المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٨

بحقّها ويكون تابعاً مخلصاً لها.

فعلم الفقه إذن هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كلِّ واقعة ، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده هو «السلوك الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقّها» ، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبِّر عنه ب «عملية استنباط الحكم الشرعي». ولأجل هذا يمكن القول بأنّ علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية ، أو علم عملية الاستنباط بتعبيرٍ آخر.

وتحديد الموقف العملي بدليلٍ يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف يتمّ في علم الفقه بأُسلوبين :

أحدهما : الاسلوب غير المباشر ، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذي قرّرته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه ، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي ، وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة. فنحن إذا أقمنا الدليل على أنّ الحكم الشرعي في واقعةٍ ما هو الوجوب استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتِّم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها ، وهو «أن نفعل».

والاسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو : الاسلوب المباشر الذي يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي ؛ لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة ـ كما في الاسلوب الأول ـ بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرةً ، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك ، فلم ندرِ ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة؟ أهو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الاسلوب الأول ؛ لعدم توفّر الدليل على نوع الحكم الشرعي ، بل يجب أن نلجأ إلى

٢١

أدلّةٍ تحدّد الموقف العملي بصورةٍ مباشرةٍ وتوجّهنا كيف نفعل ونتصرّف في هذه الحالة؟ وأيّ موقفٍ عمليٍّ نتّخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكّن من اكتشافه؟ وما هو السلوك الذي تحتّم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحقّ التبعية ونكون تابعين مخلصين وغير مقصِّرين؟

وفي كِلا الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي ، أي يحدّد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورةٍ غير مباشرةٍ أو مباشرة.

ويتّسع علم الفقه لعمليات استنباطٍ كثيرةٍ بقدر الوقائع والأحداث التي تزخر بها حياة الإنسان ، فكلّ واقعةٍ لها عملية استنباطٍ لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الاسلوبين المتقدِّمين.

وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعدّدها وتنوّعها تشترك في عناصر موحّدةٍ وقواعد عامةٍ تدخل فيها على تعدّدها وتنوّعها ، ويتشكّل من مجموع تلك العناصر المشتركة الأساس العام لعملية الاستنباط.

وقد تطلّبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علمٍ خاصٍّ بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه ، فكان علم الاصول.

تعريف علم الاصول :

وعلى هذا الأساس نرى أن يُعرَّف علم الاصول بأنّه «العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي». ولكي نستوعب هذا التعريف بفهمٍ يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟

ولنذكر لأجل ذلك نماذج بدائيةً من هذه العملية في صيغٍ مختصرة ؛ لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة

٢٢

في عملية الاستنباط.

افرضوا أنّ فقيهاً واجه هذه الأسئلة :

١ ـ هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟

٢ ـ هل يجب على الشخص إذا ورث مالاً من أبيه أن يؤدّي خمسه؟

٣ ـ هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟

وأراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة فإنّه سوف يجيب على السؤال الأول مثلاً : «نعم ، يحرم الارتماس على الصائم».

ويستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية : قد دلّت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق عليه‌السلام على حرمة الارتماس على الصائم ، فقد جاء فيها : أنّ الصادق عليه‌السلام قال : «لا يرتمس المحرِم في الماء ولا الصائم» (١). والجملة بهذا التركيب تدلّ في العرف العام ـ أي لدى أبناء اللغة بصورةٍ عامةٍ ـ على الحرمة ، وراوي النصّ يعقوب بن شعيب ثقة ، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً ، ولكنّ الشارع أمرنا بعدم اتّهام الثقة بالخطإ والشذوذ ، واعتبر روايته دليلاً وأمرنا باتّباعها ، دون أن نُعِير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالاً.

والنتيجة هي : أنّ الارتماس حرام على الصائم ، والمكلَّف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة.

ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي ، أي لا يجب على الولد أن يدفع الخمس من تركة أبيه ؛ لأنّ رواية علي بن مهزيار التي حدّد فيها الإمام الصادق عليه‌السلام نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها ذكرت : أنّ الخمس ثابت في «الميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن» (٢). والعرف العامّ يفهم من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٥٠٩ ، الباب ٥٨ من أبواب تروك الإحرام ، الحديث ٤

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٢ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥

٢٣

هذه الجملة أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه ، والراوي وإن كان من المحتمل وقوعه في خطإٍ أو شذوذٍ بالرغم من وثاقته ، ولكنّ الشارع أمرنا باتّباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخطأ والشذوذ ، فالمكلّف إذن غير ملزمٍ بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه.

ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب : «القهقهة تبطل الصلاة» بدليل رواية زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة» (١). والعرف العام يفهم من النقض أنّ الصلاة إذا وقعت فيها القهقهة اعتبرت لغواً ووجب استئنافها ، وهذا يعني بطلانها. ورواية زرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتّباعها وجعلها أدلّةً كاشفة ، فيتحتّم على المصلِّي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته ؛ لأنّ ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلّبه الشريعة منه.

وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ شتّى ، فالحكم الأول يرتبط بالصوم والصائم ، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الإسلام ، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدّد بعض حدودها.

كما نرى أيضاً أنّ الأدلّة التي استند إليها الفقيه مختلفة ، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب ، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار ، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكلٍّ من الروايات الثلاث نصّها وتركيبها اللفظي الخاصّ الذي يجب أن يدرس بدقّةٍ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ : ٢٥٠ ، الباب ٧ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث الأوّل

٢٤

ويحدّد معناه ، ولكن توجد في مقابل هذا التنوّع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعاً.

فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النصّ (١) ، فإنّ الفقيه اعتمد في فهمه للنصّ في كلّ موقفٍ على طريقة فهم العرف العام للنصّ ، وذلك يعني أنّ العرف العام حجّة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ. وهذا ما يطلق عليه في علم الاصول اسم «حجية الظهور» (٢) ، فحجّية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث.

وكذلك أيضاً يوجد عنصر مشترك آخر ، وهو أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ؛ لأنّ الفقيه في كلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصّاً يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ والشذوذ ؛ لعدم كونه معصوماً ، ولكنّه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه استناداً إلى أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ، وهو ما نطلق عليه اسم «حجّية الخبر». ومعنى هذا أنّ حجّية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث ، ولو لا هذا العنصر المشترك لَما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأول ، ولا عدم وجوب الخمس من رواية عليّ بن مهزيار في الموقف الثاني ، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.

__________________

(١) نريد بالنصّ هنا : الكلام المنقول عن المعصوم عليه‌السلام (المؤلّف قدس‌سره)

(٢) الحجّية في مصطلح علم الاصول تعني كون الدليل صالحاً لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به ، ولاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخلّص من العقاب إذا عمل به. فكلّ دليلٍ له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجّةً في المصطلح الاصولي ، وظهور كلام المولى من هذا القبيل ، ولهذا يوصف بالحجّية (المؤلّف قدس‌سره)

٢٥

وهكذا نستنتج : أنّ عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصّة ، كما تشتمل على عناصر مشتركة ، ونعني بالعناصر الخاصّة : تلك العناصر التي تتغيّر من مسألةٍ إلى مسألة ، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاصّ في عملية استنباط حرمة الارتماس ؛ لأنّها لم تدخل في عمليات الاستنباط الاخرى ، بل دخل بدلاً عنها عناصر خاصّة اخرى ، كرواية عليّ بن مهزيار ورواية زرارة.

ونعني بالعناصر المشتركة : القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكامٍ عديدةٍ على مواضيع مختلفة ، كعنصر حجّية الظهور ، وعنصر حجّية الخبر.

وفي علم الاصول تُدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألةٍ فقهيةٍ خاصّةٍ بالذات. وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة بكلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط في المسألة التي ترتبط بتلك العملية.

وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألةٍ أن يفحص بدقّةٍ الروايات الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ، ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام. بينما يتناول الاصولي البحث عن حجّية العرف العام بالذات والبحث عن حجّية الخبر ، ويطرح أسئلة ليجيب عليها ، من هذا القبيل : هل العرف العام حجّة؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام؟ وبأيِّ دليلٍ نثبت حجّية الخبر؟ وما هي الشروط العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجّية واعتبره دليلاً؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتّصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الاصول ، إذ

٢٦

قلنا : إنّ علم الاصول «هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط» ، أي أنّه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباطٍ متعدّدةٍ لأحكام مواضيع متنوعة ، كحجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر ، العنصرين المشتركين اللذَين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة.

ولا يحدّد علم الاصول العناصر المشتركة فحسب ، بل يحدّد أيضاً درجات استعمالها في عملية الاستنباط والعلاقة القائمة بينها ، كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى ، وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العامّ الكامل.

ونستخلص من ذلك : أنّ علم الاصول وعلم الفقه مرتبطان معاً باستنباط الحكم الشرعي ، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط ، وعلم الاصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصّة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدّها من علم الاصول. والاصولي يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.

موضوع علم الاصول :

لكلِّ علمٍ ـ عادةً ـ موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله ، وتستهدف الكشف عمّا يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين ، فالفيزياء ـ مثلاً ـ موضوعها الطبيعة ، وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. والنحو موضوعه الكلمة ؛ لأنّه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها ، فما هو موضوع علم الاصول الذي يتوفّر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله؟

٢٧

ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدّمناه لعلم الاصول استطعنا أن نعرف أنّ علم الاصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه ، وتتعلّق بحوثه كلّها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة ، وعلى هذا الأساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الاصول باعتباره علماً يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية ، من قبيل حجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر.

علم الاصول منطق الفقه :

ولا بدّ أنّ معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثالٍ لعلم الاصول ، فإنّ علم المنطق ـ كما تعلمون ـ يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي ، ويحدّد النظام العام الذي يجب أن تتّبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليماً. مثلاً : يعلّمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكيرٍ لكي يكون الاستدلال صحيحاً؟ كيف نستدلّ على أنّ سقراط فانٍ؟ وكيف نستدلّ على أنّ نار الموقد الموضوع أمامي محرقة؟ وكيف نستدلّ على أنّ مجموع زوايا المثلّث تساوي قائمتين؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخطّ الممتدّ بدون نهايةٍ مستحيل؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخسوف ينتج عن توسّط الأرض بين الشمس والقمر؟

كلّ هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال ، كالقياس والاستقراء التي تطبّق في مختلف هذه الحقول من المعرفة ، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقاً ، إذ يضع المناهج والعناصر العامة فيها.

وعلم الاصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية ، غير أنّه يبحث عن نوعٍ خاصٍّ من عملية التفكير ، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الأحكام ،

٢٨

ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط ، وتتكيّف وفقاً لها لكي يكون الاستنباط سليماً والفقيه موفّقاً في استنتاجه. فهو يعلّمنا : كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكرّ؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه؟ كلّ هذا يوضّحه علم الاصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة.

وعلى هذا الأساس قد نطلق على علم الاصول اسم «منطق علم الفقه» ؛ لأنّه يلعب بالنسبة الى علم الفقه دوراً إيجابياً مماثلاً للدور الإيجابي الذي يؤدّيه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورةٍ عامة ، فهو على هذا الأساس «منطق علم الفقه» ، أو «منطق عملية الاستنباط» بتعبيرٍ آخر.

ونستخلص من ذلك كلّه : أنّ علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط ، وعلم الاصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.

أهمّية علم الاصول في عملية الاستنباط :

ولسنا بعد ذلك بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمّية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ؛ لأنّه ما دام يقدِّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام ، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجّهة ، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط ، كإنسانٍ يواجه أدوات النجارة

٢٩

ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدوات دون أن يملك أفكاراً عامةً عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.

وكما أنّ العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الاصول ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى اخرى ، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكِّل العناصر الخاصّة والمتغيّرة في عملية الاستنباط ، فإنّها الجزء الضروريّ الآخر فيها الذي لا تتمّ العملية بدونه ، ولا يكفي في إنجاحها مجرّد الاطّلاع على العناصر المشتركة التي يمثّلها علم الاصول واستيعابها.

ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطّلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلوماتٍ نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما إليهما من أدوات النجارة ، فكما يعجز هذا الشخص عن صنع سريرٍ خشبيٍّ ـ مثلاً ـ فكذلك يعجز الاصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصر الخاصّة المتغيّرة.

وهكذا نعرف أنّ العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ، ولا غنى للعملية عنهما معاً ، ولهذا يتحتّم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة ويحدّدها في علم الاصول ، ثمّ يضيف إليها في بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة لتكتمل لديه عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.

الاصول والفقه يمثّلان النظرية والتطبيق :

ونخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصوّرٍ خاطئ حين قلنا : إنّ المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة ويحدّدها ، ويتناول في بحوث علم

٣٠

الفقه العناصر الخاصّة ليكمل بذلك عملية الاستنباط ؛ إذ قد يتصور البعض أنّا إذا درسنا في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وعرفنا ـ مثلاً ـ حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي وما إليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أيّ جهدٍ علمي ، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلّا إلى مجرّد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها ، نظير مَن يستخرج تأريخ غزوة خيبر أو روايات الهجرة من تأريخ السيرة النبوية ، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصراً على مجرّد التفتيش عن العناصر الخاصّة من الروايات والنصوص ؛ لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي ، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهدٍ علمي ، ونتيجة ذلك أنّ الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثّل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الاصول ، لا في جمع العناصر الخاصّة من النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه.

ولكنّ هذا التصوّر خاطئ إلى درجةٍ كبيرة ؛ لأنّ المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحدّدها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً ، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصّة. والتطبيق مهمّة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درسٍ وتمحيص ، ولا يغني الجهد العلمي المبذول اصوليّاً في دراسة العناصر المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق.

ولا نستطيع الآن أن نضرب الأمثلة المتنوّعة لتوضيح دقّة التطبيق ؛ لأنّ فهم الأمثلة يتوقّف على اطّلاعٍ مسبقٍ على النظريات الاصولية العامة. ولهذا نكتفي بمثالٍ واحدٍ بسيط ، فنفرض أنّ المجتهد آمن في علم الاصول بحجّية الظهور

٣١

العرفي بوصفه عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط ، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع إصبعه على رواية عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ـ مثلاً ـ ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟ أَوَليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأماراتٍ داخل إطار النصّ أو خارجه ؛ لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي؟!

فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك والإيمان بحجّية الظهور مشكلة تعيين نوع الظهور في النصّ ودراسة جميع ملابساته ، حتّى إذا تأكّد المجتهد من تعيين الظهور في النصّ ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث طبّق على النصّ النظرية العامة التي يقرّرها العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي ، واستنتج من ذلك أنّ الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس.

وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهي عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية تجميع ، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقرّرها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وتطبيق النظريات العامة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته ، ومجرّد الدقّة في النظريات العامة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها. ألا ترون أنّ مَن يدرس بعمقٍ النظريات العامة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مَرَضيةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟

فالبحث الاصولي عن العناصر المشتركة وما تقرّره من نظرياتٍ عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطبّ ، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصّة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض

٣٢

في مجال تطبيق النظريات العامة في الطبّ عليه ، وكما قد يحتاج الطبيب الى قدرٍ كبيرٍ من الدقّة والجهد لكي يوفَّق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقاً صحيحاً يمكِّنه من شفائه ، فكذلك الفقيه بعد أن يخرج من دراسة علم الاصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه مسألةً في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما فهو يحتاج أيضاً إلى دقّةٍ وتفكيرٍ في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصّة بالمسألة تطبيقاً صحيحاً.

وهكذا نعرف أنّ علم الاصول الذي يمثّل العناصر المشتركة هو «علم النظريات العامة» ، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصّة هو «علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصّة» ، ولكلٍّ منهما دقّته وجهده العلمي الخاصّ.

واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق ، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصّة ، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط ، والدقّة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقّة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.

وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمّية التطبيق الفقهي وما يتطلّبه من دقّة ، إذ كتب في قواعده يقول : «نعم ، يشترط مع ذلك ـ أي مع وضع النظريات العامة ـ أن تكون له قوة يتمكّن بها من ردِّ الفروع إلى اصولها واستنباطها منها ، وهذه هي العمدة في هذا الباب ... ، وإنّما تلك القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها» (١).

__________________

(١) هذه العبارة جاءت نصّاً في الروضة ٣ : ٦٦ ، ولم نعثر عليها في كتابيه فوائد القواعد وتمهيد القواعد

٣٣

التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي :

عرفنا أنّ علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه ، والعلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق ؛ لأنّ علم الاصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى اخرى.

وهذا الترابط الوثيق بين علم الاصول وعلم الفقه يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية ، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامة لحلولها. كما أنّ دقّة البحث في النظريات تنعكس على صعيد التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات أدقَّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقةً وعمقاً واستيعاباً أكبر.

وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيّتين والمستويين الفكريّين لعلم الاصول وعلم الفقه يؤكّده تأريخ العِلمين على طول الخطّ ، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مرّ بها البحث الفقهي والبحث الاصولي في تأريخ العلم. فقد كان علم الاصول يتّسع ويُثري تدريجاً تبعاً لتوسّع البحث الفقهي ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة ، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة ، وتتّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول.

كما أنّ تدقيق العناصر المشتركة في علم الاصول وتحديد حدودها بشكلٍ صارمٍ كان ينعكس على مجال التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات العامة موضوعةً

٣٤

في صيغٍ أكثر صرامةً وبدقّةٍ أكبر كانت أكثر غموضاً وتطلّبت في مجال التطبيق التفاتاً أكبر وانتباهاً أكمل.

ولا نستطيع الآن ـ ونحن في الحلقة الاولى ـ أن نقدِّم النماذج من العِلمين على هذا التفاعل ؛ لأنّ الطالب لا يملك حتّى الآن خبرةً واسعةً ببحوث علم الاصول ، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أنّ التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الاصولي هو مصداق لخطٍّ عريضٍ يعبِّر عن التفاعل المتبادل في كثيرٍ من الأحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها.

أَوَليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مَرضاهُ في نطاقٍ واسعٍ يوحي إليه بمشاكل جديدةٍ باستمرار ، فيتولّى بحث النظريات العامة العلمية في الطبّ حلّ تلك المشاكل ، ويتعمّق تدريجاً وينعكس بالتالي على التطبيق؟! إذ كلّما ازداد الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملاً واسعاً. وكلّنا نعلم أنّ طبيب الأمس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات ، بينما يظلّ طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عمليةٍ معقّدةٍ واسعةِ النطاق.

ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه نجدها بين الفكر العلمي إطلاقاً والفكر المنطقي العام الذي يدرس النظام الأساسي للتفكير البشري ، إذ كلّما اتّسع نطاق المعرفة البشرية وتنوّعت مجالاتها تجدّدت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر ، فيتولّى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري.

وعلى أيِّ حالٍ فإنّ فكرة التفاعل هذه ـ سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاصّ المتمثّل في الاصول ، أو بين العلوم كلّها ومنطقها العام ، أو بين بحث أيِ

٣٥

نظريةٍ وبحث تطبيقها ـ تحتاج إلى توضيحٍ وشرحٍ أوسع. ولا نستهدف الآن من الإشارة إلى الفكرة إلّا أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الإجمال.

نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم الاصول :

ويحسن بنا أن نقدِّم قائمةً تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الاصول ؛ لنجسِّد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرةً ببحوث هذا العلم أهمّية الدور الذي يلعبه علم الاصول في عملية الاستنباط :

١ ـ ما هو الدليل على حجّية خبر الثقة؟

٢ ـ لما ذا يجب أن نفسِّر النصّ الشرعي على ضوء العرف العام؟

٣ ـ ما ذا نصنع في مسألةٍ إذا لم نجد فيها دليلاً يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها؟

٤ ـ ما هي قيمة الأكثرية في المسألة الفقهية؟ وهل يكتسب الرأي طابعاً شرعياً ملزماً بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عدداً؟

٥ ـ كيف نتصرّف إذا واجهنا نصَّين لا يتّفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر؟

٦ ـ ما هو الموقف إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ شرعيٍّ معيَّنٍ ثمّ شككنا في استمراره؟

٧ ـ ما هي الألفاظ التي تدلّ مباشرةً على الوجوب والإلزام؟ وهل يعتبر منها فعل الأمر ، من قبيل : «اغتسل» ، «توضّأ» ، «صلِّ»؟

إلى عشراتٍ من الأسئلة التي يتولّى علم الاصول الجواب عليها ، ويحدّد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، ويملأ كلّ الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.

٣٦

جواز عمليّة الاستنباط

في ضوء ما تقدّم عرفنا أنّ علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط ؛ لأنّه يشتمل على عناصرها المشتركة ، ويمدّها بقواعدها العامة ونظامها الشامل ، ولهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الاصول.

وما دام علم الاصول مرتبطاً بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ موقف الشريعة من هذه العملية ، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها ، أوْ لا؟ فإن كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم «علم الاصول» لدراسة عناصرها المشتركة ، وأمّا إذا كان الشارع قد حرّمها فيلغو الاستنباط ، وبالتالي يلغو علم الاصول رأساً ؛ لأنّ هذا العلم إنّما وُضِع للتمكين من الاستنباط ، فحيث لا استنباط لا توجد حاجة الى علم الاصول ؛ لأنّه يفقد بذلك مبرّرات وجوده ، فلا بدّ إذن أن تُدرس هذه النقطة بصورةٍ أساسية.

والحقيقة : أنّ هذه النقطة ـ أي مسألة جواز الاستنباط ـ حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنّها جديرة بالتأمّل والبحث العلمي ؛ لأنّنا حين نتساءل : هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط ، أوْ لا؟

يجيء الجواب على البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط هي ـ كما عرفنا سابقاً ـ عبارة عن «تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً

٣٧

استدلالياً» ، ومن البديهي أنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها ، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجةٍ تغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العملي تحديداً استدلالياً ، ويحجر عليهم النظر في الأدلّة التي تحدِّد موقفهم تجاه الشريعة ، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزةً فحسب ، بل من الضروري أن تمارس. وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة ، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.

ولكن لسوء الحظ اتّفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغةً اخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش ، فأصبحت مَثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش ، فقد استخدمت كلمة «الاجتهاد» للتعبير عن عملية الاستنباط ، وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة ، أوْ لا؟ وحينما دخلت كلمة «الاجتهاد» في السؤال ـ وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها ـ أدّت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث ، ونتج عن ذلك أن تقدَّم جماعة من علمائنا المحدّثين ليجيبوا على السؤال بالنفي ، وبالتالي ليشجبوا علم الاصول كلّه ؛ لأنّه إنّما يراد لأجل الاجتهاد ، فإذا الغي الاجتهاد لم تعدْ حاجة إلى علم الاصول.

وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة «الاجتهاد» ؛ لكي نتبيّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي اثيرت ضدّها لم يكن إلّا نتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي ، وغفلةٍ عن التطورات التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» في تأريخ العلم.

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد ، وهو «بذل الوسع للقيام بعملٍ ما» ، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأوّل مرّةٍ ـ على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدةٍ من القواعد التي قرّرتها بعض مدارس الفقه السنّي وسارت على أساسها ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدلّ

٣٨

عليه في الكتاب أو السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ».

والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي ، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاصّ ويستلهمه ويبنى على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع ، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضاً.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره ، فكما أنّ الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدلّ بهما ، كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى الاجتهاد الشخصي ويستدلّ به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي ، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة ، ولقي في نفس الوقت معارضةً شديدةً من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم ، كما سنرى في البحث المقبل.

وتَتَبُّع كلمة «الاجتهاد» يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تذمّ الاجتهاد (١) ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتّخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل كلمة «الاجتهاد» غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات ، فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً أسماه «الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس» وصنّف هلال بن إبراهيم ابن أبي الفتح المدني (٢) كتاباً في الموضوع باسم كتاب «الرد على من ردَّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول» (٣) ، وصنّف في عصر

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي

(٢) في المصدر «الدُّلفي» بدلاً عن «المدني»

(٣) في المصدر «واعتمد نتائج العقول» بدون كلمة «على»

٣٩

الغيبة الصغرى أو قريباً منه إسماعيل بن عليّ بن إسحاق ابن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، كما نصّ على ذلك كلّه النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كلّ واحدٍ من هؤلاء (١).

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة ، ونذكر له ـ على سبيل المثال ـ تعقيبه في كتابه على قصّة موسى والخضر ، إذ كتب يقول : «إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، .... فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك ... فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة لاختيار الإمام؟ وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟» (٢).

وفي أواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد ، وهو يعبّر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ، ويكتب كتاباً في ذلك باسم «النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي» (٣).

ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ويقول : «إنّ الاجتهاد باطل ، وإنّ الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد» (٤). وكتب في كتابه الفقهي

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣١ ، الرقم ٦٨ و ٢٢٠ الرقم ٥٧٥ و ٤٤٠ الرقم ١١٨٦

(٢) علل الشرائع : ٦٢ ، الباب ٥٤ ، ذيل الحديث ١ و ٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ

(٣) ذكره النجاشي في رجاله : ٤٠٢ ، الرقم ١٠٦٧

(٤) الذريعة الى اصول الشريعة ٢ : ٦٣٦ و ٦٤٦ ، ولم نقف على العبارة نصّاً ، ونسب صدر هذه العبارة المحقّق الاصفهاني في هداية المسترشدين (ص ٤٨٢ ، س ٨) الى السيد المرتضى قدس‌سره

٤٠