلف العلماء فى معنى أوليته فقال ابن عمرو مجاهد وقتادة والسدى هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ـ وقيل هو أول بيت بنى فى الأرض روى عن على بن الحسين عليه وعلى ابائه السلام ان الله وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور فامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الأرض ان يبنوا فى الأرض بيتا على مثاله وقدره فبنوه وسموه الصراح وامر من فى الأرض ان يطوفوا به كما يطوف اهل السماء بالبيت المعمور وروى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة برّ حجك حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ـ ويروى عن ابن عباس قال أراد به انه أول بيت بناه آدم فى الأرض أخرجه الارزقى فى تاريخ مكة وفى الصحيحين عن ابى ذر قلت يا رسول الله اىّ مسجد وضع فى الأرض اولا قال المسجد الحرام قلت ثم اىّ قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ـ ثم أينما أدركتك الصلاة فصلها فان الفضل فيه وقيل هو أول بيت بناه آدم فرفع زمن الطوفان ـ وقيل انطمس فى الطوفان ثم بناه ابراهيم قيل ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي انه لما بنى ابراهيم البيت بعد ما رفع زمن الطوفان بوّاه الله مكان البيت فبعث ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول فبناه على الأساس القديم ـ وقيل المراد انه أول بالشرف دون الزمان

__________________

(١) فى الأصل متعبد ـ

٩٢

يروى ذلك عن على عليه‌السلام ـ قال الضحاك أول بيت وضعت فيه البركة حيث قال الله تعالى (مُبارَكاً) منصوب على الحال اى ذا بركة وكثرة فى الاجر والثواب فان بعض العبادات يختص به كالحج والهدايا والعمرة وما عداها من الصلاة والصوم والاعتكاف يكثر أجرها فيه من سائر الامكنة ـ ومن ثم قال ابو يوسف رحمه‌الله من نذر ان يصلى فى المسجد الحرام ركعتين لا يجزئ عنه ان يصلى فى غيره لحديث انس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة وصلاته فى مسجد (١) القبائل بخمس وعشرين صلوة وصلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة وصلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة وصلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة وصلاته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة ـ رواه ابن ماجة ـ وروى الطحاوي عن عطاء بن الزبير قال صلوة فى مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلوة فى هذا ـ وروى عن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مثله ولم يرفعه ـ وروى نحوه عن جابر بن عبد الله مرفوعا ـ وروى ابن الجوزي عن جابر مرفوعا بلفظ وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلوة لكن ابو حنيفة ومحمد رحمهما‌الله يقولان هذا لفضل محمول على الصلوات المكتوبات خاصة دون النوافل لحديث زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الصلاة صلوة المرء فى بيته الا المكتوبة متفق عليه ـ قلت والاعتكاف فى حكم الصلوات المكتوبات لانه تربص فى المسجد لانتظار الصلوات المكتوبات فكانه فيها ـ وروى ابن الجوزي فى فضائل مكة عن عبد الله بن عدى بن الحمراء انه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو واقف بالحرورة فى سوق مكة والله انك لخير ارض الله وأحب ارض الله الى الله عزوجل ولو لا انى أخرجت منك ما خرجت وكذا روى ابن الجوزي من حديث ابى هريرة مرفوعا (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٢) لانه قبلتهم وفيه آيات عجيبة تهدى الى الايمان بالله ورسوله عطف على مبركا ـ. (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) منها ان الطير تطير فلا تعلوا فوقه ـ ومنها ان الجارحة تقصد صيدا خارج الحرم فاذا دخلت الصيد فى الحرم كفت عنه ومنها (مَقامُ إِبْراهِيمَ)

__________________

(١) فى الأصل فى المسجد القبائل

٩٣

مبتدا محذوف خبره او بدل من آيات بدل البعض من الكل وهو الحجر الذي قام عليه ابراهيم لبناء البيت حين ارتفع البناء وكان فيه اثر قدميه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي فاثر الصخرة الصماء وغوصهما فيها الى الكعبين ـ وتخصيصها بهذه الاية (١) من بين الصخار وبقاؤه دون اثار سائر الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة كل ذلك اية ـ ومن ثم قيل ان مقام ابراهيم عطف بيان للايات وقيل أراد بمقام ابراهيم جميع الحرم (وَمَنْ دَخَلَهُ) اى الحرم (كانَ آمِناً) من القتل والنهب جملة ابتدائية او شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام ابراهيم يعنى آيات بينات منها مقام ابراهيم ومنها الامن لمن دخل الحرم فان العرب فى الجاهلية كانت تقتل بعضهم بعضا وتغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم لا يتعرضونه كذا قال الحسن وقتادة واكثر المفسرين نظيره قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ـ وقال ابو حنيفة رحمه‌الله معناه من دخله كان أمنا لا يجوز قتله ـ فمن وجب عليه القتل (٢) قصاصا او حدا خارج الحرم فالتجا الى الحرم لا يستوفى منه لكنه لا يطعم ولا يبائع ولا يشارى حتى يخرج فيقتل كذا قال ابن عباس وقال الشافعي وغيره يستوفى منه القصاص وان دخل فيه واما إذا ارتكب الجريمة فى الحرم يستوفى منه عقوبته اتفاقا ومر فى تفسير قوله تعالى (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) انه لا يجوز فى الحرم البداية فى القتال مع الكفار ايضا فلو غلب الكافرون ودخلوا الحرم والعياذ بالله أخرجهم بالأيدي او ضربهم بالسياط ونحوها او حاصرهم وحبس عنهم الطعام والشراب حتى يخرجوا عن الحرم فيقاتلهم او يبتدءون بالقتال فيقاتلهم ثمه ـ فهذه الاية خبر بمعنى الأمر يعنى من دخله فامّنوه كقوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) يعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا ـ وقيل معناه من دخله معظما له متقربا الى الله عزوجل كان أمنا يوم القيامة من العذاب ـ اخرج ابو داود الطيالسي فى مسنده والبيهقي فى شعب الايمان من حديث انس والطبراني فى الكبير والبيهقي فى الشعب من حديث سلمان والطبراني فى الأوسط من حديث جابر والدارقطني فى سننه من حديث حاطب انه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مات فى أحد الحرمين

__________________

(١) فى الأصل الا لاية

(٢) فى الأصل قتل ـ

٩٤

بعث يوم القيامة أمنا من النار ـ واخرج الحارث بن ابى اسامة فى مسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابعث يوم القيامة بين ابى بكر وعمر ثم اذهب الى اهل بقيع الغرقد فيبعثون معى ثم انظر الى اهل مكة حتى يأتونى فابعث بين اهل الحرمين ـ واخرج ابو نعيم فى دلائل النبوة عن سالم عن أبيه موصولا واخرج الخطيب عن ملك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احشر يوم القيامة بين ابى بكر وعمر حتى اقف بين الحرمين فيأتى اهل المدينة واهل مكة (وَلِلَّهِ) اى استقر له وافترض (عَلَى النَّاسِ) المراد بالناس الأحرار العقلاء البالغون فلا يجب الحج على المجانين والصبيان لعدم اهليتهم للخطاب ولا على العبيد بالإجماع فلو حج الكافر او الصبى العاقل او العبد ثم اسلم الكافر وبلغ الصبى وأعتق العبد يجب عليه حجة الإسلام ثانيا بالإجماع وسند الإجماع حديث ابن عباس ايّما صبى حج ثم بلغ الحنث فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما أعرابيّ حج ثم هاجر فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة اخرى رواه الحاكم والمراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فان مشركى العرب كانوا يحجون قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ورواه ابن ابى شيبة فذكر نحوه وروى ابو داود مرسلا عن محمد بن كعب القرظي وفى الباب عن جابر وسنده ضعيف وهذه الأحاديث تلقته الامة بالقبول وانعقد على مقتضاه الإجماع فجاز به تخصيص الكتاب (حِجُّ الْبَيْتِ) قرا ابو جعفر وحمزة وخلف ـ ابو محمد والكسائي وحفص بكسر حاء حجّ البيت فى هذا الحرف خاصة والباقون بالفتح والكسر لغة نجد والفتح لغة اهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وفى المدارك ان بالكسر اسم وبالفتح مصدر ـ والحج فى اللغة القصد والمراد هاهنا عبادة مخصوصة فيها إجمال التحق بيانه بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالآيات مثل قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) وقوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ونحو ذلك (مسئلة) اجمع الامة على ان الحج أحد اركان الإسلام فرض على الأعيان عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة والحج وصوم رمضان متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة (١) (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ) اى الى البيت (سَبِيلاً) الموصول بدل من الناس

__________________

(١) عن عمرانه قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة ـ الزكوة ـ منه رحمه‌الله

٩٥

بدل البعض خصص له فلا يجب الحج على غير المستطيع والسبيل الطريق منصوب على المفعولية واليه حال منه مقدم عليه والمراد به الذهاب على طريقة جرى النهر يعنى من استطاع ذهابا الى البيت ولاجل قصر الحكم على المستطيع اجمع العلماء على انه يشترط لوجوب الحج ان يكون الطريق أمنا والمنازل الماهولة معمورة يوجد فيه الزاد والماء وعند فوات الا من لا يجب الحج وكون البحر (١) بينه وبين مكة إذا كانت السلامة غالبة لا يمنع وجوب الحج عندهم خلافا لاحد قول الشافعي وكذلك يشترط عند ابى حنيفة ومالك الصحة فلا يجب عندهما على الضعيف والزمن وان كان له مال يمكن ان يستنيب من يحج عنه لانه غير مستطيع بنفسه والحج عبادة بدنية والمقصود من العبادات البدنية اتعاب النفس فلا يحصل مقصوده بالاستنابة وقال الشافعي واحمد هو مستطيع بماله قال البغوي يقال فى العرف فلان مستطيع لبناء داروان كان لا يفعله بنفسه وانما يفعله بماله وباعوانه ـ قلنا هو غير مستطيع على الحج الذي هو عبارة عن اركان مخصوصة وانما هو مستطيع على الانفاق والمقصود فى البناء ليس إتيانه بنفسه بخلاف العبادات البدنية فلا يجرى فيه ذلك العرف واحتج الشافعي واحمد بحديث ابن عباس رضى الله عنهما قال كان الفضل ردف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءت امراة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر اليه وجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر فقالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده فى الحج أدركت ابى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يمسك على الرحل أفأحج عنه قال نعم وفى رواية لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل تقضى عنه ان أحج عنه قال نعم وذلك فى حجة الوداع ـ متفق عليه والجواب انه حديث احاد لا يجوز به نسخ الكتاب المقتضى لاشتراط الاستطاعة وقد قيل فى الجواب ان معناه فريضة الله على عباده فى الحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف ابى بصفة عدم الاستطاعة ا فاحج عنه اى هل يجوز لى ذلك او هل فيه اجر ومنفعة له فقال نعم وتعقب بان فى بعض ألفاظه والحج مكتوب عليه ونحوه وأجيب بانه لو صح تلك الألفاظ فهو ظن من امراة ظنت ظنا وتعقب بان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابها عن سوالها ولو كان ظنها

__________________

(١) وفى فتاوى قاضيخان مذهب ابى حنيفة انه لو كان بينه وبين مكة بحر فهو مخوف الطريق يعنى لا يفترض عليه الحج وجيحون وسيحون والدجلة والفرات انهار وليست ببحار ـ منه رحمه‌الله

٩٦

غلطا لبينه لها وأجيب بانه انما أجابها عن سوالها ا فاحج عنه فقال حجى عنه لما راى من حرصها على إيصال الخير والثواب لابيها ويؤيده ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد فى الحديث حجى عن أبيك فان لم تزده خيرا لم تزده شرا ـ لكن جزم الحفاظ بانها رواية شاذة والاولى ان يحمل الحديث على من استقر فى ذمته صحيحا ثم طرا عليه ضعف وزمانة فانه لا يسقط عنه الحج بل يجب عليه ان يحج عنه غيره من ماله ما دام حيّا او يوصى به عند موته وإذا مات ولم يحج يحج عنه وارثه او يحج عنه أجنبيا من ماله ان شاء فالحج عن الغير قضاء بمثل غير معقول ثبت بهذا الحديث كما ثبت الفدية عن الصوم فى حق الشيخ الفاني بنص الكتاب ـ وافتراض الحج كان عام الحديبة سنه بقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذه قصة حجة الوداع فلعل أباه ضعف فى تلك السنين بعد الوجوب والله اعلم وكذا يشترط البصارة عند ابى حنيفة فلا يجب الحج على الأعمى وان وجد قائدا لأنه غير مستطيع بنفسه والاستطاعة بالغير غير معتبر عنده وقال ابو يوسف ومحمد والجمهور الأعمى إذا وجد قائدا يجب عليه الحج وكذا الخلاف فى وجوب الجمعة على الأعمى ولاجل اشتراط الاستطاعة يشترط عند ابى حنيفة فى حق المرأة ان يكون معها زوجها او ذو محرم منها إذا كان بينها وبين مكة ثلاثة مراحل وقال احمد يشترط ذلك مطلقا طال المسافة او قصرت فان لم يكن لها رجل كذلك او كان ولا يخرج معها او كان لا يخرج معها الا بأجرة وهى لا تقدر على الاجرة لا يجب عليها الحج وذلك لانها ممنوعة عن السفر الا ومعها زوجها او ذو محرم منها والمهجور شرعا كالمهجور عادة فصارت غير مستطيعة ـ وجه قول ابى حنيفة فى اشتراط مسافة ثلاثة ايام حديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تسافر المرأة ثلاثا الا معها ذو محرم ـ متفق عليه وفى رواية لمسلم لا يحل لامراة تؤمن بالله واليوم الاخر تسافر مسيرة ثلاث (١) ليال الا ومعها ذو محرم ـ وفى رواية فوق ثلاث وفى الباب مقيدا بثلاثة ايام حديث ابى هريرة رواه مسلم والطحاوي ـ وفى رواية للطحاوى فوق ثلاث ليال ـ وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ثلاثة ايام رواه الطحاوي ـ وحديث ابى سعيد الخدري رواه مسلم والطحاوي بلفظ ثلاثة ايام فصاعدا ـ وفى رواية لمسلم بلفظ فوق ثلاث وبلفظ اكثر من ثلاث ـ وقال احمد التقييد بالثلاث او اكثر من

__________________

(١) فى الأصل ثلاثة

٩٧

الثلاث اتفاقي مع ان المفهوم غير معتبر عند ابى حنيفة فكيف يستدل به على اباحة السفر فيما دون ذلك ولو كان احترازيا لتعارض رواية ثلاث برواية فوق ثلاث ووجه قول احمد فى المنع فى ما دون الثلاث انه وقع فى الصحيحين حديث ابى هريرة بلفظ مسيرة يوم وليلة وفى رواية لمسلم مسيرة يوم وفى لفظ له مسيرة ليلة وفى حديث ابى سعيد الخدري عند مسلم وغيره مسيرة يومين وعند الطحاوي مسيرة ليلتين وفى حديث ابى هريرة عند ابى داود والطحاوي لا تسافر المرأة بريدا الا مع زوج او ذى رحم محرم ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ـ وللطبرانى فى معجمه ثلاثة أميال فظهران التقييد بيوم او يومين او ثلاثة ايام ليس الا تمثيلا لاقل الاعداد واليوم الواحد أول العدد واقله والبريد مرحلة واحدة غالبا والاثنان أول الكثير واقله والثلاث أول الجمع واقله وقد ورد من الأحاديث بلا تقييد منها حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها محرم فقال رجل يا رسول الله انى أريد ان اخرج فى جيش كذا وكذا وامراتى تريد الحج قال اخرج معها ـ متفق عليه ـ وفى الباب حديث ابى سعيد الخدري وابى هريرة ـ وقال الشافعي جاز للمرءة ان تخرج للحج مع نساء ثقات وفى رواية مع امراة واحدة ثقة وإذا خرجت مع نساء ثقات يشترط ان يكون مع إحداهن ذو محرمها ـ وفى المنهاج انه لا يشترط ذلك وفى رواية عن الشافعي جاز لها الخروج من غير نساء وقال مالك لتخرج للحج جماعة من النساء ان كان الطريق أمنا والحجة عليهما ما روينا ـ والمراد بالاستطاعة الاستطاعة على سفر معتاد بحيث لا يلحقه حرج ومن ثم يشترط عند الجمهور ان يكون له زاد وراحلة فاضلا عما لا بد منه وعن الديون وعن نفقة عياله الى حين عوده فان المشغول بالحاجة الاصلية كالمعدوم ولذا لا يجب فيه الزكوة ومن لا زاد له اولا راحلة له لا يستطيع السفر غالبا والحرج مدفوع فى الشرع (١) وقال داود لا يشترط لوجوب الحج زاد ولا راحلة ـ وقال مالك ان كان هو ممن له عادة بالسؤال

__________________

(١) وان كان الا فاقى فقيرا وتبرع ولده بالزاد والراحلة لا يثبت بها الاستطاعة خلافا للشافعى وان كان المتبرع أجنبيا له فيه قولان وقيل فى الأجنبي لا يثبت الاستطاعة قولا واحدا وله فى الولد قولان ـ فتاوى قاضيخان ـ منه رحمه‌الله

٩٨

او كان يمكنه ان يكتسب فى الطريق لا يشترط له الزاد وان كان قادرا على المشي لا يشترط له الراحلة وقد قال الله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) قلنا الواقع فى جواب الأمر يكون اخبارا عن الواقع ولا يكون دليلا على وجوب الحج بلا راحلة والقدرة على المشي امر خفى وقد يزول القدرة فى أثناء الطريق فلا بد من اشتراط زاد وراحلة من ابتداء السفر كيلا يفضى الى الهلاك ـ واحكام الشرع عامة الا ترى انه يجوز للسلطان قصر الصلاة وإفطار الصوم فى مسافة السفر مع عدم المشقة ولا يجوز لمن يشق عليه الصوم فى ادنى من مسافة السفر ـ والحجة للجمهور حديث انس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة (١) ـ رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ـ ورواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة وقال صحيح على شرط مسلم ورواه سعيد بن منصور فى سننه من طرق اخر صحيحة عن الحسن مرسلا ـ ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر قام رجل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال الترمذي حسن لكن فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي المكي قال احمد والنسائي متروك الحديث ورواه ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عباس ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الزاد والراحلة ـ يعنى فى تفسير هذه الاية وسنده ضعيف ورواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث على بن ابى طالب وابن مسعود وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وطرقها كلها ضعيفة ـ ومن الحجة على وجوب التزود فى الحج قوله تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ـ روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان اهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فاذا قدموا مكة سألوا الناس فانزل الله تعالى

__________________

(١) قال بعض العلماء ان كان الرجل تاجرا يعيش بالتجارة فملك مقدار ما لو رقع منه الزاد والراحلة لذهابه وإيابه ونفقة أولاده وعياله من وقت خروجه الى وقت رجوعه ويبقى له بعد رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجربها كان عليه الحج والا فلا ـ وان كان صاحب ضيعة ان كان له من الضياع ما لو باع مقدار ما يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة عياله وأولاده ويبقى له من الضيعة قدر ما يعيش بغلة الباقي يفترض عليه الحج والا فلا ـ وان كان حرّاثا أكارا فملك مالا يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة أولاده وعياله من خروجه الى رجوعه ويبقى له آلات الحراثين من البقر ونحو ذلك كان عليه الحج والا فلا ـ فتاوى قاضيخان منه رحمه‌الله ـ

٩٩

(وَتَزَوَّدُوا) الاية ـ (وَمَنْ كَفَرَ) يعنى أنكر وجوب الحج كذا قال ابن عباس والحسن وعطاء ـ اخرج عبد بن حميد فى تفسيره عن نقيع قال قرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الاية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله فمن تركه فقد كفر قال من تركه لا يخاف عقوبته ولا يرجو ثوابه ـ نقيع تابعي فالحديث مرسل ـ وقال سعيد بن المسيب نزلت فى اليهود حيث قالوا الحج الى مكة غير واجب واخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه لما نزل صدر الاية جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارباب الملل فخطبهم وقال ان الله كتب عليكم الحج فحجوا فامنت به ملة واحدة يعنى المسلمين وكفرت به خمس ملل يعنى المشركين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس فنزل (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ـ واخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) الاية قالت اليهود فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان الله فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا ان يحجوا فانزل الله (وَمَنْ كَفَرَ) الاية ـ والظاهر انه وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ومعنى كفر انه لم يشكر المنعم على صحة جسمه وسعة رزقه وهذان التأويلان جاريان فى حديث ابى امامة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من لم تحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا رواه البغوي والدارمي فى مسنده وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات وتعقبه الحفاظ وحديث على عليه‌السلام من ملك زادا وراحلة يبلغه الى بيت الله ولم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا او نصرانيا رواه الترمذي وضعفه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) أكد الله سبحانه امر الحج فى هذه الاية بوجوه ١ بالدلالة على وجوبه بصيغة الخبر ـ ٢ وابرازه فى صورة الاسمية ـ و ٣ إيراده على وجه يفيد انه حق واجب لله فى رقاب الناس ـ ٤ وتعميم الحكم اولا وتخصيصه ثانيا فانه كايضاح بعد إبهام وتكرير للمراد ـ ٥ وتسمية ترك الحج كفرا من حيث انه فعل الكفرة ـ ٦ وذكر الاستغناء فانه فى هذا الموضع يدل على المقت والخذلان ـ ٧ ووضع المظهر بلفظ عام شامل لمرجع الضمير موضعه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والاشعار بعظم السخط

١٠٠