المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

«الانتصار» ـ معرّضاً بابن الجنيد ـ قائلاً : «إنّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضربٍ من الرأي والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر» (١). وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار : «إنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به» (٢).

واستمرّ هذا الاصطلاح في كلمة «الاجتهاد» بعد ذلك أيضاً ، فالشيخ الطوسي الذي توفّي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدّة قائلاً : «أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما» (٣).

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين من كتابه «السرائر» عدداً من المرجّحات لإحدى البيّنتين على الاخرى ، ثمّ يعقّب ذلك قائلاً : «ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا» (٤).

وهكذا تدلّ هذه النصوص بتعاقبها التأريخي المتتابع على أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت تعبيراً عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدّم إلى أوائل القرن السابع ، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية ؛ نتيجةً لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانه.

ولكنّ كلمة «الاجتهاد» تطوّرت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ، ولا يوجد لدينا الآن نصّ شيعي يعكس هذا التطور أقدم تأريخاً من كتاب المعارج للمحقّق

__________________

(١) الانتصار : ٤٨٨ ، المسألة ٢٧١

(٢) لم نعثر على العبارة بعينها ، وحكاها المحقّق الأصفهاني في هداية المسترشدين : ٤٨٢ ، راجع الانتصار : ١١٣ ، المسألة ١٤

(٣) عدّة الاصول ١ : ٣٩

(٤) السرائر ٢ : ١٧٠

٤١

الحلّي المتوفّى سنة (٦٧٦ ه‍) ، إذ كتب المحقّق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : «وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً ؛ لأنّها تبتني على اعتباراتٍ نظريةٍ ليست مستفادةً من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد. قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث أنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» (١).

ويلاحظ على هذا النصّ بوضوحٍ أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت لا تزال في الذهنية الإمامية مثقلةً بتبعة المصطلح الأول ، ولهذا يلمح النصّ إلى أنّ هناك مَن يتحرّج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمّى فقهاء الإمامية مجتهِدين.

ولكنّ المحقّق الحلّي لم يتحرّج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوّره أو تطوّر في عرف الفقهاء تطويراً يتّفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي ، إذ بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه ودليلاً يستدلّ به كما يصدر عن آيةٍ أو روايةٍ أصبح في المصطلح الجديد يعبّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلّته ومصادره ، فلم يعدْ مصدراً من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.

والفرق بين المعنيين جوهريّ للغاية ، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح الأول للاجتهاد أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاصّ في حالة عدم توفّر النص ، فإذا قيل له : ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدلّ بالاجتهاد ، وقال : الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاصّ. وأمّا المصطلح الجديد فهو

__________________

(١) معارج الاصول : ١٧٩

٤٢

لا يسمح للفقيه أن يبرّر أيَّ حكمٍ من الأحكام بالاجتهاد ؛ لأنّ الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً للحكم ، بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها ، فإذا قال الفقيه : «هذا اجتهادي» كان معناه أنّ هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلّة ، فمن حقّنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلّنا على تلك المصادر والأدلّة التي استنبط الحكم منها.

وقد مرّ هذا المعنى الجديد لكلمة «الاجتهاد» بتطوّرٍ أيضاً ، فقد حدّده المحقّق الحلّي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص ، فكلّ عملية استنباطٍ لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمّى اجتهاداً دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعلّ الدافع إلى هذا التحديد أنّ استنباط الحكم من ظاهر النصّ ليس فيه كثير جهدٍ أو عناء علمي ليسمّى اجتهاداً.

ثمّ اتّسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك ، فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ أيضاً ؛ لأنّ الاصوليّين بعد هذا لاحظوا بحقٍّ أنّ عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ تستبطن كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجّية الظهور العرفي. ولم يقف توسّع الاجتهاد كمصطلحٍ عند هذا الحدّ ، بل شمل في تطوّرٍ حديثٍ عملية الاستنباط بكلّ ألوانها ، فدخلت في الاجتهاد كلّ عمليةٍ يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي ، أو على تعيين الموقف العملي مباشرة.

وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط ، وبالتالي أصبح علم الاصول العلم الضروري للاجتهاد ؛ لأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

وهذه التطورات التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» كمصطلحٍ ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي إلى حدٍّ ما ، وهذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا لتأريخ علم الاصول.

٤٣

على هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر موقف جماعةٍ من المحدّثين عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الاصول ، فإنّ هؤلاء استفزّتهم كلمة «الاجتهاد» ؛ لِمَا تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شنَّ أهل البيت عليهم‌السلام حملةً شديدةً عليه ، فحرّموا الاجتهاد الذي حمل المجتهدون من فقهائنا رايته ، واستدلّوا على ذلك بموقف الأئمّة عليهم‌السلام ومدرستهم الفقهية ضدّ الاجتهاد ، وهم لا يعلمون أنّ ذلك الموقف كان ضدّ المعنى الأول للاجتهاد ، والفقهاء من الأصحاب قالوا بالمعنى الثاني للكلمة.

وهكذا واجهت عملية الاستنباط هجوماً مريراً من هؤلاء باسم الهجوم على الاجتهاد ، وتحمّلت التبعات التأريخية لهذه الكلمة ، وبالتالي امتدّ الهجوم إلى علم الاصول لارتباطه بعملية الاستنباط والاجتهاد.

ونحن بعد أن ميَّزنا بين معنَيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى المسألة بداهتها ، ونتبيّن بوضوحٍ أنّ جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط من البديهيات.

وما دامت عملية استنباط الحكم الشرعي جائزةً بالبداهة فمن الضروري أن يحتفظ بعلم الاصول لدراسة العناصر المشتركة في هذه العملية.

ويبقى علينا ـ بعد أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الإسلام ـ أن ندرس نقطتين :

إحداهما هي : أنّ الإسلام هل يسمح بهذه العملية في كلّ عصرٍ ولكلّ فرد ، أو لا يسمح بها إلّا لبعض الأفراد وفي بعض العصور؟

والنقطة الاخرى هي : أنّ الاسلام كما يسمح للشخص أن يستنبط حكمه هل يسمح له باستنباط حكم غيره وإفتائه بذلك؟ وسوف ندرس هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها لمراحل أعلى من دراسة هذا العلم.

٤٤

الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الاصول

عرفنا أنّ عملية الاستنباط تتألّف من عناصر مشتركةٍ وعناصر خاصّة ، وأنّ علم الاصول هو علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، ففيه تدرس هذه العناصر وتحدّد وتنظّم.

وما دام علم الاصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الأساسي : ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الاصول لكي يثبت بها حجّية الخبر أو حجّية الظهور العرفي ، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟

ونظير هذا السؤال يواجهه كلّ علم ، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلاً :

ما هي وسائل الإثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة وإثباتها؟

والجواب هو : أنّ وسيلة الإثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة.

وبالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضاً : ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة وتحديد حالات رفعها ونصبها؟

والجواب هو : أنّ الوسيلة الرئيسية للإثبات في علم النحو هي النقل عن

٤٥

المصادر الأصليّة للّغة وكلمات أبنائها الأوّلين.

فلا بدّ لعلم الاصول إذن أن يواجه هذا السؤال ، وأن يحدّد منذ البدء وسائل الإثبات التي ينبغي أن يستخدمها لإثبات العناصر المشتركة وتحديدها.

وفي هذا المجال نقول : إنّ الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الاصول أن يستخدمها مردّها إلى وسيلتين رئيسيّتين ، وهما :

١ ـ البيان الشرعي (الكتاب والسنّة).

٢ ـ الإدراك العقلي.

فلا تكتسب أيّ قضيةٍ طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط ، ولا يجوز إسهامها في العملية إلّا إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيّتين ، فإذا حاول الاصولي ـ مثلاً ـ أن يدرس حجّية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط ـ إذا كان حجّةً ـ يطرح على نفسه هذين السؤالين :

هل ندرك بعقولنا أنّ الخبر حجّة وملزم بالاتّباع ، أمْ لا؟

وهل يوجد بيان شرعيّ يدلّ على حجّيته؟

ويحاول الاصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقاً للمستوى الذي يتمتّع به من الدقّة والانتباه ، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنّه لا يملك وسيلةً لإثبات حجّية الخبر ، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. وأمّا إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدّى هذا إلى إثبات حجّية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصراً اصوليّاً مشتركاً.

وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أنّ عدداً من العناصر المشتركة قد تمّ إثباتها بالوسيلة الاولى ـ أي البيان الشرعي ـ وعدداً آخر ثبت بالوسيلة الثانية ، أي الإدراك العقلي. فمن قبيل الأول : حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي ، ومن

٤٦

نماذج الثاني القانون القائل : «إنّ الفعل لا يمكن أن يكون واجباً وحراماً في وقتٍ واحد».

وعلى ضوء ما تقدّم نعرف أنّ من الضروري ـ قبل البدء في بحوث علم الاصول لدراسة العناصر المشتركة ـ أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر ، ونتكلّم عن حدودها ؛ لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقاً لتلك الحدود.

٤٧

البيان الشرعي

البيان الشرعي : هو إحدى الوسيلتين الرئيسيّتين لإثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي :

١ ـ الكتاب الكريم ، وهو القرآن الذي انزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ السُنّة ، وهي كلّ بيانٍ صادرٍ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ البيان الإيجابي القولي ، وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليه‌السلام.

٢ ـ البيان الإيجابي الفعلي ، وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليه‌السلام.

٣ ـ البيان السلبي ، وهو تقرير المعصوم عليه‌السلام ، أي سكوته عن وضعٍ معيَّنٍ بنحوٍ يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة.

ويجب الأخذ بكلّ هذه الأنواع من البيان الشرعي ، وإذا دلَّ شيء منها على عنصرٍ مشتركٍ من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي.

وفي هذا المجال توجد عدّة بحوثٍ نتركها للحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.

٤٨

الإدراك العقلي

الإدراك العقلي : هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط ممّا ندركه بعقولنا دون حاجةٍ إلى بيانٍ شرعيٍّ لإثباته ، من قبيل القانون القائل : «إنّ الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقتٍ واحد» ، فإنّنا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيانٍ شرعيٍّ يشتمل على صيغةٍ للقانون من هذا القبيل ، بل هو ثابت عن طريق العقل ؛ لأنّ العقل يدرك أنّ الوجوب والحرمة صفتان متضادّتان ، وأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادّتين ، فكما لا يمكن أن يتّصف الجسم بالحركة والسكون في وقتٍ واحدٍ كذلك لا يمكن أن يتّصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً.

والإدراك العقلي له مصادر متعدّدة ودرجات مختلفة.

فمن ناحية المصادر ينقسم الإدراك العقلي إلى أقسام :

منها : الإدراك العقلي القائم على أساس الحسِّ والتجربة. ومثاله : إدراكنا أنّ الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مائة ، وأنّ وضعه على النار إلى مدّةٍ طويلة يؤدّي إلى غليانه.

ومنها : الإدراك العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله : إدراكنا جميعاً أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الضدّين لا يجتمعان ، وأنّ الكلّ أكبر من الجزء. فإنّ هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناءٍ أو تأمّل.

ومنها : الإدراك القائم على أساس التأمّل النظري. ومثاله : إدراكنا أنّ المعلول يزول إذا زالت علّته ، فإنّ هذه الحقيقة ليست بديهية ، ولا ينساق إليها

٤٩

الذهن بطبيعته ، وإنّما ندرك بالتأمّل عن طريق البرهان والاستدلال.

ومن ناحية الدرجات ينقسم الإدراك العقلي إلى درجات :

فمنه : الإدراك الكامل القطعي ، وهو : أن ندرك بعقولنا حقيقةً من الحقائق إدراكاً لا نحتمل فيه الخطأ والاشتباه ، كإدراكنا أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين ، وأنّ الضدّين لا يجتمعان ، وأنّ الأرض كرويّة ، وأنّ الماء يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.

ومن الإدراك العقلي ما يكون ناقصاً ، والإدراك الناقص هو : اتّجاه العقل نحو ترجيح شيءٍ دون الجزم به لاحتمال الخطأ ، كإدراكنا أنّ الجواد الذي سبق في مناوراتٍ سابقةٍ سوف يسبق في المرّة القادمة أيضاً ، وأنّ الدواء الذي نجح في علاج أمراضٍ معيَّنةٍ سوف ينجح في علاج أعراضٍ مَرَضيةٍ مشابهة ، وأنّ الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.

والسؤال الأساسي في هذا البحث : ما هي حدود العقل أو الإدراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقلي كوسيلةٍ للإثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته ، أوْ لا يجوز استخدام الإدراك العقلي كوسيلةٍ للإثبات إلّا ضمن حدودٍ معيَّنةٍ من ناحية المصدر أو الدرجة؟

وقد اتّجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتّجاهه نحو معالجة المصدر ، فاتّسعت الدراسات الاصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة ، واختلفت الاتّجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده ـ بوصفه وسيلة إثباتٍ رئيسية ـ فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح ، أو يختصّ بالادراك الكامل المنتج للجزم؟

ولهذا البحث تأريخه الزاخر في علم الاصول وفي تأريخ الفكر الفقهي ،

٥٠

كما سنرى.

الاتّجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي :

وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتّجاهين متعارضين في هذه النقطة كلّ التعارض ، يدعو أحدهما إلى اتّخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل الإدراكات الناقصة وسيلة رئيسية للإثبات في مختلف المجالات التي يمارسها الاصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرّده إطلاقاً عن وصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات ، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط.

ويقف بين هذين الاتّجاهين المتطرِّفَين اتّجاه ثالث معتدل يتمثّل في جُلِّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو الاتّجاه الذي يؤمن ـ خلافاً للاتّجاه الثاني ـ بأنّ العقل أو الإدراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي ، ولكن لا في نطاقٍ منفتحٍ كما زعمه الاتّجاه الأول ، بل ضمن النطاق الذي تتوفّر فيه للإنسان القناعة التامّة والإدراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ ، فكلّ إدراكٍ عقليٍّ يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات ، وأمّا الإدراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفّر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثباتٍ لأيِّ عنصرٍ من عناصر عملية الاستنباط.

فالعقل في رأي الاتّجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة ، وجديرة بالاعتماد عليها والإثبات بها إذا أدّت إلى إدراك حقيقةٍ من الحقائق إدراكاً كاملاً لا يشوبه شكّ. فلا كفران بالعقل كأداةٍ للمعرفة ، ولا إفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.

٥١

وقد تطلّب هذا الاتّجاه المعتدل الذي مثّله جُلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين :

إحداهما : المعركة ضدّ أنصار الاتّجاه الأول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبنّاه بقيادة جماعةٍ من أقطاب علماء العامّة.

والاخرى المعركة ضدّ حركةٍ داخليةٍ نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميّين ؛ متمثّلةٍ في المحدثين والأخباريّين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادّعوا أنّ البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات ، وهكذا نعرف أنّ المعركة الاولى كانت ضدّ استغلال العقل ، والاخرى كانت إلى صفّه.

١ ـ المعركة ضدّ استغلال العقل :

قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة «الرأي والاجتهاد» بالمعنى الأول الذي تقدّم في البحث السابق ، وتطالب باتّخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظنّ والتقدير الشخصي للموقف أداةً رئيسيةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي ، ومصدراً للفقيه في الاستنباط ، وأطلقت عليه اسم «الاجتهاد».

وكان على رأس هذه المدرسة أو من روّادها الأوّلين أبو حنيفة المتوفّى سنة (١٥٠ ه‍) ، والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنّهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعياً يدلّ على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصّة ، وما يدركون من مناسبات ، وما يتفتّق عنه تفكيرهم الخاصّ من مرجّحاتٍ لهذا التشريع على ذاك ، ويفتون بما يتّفق مع ظنّهم وترجيحهم ، ويسمّون ذلك «استحساناً» أو «اجتهاداً».

٥٢

والمعروف عن أبي حنيفة أنّه كان متفوّقاً في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي ، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن : أنّ أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه ، حتى إذا قال : استحسن لم يلحقه أحد (١). وجاء في كلام له وهو يحدِّد نهجه العام في الاستنباط : «إنّي آخذ بكتاب الله إذا وجدته ، فما لم أجده أخذت بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذت بقول أصحابه مَن شئت وأَدَع من شئت ، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم ، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا» (٢).

والفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبنّي العقل المنفتِح بوصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات ومصدراً لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول : «إنّ البيان الشرعي المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصر لا يشتمل إلّا على أحكام قضايا محدودة ، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعي في كثيرٍ من القضايا والمسائل».

وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتّجاههم المذهبي السنّي ، إذ كانوا يعتقدون أنّ البيان الشرعي يتمثّل في الكتاب والسنّة النبوية المأثورة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، ولمّا كان هذا لا يفي إلّا بجزءٍ من حاجات الاستنباط اتّجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدإ الاجتهاد.

وأمّا فقهاء الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي ؛

__________________

(١) مناقب الإمام الأعظم للموفّق المكّي ١ : ٨٢

(٢) انظر تأريخ بغداد ١٣ : ٣٦٨ ، تهذيب الكمال ٢٩ : ٤٤٣

٥٣

لأنّهم كانوا يؤمنون بأنّ البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة عليهم‌السلام ، فلم يوجد لديهم أيّ دافعٍ نفسيٍّ للتوسّع غير المشروع في نطاق العقل.

وعلى أيِّ حالٍ فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنّة لإشباع حاجات الاستنباط ، ولعبت دوراً خطيراً في عقلية كثيرٍ من فقهاء العامة ، ووجّهتهم نحو الاتّجاه العقلي المتطرِّف.

وتطوّرت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج ، إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة ـ أي البيان الشرعي ـ بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شئون الحياة ، فلم تعد المسألة مسألةَ نقصانٍ في البيان والتوضيح ، بل في التشريع الإلهي بالذات. ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو : أنّها لم تُشرَّع لتبقى في ضمير الغيب محجوبةً عن المسلمين ، وإنّما شُرِّعت وبُيِّنت عن طريق الكتاب والسنّة ؛ لكي يعمل بها وتصبح منهاجاً للُامّة في حياتها ، ولمّا كانت نصوص الكتاب والسنّة ـ في رأي العامة ـ لا تشتمل على أحكام كثيرٍ من القضايا والمسائل فيدلّ ذلك على نقص الشريعة ، وأنّ الله لم يشرِّع في الإسلام إلّا أحكاماً معدودة ، وهي الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنّة ، وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعبيرٍ أخصّ ؛ ليشرّعوا الأحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان ، على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرّعة في الكتاب والسنّة النبوية.

وقد رأينا أنّ الاتّجاه العقلي المتطرّف كان نتيجةً لشيوع فكرة النقص وانعكاسها ، وحين تطوّرت فكرة النقص من اتّهام البيان إلى اتّهام نفس الشريعة انعكس هذا التطور أيضاً على مجال الفكر السنّي ، ونتج عنه القول بالتصويب الذي

٥٤

وصل فيه ذلك الاتّجاه العقلي المتطرّف إلى قصارى مداه ، ولتوضيح ذلك لا بدّ من إعطاء فكرةٍ عن القول بالتصويب.

القول بالتصويب :

بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقاً للاتّجاه العقلي المتطرّف كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصّلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعاً لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمّون بها. فهذا يرجِّح في رأيه الحرمة ؛ لأنّ الفعل فيه ضرر. وذاك يرجّح الإباحة ؛ لأنّ في ذلك توسعة على العباد ، وهكذا.

ومن هنا نشأ السؤال التالي : ما هو مدى حظّ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعاً مصيبين ما دام كلّ واحدٍ منهم قد عبّر عن اجتهاده الشخصي ، أو أنّ المصيب واحد فقط والباقون مخطئون؟

وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنّهم جميعاً مصيبون ؛ لأنّ الله ليس له حكم ثابت عامّ في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفّر فيها النصّ ، وإنّما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدّي إليه رأيه واستحسانه ، وهذا هو القول بالتصويب.

وفي هذا الضوء نتبيَّن بوضوحٍ ما ذكرناه آنفاً من أنّ القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحوّلها إلى اتّهامٍ مباشرٍ للشريعة بالنقص وعدم الشمول ، الأمر الذي سوّغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ في مجالات الاجتهاد ويصوّبوا المجتهدين المختلفين جميعاً.

وهكذا نعرف أنّ فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتّجاه العقلي

٥٥

المتطرّف تعويضاً عن النقص المزعوم في البيان الشرعي ، وحينما تطورت فكرة النقص إلى اتّهام الشريعة نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدّى ذلك إلى تمخّض الاتّجاه العقلي المتطرّف عن القول بالتصويب.

وهذا التطور في فكرة النقص ـ الذي أدّى إلى اتّهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين جميعاً ـ أحدث تغييراً كبيراً في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتّجاه العقلي المتطرّف ، فحتّى الآن كنّا نتحدّث عن العقل والإدراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات ، أي كاشفاً عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنّة ، ولكنّ فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملاً تشريعياً لا اكتشافياً ، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتّجاه العقلي المتطرّف لم يعدْ ـ على أساس فكرة النقص في الشريعة ـ كاشفاً عن الحكم الشرعي ؛ إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد ، وإنّما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقاً لِمَا يؤدّي إليه رأيه. وهكذا يتحوّل الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع ، ويصبح الفقيه مشرّعاً في مجالات الاجتهاد ومكتشفاً في مجالات النصّ.

ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه ، وإنّما نستهدف الكشف عن خطورة الاتّجاه العقلي المتطرّف ، وأهمّية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ضدّ هذا الاتّجاه ، إذ لم تكن معركةً ضدّ اتّجاهٍ اصوليٍّ فحسب ، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة ، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في عصر تلك المعركة تؤكّد اشتمال الشريعة على كلّ ما تحتاج إليه الإنسانية من أحكامٍ وتنظيمٍ في شتّى مناحي حياتها ، وتؤكّد أيضاً وجود

٥٦

البيان الشرعي الكافي لكلّ تلك الأحكام متمثّلاً في الكتاب والسنّة النبوية وأقوالهم عليهم‌السلام. وفي ما يلي نذكر جملةً من تلك الأحاديث عن اصول الكافي :

١ ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء ، حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد ؛ حتّى لا يستطيع عبد أن يقول : لو كان هذا انزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه» (١).

٢ ـ عنه عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «ما من شيءٍ إلّا وفيه كتاب أو سنّة» (٢).

٣ ـ وعن الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام أنّه قيل له : أكلّ شيءٍ في كتاب الله وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيءٍ في كتاب الله وسنّة نبيّه» (٣).

٤ ـ وفي حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام يصف فيه الجامعة التي تضمّ أحكام الشريعة ، فيقول : «فيها كلّ حلالٍ وحرامٍ ، وكلّ شيءٍ يحتاج إليه الناس حتّى الأرش في الخدش» (٤).

ردّ الفعل المعاكس في النطاق السنّي :

ولا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركةً حاميةً ضدّ الاتّجاه العقلي المتطرّف أنّ هذا الاتّجاه كان مقبولاً على الصعيد السنّي بصورةٍ عامة ، وأنّ المعارضة كانت تتمثّل في الفقه الإمامي خاصّة ، بل إنّ الاتّجاه العقلي المتطرّف قد لقي معارضةً في النطاق السنّي أيضاً ، وكانت له ردود فعلٍ معاكسة في مختلف حقول الفكر.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٩

(٢) الكافي ١ : ٥٩

(٣) المصدر نفسه ١ : ٦٢

(٤) المصدر نفسه ١ : ٢٣٨

٥٧

فعلى الصعيد الفقهي تمثّل ردّ الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد داود ابن عليّ بن خلف الأصبهاني في أواسط القرن الثالث ، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنّة ، والاقتصار على البيان الشرعي ، ويشجب الرجوع إلى العقل.

وانعكس ردّ الفعل على البحوث العقائدية والكلامية متمثّلاً في الاتّجاه الأشعري الذي عطّل العقل وزعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي. فبينما كان المقرّر عادةً بين العلماء : أنّ وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكماً شرعياً ، وإنّما هو حكم عقلي ؛ لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوة دفعٍ وتأثير في حياة الإنسان إلّا بعد أن يعرف الإنسان ربّه وشريعته ، فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوعٍ آخر غير نوع الحكم الشرعي ، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي ، أقول : بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين خالف في ذلك الأشعري ، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أيِّ حكم ، وأكّد أنّ وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم والصلاة.

وامتدَّ ردّ الفعل إلى علم الأخلاق ـ وكان وقتئذٍ يعيش في كنف علم الكلام ـ فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحُسن من الأفعال عن قبيحها حتّى في أوضح الأفعال حُسناً أو قبحاً ، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما ، وإنّما صار الأول قبيحاً والثاني حسناً بالبيان الشرعي ، ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أيّ حقٍّ للاعتراض على ذلك.

وردود الفعل هذه كانت تشتمل على نكسةٍ وخطرٍ كبيرٍ قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان الاتّجاه العقلي المتطرّف يستبطنه ؛ لأنّها اتّجهت إلى القضاء على العقل بشكلٍ مطلق ، وتجريده عن كثيرٍ من صلاحياته ، وإيقاف النموّ العقلي في الذهنية الإسلامية بحجّة التعبّد بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنّة. ولهذا

٥٨

كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام التي كانت تحارب الاتّجاه العقلي المتطرّف ، وتؤكّد في نفس الوقت أهمّية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة ، واعتباره ضمن تلك الحدود أداةً رئيسيةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي ، حتى جاء في نصوص أهل البيت عليهم‌السلام : «أنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (١).

وهذا النصّ يقرّر بوضوحٍ وضع العقل إلى صفّ البيان الشرعي أداةً رئيسيةً للإثبات.

وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص ، وحماية العقل من مصادرة الجامدين.

وسوف نعود إلى الموضوع بصورةٍ علميةٍ موسّعةٍ في الحلقات المقبلة.

٢ ـ المعركة إلى صفّ العقل :

وأمّا الاتّجاه الآخر المتطرّف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل نطاق الفكر الإمامي فقد تمثّل في جماعةٍ من علمائنا اتّخذوا اسم «الأخباريّين والمحدّثين» ، وقاوموا دور العقل في مختلف الميادين ، ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط ؛ لأنّ العقل عرضة للخطإ ، وتأريخ الفكر العقلي زاخر بالأخطاء ، فلا يصلح لكي يستعمل أداةَ إثباتٍ في أيّ مجالٍ من المجالات الدينية.

وهؤلاء الأخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنّت حملةً ضدّ الاجتهاد ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٢٠٧ ، الباب ٨ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٦

٥٩

كما أشرنا في البحث السابق.

ويرجع تأريخ هذا الاتّجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر ، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذٍ في المدينة باسم «الميرزا محمد أمين الاسترابادي» المتوفّى سنة (١٠٢٣ ه‍) ، ووضع كتاباً أسماه «الفوائد المدنية» بلور فيه هذا الاتّجاه وبرهن عليه ومذهبه ، أي جعله مذهباً.

ويؤكّد الاسترابادي في هذا الكتاب أنّ العلوم البشرية على قسمين : أحدهما العلم الذي يستمدّ قضاياه من الحسّ ، والآخر العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحسّ ، ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسّي.

ويرى المحدّث الاسترابادي أنّ من القسم الأول الرياضيات التي تستمدّ خيوطها الأساسية ـ في زعمه ـ من الحسّ ، وأمّا القسم الثاني فيمثّل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدةً عن متناول الحسّ وحدوده ، من قبيل تجرّد الروح ، وبقاء النفس بعد البدن ، وحدوث العالم.

وفي عقيدة المحدّث الاسترابادي أنّ القسم الأول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة ؛ لأنّه يعتمد على الحسّ ، فالرياضيات ـ مثلاً ـ تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحسّ ، نظير أنّ (٢+ ٢ / ٤). وأمّا القسم الثاني فلا قيمة له ، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم ؛ لانقطاع صلته بالحسّ (١).

وهكذا يخرج الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحسّ معياراً أساسياً لتمييز قيمة المعرفة ومدى إمكان الوثوق بها.

ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوحٍ اتّجاهاً حسّياً في أفكار المحدّث

__________________

(١) انظر الفوائد المدنية : ١٢٩

٦٠