المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

فروضٍ جديدةٍ لاستخراج حكمها بطريقةٍ ما من النصّ يجد نفسه بحاجةٍ كبيرةٍ ومتزايدةٍ إلى العناصر والقواعد العامة ، وتنفتح أمامه آفاق التفكير الاصولي الرحيبة.

ويجب أن لا نفهم من النصوص المتقدّمة التي كتبها الشيخ الطوسي أنّ نقل الفكر الفقهي من دور الاقتصار على اصول المسائل والجمود على صيغ الروايات إلى دور التفريع وتطبيق القواعد قد تمّ على يد الشيخ فجأةً وبدون سابق إعداد ، بل الواقع أنّ التطوّر الذي أنجزه الشيخ في الفكر الفقهي كان له بذوره التي وضعها قبله استاذاه السيّد المرتضى والشيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد ، كما أشرنا سابقاً (١) ، وكان لتلك البذور أهمّيتها من الناحية العلمية ، حتى نقل (٢) عن أبي جعفر بن معد الموسوي ـ وهو متأخّر عن الشيخ الطوسي ـ أنّه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه «التهذيب» ، فذكر أنّه لم يرَ لأحدٍ من الطائفة كتاباً أجود منه ، ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ، ولا أرقّ معنىً منه ، وقد استوفى فيه الفروع والاصول ، وذكر الخلاف في المسائل ، واستدلّ بطريق الإمامية وطريق مخالفيهم.

فهذه الشهادة تدلّ على قيمة البذور التي نمت حتّى آتت اكُلها على يد الطوسي.

وقد جاء كتاب «العدّة» للطوسي ـ الذي يمثّل نموّ الفكر الاصولي في أعقاب تلك البذور ـ تلبيةً لحاجات التوسّع في البحث الفقهي. وعلى هذا الضوء نعرف أنّ من الخطأ القول بأنّ كتاب «العدّة» ينقض العلاقة بين تطور الفقه وتطور

__________________

(١) سبق تحت عنوان : التصنيف في علم الاصول

(٢) نقله عنه العلّامة في إيضاح الاشتباه : ٢٩١ في ترجمة «ابن الجنيد»

٨١

الاصول ، ويثبت إمكانية تطور الفكر الاصولي بدرجةٍ كبيرةٍ دون أن يحصل أدنى تغييرٍ في الفكر الفقهي ؛ لأنّ الشيخ صنَّف «العدّة» في حياة السيد المرتضى والفكر الفقهي وقتئذٍ كان يعيش مستواه البدائي ولم يتطور إلّا خلال كتاب «المبسوط» الذي كتبه الشيخ في آخر حياته.

ووجه الخطأ في هذا القول : أنّ كتاب «المبسوط» وإن كان متأخّراً تأريخياً عن كتاب «العدّة» ولكنّ كتاب «المبسوط» لم يكن إلّا تجسيداً للتوسّع والتكامل للفكر الفقهي الذي كان قد بدأ بالتوسّع والنموّ والتفريع على يد ابن الجنيد والسيد المرتضى وغيرهما.

الوقوف النسبي للعلم :

ما مضى المجدِّد العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدس‌سره حتى قفز بالبحوث الاصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزةً كبيرةً ، وخلَّف تراثاً ضخماً في الاصول يتمثّل في كتاب «العدة» ، وتراثاً ضخماً في التطبيق الفقهي يتمثّل في كتاب «المبسوط». ولكنّ هذا التراث الضخم توقّف عن النمو بعد وفاة الشيخ المجدِّد طيلة قرنٍ كاملٍ في المجالين الاصولي والفقهي على السواء.

وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملةٍ من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والاستغراب ؛ لأنّ الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة التي حقّقها في هذه المجالات كان من المفروض والمترقّب أن تكون قوةً دافعةً للعلم ، وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقاً رحيبةً للإبداع والتجديد ، ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والإغراء بمواصلة السير؟

٨٢

هذا هو السؤال الذي يجب التوفّر على الإجابة عنه ، ويمكننا بهذا الصدد أن نشير إلى عدّة أسبابٍ من المحتمل أن تفسِّر الموقف :

١ ـ من المعلوم تأريخياً أنّ الشيخ الطوسي هاجر إلى النجف سنة ٤٤٨ ه‍ نتيجةً للقلاقل والفتن التي ثارت بين الشيعة والسنّة في بغداد ، أي قبل وفاته ب (١٢) سنة ، وكان يشغل في بغداد قبل هجرته مركزاً علمياً معترفاً به من الخاصّة والعامة ، حتّى ظفر بكرسيّ الكلام والإفادة من الخليفة القائم بأمر الله الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلّا لكبار العلماء الذين يتمتّعون بشهرةٍ كبيرة ، ولم يكن الشيخ مدرِّساً فحسب ، بل كان مرجعاً وزعيماً دينياً ترجع إليه الشيعة في بغداد وتلوذ به في مختلف شئونها منذ وفاة السيد المرتضى عام ٤٣٦ ه‍ ، ولأجل هذا كانت هجرته إلى النجف سبباً لتخلّيه عن كثيرٍ من المشاغل وانصرافه انصرافاً كاملاً إلى البحث العلمي ، الأمر الذي ساعده على إنجاز دوره العلمي العظيم الذي ارتفع به إلى مستوى المؤسِّسين ، كما أشار إلى ذلك المحقّق الشيخ أسد الله التستري في كتاب «مقابس الأنوار» ، إذ قال : «ولعلّ الحكمة الإلهية في ما اتّفق للشيخ تجرّده للاشتغال بما تفرّد به من تأسيس العلوم الشرعية ، ولا سيّما المسائل الفقهية» (١).

فمن الطبيعي على هذا الضوء أن يكون للسنين التي قضاها الشيخ في النجف أثرها الكبير في شخصيته العلمية التي تمثّلت في كتاب «المبسوط» ، وهو آخر ما ألّفه في الفقه ، كما نصّ على ذلك ابن إدريس في بحث الأنفال من السرائر (٢) ، بل آخر ما ألّفه في حياته كما جاء في كلام مترجميه (٣).

__________________

(١) مقابس الأنوار : ٥ ، في ترجمة الشيخ الطوسي

(٢) السرائر ١ : ٤٩٩

(٣) روضات الجنّات ٦ : ٢٢٢

٨٣

وإلى جانب هذا نلاحظ أنّ الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في ـ أكبر الظنّ ـ عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد ، وبدأ ينشئ في النجف حوزةً فتيةً حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف ، أو أبناء البلاد القريبة منه ، كالحلّة ونحوها ، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج ، وبرز فيها العنصر المشهدي ـ نسبةً إلى المشهد العلوي ـ والعنصر الحلّي ، وتسرّب التيار العلمي منها إلى الحلّة.

ونحن حين نرجِّح أنّ الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية وأنشأ في مهجره حوزةً جديدةً نستند إلى عدّة مبرّرات :

فقبل كلِّ شيءٍ نلاحظ أنّ مؤرّخي هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف لم يشيروا إطلاقاً إلى أنّ تلامذة الشيخ الطوسي في بغداد رافقوه أو التحقوا به فور هجرته إلى النجف ، وإذا لاحظنا ـ إضافةً إلى ذلك ـ قائمة تلامذة الشيخ التي يذكرها مؤرّخوه نجد أنّهم لم يشيروا إلى مكان التلمذة إلّا بالنسبة إلى شخصين جاء النصّ على أنّهما تلمّذا على الشيخ في النجف ، وهما : الحسين بن المظفّر بن عليّ الحمداني ، والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمّي وأقرب الظنّ فيهما معاً أنّهما من التلامذة المحدثين للشيخ الطوسي.

أمّا الحسين بن المظفّر فقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ترجمته من الفهرست (١) : أنّه قرأ على الشيخ جميع تصانيفه في الغري ، وقراءته لجميع تصانيف الشيخ عليه في النجف يعزِّز احتمال أنّه من تلامذته المحدثين الذين التحقوا به بعد هجرته إلى النجف ، إذ لم يقرأ عليه شيئاً منها قبل ذلك التأريخ ، ويعزّز ذلك أيضاً أنّ أباه المظفّر كان يحضر درس الشيخ الطوسي أيضاً ، ومن قبله

__________________

(١) فهرست منتجب الدين : ٤٣ ، الرقم ٧٣

٨٤

السيد المرتضى ، كما نصّ على ذلك منتجب الدين في الفهرست ، وهذا يعزز احتمال كون الابن من طبقةٍ متأخّرةٍ عن الطبقة التي يندرج فيها الأب من تلامذة الشيخ.

وأمّا الحسن بن الحسين البابويهي القمّي فنحن نعرف من ترجمته أنّه تلمّذ على عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي أيضاً ، وروى عن الكراجكي والصهرشتي ، وهؤلاء الثلاثة هم من تلامذة الشيخ الطوسي ، وهذا يعني أنّ الحسن الذي تلمّذ على الشيخ في النجف كان من تلامذته المتأخّرين ؛ لأنّه تلمّذ على تلامذته أيضاً.

ومما يعزِّز احتمال حداثة الحوزة التي تكوّنت حول الشيخ في النجف الدور الذي أدّاه فيها ابنه الحسن المعروف بأبي عليّ ، فقد تزعّم الحوزة بعد وفاة أبيه ، ومن المظنون أنّ أبا عليٍّ كان في دور الطفولة أو أوائل الشباب حين هاجر أبوه إلى النجف ؛ لأنّ تأريخ ولادته ووفاته وإن لم يكن معلوماً ولكنّ الثابت تأريخياً أنّه كان حيّاً في سنة (٥١٥ ه‍) كما يظهر من عدّة مواضع من كتاب بشارة المصطفى (١) ، أي أنّه عاش بعد هجرة أبيه إلى النجف قرابة سبعين عاماً ، ويذكر عن تحصيله : أنّه كان شريكاً في الدرس عند أبيه مع الحسن بن الحسين القمّي الذي رجّحنا كونه من الطبقة المتأخّرة ، كما يقال عنه : إنّ أباه أجازه سنة (٤٥٥ ه‍) ، أي قبل وفاته بخمسين سنة ، وهو يتّفق مع حداثة تحصيله.

فإذا عرفنا أنّه خلف أباه في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف بالرغم من كونه من تلامذته المتأخّرين في أغلب الظنّ استطعنا أن نقدِّر المستوى العلمي العامّ لهذه الحوزة ، ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة التكوّن.

والصورة التي تكتمل لدينا على هذا الأساس هي : أنّ الشيخ الطوسي

__________________

(١) بشارة المصطفى : ١٠٥ ، ١٨٨

٨٥

بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية في بغداد ، وأنشأ حوزةً جديدةً حوله في النجف ، وتفرّغ في مهجره للبحث وتنمية العلم ، وإذا صدقت هذه الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن بصدد تعليلها ، فإنّ الحوزة الجديدة التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الطبيعي أن لا ترقى إلى مستوى التفاعل المبدِع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر العلمي ؛ لحداثتها.

وأمّا الحوزة الأساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ ؛ لأنّه كان يمارس عمله العلمي في مهجره منفصلاً عن تلك الحوزة ، فهجرته إلى النجف وإن هيّأته للقيام بدوره العلمي العظيم لِمَا أتاحت له من تفرّغٍ ولكنّها فصلته عن حوزته الأساسية ، ولهذا لم يتسرّب الإبداع الفقهي العلمي من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج ويبدع بعيداً عنها ، وفرق كبير بين المبدِع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرارٍ وتواكب الحوزة إبداعه بوعيٍ وتفتّحٍ ، وبين المبدِع الذي يمارس إبداعه خارج نطاقها وبعيداً عنها.

ولهذا كان لا بدّ ـ لكي يتحقّق ذلك التفاعل الفكري الخَلَّاق ـ أن يشتدّ ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتّى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية ، فسادت فترة ركودٍ ظاهريٍّ بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى ، وكلَّف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عامٍ ليتحقّق ذلك ، ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوارثة العلمية للشيخ حتّى تتفاعل مع آرائه وتتسرّب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلّاق إلى الحلّة ، بينما ذوت الحوزة القديمة في بغداد وانقطعت عن مجال الإبداع العلمي الذي كانت الحوزة الفتية في النجف ـ وجناحها الحلّي بصورةٍ خاصّةٍ ـ الوريثة الطبيعية له.

٢ ـ وقد أسند جماعة من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظي به الشيخ الطوسي من تقديرٍ عظيمٍ في نفوس تلامذته رفعه في أنظارهم عن مستوى النقد ،

٨٦

وجعل من آرائه ونظرياته شيئاً مقدّساً لا يمكن أن ينال باعتراضٍ أو يخضع لتمحيص.

ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين ناقلاً عن أبيه قدس‌سره : أنّ أكثر الفقهاء الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليداً له ؛ لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به (١). وروي عن الحِمصي ـ وهو ممّن عاصر تلك الفترة ـ أنّه قال : «لم يبقَ للإمامية مُفتٍ على التحقيق ، بل كلّهم حاكٍ» (٢).

وهذا يعني أنّ ردّ الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثّلاً في تلك النزعة التقديسية على ردّ الفعل الفكري الذي كان ينبغي أن يتمثّل في درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي.

وقد بلغ من استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الأصحاب أنَّا نجد فيهم من يتحدّث عن رؤيا لأمير المؤمنين عليه‌السلام شهد فيها الإمام عليه‌السلام بصحة كلّ ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي «النهاية» (٣) ، وهو يشهد عن مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في أعماق نفوسهم.

ولكنّ هذا السبب لتفسير الركود الفكري قد يكون مرتبطاً بالسبب الأول ، إذ لا يكفي التقدير العلمي لفقيهٍ في العادة مهما بلغ لكي يغلق على الفكر الفقهي للآخرين أبواب النموّ والتفاعل مع آراء ذلك الفقيه ، وإنّما يتحقّق هذا عادةً حين لا يكون هؤلاء في المستوى العلمي الذي يؤهِّلهم لهذا التفاعل ، فيتحوّل التقدير إلى إيمانٍ وتعبّد.

__________________

(١) معالم الدين : ١٧٦

(٢) رواه ابن طاووس في كشف المحجّة لثمرة المهجة : ١٨٥

(٣) خاتمة مستدرك الوسائل ٣ : ١٧١

٨٧

٣ ـ والسبب الثالث يمكننا أن نستنتجه من حقيقتين تأريخيّتين :

إحداهما : أنّ نموّ الفكر العلمي والاصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلاً عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي ، ومن تلك العوامل : عامل الفكر السنّي ؛ لأنّ البحث الاصولي في النطاق السنّي ونموّ هذا البحث وفقاً لُاصول المذهب السنّي كان حافزاً باستمرارٍ للمفكِّرين من فقهاء الإمامية لدراسة تلك البحوث في الإطار الإمامي ، ووضع النظريات التي تتّفق معه في كلّ ما يثيره البحث السنّي من مسائل ومشاكل ، والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين.

ويكفي للاستدلال على دور الإثارة الذي كان يقوم به التفكير الاصولي السنّي هذان النصّان لشخصين من كبار فقهاء الإمامية :

١ ـ قال الشيخ الطوسي في مقدّمة كتاب «العدّة» يبرّر إقدامه على تصنيف هذا الكتاب الاصولي : «إنّ من صنّف في هذا الباب سلك كلّ قومٍ منهم المسلك الذي اقتضاه اصولهم ، ولم يعهد من أصحابنا لأحدٍ في هذا المعنى» (١).

٢ ـ وكتب ابن زهرة في كتابه الغنية ـ وهو يشرح الأغراض المتوخّاة من البحث الاصولي ـ قائلاً : «على أنّ لنا في الكلام في اصول الفقه غرضاً آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : بيان فساد كثيرٍ من مذاهب مخالفينا فيها وكثيرٍ من طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منها (٢) ، وأنّه لا يمكنهم تصحيحها وإخراجهم بذلك عن العلم بشيءٍ من فروع الفقه ؛ لأنّ العلم بالفروع من دون العلم بأصله محال ، وهو

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٣

(٢) أي الكشف عن فساد كثيرٍ من متبنّياتهم من ناحية ، وفساد الأدلّة التي يستندون اليها لإثبات المتبنّيات الصحيحة من ناحيةٍ اخرى. (المؤلّف قدس‌سره)

٨٨

غرض كبير يدعو إلى العناية باصول الفقه ويبعث على الاشتغال بها» (١).

هذه هي الحقيقة الاولى.

والحقيقة الاخرى هي : أنّ التفكير الاصولي السنّي كان قد بدأ ينضب في القرن الخامس والسادس ، ويستنفد قدرته على التجديد ، ويتّجه إلى التقليد والاجترار ، حتّى أدّى ذلك إلى سدِّ باب الاجتهاد رسمياً.

ويكفينا لإثبات هذه الحقيقة شهادةٌ معاصرةٌ لتلك الفترة من عالمٍ سنّيٍّ عاشها ، وهو الغزَّالي المتوفّى سنة (٥٠٥ ه‍) ، إذ تحدّث عن شروط المناظر في البحث ، فذكر منها : «أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه ، لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما ، حتى إذا ظهر له الحقّ من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له ، فأمّا من لم يبلغ رتبة الاجتهاد ـ وهو حكم كلّ أهل العصر ـ فأيّ فائدةٍ له في المناظرة» (٢).

ونحن إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين ، وعرفنا أنّ التفكير الاصولي السنّي الذي يشكِّل عامل إثارةٍ للتفكير الاصولي الشيعي كان قد أخذ بالانكماش ومُنِيَ بالعُقم استطعنا أن نستنتج أنّ التفكير العلمي لدى فقهائنا الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ قد فقد أحد المثيرات المحرِّكة له ، الأمر الذي يمكن أن نعتبره عاملاً مساعداً في توقّف النموّ العلمي.

ابن إدريس يصف فترة التوقّف :

ولعلّ من أفضل الوثائق التأريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره الفقيه

__________________

(١) الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٦١ ، السطر ١٣

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٥٦ الباب الرابع

٨٩

المبدع محمد بن أحمد بن إدريس ، الذي أدرك تلك الفترة ، وكان له دور كبير في مقاومتها ، وبثّ الحياة من جديدٍ في الفكر العلمي ، كما سنعرف بعد لحظات ، فقد كتب هذا الفقيه في مقدّمة كتابه «السرائر» يقول : «إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ، وتثاقلهم عن طلبها ، وعداوتهم لِمَا يجهلون ، وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السنّ من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه مضيِّعاً لِمَا استودعته الأيام ، مقصِّراً في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتّى كأنّه ابن يومه ومنتج ساعته ... ، ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان ، وميدانه قد عطِّل منه الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفساً بلغت التراقي» (١).

تجدّد الحياة والحركة في البحث العلمي :

ما انتهت مائة عامٍ حتّى دبَّت الحياة من جديدٍ في البحث الفقهي والاصولي على الصعيد الإمامي ، بينما ظلّ البحث العلمي السنّي على ركوده الذي وصفه الغزَّالي في القرن الخامس.

ومردّ هذا الفرق بين الفكرين والبحثين إلى عدّة أسبابٍ أدّت إلى استئناف الفكر العلمي الإمامي نشاطه الفقهي والاصولي دون الفكر السنّي ، ونذكر من تلك الأسباب السببين التاليين :

١ ـ إنّ روح التقليد وإن كانت قد سرت في الحوزة التي خلّفها الشيخ الطوسي ، كما تغلغلت في أوساط الفقه السني ، ولكنّ نوعية الروح كانت تختلف ؛ لأنّ الحوزة العلمية التي خلّفها الشيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد ؛ لأنّها كانت

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٢

٩٠

حوزةً فتية ، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعةٍ مع تجديدات الشيخ العظيمة ، وكان لا بدّ لها أن تنتظر مدّةً من الزمن حتّى تستوعب تلك الأفكار ، وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها ، فروح التقليد فيها موقّتة بطبيعتها.

وأمّا الحوزات الفقهية السنّية فقد كان شيوع روح التقليد فيها نتيجةً لشيخوختها بعد أن بلغت قصارى نموّها ، أو بعد أن استنفدت أغراضها ، الأمر الذي لا يمكننا التوسّع في شرحه الآن على مستوى هذه الحلقة ، فكان من الطبيعي أن يتفاقم فيها روح الجمود والتقليد.

٢ ـ إنّ الفقه السنّي كان هو الفقه الرسمي الذي تتبنّاه الدولة وتستفتيه في حدود وفائها بالتزاماتها الدينية ، ولهذا كانت الدولة تشكِّل عامل دفعٍ وتنميةٍ للفقه السنّي ، الأمر الذي يجعل الفقه السنّي يتأثّر بالأوضاع السياسية ، ويزدهر في عصور الاستقرار السياسي ، وتخبو جذوته في ظروف الارتباك السياسي.

وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السنّي شيئاً مهمّاً من جذوته في القرن السادس والسابع وما بعدهما ؛ تأثّراً بارتباك الوضع السياسي ، وانهياره أخيراً على يد المغول الذين عصفوا بالعالم الإسلامي وحكوماته.

وأمّا الفقه الإمامي فقد كان منفصلاً عن الحكم دائماً ، ومغضوباً عليه من الأجهزة الحاكمة في كثيرٍ من الأحايين ، ولم يكن الفقهاء الإماميون يستمدّون دوافع البحث العلمي من حاجات الجهاز الحاكم ، بل من حاجات الناس الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، ويرجعون إلى فقهاء مدرستهم في حلّ مشاكلهم الدينية ومعرفة أحكامهم الشرعية ، ولأجل هذا كان الفقه الإمامي يتأثّر بحاجات الناس ، ولا يتأثّر بالوضع السياسي كما يتأثّر الفقه السنّي.

ونحن إذا أضفنا إلى هذه الحقيقة عن الفقه الإمامي حقيقةً اخرى ، وهي أنّ

٩١

الشيعة المتعبِّدين بفقه أهل البيت كانوا في نموٍّ مستمرٍّ كمّياً ، وكانت علاقاتهم بفقهائهم وطريقة الإفتاء والاستفتاء تتحدّد وتتّسع ، استطعنا أن نعرف أنّ الفقه الإمامي لم يفقد العوامل التي تدفعه نحو النموّ ، بل اتّسعت باتّساع التشيّع وشيوع فكرة التقليد بصورةٍ منظّمة.

وهكذا نعرف أنّ الفكر العلمي الإمامي كان يملك عوامل النموّ داخلياً باعتبار فتوّته وسيره في طريق التكامل ، وخارجياً باعتبار العلاقات التي كانت تربط الفقهاء الإماميّين بالشيعة وبحاجاتهم المتزايدة.

ولم يكن التوقّف النسبي له بعد وفاة الشيخ الرائد إلّا لكى يستجمع قُواه ويواصل نموّه عند الارتفاع إلى مستوى التفاعل مع آراء الطوسي.

وأمّا عنصر الإثارة المتمثّل في الفكر العلمي السنّي فهو وإن فقده الفكر العلمي الإمامي نتيجةً لجمود الحوزات الفقهية السنّية ولكنّه استعاده بصورةٍ جديدة ، وذلك عن طريق عمليات الغزو المذهبي التي قام بها الشيعة ، فقد أصبحوا في القرن السابع وما بعده في دور الدعوة إلى مذهبهم ، ومارس علماؤنا ـ كالعلّامة الحلّي وغيره ـ هذه الدعوة في نطاقٍ واسع ، فكان ذلك كافياً لإثارة الفكر العلمي الشيعي للتعمّق والتوسّع في درس اصول السنّة وفقهها وكلامها ، ولهذا نرى نشاطاً ملحوظاً في بحوث الفقه المقارن قام به العلماء الذين مارسوا تلك الدعوة من فقهاء الإمامية كالعلّامة الحلّي.

[من] صاحب السرائر إلى صاحب المعالم :

وكانت بداية خروج الفكر العلمي عن دور التوقّف النسبي على يد الفقيه المبدِع محمد بن أحمد بن إدريس المتوفّى سنة (٥٩٨ ه‍) ، إذ بثَّ في الفكر العلمي روحاً جديدة ، وكان كتابه الفقهي «السرائر» إيذاناً ببلوغ الفكر العلمي في مدرسة

٩٢

الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها وتمحيصها.

وبدراسة كتاب السرائر ومقارنته بالمبسوط يمكننا أن ننتهي إلى النقاط التالية :

١ ـ إنّ كتاب السرائر يبرز العناصر الاصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورةٍ أوسع ممّا يقوم به كتاب المبسوط بهذا الصدد ، فعلى سبيل المثال نذكر : أنّ ابن إدريس أبرزَ في استنباطه لأحكام المياه ثلاث قواعد اصوليةٍ (١) وربط بحثه الفقهي بها ، بينما لا نجد شيئاً منها في أحكام المياه من كتاب المبسوط وإن كانت بصيغتها النظرية العامة موجودةً في كتب الاصول قبل ابن إدريس.

٢ ـ إنّ الاستدلال الفقهي لدى ابن إدريس أوسع منه في كتاب المبسوط ، وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسّعٍ في الاحتجاج وتجميع الشواهد ، حتّى أنّ المسألة التي لا يزيد بحثها في المبسوط على سطرٍ واحدٍ قد تبلغ في السرائر صفحةً مثلاً ، ومن هذا القبيل مسألة طهارة الماء المتنجِّس إذا تُمِّم كرّاً بماءٍ متنجِّسٍ أيضاً ، فقد حكم الشيخ في المبسوط (٢) ببقاء الماء على النجاسة ، ولم يزد على جملةٍ واحدةٍ في توضيح وجهة نظره. وأمّا ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة ، وتوسّع في بحث المسألة ، ثمّ ختمه قائلاً : «ولنا في هذه المسألة منفردةً نحو من عشر ورقاتٍ قد بلغْنا فيها أقصى الغايات ، وحججنا القول فيها والأسئلة والأدلّة والشواهد من الآيات والأخبار» (٣).

__________________

(١) السرائر ١ : ٥٨ ـ ٦٩

(٢) المبسوط ١ : ٧

(٣) السرائر ١ : ٦٩

٩٣

ونلاحظ في النقاط التي يختلف فيها ابن إدريس مع الشيخ الطوسي اهتماماً كبيراً منه باستعراض الحجج التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها ، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفنِّدها : إمّا أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضاً ثمّ يبطلها لكي لا يبقي مجالاً لشبهةٍ في صحة موقفه ، أو أنّها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن إدريس الجديدة. أي أنّ الفكر السائد استفزَّته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء الطوسي ، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفنِّدها. وهذا يعني أنّ آراء ابن إدريس كان لها ردّ فعلٍ وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطرّه ابن إدريس للمبارزة.

ونحن نعلم من كتاب السرائر أنّ ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ، ولم يكن منكمشاً في نطاق تأليفه الخاصّ ، فمن الطبيعي أن يثير ردود الفعل ، وأن تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حججٍ لتأييد رأي الشيخ.

فمن مجابهات ابن إدريس تلك : ما جاء في المزارعة من كتاب السرائر ، إذ كتب عن رأيٍ فقهيٍّ يستهجنه ويقول : «والقائل بهذا القول : السيّد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني وعرَّفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر رحمه‌الله بأعذارٍ غير واضحة» (١).

كما نلمح في بحوث ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلِّدة الذين تعبّدوا بآراء الشيخ الطوسي ، وكيف كان يضيق بجمودهم ، ففي مسألة تحديد المقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها كافر يرى ابن إدريس : أنّ الواجب نزح جميع ما في البئر ، بدليل أنّ الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حيّ وجب نزح جميعها اتّفاقاً ، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى. وإذا كان هذا الاستدلال

__________________

(١) السرائر ٢ : ٤٤٣

٩٤

ـ الاستدلال بالأولوية ـ يحمل طابعاً عقلياً جريئاً بالنسبة إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن إدريس فقد علّق عليه يقول : «وكأنّي بمَن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول : من قال هذا؟ ومن ينظره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفنّ الذين هم القدوة في هذا إليه؟» (١).

وأحياناً نجد أنّ ابن إدريس يحتال على المقلّدة فيحاول أن يثبت لهم أنّ الشيخ الطوسي يذهب إلى نفس رأيه ولو بضربٍ من التأويل ، فهو في مسألة الماء المتنجّس المتمَّم كرّاً بمثله يفتي بالطهارة ، ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضاً ، فيقول : «فالشيخ أبو جعفر الطوسي الذي يتمسّك بخلافه ويقلَّد في هذه المسألة ويجعل دليلاً يُقوِّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثيرٍ من أقواله. وأنا ابيِّن ـ إن شاء الله ـ أنّ أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلّية إذا تؤمِّل كلامه وتصنيفه حقّ التأمّل وابصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي» (٢).

٣ ـ وكتاب السرائر من الناحية التأريخية يعاصر إلى حدٍّ ما كتاب الغنية الذي قام فيه حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي بدراسةٍ مستقلّةٍ لعلم الاصول ؛ لأنّ ابن زهرة هذا توفّي قبل ابن إدريس ب (١٩) عاماً ، فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية.

ونحن إذا لاحظنا اصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرةً مشتركةً بينه وبين فقه ابن إدريس تميِّزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ ، والأخذ بوجهات نظرٍ تتعارض مع موقفه الاصولي أو

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٣

(٢) السرائر ١ : ٦٦

٩٥

الفقهي ، وكما رأينا ابن إدريس يحاول في السرائر تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّةٍ كذلك نجد ابن زهرة يناقش في الغنية الأدلّة التي جاءت في كتاب العدّة ، ويستدلّ على وجهات نظرٍ معارضة ، بل يثير أحياناً مشاكل اصوليةً جديدةً لم تكن مُثارةً من قَبل في كتاب العدّة بذلك النحو (١).

وهذا يعني أنّ الفكر العلمي كان قد نما واتّسع بكلا جناحيه الاصولي والفقهي ، حتّى وصل إلى المستوى الذي يصلح للتفاعل مع آراء الشيخ ومحاكمتها إلى حدٍّ ما على الصعيدين الفقهي والاصولي ، وذلك يعزِّز ما قلناه سابقاً (٢) من أنّ نموّ الفكر الفقهي ونموّ الفكر الاصولي يسيران في خطّين متوازيين ، ولا يتخلّف أحدهما عن الآخر تخلّفاً كبيراً ؛ لِمَا بينهما من تفاعلٍ وعلاقات.

واستمرّت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتّسع وتزداد ثراءً عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الاصول

__________________

(١) لا بأس أن يذكر المدرِّس مثالين أو ثلاثةً للمسائل التي اختلف فيها رأي ابن زهرة عن رأي الشيخ.

فمن ذلك : مسألة دلالة الأمر على الفور ، فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور ، وأنكر ابن زهرة ذلك ، وقال : «إنّ صيغة الأمر حيادية لا تدلّ على فورٍ ولا تراخٍ». الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٦٥ ، السطر ٣٢.

ومن ذلك أيضاً : مسألة اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها ، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء ، وأنكر ابن زهرة ذلك مميزا بين مفهومي الحرمة والفساد ، ونافياً للتلازم بينهما. المصدر السابق : ٤٦٨ ، السطر ٤. وقد أثار ابن زهرة في بحوث العامّ والخاصّ مشكلة حجّية العام المخصّص في غير مورد التخصيص ، المصدر السابق : ٤٧٠ ، السطر ٢٦. بينما لم تكن هذه المشكلة قد اثيرت في كتاب العدّة. (المؤلّف قدس‌سره)

(٢) سبق تحت عنوان : التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي

٩٦

والفقه وأبدعوا ، فمن هؤلاء : المحقّق نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الحلّي المتوفّى سنة (٦٧٦ ه‍) ، وهو تلميذ تلامذة ابن إدريس ، ومؤلِّف الكتاب الفقهي الكبير «شرائع الإسلام» ، الذي أصبح بعد تأليفه محوراً للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة بدلاً عن كتاب «النهاية» الذي كان الشيخ الطوسي قد ألّفه قبل المبسوط.

وهذا التحوّل من النهاية إلى الشرائع يرمز إلى تطورٍ كبيرٍ في مستوى العلم ؛ لأنّ كتاب «النهاية» كان كتاباً فقهياً يشتمل على امّهات المسائل الفقهية واصولها ، وأمّا الشرائع فهو كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج الأحكام وفقاً للمخطّط الذي وضعه الشيخ في المبسوط ، فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب النهاية في الحوزة واتّجاه حركة البحث والتعليق إليه يعني أنّ حركة التفريع والتخريج قد عمَّت واتّسعت حتّى أصبحت الحوزة كلّها تعيشها.

وقد صنَّف المحقّق الحلّي كتباً في الاصول ، منها كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاصول» ، وكتاب «المعارج».

ومن اولئك النوابغ تلميذ المحقّق وابن اخته المعروف بالعلّامة ، وهو الحسن ابن يوسف بن عليّ بن مطهّر المتوفّى سنة (٧٢٦ ه‍) ، وله كتب عديدة في الاصول ، من قبيل «تهذيب الوصول إلى علم الاصول» و «مبادئ الوصول إلى علم الاصول» وغيرهما.

وقد ظلّ النموّ العلمي في مجالات البحث الاصولي إلى آخر القرن العاشر ، وكان الممثّل الأساسي له في أواخر هذا القرن الحسن بن زين الدين المتوفّى سنة (١٠١١ ه‍) ، وله كتاب في الاصول باسم «المعالم» مثَّل فيه المستوى العالي لعلم الاصول في عصره بتعبيرٍ سهلٍ وتنظيمٍ جديد ، الأمر الذي جعل لهذا الكتاب شأناً كبيراً في عالم البحوث الاصولية ، حتى أصبح كتاباً دراسياً في هذا العلم ،

٩٧

وتناوله المعلِّقون بالتعليق والتوضيح والنقد.

ويقارب المعالم من الناحية الزمنية كتاب «زبدة الاصول» الذي صنّفه عَلم من أعلام العلم في أوائل القرن الحادي عشر ، وهو الشيخ البهائي المتوفّى سنة (١٠٣١ ه‍).

الصدمة التي مُنِيَ بها علم الاصول :

وقد مُنِيَ علم الاصول بعد صاحب المعالم بصدمةٍ عارضت نموّه وعرّضته لحملةٍ شديدة ، وذلك نتيجةً لظهور حركة الأخبارية في أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادي المتوفّى سنة (١٠٢١ ه‍) ، واستفحال أمر هذه الحركة بعده ، وبخاصّةٍ في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر.

وكان لهذه الحملة بواعثها النفسية التي دفعت الأخباريّين من علمائنا رضوان الله عليهم ـ وعلى رأسهم المحدِّث الاسترابادي ـ إلى مقاومة علم الاصول ، وساعدت على نجاح هذه المقاومة نسبياً ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ عدم استيعاب ذهنية الأخباريّين لفكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد جعلهم ذلك يتخيّلون أنّ ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة والقواعد الاصولية يؤدّي إلى الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من أهمّيتها.

ولو أنّهم استوعبوا فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كما درسها الاصوليون لعرفوا أنّ لكلٍّ من العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة دورها الأساسي وأهمّيتها ، وأنّ علم الاصول لا يستهدف استبدال العناصر الخاصّة بالعناصر المشتركة ، بل يضع القواعد اللازمة لاستنباط الحكم من العناصر

٩٨

الخاصّة.

٢ ـ سبق السنّة تأريخياً إلى البحث الاصولي والتصنيف الموسَّع فيه ، فقد أكسب هذا علم الاصول إطاراً سنّياً في نظر هؤلاء الثائرين عليه ، فأخذوا ينظرون إليه بوصفه نتاجاً للمذهب السنّي. وقد عرفنا سابقاً (١) أنّ سبق الفقه السنّي تأريخياً إلى البحوث الاصولية لم ينشأ عن صلةٍ خاصّة بين علم الاصول والمذهب السنّي ، بل هو مرتبط بمدى ابتعاد الفكر الفقهي عن عصر النصوص التي يؤمن بها ، فإنّ السنّة يؤمنون بأنّ عصر النصوص انتهى بوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبهذا وجدوا أنفسهم في أواخر القرن الثاني بعيدين عن عصر النصّ بالدرجة التي جعلتهم يفكّرون في وضع علم الاصول ، بينما كان الشيعة وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الذي يمتدّ عندهم إلى الغيبة.

ونجد هذا المعنى بوضوحٍ ووعيٍ في نصٍّ للمحقّق الفقيه السيد محسن الأعرجي المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه‍) ، إذ كتب في وسائله ردّاً على الأخباريّين يقول : «إنّ المخالفين لمّا احتاجوا إلى مراعاة هذه الامور قبل أن نحتاج إليها سبقوا إلى التدوين ؛ لبعدهم عن عصر الصحابة ، وإعراضهم عن أئمّة الهدى ، وافتتحوا باباً عظيماً لاستنباط الأحكام ، كثير المباحث ، دقيق المسارب ، جمّ التفاصيل ، وهو القياس. فاضطرّوا إلى التدوين أشدّ ضرورة ، ونحن مستغنون بأرباب الشريعة وأئمّة الهدى ، نأخذ منهم الأحكام مشافهةً ، ونعرف ما يريدون بديهةً ، إلى أن وقعت الغيبة ، وحيل بيننا وبين إمام العصر عليه‌السلام ... ، فاحتجنا إلى تلك المباحث ، وألَّف فيها متقدِّمونا كابن الجنيد وابن أبي عقيل ، وتلاهما من جاء بعدهما ، كالسيّد والشيخين ، وأبي الصلاح ، وأبي المكارم ، وابن إدريس ،

__________________

(١) سبق تحت عنوان : التصنيف في علم الاصول

٩٩

والفاضلين ، والشهيدين إلى يومنا هذا. أترانا نعرض عن مراعاتها مع مَسيسِ الحاجة لأنّه سبقنا إليها المخالفون ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحكمة ضالّة المؤمن؟! وما كنّا في ذلك تبعاً ، وإنّما بحثنا عنها أشدّ البحث ، واستقصينا أتمّ الاستقصاء ، ولم نحكم في شيءٍ منها إلّا بعد قيام الحجّة وظهور المحجّة» (١).

٣ ـ ومما أكّد في ذهن هؤلاء الإطار السنّي لعلم الاصول أنّ ابن الجنيد ـ وهو من روّاد الاجتهاد وواضعي بذور علم الاصول في الفقه الإمامي ـ كان يتّفق مع أكثر المذاهب الفقهية السنّية في القول بالقياس. ولكنّ الواقع أنّ تسرّب بعض الأفكار من الدراسات الاصولية السنّية إلى شخصٍ كابن الجنيد لا يعني أنّ علم الاصول بطبيعته سنّي ، وإنّما هو نتيجة لتأثّر التجربة العلمية المتأخّرة بالتجارب السابقة في مجالها. ولمّا كان للسنّة تجارب سابقة زمنياً في البحث الاصولي فمن الطبيعي أن نجد في بعض التجارب المتأخّرة تأثّراً بها ، وقد يصل التأثّر أحياناً إلى درجة تبنّي بعض الآراء السابقة غفلةً عن واقع الحال ، ولكنّ ذلك لا يعني بحالٍ أنّ علم الاصول قد استورده الشيعة من الفكر السنّي وفرض عليهم من قبله ، بل هو ضرورة فرضتها على الفقه الإمامي عملية الاستنباط وحاجات هذه العملية.

٤ ـ وساعد على إيمان الأخباريّين بالإطار السنّي لعلم الاصول تسرّب اصطلاحاتٍ من البحث الاصولي السنّي إلى الاصوليّين الإماميّين وقبولهم بها بعد تطويرها وإعطائها المدلول الذي يتّفق مع وجهة النظر الإمامية. ومثال ذلك : كلمة «الاجتهاد» كما رأينا في بحثٍ سابق (٢) ، إذ أخذها علماؤنا الإماميون من الفقه

__________________

(١) وسائل الشيعة للأعرجي : ٢٢ من المقدمة

(٢) سبق تحت عنوان : جواز عمليّة الاستنباط

١٠٠