المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

الاسترابادي يميل به إلى المذهب الحسّي في نظرية المعرفة القائل : بأنّ الحسّ هو أساس المعرفة ، ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الأخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب التي تسرَّب منها الاتّجاه الحسّي إلى تراثنا الفكري.

وقد سبقت الأخبارية ـ بما تمثّل من اتّجاهٍ حسّيٍّ ـ التيار الفلسفي الحسّي الذي نشأ في الفلسفة الاوروبية على يد «جون لوك» المتوفّى سنة (١٧٠٤ م) ، و «دافيد هيوم» المتوفّى سنة (١٧٧٦ م) ، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة «جون لوك» بمائة سنةٍ تقريباً ، ونستطيع أن نعتبره معاصراً ل «فرنسيس بيكون» المتوفّى سنة (١٦٢٦ م) ، الذي مهّد للتيار الحسّي في الفلسفة الاوروبية.

وعلى أيِّ حالٍ فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الأخبارية والمذاهب الحسّية والتجريبية في الفلسفة الاوروبية ، فقد شنّت جميعاً حملةً كبيرةً ضدّ العقل ، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ.

وقد أدّت حركة المحدّث الاسترابادي ضدّ المعرفة العقلية المنفصلة عن الحسّ إلى نفس النتائج التي سجّلتها الفلسفات الحسّية في تأريخ الفكر الاروبي ، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوّةً ـ بحكم اتّجاهها الخاطئ ـ إلى معارضة كلّ الأدلّة العقلية التي يستدلّ بها المؤمنون على وجود الله سبحانه ؛ لأنّها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس.

فنحن نجد مثلاً محدّثاً ـ كالسيّد نعمة الله الجزائري ـ يطعن في تلك الأدلّة بكلّ صراحةٍ وفقاً لاتّجاهه الأخباري ، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفية (١) ، ولكنّ ذلك لم يؤدِّ بالتفكير الأخباري الى الإلحاد كما أدّى بالفلسفات الحسّية الاوروبية ؛ لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على

__________________

(١) الدرر النجفية : ١٤٦

٦١

نشوء كلٍّ منهما ، فإنّ الاتّجاهات الحسّية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهمّيتها ، فكان لديها الاستعداد لنفي كلّ معرفةٍ عقلية منفصلةٍ عن الحسّ.

وأمّا الحركة الأخبارية فكانت ذات دوافع دينية ، وقد اتّهمت العقل لحساب الشرع ، لا لحساب التجربة ، فلم يكن من الممكن أن تؤدّي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدين.

ولهذا كانت الحركة الأخبارية تستبطن ـ في رأي كثيرٍ من ناقديها ـ تناقضاً ؛ لأنّها شجبت العقل من ناحيةٍ لكي تُخلِي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي ، وظلّت من ناحيةٍ اخرى متمسّكةً به لإثبات عقائدها الدينية ؛ لأنّ إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي ، بل يجب أن يكون عن طريق العقل.

٦٢

تأريخ علم الاصول

مولد علم الاصول :

نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث ؛ تبعاً للمراحل التي مرَّ بها علم الشريعة.

ونريد بعلم الشريعة : العلم الذي يحاول التعرّف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند الله تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثّلاً في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام وجمعها ، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الاولى قائماً على مستوى علم الحديث ، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصراً على جمع الروايات وحفظ النصوص. وأمّا طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص والروايات فلم تكن ذات شأنٍ في تلك المرحلة ؛ لأنّها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعضٍ في المحاورات الاعتيادية.

وتعمّقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص ، حتّى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملاً لا يخلو عن دقّة ، ويتطلّب شيئاً من العمق والخبرة ، فانصبّت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقّة التي أصبح فهم

٦٣

الحكم الشرعي من النصّ واستنباطه من مصادره بحاجةٍ إليها ، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه ، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال العلمي الدقيق.

ومن خلال نموِّ علم الفقه والتفكير الفقهي وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط ، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلّبها من الدقّة والعمق ، أقول : من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشّف ، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد التفكير الاصولي وعلم الاصول ، واتّجاه الذهنية الفقهية اتّجاهاً اصوليّاً.

وهكذا ولد علم الاصول في أحضان علم الفقه ، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعيٍ كاملٍ بطبيعتها وحدودها وأهمّية دورها في العملية أصبحوا بعد تغلغل الاتّجاه الاصولي في التفكير الفقهي يَعُونَ تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها.

ولا نشكّ في أنّ بذرة التفكير الاصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام منذ أيام الصادقَين عليهما‌السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي ، ومن الشواهد التأريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجَّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق عليه‌السلام وغيره من الأئمّة عليهم‌السلام وتلقَّوا جوابها منهم (١). فإنّ تلك الأسئلة

__________________

(١) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة ، وفي حجّية خبر الثقة ، وفي

٦٤

تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصولي عندهم ، واتّجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة. ويعزّز ذلك : أنّ بعض أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ألّفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية ، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام الذي ألّف رسالةً في الألفاظ (١).

وبالرغم من ذلك فإنّ فكرة العناصر المشتركة وأهمّية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيَين في أول الأمر ، وإنّما اتّضحت معالمها وتعمّقت بالتدريج خلال توسّع العمل الفقهي ونموّ عمليات الاستنباط ، ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسةً علميةً مستقلّةً عن البحوث الفقهية وتصبح قائمةً بنفسها إلّا بعد مضيِّ زمنٍ منذ ولادة البذور الاولى للتفكير الاصولي ، فقد عاش البحث الاصولي ردحاً من الزمن ممتزجاً بالبحث الفقهي غير مستقلٍّ عنه في التصنيف والتدريس ، وكان الفكر الاصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحاً وتحديداً ، حتّى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.

ويبدو أنّ بحوث الاصول حتّى حين وصلت إلى مستوى يؤهِّلها للاستقلال بقيت تتذبذب بين علم الفقه وعلم اصول الدين ، حتّى أنّها كانت أحياناً تُخلَط

__________________

أصالة البراءة ، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد ... ، وما إلى ذلك من قضايا. (المؤلّف قدس‌سره). وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥ ، و ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ، و ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧ ، و ١٤٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٦

(١) راجع رجال النجاشي : ٤٣٣ ، الرقم ١١٦٤

٦٥

ببحوثٍ في اصول الدين والكلام ، كما يشير إلى ذلك السيّد المرتضى في كتابه الاصولي «الذريعة» ، إذ يقول : «قد وجدت بعض من أفرد لُاصول الفقه كتاباً ـ وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه ومبانيه ـ ولكنّه قد شرد عن اصول الفقه واسلوبها وتعدّاها كثيراً وتخطّاها ، فتكلّم على حدّ العلم والنظر ، وكيف يولِّد النظر العلم؟ ووجوب المسبّب عن السبب ... إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في اصول الدين دون اصول الفقه» (١).

وهكذا نجد أنّ استقلال علم اصول الفقه بوصفه علماً للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقهٍ وكلامٍ لم ينجزْ إلّا بعد أن اتّضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظامٍ عامٍّ لها ، الأمر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الاصولي وطبيعة البحوث الفقهية والكلامية ، وأدّى بالتالي إلى قيام علمٍ مستقلٍّ باسم «علم اصول الفقه».

وبالرغم من تمكّن علم الاصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام «علم اصول الدين» فقد بقيت فيه رواسب فكرية يرجع تأريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام ، وظلّت تلك الرواسب مصدراً للتشويش ، فمن تلك الرواسب ـ على سبيل المثال ـ الفكرة القائلة بأنّ أخبار الآحاد «وهي الروايات الظنّية التي لا يعلم صدقها» لا يمكن الاستدلال بها في الاصول ؛ لأنّ الدليل في الاصول يجب أن يكون قطعياً.

فإنّ مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام ، ففي هذا العلم قرّر العلماء أنّ اصول الدين تحتاج إلى دليلٍ قطعي ، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد

__________________

(١) الذريعة الى اصول الشريعة ١ : ٢

٦٦

ـ مثلاً ـ بأخبار الآحاد ، وقد أدّى الخلط بين علم اصول الدين وعلم اصول الفقه واشتراكهما في كلمة «الاصول» إلى تعميم تلك الفكرة إلى اصول الفقه ، ولهذا نرى الكتب الاصولية ظلّت إلى زمان المحقّق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقاً من تلك الفكرة.

ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين اصول الفقه واصول الدين تصوّراتٍ دقيقةً نسبياً ومحدّدةً عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد كتب يقول : «اعلم : أنّ الكلام في اصول الفقه إنّما هو على الحقيقة كلام في أدلّة الفقه ... ، ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الأدلّة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء اصولاً ؛ لأنّ الكلام في اصول الفقه إنّما هو كلام في كيفية دلالة ما يدلّ من هذه الاصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل ، وأدلّة الفقهاء إنّما هي على نفس المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل» (١).

وهذا النصّ في مصدرٍ من أقدم المصادر الاصولية في التراث الشيعي يحمل بوضوحٍ فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، ويسمّيها أدلّة الفقه على الإجمال ، ويميِّز بين البحث الاصولي والفقهي على أساس التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية ، أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة في تعبيرنا ، وهذا يعني أنّ فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرةً وقتئذٍ الى درجةٍ كبيرة ، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهرة (٢)

__________________

(١) الذريعة الى اصول الشريعة ١ : ٧

(٢) الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٦١

٦٧

والمحقّق الحلّي (١) وغيرهم ، فإنّهم جميعاً عرّفوا علم الاصول بأنّه «علم أدلّة الفقه على وجه الإجمال» وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.

ففي كتاب العدّة قال الشيخ الطوسي : «اصول الفقه هي أدلّة الفقه ، فإذا تكلّمنا في هذه الأدلّة فقد نتكلّم فيما يقتضيه من إيجابٍ وندبٍ وإباحة ، وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة ، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلّة الموصلة إلى فروع الفقه ؛ لأنّ هذه الأدلّة أدلّة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل» (٢).

ومصطلح الإجمالية والتفصيلية يعبّر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة.

ونستخلص ممّا تقدّم : أنّ ظهور علم الاصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقّف على وصول عملية الاستنباط إلى درجةٍ من الدقّة والاتّساع وتفتّح الفكر الفقهي وتعمّقه ، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخّر ظهور علم الاصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نَما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي ، ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضاً أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجاً وتدقّ على مرّ الزمن ؛ حتّى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة ، وتتميّز عن بحوث الفقه وبحوث اصول الدين.

__________________

(١) معارج الاصول : ٤٧

(٢) عدّة الاصول ١ : ٧

٦٨

الحاجةُ إلى علم الاصول تأريخيةٌ :

ولم يكن تأخّر ظهور علم الاصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ناتجاً عن ارتباط العقلية الاصولية بمستوى متقدّمٍ نسبياً من التفكير الفقهي فحسب ، بل هناك سبب آخر له أهمّية كبيرة في هذا المجال ، وهو : أنّ علم الاصول لم يوجد بوصفه لوناً من ألوان الترف الفكري ، وإنّما وجد تعبيراً عن حاجةٍ ملحَّةٍ شديدةٍ لعملية الاستنباط التي تتطلّب من علم الاصول تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها ، ومعنى هذا : أنّ الحاجة إلى علم الاصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس في هذا العلم وتحدّد ، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الاصولية هي في الواقع حاجة تأريخية ، وليست حاجة مطلقة ، أي أنّها حاجة توجد وتشتدّ بعد أن يبتعد الفقه عن عنصر النصوص ، ولا توجد بتلك الدرجة في الفقه المعاصر لعصر النصوص.

ولكي تتّضح الفكرة لديك : افرض نفسك تعيش عصر النبوّة على مقربةٍ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسمع منه الأحكام مباشرةً ، وتفهم النصوص الصادرة منه بحكم وضوحها اللغوي ومعاصرتك لكلّ ظروفها وملابساتها ، أَفكنت بحاجةٍ ـ لكي تفهم الحكم الشرعي ـ أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ اصوليٍّ كعنصر حجّية الخبر وأنت تسمع النصّ مباشرةً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ينقله لك اناس تعرفهم مباشرةً ولا تشكّ في صدقهم؟ أَوَكنت في حاجةٍ إلى أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ اصوليٍّ كعنصر حجّية الظهور العرفي وأنت تدرك بسماعك للنصّ الصادر من النبيّ معناه الذي يريده إدراكاً واضحاً لا يشوبه شكّ في كثيرٍ من الأحيان بحكم اطّلاعك على جميع ملابسات النصّ وظروفه؟ أَوَكنت بحاجةٍ إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبيّ وأنت قادر على سؤاله والاستيضاح منه

٦٩

بدلاً عن التفكير في تلك القواعد؟

وهذا يعني : أنّ الإنسان كلّما كان أقرب إلى عصر التشريع وأكثر امتزاجاً بالنصوص كان أقلّ حاجة إلى التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة ؛ لأنّ استنباط الحكم الشرعي يتمّ عندئذٍ بطريقةٍ ميسّرةٍ دون أن يواجه الفقيه ثغراتٍ عديدةً ليفكِّر في ملئها عن طريق العناصر الاصولية. وأمّا إذا ابتعد الفقيه عن عصر النصّ واضطرّ إلى الاعتماد على التأريخ والمؤرّخين والرواة والمحدّثين في نقل النصوص فسوف يواجه ثغراتٍ كبيرةً وفجواتٍ تضطرّه إلى التفكير في وضع القواعد لملئها ، فهل صدر النصّ المرويّ من المعصوم حقيقةً أو كَذِبَ الراوي أو أخطأ في نقله؟ وما ذا يريد المعصوم بهذا النصّ؟ هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلاً من النصّ حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما يوضّحه من الظروف والملابسات التي عاشها النصّ ولم نعِشْها معه؟ وما ذا يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نصٍّ في المسألة؟

وهكذا يصبح الإنسان بحاجةٍ إلى عنصرٍ كحجّية الخبر ، أو حجّية الظهور العرفي ، أو غيرهما من القواعد الاصولية.

وهذا هو ما نقصده من القول بأنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها ؛ لأنّ الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط. وهذه الثغرات هي التي توجِد الحاجةَ الملحَّةَ إلى علم الاصول والقواعد الاصولية.

وارتباط الحاجة إلى علم الاصول بتلك الثغرات ممّا أدركه الرّوّاد الأوائل لهذا العلم ، فقد كتب السيد الجليل حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي ـ المتوفّى سنة ٥٨٥ ه‍ ـ في القسم الأول من كتابه الغنية يقول : «لمّا كان الكلام في

٧٠

فروع الفقه يبنى على اصولٍ له وجب الابتداء باصوله ثمّ اتباعها بالفروع ، وكان الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا يثمر ، وقد كان بعض المخالفين سأل فقال : إذا كنتم لا تعملون في الشرعيات إلّا بقول المعصوم فأيّ فقرٍ بكم إلى اصول الفقه؟ وكلامكم فيها كأنّه عبث لا فائدة فيه» (١).

ففي هذا النصّ يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الاصول والثغرات في عملية الاستنباط ، إذ يجعل التزام الإمامية بالعمل بقول الإمام عليه‌السلام فحسب سبباً لاعتراض القائل بأنّهم ما داموا كذلك لا حاجة لهم بعلم الاصول ؛ لأنّ استخراج الحكم إذا كان قائماً على أساس قول المعصوم مباشرةً فهو عمل ميسَّر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلّب التفكير في وضع القواعد والعناصر الاصولية لملئها.

ونجد في نصٍّ للمحقّق السيّد محسن الأعرجي ـ المتوفّى سنة (١٢٢٧ ه‍) ـ في كتابه الفقهي «وسائل الشيعة» وعياً كاملاً لفكرة الحاجة التأريخية لعلم الاصول ، فقد تحدّث عن اختلاف القريب من عصر النصّ عن البعيد منه في الظروف والملابسات ، وقال في جملة كلامه : «أين مَن حَظِيَ بالقرب ممّن ابتلي بالبعد حتّى يدّعى تساويهما في الغنى والفقر؟ كلّا إنّ بينهما ما بين السماء والأرض ، فقد حدث بطول الغيبة وشدّة المحنة وعموم البليّة ما لو لا الله وبركة آل الله لردّها جاهلية ، فسدت اللغات ، وتغيّرت الاصطلاحات ، وذهبت قرائن الأحوال ، وكثرت الأكاذيب ، وعظمت التقية ، واشتدّ التعارض بين الأدلّة ، حتّى لا تكاد تعثر على حكمٍ يسلم منه ، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف ، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال. وكفاك مائزاً بين الفريقين قرائن الأحوال ، وما يشاهد في المشافهة من الانبساط والانقباض ... ، وهذا بخلاف من لم يصب

__________________

(١) الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٦١

٧١

إلّا أخباراً مختلفةً وأحاديث متعارضةً يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب والسنّة المعلومة ... ، فإنّه لا بدّ له من الإعداد والاستعداد والتدرّب في ذلك كي لا يزلّ ، فإنّه إنّما يتناول من بين مشتبك القنا» (١).

وفي هذا الضوء نعرف أنّ تأخّر علم الاصول تأريخياً لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطوّر الفكر الفقهي ونموّ الاستنباط ، بل هو ناتج أيضاً عن طبيعة الحاجة إلى علم الاصول فإنّها حاجة تأريخية توجد وتشتدّ تبعاً لمدى الابتعاد عن عصر النصوص.

التصنيف في علم الاصول :

وعلى الضوء المتقدِّم الذي يقرّر أنّ الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية نستطيع أن نفسِّر الفارق الزمني بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهي السنّي وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الإمامي ، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر نسبياً في نطاق الفقه السنّي قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الإمامي ، حتّى أنّه يقال : إنّ علم الاصول على الصعيد السنّي دخل في دور التصنيف في أواخر القرن الثاني ، إذ ألّف في الاصول كلّ من الشافعي (٢) ـ المتوفّى سنة ١٨٢ (٣) ه ـ ومحمد بن الحسن الشيباني (٤) ـ المتوفّى

__________________

(١) وسائل الشيعة للأعرجي : ٤ من المقدّمة

(٢) كالرسالة ، وإبطال الاستحسان

(٣) المذكور في ترجمته أنّه توفّي سنة (٢٠٤ ه‍) ، انظر تهذيب التهذيب ٩ : ٢٩ ، وفيات الأعيان ٤ : ١٦٥ ، تأريخ بغداد ٢ : ٧٠

(٤) ككتاب الأصل

٧٢

سنة ١٨٩ ه‍ ـ بينما قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الاصول على الصعيد الشيعي إلّا في أعقاب الغيبة الصغرى ـ أي في مطلع القرن الرابع ـ بالرغم من وجود رسائل سابقةٍ لبعض أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في مواضيع اصوليةٍ متفرّقة (١).

وما دمنا قد عرفنا أنّ نموّ التفكير الاصولي ينتج عن الحاجة إلى الاصول في عالم الاستنباط ، وأنّ هذه الحاجة تأريخية تتّسع وتشتدّ بقدر الابتعاد عن عصر النصوص فمن الطبيعي أن يوجد ذلك الفارق الزمني وأن يسبق التفكير الاصولي السنّي الى النموّ والاتّساع ؛ لأنّ المذهب السنّي كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحين اجتاز التفكير الفقهي السنّي القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط ؛ الأمر الذي يوحي بالحاجة الشديدة إلى وضع القواعد العامة الاصولية لملئها.

وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام امتداد لوجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقلَّ بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول.

ولهذا نجد أنّ الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت ذهنيتهم الاصولية وأقبلوا على

__________________

(١) ككتاب «اختلاف الحديث ومسائله» ليونس بن عبد الرحمن ، وكتاب «الخصوص والعموم» و «إبطال القياس» و «نقص اجتهاد الرأي» لأبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي ، راجع : تأسيس الشيعة : ٣١١

٧٣

درس العناصر المشتركة ، وحقّقوا تقدّماً في هذا المجال على يد الروّاد النوابغ من فقهائنا ، من قبيل الحسن بن عليّ بن أبي عقيل (١) ، ومحمد بن أحمد ابن الجنيد الإسكافي (٢) في القرن الرابع.

ودخل علم الاصول بسرعةٍ دور التصنيف والتأليف ، فألّف الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقّب بالمفيد ـ المتوفّى سنة ٤١٣ ه‍ ـ كتاباً في الاصول (٣) ، واصل فيه الخطّ الفكري الذي سار عليه ابن أبي عقيل وابن الجنيد قبله ، ونَقَدهما في جملةٍ من آرائهما.

وجاء بعده تلميذه السيّد المرتضى (٤) ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍ ـ فواصل تنمية الخطّ الاصولي ، وأفرد لعلم الاصول كتاباً موسّعاً نسبياً سمّاه «الذريعة» ، وذكر في مقدّمته (٥) : أنّ هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتّجاهات الاصولية التي تميِّز الإمامية باستيعابٍ وشمول.

ولم يكن السيّد المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف فيه ، بل صنَّف فيه أيضاً عدد آخر من تلامذة المفيد ، منهم سلّار بن عبد العزيز الديلمي ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍ ـ إذ كتب كتاباً باسم «التقريب في اصول الفقه» (٦).

__________________

(١) راجع أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ ـ ١٥٩

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٢

(٣) نقل ذلك الخونساري في روضات الجنات ٦ : ١٥٤

(٤) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٢ ـ ٣١٣

(٥) الذريعة الى اصول الشريعة ١ : ٥ مع اختلافٍ في اللفظ

(٦) راجع أعيان الشيعة ٧ : ١٧٠

٧٤

ومنهم الشيخ الفقيه المجدِّد محمد بن الحسن الطوسي ـ المتوفّى سنة ٤٦٠ ه‍ ـ الذي انتهت إليه الزعامة الفقهية بعد استاذيه الشيخ المفيد والسيّد المرتضى ، فقد كتب كتاباً في الاصول باسم «العدّة في الاصول» ، وانتقل علم الاصول على يده إلى دورٍ جديدٍ من النضج الفكري ، كما انتقل الفقه أيضاً إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسّع.

وكان يقوم في هذا العصر إلى صفّ البحث الاصولي عمل واسع النطاق في جمع الأحاديث المنقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ودمج المجاميع الصغيرة في موسوعاتٍ كبيرة ، فما انتهى ذلك العصر حتّى حصل الفكر العلمي الإمامي على مصادر أربعةٍ موسّعةٍ للحديث ، وهي : الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ـ المتوفّى سنة ٣٢٩ ه‍ ـ ومن لا يحضره الفقيه للصدوق محمد بن عليّ بن الحسين ـ المتوفّى سنة ٣٨١ ه‍ ـ والتهذيب للشيخ الطوسي ألّفه في حياة الشيخ المفيد ، والاستبصار له أيضاً. وتسمّى هذه الكتب في العرف الإمامي بالكتب الأربعة.

تطوّر علم النظرية وعلم التطبيق على يد الشيخ الطوسي :

لم تكن مساهمة الشيخ الطوسي في الاصول مجرّد استمرار للخطّ ، وإنّما كانت تعبِّر عن تطورٍ جديدٍ كجزءٍ من تطورٍ شاملٍ في التفكير الفقهي والعلمي كلّه اتيح لهذا الفقيه الرائد أن يحقّقه ، فكان كتاب «العدّة» تعبيراً عن الجانب الاصولي من التطور ، بينما كان كتاب «المبسوط» في الفقه تعبيراً عن التطور العظيم في البحث الفقهي على صعيد التطبيق بالشكل الذي يوازي التطور الاصولي على صعيد النظريات.

والفارق الكيفي بين اتّجاهات العلم التي انطلقت من هذا التطور الجديد

٧٥

واتّجاهاته قبل ذلك يسمح لنا باعتبار الشيخ الطوسي حدّاً فاصلاً بين عصرين من عصور العلم ؛ بين العصر العلمي التمهيدي والعصر العلمي الكامل ، فقد وضع هذا الشيخ الرائد حدّاً للعصر التمهيدي ، وبدأ به عصر العلم الذي أصبح الفقه والاصول فيه علماً له دقّته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصّة.

ولعلّ أفضل طريقةٍ ممكنةٍ في حدود إمكانات هذه الحلقة لتوضيح التطور العظيم الذي أحرزه العلم على يد الشيخ الطوسي أن نلاحظ نصَّين ، كتب الشيخ أحدهما في مقدّمة كتاب «العدّة» ، وكتب الآخر في مقدّمة كتاب «المبسوط».

أمّا في كتاب «العدّة» فقد كتب في مقدِّمته يقول : «سألتم ـ أيّدكم الله ـ إملاء مختصرٍ في اصول الفقه يحيط بجميع أبوابه على سبيل الإيجاز والاختصار على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه اصولنا ، فإنّ من صنَّف في هذا الباب سلك كلّ قومٍ منهم المسلك الذي اقتضاه اصولهم ، ولم يعهد من أصحابنا لأحدٍ في هذا المعنى إلّا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله في «المختصر» الذي له في اصول الفقه ولم يستقصه ، وشذّ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حرّرها ، وإنّ سيّدنا الأَجَلّ المرتضى ـ أدام الله علوّه ـ وإن أكثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك فلم يصنِّف في هذا المعنى شيئاً يرجع إليه ويجعل ظهراً يستند إليه ، وقلتم : إنّ هذا فنّ من العلم لا بدّ من شدّة الاهتمام به ؛ لأنّ الشريعة كلّها مبنيّة عليه ، ولا يتمّ العلم بشيءٍ منها دون إحكام اصولها ، ومن لم يُحكم اصولَها فإنّما يكون حاكياً ومعتاداً ، ولا يكون عالماً» (١).

وهذا النصّ من الشيخ الطوسي يعكس مدى أهمّية العمل الاصولي الذي

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٣ ـ ٤

٧٦

أنجزه قدس‌سره في كتاب «العدّة» وطابعه التأسيسي في هذا المجال ، وما حقّقه من وضع النظريات الاصولية ضمن الإطار المذهبي العام للإمامية.

ويعزّز هذا النصّ من الناحية التأريخية أوّلية الشيخ المفيد في التصنيف الاصولي على الصعيد الشيعي ، كما أنّه يدلّ على أنّ الشيخ الطوسي كتب كتاب «العدّة» أو بدأ به في حياة السيّد المرتضى ، إذ دعا له بالبقاء. ولعلّه لأجل ذلك لم يكن يعرف وقتئذٍ شيئاً عن كتاب الذريعة للمرتضى ، إذ نفى وجود كتابٍ له في علم الاصول. وهذا يعني أنّ الطوسي بدأ بكتابه قبل أن يكتب المرتضى الذريعة ، أو أنّ الذريعة كانت مؤلّفةً فعلاً ولكنّها لم يعلن عنها ولم يطّلع عليها الشيخ الرائد حين بدأ تصنيفه للكتاب.

وكتب الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي العظيم «المبسوط» يقول : «إنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفّون بفقه أصحابنا الإمامية ، وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل ، ويقولون : إنّهم أهل حَشوٍ ومناقصة ، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول ؛ لأنّ جُلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين ، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّلٍ لُاصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنّ جُلَّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمّتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا خصوصاً ، أو عموماً ، أو تصريحاً ، أو تلويحاً.

وأمّا ما كثَّروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلّا وله مدخل في اصولنا ومخرج على مذاهبنا ، لا على وجه القياس ، بل على طريقةٍ توجب علماً يجب العمل عليها ، ويسوغ المصير إليها من البناء على الأصل ، وبراءة الذمة ، وغير ذلك. مع أنّ أكثر الفروع لها مدخل في ما نصّ عليه أصحابنا ، وإنّما كثر

٧٧

عددها عند الفقهاء ؛ لتركيبهم المسائل بعضها على بعضٍ ، وتعليقها والتدقيق فيها ، حتى أنّ كثيراً من المسائل الواضحة دقّ لضربٍ من الصناعة وإن كانت المسألة معلومةً واضحة.

وكنتُ على قديم الوقت وحديثه متشوِّق النفس إلى عمل كتابٍ يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه ، فيقطعني عن ذلك القواطع ، وتشغلني الشواغل ، وتضعِّف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ؛ لأنّهم ألّفوا الأخبار وما رَوَوه من صريح الألفاظ ، حتّى أنّ مسألةً لو غيِّر لفظها وعبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لَعجبوا منها وقصر فهمهم عنها.

وكنتُ عملت على قديم الوقت كتاب «النهاية» ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأَصَّلُوها من المسائل وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه ، وجمعت بين النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة ؛ حتّى لا يستوحشوا من ذلك ، وعملت بآخره مختصر «جمل العقود» في العبادات ، سلكت فيه طريق الإيجاز والاختصار وعقود الأبواب في ما يتعلّق بالعبادات ، ووعدت فيه أن أعمل كتاباً في الفروع خاصّةً يضاف إلى كتاب النهاية ويجتمع معه يكون كاملاً كافياً في جميع ما يحتاج إليه ، ثمّ رأيت أنّ ذلك يكون مبتوراً يصعب فهمه على الناظر فيه ؛ لأنّ الفرع إنّما يفهمه إذا ضبط الأصل معه ، فعدلت إلى عمل كتابٍ يشتمل على عددٍ بجميع كتب الفقه التي فصّلها الفقهاء ، وهي نحو من ثلاثين كتاباً ، أذكر كلّ كتابٍ منه على غاية ما يمكن تلخيصه من الألفاظ ، واقتصرت على مجرّد الفقه دون الأدعية والآداب ، وأعقد فيه الأبواب ، واقسِّم فيه المسائل ، وأجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء ،

٧٨

وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون ، وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه اصولنا بعد أن أذكر اصول جميع المسائل ... ، وهذا الكتاب إذا سهّل الله تعالى إتمامه يكون كتاباً لا نظير له ، لا في كتب أصحابنا ، ولا في كتب المخالفين ، لأنى إلى الآن ما عرفت لأحدٍ من الفقهاء كتاباً واحداً يشتمل على الاصول والفروع مستوفياً مذهبنا ، بل كتبهم وإن كانت كثيرةً فليس يشتمل عليهما كتاب واحد. وأمّا أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى ما يشار إليه ، بل لهم مختصرات» (١).

وهذا النصّ يعتبر من الوثائق التأريخية التي تتحدّث عن المراحل البدائية من تكوّن الفكر الفقهي التي مرّ بها علم الشريعة لدى الإمامية ونما من خلالها حتى أنتج أمثال الشيخ الطوسي من النوابغ الذين نقلوه إلى مستوى أوسع وأعمق.

ويبدو من هذا النصّ أنّ البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي وأدركه هذا الفقيه العظيم وضاق به كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص ، وهي ما سمّاها الشيخ الطوسي باصول المسائل ، ويتقيّد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ التي جاءت في مصادرها من تلك الأحاديث. ومن الطبيعي أنّ البحث الفقهي حين يقتصر على اصول المسائل المعطاة بصورةٍ مباشرةٍ في النصوص ويتقيّد بصيغتها المأثورة يكون بحثاً منكمشاً لا مجال فيه للإبداع والتعمّق الواسع النطاق.

وكتاب المبسوط كان محاولةً ناجحةً وعظيمةً في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيِّق المحدود في اصول المسائل إلى نطاقٍ واسعٍ

__________________

(١) المبسوط ١ : ١ ـ ٣

٧٩

يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام ، وتطبيق القواعد العامة ، ويتتبّع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص.

وبدرس نصوص الفقيه الرائد ـ رضوان الله عليه ـ في العدّة والمبسوط يمكننا أن نستخلص الحقيقتين التاليتين :

إحداهما : أنّ علم الاصول في الدور العلمي الذي سبق الشيخ الطوسي كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي الذي كان يقتصر وقتئذٍ على اصول المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص ، ولم يكن بإمكان علم الاصول في تلك الفترة أن ينمو نموّاً كبيراً ؛ لأنّ الحاجات المحدودة للبحث الفقهي الذي حصر نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص لم تكن تساعد على ذلك ، فكان من الطبيعي أن ينتظر علم الاصول نموّ التفكير الفقهي واجتيازه تلك المراحل التي كان الشيخ الطوسي يَضيق بها ويشكو منها.

والحقيقة الاخرى هي : أنّ تطوّر علم الاصول الذي يمثّله الشيخ الطوسي في كتاب «العدّة» كان يسير في خطٍّ موازٍ للتطوّر العظيم الذي انجز في تلك الفترة على الصعيد الفقهي. وهذه الموازاة التأريخية بين التطورين تعزِّز الفكرة التي قلناها سابقاً (١) عن التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي ، أي بين بحوث النظرية وبحوث التطبيق الفقهي ، فإنّ الفقيه الذي يشتغل في حدود التعبير عن مدلول النصّ ومُعطاهُ المباشر بنفس عبارته أو بعبارةٍ مرادفةٍ ويعيش قريباً من عصر صدوره من المعصوم لا يحسّ بحاجةٍ شديدةٍ إلى قواعد ، ولكنّه حين يدخل في مرحلة التفريع على النصّ ودرس التفصيلات وافتراض

__________________

(١) تحت عنوان : التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي

٨٠